الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كِتَابُ الْجِرَاحِ
ــ
كتاب الجراح
هو بكسر الجيم جمع: جراح، والجُرح بالضم الاسم، والجمع: جروح، ورجل جريح، وامرأة جريح، ورجال ونسوة جرحى.
واجترح: اكتسب، ومنه قوله تعالى:{وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ} .
وجوارح الإنسان: أعضاؤه الي يكتسب بها، وجوانحه: أطراف ضلوعه.
والجوارح من السباع والطير: ذوات الصيد.
وهذا الكتاب يترجم ب (الجراح) وب (القصاص) وب (الجنايات) ، وهي أشمل؛ لصدقه على الجناية بالمحدد والمثقل، إلا أنه لما كان الجراح أغلب طرق القتل .. عبريه.
وقتل الآدمي عمدًا بغير حق أعظم الكبائر بعد الكفر، وموجبُ لاستحقاق العقوبة في الدنيا والآخرة، ولا يتحتم خلوده في النار، بل ولا دخوله، وأمره إلى الله؛ إن شاء .. عذبه، وإن شاء .. غفر له وتقبل توبته.
وروى مسلم والبخاري [6863] أيضًا عن ابن عمر أنه قال: إن من أعظم ورطات الأمر التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله.
وفي (الصحيحين)[خ 2767 - م 89] عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات) قيل وما هن يا رسول الله؟ قال: (الشرك بالله،
الفِعْلُ الْمُزْهِقُ ثَلَاثَةُ: عَمْدُ، وَخَطَأُ، وَشِبهُ عَمدٍ
ــ
والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الرحف، وقذف المحصنات الغافلات)
وفي (البيهقي)[8/ 22] عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو اجتمع أهل السماء وأهل الأرض على قتل امرىء مؤمن .. لعذبهم الله به).
وفي (النسائي)[7/ 82] و (ابن ماجه)[2619] و (الترمذي)[1395]: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لزوال الدنيا عند الله تعالى أسهل من قتل امرىء مسلم).
وقال صلى الله عليه وسلم: (من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة .. لقي الله وهو مكتوب بين عينيه: آيس من رحمة الله) رواه أحمد وابن ماجه [2620] والبيهقي [8/ 22] بإسناد ضعيف، وعده ابن الجوزي من الموضوعات.
والإجماع منعقد على تحريم القتل الذي لم يبح، وتتعلق به مؤخذات في الدنيا منها: الكفارة، والتعزير، والقصاص أو الدية، لكن من استوفي منه القصاص أو الدية .. ظواهر الكتاب والسنة تدل على سقوط المطالبة عنه في الدار الآخرة.
وقسم في) الخصال) القتل إلى: حرام، وواجب، ومباح.
فالحرام: قتل المعصوم، والواجب: قتل المرتد، والمباح: قتل الأسير، لأن الإمام مخير فيه كما سيأتي.
وأما قتل الخطأ .. فلا يوصف بكونه حرامًا ولا حلالًا، كما لا يوصف بهما فعل المجنون والبهيمه؛ لأن المخطىء غير مكلف فيما أخطأ فيه.
وعن الشخ أبي حامد: أن قتل الخطأ محرم لا إثم فيه، وهذا تناقض.
قال: (الفعل المزهق ثلاثة) أي: ثلاثة أقسام (عمد، وخطأ، وشبه عمد).
(المزهق) بكسر الهاء: القاتل، يقال: زهقت نفسه تزهق، أي: خرجت.
ووجه الحصر: أن الجاني إن لم يقصد عين المجني عليه .. فهو الخطأ، وإن قصده، فإن كان بما يقتل غالبًا .. فهو العمد. وإلا .. فشبه غمد.
وَلَا قِصَاصَ إِلَاّ فِي الْعَمْدِ، وَهُوَ: قَصْدُ الْفِعْلِ وَالشَّخْصِ بِمَا يَقْتُلُ غَالِبًا؛
ــ
ثم القصاص لا يختص بالنفس بل يجري في الأطراف كما سيأتي، فلو قال: الجناية .. كان أشمل.
ودليل كون القتل ثلاثة: ما روى أبو داوود [4536] والنسائي [8/ 41] وابن ماجه [2627] وابن حبان [6011] والشافعي [ام 6/ 105 واللفظ له] عن سفيان بن عيينة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن القاسم بن ربيعة، عن عبد الله بن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إن في قتيل عمد الخطأ قتيل السوط أو العصا مئه من الإبل مغلظة؛ منها: أربعون خلقة في بطونها أولادها).
وروى البيهقي [8/ 44] عن محمد بن خزيمة أنه قال: حضرت مجلس المزني يومًا فسأله رجل من العراق عن شبه العمد فقال: إن الله وصف القتل في كتابه بصفتين: عمد وخطأ، فلم قلتم: إنه ثلاثة أصناف؟! فاحتج المزني بهذا الحديث، فقال المناظر: أتحتج علي بعلي بن زيد بن جدعان، فسكت المزني، فقلت للمناظر: قد رواه جماعة غيره، منهم: أيوب السختياني وخالد الحذاء، فقال للمزني: أنت تناظر أم هذا؟ فقال: إذا جاء الحديث .. فهو يناظر؛ لأنه أعلم به مني، ثم أتكلم.
قال: (ولا قصاص إلا في العمد) سواء مات في الحال أو بعده بسراية تلك الجراحة؛ لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلقِصَاصُ فِي اَلْقَتَلَىَ} .
وقوله: {وَكَتَبَنَا عَلَيِهم فِيهَا أَنَّ النَّفسَ باِلنَّفِس} الآية.
وقد ورد في شرعنا تقريره، فقال صلى الله عليه وسلم لما كسرت ثنية الربيع:(كتاب الله القصاص) ، ولهذا أدخله البخاري [4500] في تفسير (سورة المائدة) ، وإنما لم يجب في شبه العمد؛ للحديث المذكور قبله، ولا في الخطأ؛ لقوله تعالى:{وَمَنْ قَتَلَ مُؤمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيِرُ رَقَبَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ أِلَى أَهْلِه} ، فأوجب الدية ولم يتعرض للقصاص.
قال: (وهو: قصد الفعل والشخص بما يقتل غالبًا) ،هذه عبارة الجمهور،
جَارِحُ أَوْ مُثَقَّلُ
ــ
وأورد عليها: أن من قطع أنملة شخص فمات .. يجب عليه القصاص، مع أنه لا يقتل غالبًا.
وأجيب بأن المراد ب (ما يقتل غالبًا): الآلة لا نفس الفعل.
وما جزم به المصنف من كون العمد يعتمد فيه تعيين الشخص .. قد اختلف فيه كلام (الروضة): فجزم به هنا وفي الباب الرابع المعقود لموجب الدية، وخالف الموضعين قبيل (الديات) ، فرجح من زوائده وجوب القصاص إذا رمى إلى جماعة وقصد إصابة واحد منهم فأصاب واحدًا.
قال: (جارح أو مثقل) ، هذا علم من كلامة المتقدم، لكنه أراد به التنبيه على خلاف أبي حنيفة؛ فإنه لم يوجبه في المثقل، ولو حذفه كان أولى؛ لأنه يرد عليه ما لو قتله بسحره الذي يقتل غالبًا؛ فإن فيه القصاص كما سيأتي، مع أنه ليس بجارح ولا مثقل.
ويجوز في لفظه الجر على البدلية، والرفع على القطع.
فأما وجوب القصاص في الجارح .. فبالإجماع، ولا فرق فيه بين السيف والسكين، والحديد والنحاس، والقصب والحجر، والخشب المحدودين والزجاج، ومنه الطعن بالسنان والمسلة.
والمراد ب (المثقل): ما يقتل غالبًا كالحجر والدبوس الكبيرين، والتحريق والصلب، وهدم الجدار أو السقف عليه، ودفنه حيًا، وعصر أنثييه عصرًا شديدًا.
واستدل الجمهور للقصاص في المثقل
بقوله تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَد جَعَلْنَا لِوَلِيِهِ سُلْطَانًا} هذا قتل مظلومًا.
وفي (سنن أبي داوود)[4561] وغيرها عن حمل بن مالك: (أن النبي صلى الله
فَإِنْ فُقِدَ قَصْدُ أَحَدِهِمَا، بِأَنْ وَقَعَ عَلَيهِ فَمَاتَ، أَو رَمَى شَجَرَةُ فَأَصَابَهُ .. فَخَطَأُ. وَإِنْ قَصَدَهُمَا بِمَا لَا يَقْتُلُ غَالِبًا .. فَشِبْهُ عَمْدٍ، ومِنْهُ: الضَّرْبُ بِسَوْطٍ أَوْ عَصًا
ــ
عليه وسلم قضى في امرأة قتلت مرأة قتلت بمسطح بالقتل).
و (المسطح): عود من أعواد الخباء.
وفي (الصحيحين)[خ 2413 - م 1672]: (أن جارية وجدت رض رأسها بين حجرين فقيل لها، من فعل بك هذا؟ فلان، فلان .. إلى أن ذكر يهودي، فأفشارت برأسها: أن نعم. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بين حجرين).
وقد وافقنا ابو حنيفة على أن القتل بالعمود الحديد يوجب القود، فقيس عليه غيره، ولأن القصاص شرع لصيانة النفس، فلو لم يجب بالمثقل .. لما حصلت الصيانة.
قال: (فإن فُقد قصد أحدهما؛ بأن وقع عليه فمات، أو رمى شجرة فأصابه .. فخطأ).
(الخطأ) بالهمز: نقيض الصواب، فالفعل القاتل للغير إذا لم يقصد أصله كما لو تزلق فسقط على غيره فمات، أو لم يقصد الشخص نفسه كما إذا رمى إلى صيد فأصاب إنسانًا .. فهو خطأ محض لا يتعلق به قصاص.
وفي المثال الأول نظر؛ فإن الواقع لا ينسب إليه فعل، فضلا عن كونه خطأ؛ لقربه منه وبعده عن غيره.
قال: (وإن قصدهما بما لا يقتل غالبًا .. فشبه عمد)؛ لأنه أشبه العمد في القصدين.
واحترز بقوله: (غالبًا) عما يكون القتل به نادرًا، كما لو غرز إبرة في غير مقتل ولم يعقبها ورم فمات .. فلا قصاص فيه كما سيأتي.
قال: (ومنه) أي: من شبه العمد (الضرب بسوط أو عصًا)؛ للحديث السابق، لكنه في (الشرح) و (الروضة) مقيد بما إذا كانت خفيفة ولم يوال بين
فَلَوْ غَرَزَ إِبْرَةُ بِمَقتَلِ .. فَعَمدُ، وَكَذَا بِغَيِرهِ إِنْ تَوَرَّمَ وَتَأَلَّمَ حَتَّى مَاتَ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ أَثرُو مات فِي الْحَالِ .. فَشِبْهُ عَمْدٍ، وَقِيلَ: عَمْدُ، وَقِيلً: لَا شَيْءَ
ــ
الضربات ولم يكن الضرب في مقتل أو المضروب صغيرًا أو ضعيفًا، فإن كان فيه شيء من ذلك
فهو عمد؛ لأنه يقتل غالبًا في هذه الأحوال.
قال: (فلو غرز إبرة بمقتل .. فعمد)؛ لخطر ذلك وشدة تأثيرة، فالقليل في هذه المواضع يعمل عمل الكثير في غيرها.
فمن المقاتل: العينان، والدماغ، وأصول الأذنين، والحلق، والخاصرة، والإحليل، والأنثيان، والمثانة، و (العجان) وهو: ما بين القبل والدبر، ويسمى: العضرط، و (الأجدعان) وهما: عرقان في صفحتي العنق قد خفيا وبطنا، وقيل: هما الودجان.
قال: (وكذا بغيره) أي: بغير المقتل، كالألية والعضد والفخذ (إن تورم وتألم حتى مات) ، فيجب القصاص؛ لظهور أثر الجناية وسرايتها إلى الهلاك، ولم يذكر في (الحاوي الصغير) الألم بل اقتصر على التورم؛ لأن الغالب: أنه لا يخلو عنه، وصحح المصنف في كلامه على (الوسيط): الوجوب إذا دام الألم بلا ورم.
قال: (فإن لم يظهر) له (أثر ومات في الحال .. فشبه عمد)؛ لأنه لا يقتل عادة، فأشبه ما إذا مات بعد مدة من غير تورم ولا تألم.
وليس المراد (بعدم ظهور الأثر): ألا يظهر أصلًا؛ فإنه لا بد من ألم ما، لكن المراد: أنه لا يشتد الألم.
قال: (وقيل: عمد) كالجراحات الصغيرة بغير الإبرة.
قال: (وقيل: لا شيء) أي: لا قصاص ولا دية؛ إحالة علي الموت بسبب آخر، وبهذا قال ابن سريج والإصطخري وابن خيران والطبري.
وَلَوْ غَرَزَ فِيمَا لَا يُؤْلِمُ كَجِلْدَةِ عَقِبٍ .. فَلَا شَيْء بِحَالٍ. وَلَوْ حَبَسَهُ وَمَنَعَهُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ وَالطَّلَبَ حَتَّى مَاتَ: فإِنْ مَضَتْ مُدَّةُ يَمُوتُ مِثْلُهُ فِيهَا غَالِبًا جُوعًا وَعَطَشًا .. فَعَمْدُ، وَإلَاّ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ جُوعٌ وَعَطَشُ سَابِقُ .. فَشِبْهُ عَمْدٍ، وَإِنْ كَاَنَ بَعْضُ جُوعٍ وَعَطَشِ وَعَلِمَ الْحَابِسُ الْحَالَ .. فَعَمْدٌ،
ــ
قال: (ولو غرز فيما لا يؤلم كجلدة عقب .. فلا شيء بحال)؛ للعلم بأنه لم يمت منه، وإنما هو موافقة قدر، كما لو ألقى عليه خرقة أو ضربه بقلم فمات.
ومحل ما ذكره المصنف: إذا لم يبالغ في إدخال الإبرة، فإن بالغ .. وجب القود قولًا واحدًا، صرح به الأصحاب.
قال: (ولو حبسه ومنعه الطعام والشراب والطلب حتى مات: فإن مضت مدة يموت مثله فيها غالبًا جوعًا وعطشًا .. فعمد)؛ إحالة للهلاك على السبب الظاهر المفضي إلى الموت غالبًا، وتختلف المدة باختلاف حال المحبوس قوةُ وضعفَا، والزمانِ حرارةُ، وبرودة، فإن فقد الماء في الحر .. ليس كفقده في البرد، وفقد الماء يهلك سريعًا، بخلاف فقد الأكل، فيعتبر ذلك، وإليه أشار بقوله:(مدةٌ يموت مثله فيها).
وإنما عطف ب (أو) ليفيد: أن فقد أحدهما كاف إذا هلك به، فإن كان عنده الطعام والشراب لكنه لم يتناوله خوفًا أو حزنًا أو أمكنة الطلب فلم يفعل .. فلا شيء على حابسه؛ لأنه قتل نفسه.
وقال في (البحر): لاحدَّ لأقل الجوع وإنْ حده الأطباء باثنين وسبعين ساعة متصلة؛ فقد واصل عبد الله بن الزبير سبعة عشر يومًا، واختبأ أبو ذر تحت أستار الكعبة بضعة عشر يومًا يخرج في الليل فيشرب من زمزم، ومع ذلك سمن حتى تكسرت عكَن بطنه.
قال: (وإلا) أي: وإن لم تمض تلك المدة المذكورة ومات (فإن لم يكن به جوع وعطش سابق .. فشبه عمد)؛ لأنه لا يقتل غالبًا (وإن كان بعض جوع وعطش وعلم الحابس الحال .. فعمد)؛ لظهور قصد الإهلاك.
و (الواو) في قوله: (وعطش) بمعنى (أو) ، ولو أفضح بها .. كان أولى.
وَإِلَاّ .. فَلَا فِي الأَظْهَرِ
ــ
قال: (وإلا) أي: وإن لم يعلم الحابس الحال) .. فلا في الأظهر)؛ لأنه لم يقصد إهلاكه ولا أتى هو مهلك.
وشبه ذلك بما إذا دفع إنسانًا دفعًا خفيفًا فسقط على سكين خلفه وهو جاهل بها .. فلا وقود.
والثاني: يجب، كما لو ضرب المريض بما يهلكه وهو لا يعلم مرضه، فإن لم نوجب القصاص .. فقولان:
أحدهما: تجب الدية بتمامها دية العمد إن كان عالمًا، ودية شبه العمد إن كان جاهلًا.
وأظهرهما- وبه قطع الأكثرون-: يجب نصف دية العمد أو شبه العمد.
وإن أوجبنا القصاص .. وجبت دية عمد بكمالها.
كل هذا إذا كان المحبوس حرًا، فإن كان عبدًا .. فإنه يضمن بوضع اليد إذا مات في الحبس.
وقال أبو حنبفة: إذا حبس حرًا صغيرًا فلسعته حيه فمات .. ضمنه بالدية.
وسيأتي في التتمة التي قبل (الديات) عن المتولي: أنه إذا قتله بالدخان .. وجب القصاص، وهناك نقل الشيخان عن (فتاوى الغزالي): لو افتصد فمنعه رجل من أن يعصب العرق حتى مات، أو عصبه فحله رجل ومنعه من إعادة العصابة حتى مات .. وجب القود؛ لأنه طريق يقصد به القتل غالبًا.
وَيَجِبُ القِصَاصُ بِالسَّبَبِ، فَلَوْ شَهِدَا بِقِصَاصٍ فَقُتِلَ ثُمَّ رَجَعَا وَقَالَا: تَعَمَّدْنَا .. لَزمَهُمَا القِصَاصُ إِلَاّ أَنْ يَعْتَرِفَ الْوَلِيُّ بِعِلْمِهِ بِكَذِبِهِمَا
ــ
وعن القاضي حسين: لو عراه حتى مات بالحر أو البرد .. فهو كما لو منعه الطعام أو الشراب.
ولو أخذ طعامه أو شرابه أو ثيابه في مفازة فمات جوعًا أو عطشًا أو بردًا .. فلا قصاص؛ لأنه لم يقصد قتله وإنما قصد تحصيل شيء لنفسه، ولا دية أيضًا؛ لأنه لم يُحدث فيه فعلًا يقتضي إهلاكه.
قال: (ويجب القصاص بالسبب)، وهو الذي يتوصل به إلى القتل؛ إقامة له مقام المسبب.
قال: (فلو شهدا بقصاص فقتل ثم رجعا وقالا: تعمدنا .. لزمهما القصاص)؛ لما روى البخاري تعليقًا، والشافعي والبيهقي [10/ 251] مسندًا: أن رجلين شهدا عند علي رضي الله عنه على رجل بسرقة فقطعه، ثم رجعا عن شهادتهما فقال:(لو أعلم أنكما تعمدتما .. لقطعت أيديكما).
ولأنه سبب يفضي إلى الهلاك غالبًا في شخص معين فأوجب القصاص كالإكراه الحسي، بل جعله الإمام أبلغ من الإكراه؛ لأن المكره قد يؤثر هلاك نفسه على سفك دم محرم، والقاضي لا محيص له عن الحكم بشهادتهما، وكذلك لو شهدا على طرف أو شهدا بردة أو بسرقة فقطع ثم رجعا عن الشهادة، فإن سرى .. فعليهم القصاص في النفس.
قال: (إلا أن يعترف الولي بعلمه بكذبهما)، فلا قصاص عليهما؛ لأنهما لم يلجئاه لا حسًا ولا شرعًا، وإنما هما كالممسك مع القاتل.
هذا بالنسبة إلى الشهادة، أما الرواية، فإذا أشكلت واقعة على حاكم، فروى له إنسان فيها خبرًا، فقتل الحاكم به رجلًا، ثم رجع الراوي وقال: تعمدت الكذب ..
وَلَوْ ضَيَّفَ بِمَسْمُومٍ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا فَمَاتَ .. وَجَبَ الْقِصَاصُ،
ــ
ففي (فتاوي البغوي): ينبغي أن يجب القصاص كالشاهد يرجع.
قال الرافعي قبيل (الديات): والذي ذكره الإمام والقفال في (فتاويه) المنع؛ فإن الخبر لا يختص بالواقعة، بخلاف الشهادة.
ولو استفتى القاضي شخصًا فأفتاه بالقتل ثم رجع .. فهو فيما يظهر كراوي الخبر لا كالشاهد، وقد ذكر المصنف في (كتاب الشهادات) رجوع الولي وحده، وهناك يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
قال: (ولو ضيف بمسموم صبيًا أو مجنونًا فمات .. وجب القصاص)؛ لأنه ألجأهما إلى ذلك، سواء قال لهما: هو مسموم أو لم يقل، وسواء ناوله إياه وقال: كل، أو قدمه إليه ضيافة.
وصورة المسألة: أن يكون السم يقتل غالبًا، وإنما لم يقيده المصنف به؛ لأن السم لا يطلق حقيقة إلا عليه وإن خالفوا هذا الاصطلاح في مداواة الجرح بمسموم.
قال الرافعي: ولم يفرقوا بين الصبي المميز وغيره، ولا نظروا إلى الخلاف في: أن عمده عمد أو خطأ؟ وللنظر في ذلك مجال. اهـ
وقد فرق بينها ابن الصباغ والمتولي، وهو مقتضى ما في (البيان) و (التهذيب).
ولو كان السم لا يقتل غالبًا إلا الضعيف أو في فصل .. اعتبر فيما ذكرناه ضعف المكره وذلك الفصل، وإلا .. فلا قصاص.
وفي قوله: إن السم وإن كان مما لا يقتل غالبًا ومات الموجَ ربه .. يجب القصاص؛ لأن له نكايات في الباطن، فأشبه الجراحة.
و (السم): شيء يضاد القوة الحيوانية وهو مثلث السين، والثلاث لغات في:(سَمِّ الْخِيَاطِ).
واقتصر الجوهري فيه على الضم والفتح، ويجمع على: سموم وسمام.
ووقع في كلام الرافعي وغيره: سم موح، وهو بتشديد الحاء المهملة، أي: المسرع.
أَوْ بَالِغًا عَاقِلًا وَلَمْ يَعْلَمْ حَالَ الطَّعَامِ .. فَدِيَةٌ، وَفِي قَوْلٍ: قِصَاصٌ، وَفِي قَوْلٍ: لَاى شَيْءَ
ــ
قال: (أو بالغًا عاقلًا ولم يعلم) أي: الضيف (حال الطعام .. فدية)؛ لغروره، ولا قود؛ لأنه تناوله باختياره، فإن علم الضيف بالحال .. فلا شيء على المقدم بحال، والآكل هو المهلك لنفسه.
وأطلق المصنف (الدية) ولم يبين: هل هي دية عمد أو شبه عمد؟ وعبارة (المحرر): إذا قلنا: لا قصاص .. فالأقرب: أنه شبه عمد.
قال: (وفي قول: قصاص)؛ لإفضائه إلى الهلاك غالبًا في شخص معين، فأشبه الإكراه، وبهذا قال مالك، ورجحه البغوي والصيمري وآخرون.
واحتج له المتولي وغيره بما روى أبو داوود [4502]: أن النبي صليى الله عليه وسلم أهدت له يهودية بخيبر شاة مصلية وقد سمتها، فأكل منها وأكل رهط من أصحابه، فمات بشر بن البراء بن معرور، فأرسل إلى اليهودية فقال:(ما حملك على ما صنعت؟) فقالت: قلت: إن كان نبيًا .. فلن يضره، وإن لم يكن نبيًا .. استرحنا منه، فأمر بها صلى الله عليه وسلم فقتلت.
وللأول أن يجيب بأنه مرسل؛ لأن الزهري لم يسمع من جابر شيئًا، والمحفوظ أنه صلى الله عليه وسلم قيل له: ألا تقتلها؟ فقال: (لا) كذا أخرجه البخاري [2617] ومسلم [2190]، لكن جمع البيهقي [8/ 47] بينهما بأنه لم يقتلها في الابتداء، فلما مات بشر أمر بقتلها، وهي زينب بنت الحارث بن سلام، وقال ابن إسحاق: هي أخت مرحب اليهودي.
وروى معمر بن راشد عن الزهري: أنها أسلمت، وضعف في (البحر) الاستدلال بهذا الحديث بأنها لم تقدم الشاة إلى الأضياف، إنما بعثت بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو أضاف أصحابه، وما هذا سبيله لا يلزم به قصاص.
قال: (وفي قول: لا شيء)؛ تغليبًا للمباشرة، وأنكره جماعة، وقالوا: لا يصح.
ولو أكرهه على شرب السم القاتل .. فقولان: قال الرافعي: والوجه: أن يكون
وَلَوْ دَسَّ سُمًّا فِي طَعَامِ شَخْصٍ الْغَالِبُ أَكْلُهُ مِنْهُ فَأَكَلَهُ جَاهِلًا .. فَعَلَى الأَقْوَالِ ..
ــ
كالكراهة على قتل نفسه، وستأتي المسألتان، وصرح في (الكفاية) بنقل هذا عن الإمام والمتولي و (تعليق القاضي حسين).
قال: (ولو دس سمًا في طعام شخص الغالب أكله منه فأكله جاهلًا .. فعلى الأقوال) أي: التي تقدمت؛ لأنه يعد مهلكًا له عرفًا، هذه أصح الطرق.
والثانية: القطع بالمنع؛ لفقد التعزير منه.
والثالثة: يضمن قطعًا، حكاهما ابن القطان في (الفروع).
واحترز بقوله: (في طعام شخص) عما إذا دسه في طعام نفسه فأكله منه شخص عادته الدخول إليه؛ فإنه هدر.
وقوله: (الغالب أكله منه) زيادة على (المحرر)، وهي في (الشرحين)، ولم يتعرض لها الأكثرون، فاحترز بها عما إذا كان أكله منه نادرًا؛ فإنه هدر أيضًا.
فائدة:
روى الزهري: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه والحارث بن كلدة كانا يأكلان حريرة أهديت لأبي بكر، فقال الحارث – وكان طبيبًا –: والله إن فيها سم سنة، وأنا وانت نموت في يوم واحد، فرفع يده، فلم يزالا عليلين حتى ماتا في يوم واحد عند انقضاء السنة.
ولما غزا خالد بن الوليد الحيرة .. جاءه عبد المسيح بن عمرو بن بقيلة ومعه سم ساعة، فقال له خالد: ما هذا؟ فقال: سم ساعة إن نالني مكروه .. تناولته، فأخذه خالد من يده وقال: باسم الله خير الأسماء الذي لا يضر مع اسمه شيء الرحمن الرحيم، ثم اقتحم السم، فلم يضره منه شيء، فقال له ابن بقيلة: والله! لتملكن ما أردتم ما دام أحد منكم هكذا.
وَلَوْ تَرَكَ الْمَجْرُوحُ عِلَاجَ جُرْحٍ مُهْلِكٍ فَمَاتَ .. وَجَبَ الْقِصَاصُ. وَلَوْ أَلْقَاهُ فِي مَاءٍ لَا يُعَدُّ مُغْرِقًا كَمُنْبَسِطٍ فَمَكَثَ مُضْطَجِعًا حَتَّى هَلَك .. فَهَدَرٌ، أَوْ مُغْرِقٍ لَا يَخْلُصُ مِنْهُ إِلَاّ بِسِبَاحَةٍ: فَإِنْ لَمْ يُحْسِنْهَا أَوْ كَانَ مَكْتُوفًا أَوْ زَمِنًا .. فَعَمْدٌ، وَإِنْ مَنَعَ مِنْهَا عَارِضٌ كَرِيحٍ وَمَوْجٍ .. فَشِبْهُ عَمْدٍ، وَإِنْ أَمْكَنَتْهُ فَتَرَكَهَا .. فَلا دِيَةَ فِي الأَظْهَرِ
ــ
وكان ابن بقيلة معمَّرًا، بلغ ثلاث مئة وخمسين سنة، وسيأتي ذكره قبيل (باب الجزية).
قال: (ولو ترك المجروح علاج جرح مهلك فمات .. وجب القصاص) أي: على الجارح بلا خلاف؛ لأن البرء غير موثوق به والجناية في نفسها مهلكة، وليس كما لو حبسه في بيت والطعام حاضر فلم يأكل حتى مات؛ لأن نفس الحبس غير مهلك.
قال: (ولو ألقاه في ماء لا يعد مغرقًا كمنبسط فمكث مضطجعًا حتى هلك .. فهدر)؛ لأنه هلك باستدامة منسوبة إليه دون ملقيه، فأشبه ما لو خرج ثم عاد، وسواء كان الماء جاريًا أو راكدًا.
وقوله: (مضطجعًا) ليس بقيد؛ فإن المستلقي والمنكب والجالس كذلك ولم يفرقوا في هذا القسم بين المميز وغيره، ولا بين القادر على الحركة وغيره، والظاهر: أن المراد: المميز والقادر على الخروج منه؛ فإنهم صرحوا بأنه لو كتفه وألقاه على هيئة لا يمكنه الخلاص .. وجب القود.
قال: (أو مغرق لا يخلص منه إلا بسباحة: فإن لم يحسنها أو كان مكتوفًا أو زمنًا .. فعمد)؛ لأنه مهلك لمثله.
و (السباحة): العوم، قال الجوهري: يقال: إنه لا يُنسى.
قال: (وإن منع منها عارض كريح وموج .. فشبه عمد)، فتجب ديته ولا قود.
قال: (وإن أمكنته فتركها .. فلا دية في الأظهر)؛ لأنه بترك السباحة متلف لنفسه، فأشبه إعراض المحبوس عن أكل الطعام.
أَوْ فِي نَارٍ يُمْكِنُهُ الْخَلَاصُ فَمَكَثَ .. فَفِي الدِّيَةِ الْقَوْلَانِ. وَلَا قِصَاصَ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَفِي النَّارِ وَجْهٌ
ــ
والثاني: تجب الدية؛ لأن الإلقاء مهلك والسباحة حيلة دافعة، فأشبه ما لو امتنع من معالجة الجرح، وقيل: تجب قطعًا، وقيل: لا قطعًا.
ولو كتفه وطرحه على الساحل فزاد الماء وأغرقه، فإن كان في موضع تعلم زيادة الماء فيه كالمد بالبصرة .. فهو عمد موجب للقصاص، وإن كان قد يزيد وقد لا يزيد .. فهو شبه عمد، وإن كان بحيث لا تتوقع الزيادة فاتفق سيب نادر .. فهو خطأ محض.
قال: (أو في نار يمكنه الخلاص فمكث .. ففي الدية قولان)، هما منسوبان إلى رواية الربيع، وأصحهما: المنع، كما تقدم في مسألة الماء.
وقيل في مسألة الماء: لا تجب قطعًا، والقولان في النار؛ لأن النار متلفة لا يقدم الناس عليها مختارين، بخلاف الماء؛ فغنه قد يقدم عليه لسباحة أو تبرد أو تنظيف، وعلى الأصح: يجب على الملقي أرش ما عملت فيه النار من حين إلقائه إلى أن أمكنه الخروج.
قال الجيلي: فإن لم تكن معرفة قدر الأرش .. لم يلزمه إلا التعزير.
قال ابن الرفعة: ولو قيل: يلزمه المحقق .. كان أولى.
قال: (ولا قصاص في الصورتين) أي: في صورتي الإلقاء في الماء والنار؛ لأنه الذي قتل نفسه (وفي النار وجه)؛ لأنها تؤثر وتقرح بأول المس، بخلاف ملاقاة الماء، على أن في الماء قولًا أو وجهًا أيضًا بالوجوب.
واحترز بقوله: (يمكنه الخلاص) عما إذا لم يمكنه، لعظمها، أو كونها في وهدة، أو كونه مكتوفًا أو زمنًا أو صغيرًا فمات منها، أو خرج منها متأثرًا متألمًا وبقي ضعيفًا ضَمِنًا إلى أن مات؛ فعليه القصاص.
ولو قال الملقي: كان يمكنه التخلص مما ألقيته فيه من ماء أو نار، وكذبه الولي .. فالأصح: تصديق الوارث؛ لأن الظاهر: أنه لو أمكنه الخروج .. لخرج.
وَلَوْ أَمْسَكَهُ فَقَتَلَهُ آخَرُ، أَوْ حَفَرَ بِئْرًا فَرَدَّاهُ فِيهَا آخَرُ، أَوْ أَلْقَاهُ مِنْ شَاهِقٍ فَتَلَقَّاهُ آخَرُ فَقَدَّهُ .. فَالْقِصَاصُ عَلَى الْقَاتِلِ وَالْمُرْدِي وَالْقَادِّ فَقَطْ
ــ
وقيل: الملقي؛ لأن الأصل براءة ذمته.
قال: (ولو أمسكه فقتله آخر، أو حفر بئرًا فرداه فيها آخر، أو ألقاه من شاهق فتلقاه آخر فقده .. فالقصاص على القاتل والمردي والقاد فقط)، أما الممسك .. فلا شيء عليه إلا الإثم والتعزير؛ لما روى الدارقطني [3/ 140] والبيهقي [8/ 50] بإسناد صحيح عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أمسك الرجل الرجل حتى جاء آخر فقتله .. قتل القاتل ويصبر الممسك) أي: يحبس تأديبًا، قال البيهقي: والصواب إرساله، وصحح ابن القطان رفعه.
ولأنه لو أمسك امرأة حتى زنى بها غيره .. حد الزاني لا الممسك، وبهذا قال جماعة من العلماء.
وقال ربيعة: يحبس الممسك حتى يموت.
وقال مالك: إن أمسكه للقتل .. فهما شريكان وعليهما القصاص.
هذا في الحر، فإن كان المقتول عبدًا .. فللمالك مطالبة الممسك أيضًا، وقرار الضمان على القاتل، بخلاف ما لو أمسك المحرم صيدًا فقتله حلال وهو في يد المحرم؛ فالضمان على المحرم على تناقض فيه للرافعي والمصنف، وفرقوا بأنه ضمان يد وهنا ضمان إتلاف، وجعلوا سلب القتيل للقاتل والممسك؛ لاندفاع شر الكافر بهما.
وشرط مسألة الكتاب: أن يكون القاتل مكلفًا، فلو أمسكه وعرضه لمجنون أو سبع فقتله .. فالقصاص على الممسك بلا خلاف؛ لأنه يعد قاتلًا.
وأما مسألة حفر البئر .. فلأنه شرط والتردي سبب، والشروط لا يتعلق بها ضمان.
وكان الصواب: أن يعبر كما في (الشرح) و (الروضة) بنفي الضمان؛ لأنه الذي يتعلق بالحافر لا القصاص.
وأما مسألة الإلقاء من شاهق .. فالقصاص على المتلقي دون الملقي، ولا دية عليه
وَلَوْ أَلْقَاهُ فِي مَاءٍ مُغْرِقٍ فَالْتَقَمَهُ حُوتٌ .. وَجَبَ الْقِصَاصُ فِي الأَظْهَرِ، أَوْ غَيْرِ مُغْرِقٍ .. فَلَا
ــ
أيضًا إذا آل الأمر إليها، سواء عرف الملقي الحال أم لا، ولا فرق في نفي الضمان عن الملقي بين كون القاد ممن يضمن أو لا يضمن كالحربي.
و (القد) في اللغة هو: القطع طولًا و (القط): القطع عرضًا، ومنه: قط القلم.
قال: (ولو ألقاه في ماء مغرِق) وهو: الذي لا يمكنه الخلاص منه (فالتقمه حوت .. وجب القصاص في الأظهر)؛ لأن طرحه في اللُّجَّة إتلاف له، فإنه بنفس الوقوع فيه صار في حكم التالف.
والثاني: المنع؛ لحصول الإهلاك بغير ما قصد به الإهلاك فانتهض شبة في نفي القصاص، لكن تجب الدية مغلظة، ثم لا فرق بين أن يكون التقام الحوت له قبل وصوله إلى الماء أو بعده.
وقيل: إن التقمه قبل وصوله .. فلا قصاص قطعًا.
وقيل: إن كان بنيل مصر .. وجب؛ لأنه تكثر فيه التماسيح فلا يسلم منها أحد، وإن كان بغيره .. فلا.
فلو رفع الحوت رأسه فألقمه فاه .. وجب القصاص قطعًا.
قال: (أو غير مغرق .. فلا) أي: لا قصاص قطعًا؛ لأنه لم يقصد إهلاكه بالحوت الذي التقمه في الماء الغير المغرق، فأشبه ما إذا دفعه دفعًا خفيفًا على سكين لم يعلم بها الدافع؛ فإنه لا قصاص، وفي الصورتين دية شبه العمد مغلظة على العاقلة.
وقيل: لا دية كما لا قصاص، ومحل القطع بعدم القصاص: إذا لم يشعر الملقي بأن هناك حوتًا، فإن علم به .. وجب القود كما صرح به في (الوسيط).
وأطلق المصنف (المغرِق) ولا بد من تقييده بما لا يمكنه الخلاص منه، كما قاله ابن الرفعة وغيره.
وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى قَتْلٍ .. فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَكَذَا عَلَى الْمُكْرَهِ عَلَى الأَظْهَرِ، فَإِنْ وَجَبَتِ الدِّيَةُ .. وُزِّعَتْ، فَإِنْ كَافَأَهُ أَحَدُهُمَا فَقَطْ .. فَالْقِصَاصُ عَلَيْهِ
ــ
قال: (ولو أكرهه على قتل) أي: أكره شخصًا على قتل ثالث إكراهًا بغير حق وقتله.
قال:) .. فعليه القصاص)؛ لأنه أهلكه بما يقصد به الهلاك غالبًا، فأشبه ما إذا رماه بسهم فقتله، هذا هو الصحيح.
وقيل: لا قصاص عليه؛ لأنه متسبب والمكره مباشر والمباشرة مقدمة، أما إثم القتل .. فعليهما قطعًا، ولا يخفف الإكراه الإثم عن المكره.
قال: (وكذا على المكرَه) أي: بفتح الراء (على الأظهر)؛ لأنه قتله عمدًا عدوانًا لاستبقاء نفسه، فأشبه ما لو قتله المضطر ليأكله، بل أولى؛ لأن المضطر على يقين من التلف إن لم يأكل، بخلاف المكره، وبهذا قال مالك.
والثاني: لا قصاص؛ لحديث: (رفع عن أمتي: الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه)، وبهذا قال أبو حنيفة.
ولا فرق في جريان القولين بين أن يصدر الإكره من الإمام أو نائبه أو إمام البغاة أو المتغلب باللصوصية أو غيرهم على الأصح.
ولم يبين المصنف ما يحصل به الإكراه اكتفاء بما ذكره في (الطلاق)، لكن نقل الرافعي هنا عن المعتبرين: أن الإكراه هنا لا يحصل إلا بالتخويف بالقتل أو بما يخاف من التلف كالقطع والجرح والضرب الشديد، بخلاف الطلاق؛ فإن الإكراه فيه لا ينحصر في ذلك على الأظهر، ولابد أن يكون المكره لا يقدر على دفع المكره عن نفسه بقتل أو غيره.
قال: (فإن وجبت الدية .. وزعت) وكانا كالشريكين في القتل، فللولي أن يقتص منهما، وله أن يقتص من أحدهما ويأخذ نصف الدية من الآخر، والأصح في زوائد (الروضة): أنه في ماله.
قال: (فإن كافأه أحدهما فقط .. فالقصاص عليه)؛ لأن شريك غير المكافئ يلزمه القصاص كشريك الأب، فإذا أكره حر عبدًا على قتل عبد أو مسلم ذميًا على قتل
وَلَوْ أَكْرَهَ بَالِغٌ مُرَاهِقًا .. فَعَلَى الْبَالِغِ الْقِصَاصُ إِنْ قُلْنَا: عَمْدُ الصَّبِيِّ عَمْدٌ، وَهُوَ الأَظْهَرُ
ــ
ذمي .. فالقصاص واجب على المأمور دون الآمر، وإن أكره عبد حرًا على قتل عبد أو ذمي مسلمًا على قتل ذمي .. فالقصاص على الحامل دون المحمول.
ولو أكره الأب أجنبيًا على قتل ولده أو الأجنبي الأب .. فالقصاص على الأجنبي دون الأب.
قال: (ولو أكره بالغ مراهقًا .. فعلى البالغ القصاص إن قلنا: عمد الصبي عمد، وهو الأظهر)؛ لأنه كالمكلفين العامدين.
والمراد: أنه يعطى حكم العمد، واندفع عن المراهق؛ لعدم تكليفه.
فإن قلنا: عمده كخطأ البالغ .. فلا، كما لو اشترك المخطئ والعامد في القتل.
وما أطلقه المصنف من أن: (عمد الصبي عمد) قيده في (الروضة) بمن له نوع تمييز، أما من لا يميز .. فعمده خطأ، وكأن المصنف أشار إلى ذلك بالتمثيل بالمراهق.
والثاني: أنه خطأ؛ لقول علي رضي الله عنه: (عمد الصبي والمجنون خطأ)، ولرفع القلم عنهما.
والجواب: أن الأثر لم يصح.
وأما رفع القلم عنهما .. ففيما يتعلق بالبدن، ولهذا لا نوجب القصاص في قتلهما، بل فيه دية مغلظة.
فإن قلنا: إن عمده خطأ .. فلا قصاص؛ لأنه شريك مخطئ.
وإذا لم يكن لهما تمييز .. فقال القاضي والإمام وغيرهما: لا عمد لهما قولًا واحدًا.
وفي (الحاوي) طرد القولين فيهما.
ولو أمر من لا يميز بقتل .. وجب القود على الآمر؛ لأنه كالآلة التي يستعملها،
وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى رَمْيِ شَاخِصٍ عَلِمَ الْمُكْرِهُ رَجُلٌ وَظَنَّهُ الْمُكْرَهُ صَيْدًا .. فَالأَصَحُّ: وُجُوبُ الْقِصَاصِ عَلَى الْمُكْرِهِ. أَوْ عَلَى رَمْيِ صَيْدٍ فَأَصَابَ رَجُلًا .. فَلَا قِصَاصَ عَلَى أَحَدٍ. أَوْ عَلَى صُعُودِ شَجَرَةٍ فَزَلِقَ وَمَاتَ .. فَشِبْهُ عَمْدٍ، وَقِيلَ: عَمْدٌ
ــ
وهذا بخلاف ما لو أمره بالسرقة فسرق؛ فإنه لا يقطع الآمر؛ لأن القطع فيها لا يجب إلا بالمباشرة.
قال: (ولو أكرهه على رمي شاخص علم المكرِه أنه رجل وظنه المكرَه صيدًا .. فالأصح: وجوب القصاص على المكرِه) أي: بكسر الراء، وهو الآمر؛ لأنه قتله قاصدًا لقتله بما يقتل غالبًا والمكرَه جاهل بالحال.
والثاني: لا قصاص؛ لأنه شريكُ مخطئٍ، فإن آل الأمر إلى الدية .. ففي (التهذيب): أنها عليهما؛ نصف في مال الحامل، ونصف على عاقلة المحمول.
قال: (أو على رمي صيد فأصاب رجلًا .. فلا قصاص على أحد)؛ لأنهما لم يتعمدا قتله، وهذا لا خلاف فيه.
وأما الدية .. فجميعها على عاقلة المكرِه إن لم نوجب الضمان على المكرَه، وإن أوجبناه .. فعلى عاقلة كل منهما نصفها.
وقال المتولي: الحكم متعلق بالرامي ولا شيء على المكرِه؛ لأنه لم يفعل ما دعاه إليه، وهذا أوجه.
قال: (أو على صعود شجرة فزلق ومات .. فشبه عمد)؛ لأنه لم يقصد به القتل غالبًا.
قال: (وقيل: عمد)؛ لأنه تسبب في قتله، وهذا قول الغزالي.
وقال قاضي القضاة عماد الدين ابن السكري في (حواشي الوسيط): التحقيق: حمل الأول على ما إذا كانت الشجرة مما يزلق على مثلها غالبًا، والثاني على ما إذا
أَوْ عَلَى قَتْلِ نَفْسِهِ
…
فَلا قِصَاصَ فِي الأَظْهَرِ
ــ
كان يسلم منه غالبًا، فمحل الخلاف على حالين، وكذا قاله المصنف في (نكت التنبيه).
ولا شك أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال والأشجار. ونظير المسألة: ما إذا أكرهه على نزول بئر فزلق.
قال: (أو على قتل نفسه) بأن قال: اقتل نفسك، وإلا .. قتلتك) .. فلا قصاص في الأظهر)؛ لأن ذلك ليس بإكراه حقيقة، إذ المكره من يتخلص بما يؤمر به عما هو أشد عليه.
والثاني: يجب القصاص، كما لو أكرهه على قتل غيره. وقيل: لا قصاص قطعًا، حكاه ابن القطان.
ويستثنى من كلام المصنف: ما لو أكرهه بشيء فيه تعذيب شديد لو لم يقتل نفسه .. ففي (الشرح الصغير) و (الروضة) يشبه أن يكون إكراهًا؛ لتخلصه من الأشد بالشديد، فيجب القصاص كغيره.
وخرج بالتقييد بـ (النفس) صورتان:
إحداهما: الطرف، فلو قال: لتقطعن يدك أو إصبعك، وإلا قتلتك .. فهو إكراه؛ لأن قطعها ترجى معه الحياة.
والثانية: إكراهه على قتل الغير بقتل ولده.
والأصح في (الروضة) في (كتاب الطلاق): أنه ليس بإكراه. وقال الروياني: الصحيح عندي: أنه إكراه؛ لأن ولده كنفسه.
وإذا قلنا: يجب القصاص فعفى عنه على مال .. قال الرافعي والمصنف: وجب جميع الدية، وإن لم نوجبه .. فعليه نصف الدية إن أوجبنا الضمان على المكرَه، وجميعها إن لم نوجبه.
قال في (المطلب): والصواب العكس، وبينه في (المهمات).
وَلَوْ قَالَ: اقْتُلْنِي وَإِلَّا قَتَلْتُكَ فَقَتلَهُ .. فَالْمَذْهَبُ: ل قِصَاصَ، والأَظْهَرُ: لَا دِيّةَ. وَلَوْ قَالَ: اقْتُلْ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا .. فَلَيْسَ بِإِكْرَاهٍ
ــ
قال: (ولو قال: اقتلني وإلا قتلتك فقتله .. فالمذهبك لا قصاص)؛ لأن الإذن شبهة دارثة للحد.
والطريقة الثانية ذات قولين: ثانيهما: يجب؛ لأن القتل لا يباح بالإذن، كما لو أذن في الزنا بأمته.
قال: (والأظهر: لا دية)؛ لأنه إذن في القتل وإكراه، ولو تجرد الإذن .. فلا دية في أصح القولين؛ بناء على وجوبها للمقتول في آخر جزء من حياته، ثم تنتقل إلى الوارث كما سيأتي في آخر (باب كيفية القصاص).
فلو كان الآذن عبدًا .. فالضمان غير ساقط، وفي القصاص إذا كان المأذون له عبدًا وجهان.
ولو قال: اقطع يدي وإلا قتلتك فقطعها .. فلا قصاص ولا دية قطعًا؛ لأنه إتلاف مأذون فيه فصار كما لو أتلف ماله بإذنه، ولا يخفى أن محل القطع بعدم القطع إذا لم يمت، فإن مات من القطع .. ففيه الخلاف، والأصح فيه: عدم الوجوب.
فرع:
قال: اقذفني وإلا قتلتك فقذفه .. قال الرافعي نقلًا عن البغوي: يجب الحد، بخلاف القصاص؛ لأنه قد يستعين بغيره في قتل نفسه أو قطعه ولا يستعان بالغير في القذف، والعجب أن الرافعي صحح في بابي اللعان) و (القذف) عدم الوجوب، والصواب في زوائد (الروضة) وغيها: أنه لا حد مع الإكراه؛ لأنه مباح بلا خلاف.
قال: (ولو قالك اقتل زيدًا أو عمرًا) أي: وإلا قتلتك)
…
فليس بإكراه)، فمن أقدم على قتله منهما
…
كان مختارًا لقتله؛ لأن المكره هو المحمول على فعل
مِنْ شَخْصَيْنِ مَعًا فِعْلَانِ مُزْهِقَانِ مُذَفِّفاَنِ كَحَزِّ وَقَدِّ، أَوْ لَا
ــ
ما لا يجد عنه مخلصًا، هكذا ذكره الأصحاب، وخالفهم القاضي حسين؛ لأنه لا يتخلص إلا بذلك فهو ملجأ إليه، وتابعه الشيخ عز الدين فذكر: أن الإكراه على شرب أحد قدحي الخمر يتخير المكره فيهما، وأن ذلك لا يسقط أثر الإكراه، وقد سبق نظير هذا فيما إذا قال: طلق إحدى زوجتيك.
تتمة:
لا يبيح الإكراه القتل المحرم لذاته، بخلاف القتل المحرم لفوات المالية كقتل نساء الحربيين وذراريهم؛ فإنه يباح بالإكراه، وكذا لا يبيح الزنا ولا اللواط، ويجوز لكل منهما دفع المكره بما أمكنه، ويباح به شرب الخمر والإفطار في رمضان والخروج من صلاة الفرض، ويباح به الإتيان بما هو كفر قولًا أو فعلًا مع طمأنينة القلب بالإيمان، وعلى هذا فأوجهك
أصحها: الأفضل أن يثبت ولا ينطق بها.
والثاني: الأفضل مقابلة؛ صيانة لنفسه.
والثالث: إن كان من العلماء المقتدى بهم .. فالأفضل الثبوت.
والرابع: إن كان يتوقع منه إنكاء العدو أو القيام بأحكام الشرع .. فالأفضل أن ينطق بها لمصلحة بقائه، وإلا
…
فالأفضل الثبات.
ويباح به إتلاف مال الغير، وقال في (الوسيط): بل يجب، وتبعه (الحاوي الصغير) فجزم بالوجوب.
والمكره على شهادة الزور
…
قال الشيخ عز الدين: ينبغي أن ينظر فيما تقتضيه فإن اقتضت قتلًا
…
ألحقت به، أو مالًا .. ألحقت به
قال: (فصل:
وجد من شخصين معًا فعلان مزهقان كحز وقد، أو لا) أي: أو غير
كَقَطْعِ عُضْوَيْنِ .. فَقَاتِلَانِ. وَإِنْ أَنْهَاهُ رَجُل إِلَى حَرَكَةِ مَذْبُوحٍ؛ بِأَنْ لَمْ يَبْقَ إِبْصَارُ وَنُطْقُ وَحَرَكَةُ أخْتِيارِ، ثُمَّ جَنَى آخَرُ .. فَالأَوَّلُ قَتِلُ،
ــ
مذففين (كقطع عضوين .. فقاتلان) يجب عليهما القصاص؛ لأن القتل لا تمكن إضافته إلى واحد معين ولا إسقاطه فأضيف إليهما.
قال في (المطلب): واتفق الأصحاب على أنه لو جرح واحد جراحة وآخر مئة جراحة ومات بالسراية منهما .. فهما قاتلان، فرُبَّ جراحةِ لها غورُ ونكايةُ لم تحصل من جراحات.
فائدة:
لفظة (معًا) منصوبة على الحال، واستعملها المصنف للاتحاد في الزمان، وهو منقول عن ثعلب وغيره، وفرقوا بذلك بينها وبين (جميعًا).
واختار ابن مالك: أنها لا تدل على الاتحاد في الوقت، وهو ظاهر نص الشافعي فيما لو قال لامرأتيه: إن ولدتما معًا فأنتما طالقتان: أنه لا يشترط الاقتران في الزمان، وستأتي المسألة مبينَّة في (كتاب التدبير).
و (مُذفِّفان) بذال معجمة، ويجوز إهمالها، حكاه الجوهري، ومعناه: مسرعان للقتل.
قال: (وإن أنهاه رجل إلى حركة مذبوح؛ بأن لم يَبق إبصار ونطق وحركة اختبار، ثم جنى آخر .. فالأول قاتل)؛ لأنه أنهاه إلى حالة الموت، وتسمى هذه الحالة حالة اليأس، لا يصح فيها إسلام ولا شيء من التصرفات، وينتقل الملك فيها للورثة.
ولو مات قريب لمن انتهى إليها .. لم يرثه، ولا تصح الردة فيها على الصحيح، وعلى هذا حمل تنازع معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء رضي الله عنهما في قتل أبي جهل، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم:(هل مسحتما سيفيكما؟) قالا: لا، فنظر فقال:(كلاكما قتله) وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو.
وَيُعزَّرُ الثَّانِي. وَإِنْ جَنَى الثَّانِي قَبْلَ الإِنْهَاءِإِلَيْهَا: فَإِنْ ذَفَّف كَحَزّ بَعْدَ جُرْحِ .. فَالثَّانِي قَاتِلُ، وَعَلَى الأَوَّلِ قِصَاصُ الْعُضْوِ أَوْ مَالُ بِحَسَبِ الْحَالِ، وَإِلَاّ فَقَاتِلَانِ
ــ
قال الأصحاب: لأنه كان أثخنه والآخر جرحه بعد، فقضى بسلبه للأول، فدل على أنه القاتل.
وقوله: (كلاكما قتله) تطييب لقلب الآخر.
وقوله المصنف: (بأن لم يبق) تفسيرلحركة المذبوح.
واحترز ب (الاختيارية) عما إذا قطع الإنسان نصفين وبقيت أحشاؤه في النصف الأعلى؛ فإنه ربما تكلم بكلمات لا تنتظم، وإن انتظمت .. فليست عن روية واختيار، بل ذلك يجري مجى الهذيان الذي لا يصدر عن عقل صحيح ولا قلب ثابت.
وحكى ابن أبي هريرة: أن رجلًا قطع نصفين فتكلم واستسقى ماء فسقي.
وإن شك في وصوله إلى حركة المذبوح .. رجع إلى أهل الخبرة.
قال: (ويعزر الثاني) كما لو قطع عضوًا من ميت.
قال: (وإن جنى الثاني قبل الإنهاء إليها) أي: إلى حركة المذبوح (فإن ذَفف كحَزَّ بعد جرح .. فالثاني قاتل)؛ لأن الجراحة إنما تقتل بالسريان وحزُّ الرقبة يمنع من السريان فأبطل أثره، ولا فرق بين أن يتوقع البرء من الجراحة السابقة أو يتيقن الهلاك بما بعدها.
قال: (وعلى الأول قصاص العضو أو مال بحسب الحال) أي: من عمد أو خطأ؛ لأن حياته كانت مستقره وتصرفاته حينئذ كانت نافذة، ولأن عمر رضي الله عنه أوصى في هذه الحالة، فعمل بعهده،
وعن مالك: إذا تيقن هلاكه بالجراحة السابقه .. فالقاتل الأول دون الثاني.
قال: (وإلا .. فقاتلان) أي: إذا لم تكن الجراحة الثانية مذفِّفة؛ بأن أجافاه مرتبًا، أو قطع الأول يده من الكوع ثم قطع الثاني الساعد من المرفق .. فهما قاتلان؛
وَلَوْ قَتَلَ مَرِيضًا فِي النَّزْعِ وَعَيْشُهُ عَيْشُ مَذْبُوحٍ .. وَجَبَ الْقِصَاضُ.
فَصْلُ:
قَتَلَ مُسلِمًا ظَنَّ كُفْرَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ
ــ
لأن القطع الأول قد انتشر سرايته وألمه وتأثرت به الأعضاء الرئيسة وانضم إليها الألم الثاني، فأشبه ما إذا أجاف أحدهما جائفة ثم وسعها الآخر ومات .. فالقصاص واجب عليهما.
كل هذا إذا لم يصب الحشوة خرق أو قطع وتيقن موته بعد يوم أو يومين .. فهذا يجب القصاص بقتله، وكان عمر رضي الله عنه كذلك على ما روي: أن الطبيب سقاه لبنًا فخرج من جوفه، فقال له: اعهد يا أمير المؤمنين.
قال: (ولو قتل مريضًا في النزاع وعيشُه عيشُ مذبوح .. وجب القصاص)؛ لأن موته غير محقق، فإن انتهى إلى النزع وبدت أمارات الموت .. فإن الشفاء قد بقع بعد ذلك، بخلاف المقدود والمذبوح.
وعن (تعليق القاضي): أنه لا يكون قاتلًا، كما لا يحل الحيوان المنتهي بالمرض إلى هذه الحالة بالذكاة.
تتمة:
ما ذكره الرافعي والمصنف هاهنا وفي (باب العاقلة) من: أن المريض لا يقطع بموته .. سبق لهما في (باب الوصية) في الكلام على المريض المخوف، وفي (الفرائض) في الكلام على ميراث الحمل ما يخالفه، وذكرا في (الأضاحي) ما يقرب من ذلك، كما قرره في (المهمات).
قال: (فصل: قتل مسلمًا ظن كفره بدار الحرب)؛ بأن رآه يعظم آلهتهم أو على زيهم.
فَلَا قِصَاصَ، وَكَذَا لَا فِي الأَظْهَرِ. أَوْ بِدَارِ الإِسْلَامِ .. وَجَبَا، وَفِي الْقِصَاصِ قَوْلٌ،
ــ
قال:) .. فلا قصاص)؛ لوضوح العذر، وهذا لا خلاف فيه، واستدل له الشافعي بقوله تعالى:{فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} ؛فإن معناه: في قوم، ولأنه أسقط حرمة نفسه بمُقامه في دار الحرب التي هي دار إباحة.
قال: (وكذا لا دية في الأظهر)؛ للجهل بباطن أمره، أما الكفارة .. فتجب قطعًا.
والقول الثاني: تجب الدية؛ لأنها تثبت مع الشبهة.
واحترز عما إذا لم يظنه، فإن عرف مكانه .. فكما لو قلته في دار الإسلام، وإن لم يعرف مكانه ورمى سهمًا إلى الكفار في دارهم، فإن لم يعين شخصًا بل أصابه خطأ .. فلا ضمان، وإن عين شخصًا وأصابه .. فلا قود، وفي الدية قولان.
قال: (أو بدار الإسلام .. وجبا) ، أما الدية .. فبلا خلاف، وأما القصاص .. فعلى الأظهر؛ لأن ظاهر حال من بدار الإسلام العصمة، ولا خلاف في وجوب الكفارة في هذه الحالة، وتصريحه بجمع القصاص مع الدية عجيب؛ لأنهما لا يجتمعان لا وجوبًا ولا استيفاء كما قاله في (الروضة) في أول الباب، والموقع له في ذلك (المحرر)؛ فإنه قال: وجبت الدية، وكذا القصاص في أصح القولين، ومراده: وجوبهما على البدل لا الاجتماع.
قال: (وفي القصاص قول): إنه لا يجب؛ لأنه أبطل حرمته بخروجه على هيئة الكفار، وقد نص الشافعي على: أن التزيي بزيهم في دار الإسلام ردة، لكن سيأتي في (كتاب الردة): أن ذلك ليس بردة على الصحيح عند المصنف، وهل الدية عليه أو على عاقلته؟ فيه قولان في (الأم) في (قتال البغاة).
أَوْ مَنْ عَهِدَهُ ذِمِّيًّا أَوْ عَبْدًا أَوْ ظَنَّهُ قَاتِلَ أَبِيهِ فَبَانَ خِلَافهُ .. فَالْمَذْهَبُ: وُجُوبُ الْقِصَاصِ،
ــ
قال: (أو من عهده ذميًا أو مرتدًا أو عبدًا أو ظنه قاتل أبيه فبان خلافه .. فالمذهب: وجوب القصاص) ، نص الشافعي في المرتد على الوجوب، وفي الذمي والعبد على المنع، فقيل: قولان فيهما:
وجه الوجوب: أنه غير معذور في هذا الظن؛ إذ ليس للآحاد القتل.
ووجه السقوط: الظن المبني على الاستصحاب، وقيل بتقريرهما.
والفرق: أن المرتد يحبس في دار الإسلام ولا يخلى، فقاتله وهو مخليً مقصر، بخلاف العبد والذمي؛ فإنهما يتركان في دار الإسلام.
وقيل: يجب القصاص في الجميع قطعًا؛ لأن ظنه لا يبيح القتل.
والمذهب: وجوب القصاص في الجميع، كما لو علم تحريم القتل وجهل وجوب القصاص.
وفيما إذا ظنه قاتل أبيه فقتله فبان غيره قولان:
أحدهما: لا يجب؛ لأنه ظن إباحة القتل.
وأظهرهما: الوجوب؛ لأنه كان من حقه التثبت فلو قال: تبينت أن أبي كان حيًا حين قتلته .. وجب القصاص قطعًا؛ إذ لا عبرة بالظن البين خطؤه.
واحترز بقوله: عهده عما إذا لم يعهد ردته بل ظنها؛ فإن القصاص واجب لا محالة، وحيث قلنا: لا قصاص، فقال الولي: عرفت إسلامه أو حريته، وقال القاتل: ظننته كافرًا أو رقيقًا .. فالقول قوله؛ لأنه أعرف بحاله.
وَلَوْ ضَرَبَ مَرِيضًا جَهِلَ مَرَضَهُ ضَرْبًا يَقْتُلُ اٌلْمَرِيضَ .. وَجَبَ اٌلْقِصَاصُ، وَقِيلَ: لَا. وَيُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ اٌلْقِصَاصِ فِي اٌلْقَتِيلِ: إِسْلَامٌ أَوْ أَمَانٌ؛ فَيُهْدَرُ اٌلْحَرْبِيُ
ــ
ولو عهده حربيا قتله ظانا: أنه لم يسلم وكان مسلمًا .. فقيل: كالمرتد، وقيل: لا قصاص قطعًا.
قال: (ولو ضرب مريضا جهل مرضه ضربا يقتل المريض) أي: فمات منه) .. وجب القصاص)؛ لوجود القتل بصفة التعدي، وظن الصحة لايبيح الضرب، كما إذا وطىء امرأة ظنها جارية مشتركة بينه وبين غيره .. فالأصح: وجوب الحد، وكما إذا سرق ثوبا لا يساوي نصابا وفي جيبه تمام نصاب .. فإنه يقطع كما سيأتي.
قال: (وقيل: لا)؛ لأنه ليس بمهلك عنده فلم يتحقق قصد الإهلاك.
والذي أطلقه المصنف تبعًا لـ) المحرر) مقيد بما إذا ضربه غير تأديب، فإن ضربه تأديبا ضربا لا يقتل المريض وهو جاهل بمرضه .. فإنه لا يجب عليه القود؛ إذ لا عدوان كما صرح به في (الوسيط)
واحترز بقوله: (جهل) عما إذا علم؛ فيجب القصاص قطعا، وبقوله:(يقتل المريض) عما يقتل الصحيح؛ فيجب أيضا قطعا.
قال: (ويشترط لوجوب القصاص في القتيل: إسلام)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:) أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها .. عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها) رواه مسلم [21].
قال: (أو أمان) أي: بعقد ذمة أو عهد؛ لقوله تعالى: {قتلوا الذين لا يومنون بالله} إلى قوله: {حتى يعطوا الجزية} .
ولقوله تعالى: {وان احد من المشركين استجارك فاجره} الآية.
قال (فيهدر الحربي)؛ لقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} .
وَالْمُرْتَدُ، وَمَنْ عَلَيْهِ قِصَاصٌ كَغَيْرِهِ، وَالزَّانِي الْمُحْصَنُ إِنْ قَتَلَهُ ذِمَّيٌّ .. قُتِلَ، أَوْ مُسْلِمٌ .. فَلَا فِي اٌلأَصَحَّ.
ــ
قال: (والمرتد)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:) من بدل دينه فاقتلوه).
وأورد في) المطلب) على حصر أسباب العصمة في الإسلام والأمان ضرب الرق على الكتابي بلا خلاف، وكذا على وثني ونحوه على المذهب، وكذا الترهب في قول؛ فالعصمة حاصلة بالجميع.
قال: (ومن عليه قصاص كغيره)، فإذا قتله غير المستحق .. اقتص منه؛ لقوله تعالى:{ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطنا} ، فخص وليه بقتله، فدل على: أن غير وليه لا سلطان له عليه، وكذا من عليه قطع في غير القصاص كالسارق؛ فإن يده معصومة على غير المستحق، كذا هو في) الحاوي الكبير) و (الصغير).
والذي في (الشرح) و) الروضة): أنها ليست بمعصومة بالنسبة إليه أيضا؛ لأنها مستحقة الإزالة.
كل هذا فيمن لم يتحتم قتله، فأما من تحتم قتله بقطع الطريق، فإذا قتله غير المستحق .. لا قصاص عليه في الأصح، فكان ينبغي للمصنف التحرز عنه.
ومحل ما ذكره أيضا: إذا لم يكن للقاتل فيه جزء، فإن كان كما لو قتله أحد الابنين .. فلا قصاص على الأصح؛ لأنه مستوف لبعض حقه.
قال: (والزاني المحصن إن قتله ذمي .. قتل) به؛ لأنه لا سبيل له عليه، ويقتل به المعاهد والمستأمن على الصواب في) تصحيح التنبيه).
ونقل ابن الرفع عن الزبيلي وجهًا: أنه لايجب القصاص على الذمي ونحوه بقتله؛ لأنه مباح الدم، كما لو قتله مسلم.
قال: (أو مسلم .. فلا في الأصح)؛ لأنه مباح الدم، فأشبه المرتد، هذا هو المنصوص.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
والثاني: يجب القصاص؛ لأن إباحة دمه إنما تثبت في حق الإمام، فإذا قتله آحاد الناس .. لم يجز لهم قتله، فأشبه غير ولي الدم إذا قتل القاتل.
وموضع الخلاف: إذا قتله قبل أمر الإمام بقتله، فإن قتله بعد الأمر بقتله .. فلا قصاص قطعا، كذا نقله في زوائد) الروضةط عن القاضي أبي الطيب في) تعليقه).
ثم الذي أطلقه المصنف من إهدار الزاني المحصن مقتضاه: أنه لا فرق بين أن يثبت بالبينة أو الإقرار.
وقيده الشيخ فيط التنبيه) والماوردي بما إذا وجب رجمه بالبينة، فإن وجب بالإقرار .. اقتص من قاتله؛ لأنه غير متحتم؛ لاحتمال رجوعه، وصححه المصنف فيط تصحيح التنبيه)، والصواب: العموم؛ فقد نص في) الأم) على: أنه لا فرق كما نقله في) المطلب)، قال: وبه صرح البندنيجي.
فرع:
نص الشافعي على أن من قتل محصنا ثم قال: وجدته يزني بامرأتي أو جاريتي أو يلوط بابني .. ففيما بينه وبين الله تعالى: لا قصاص عليه ولادية، وفي الظاهر: لا يصدق إن أنكر ولي القتيل ذلك، فإن أقام القاتل أربعة على زناه .. سقط عنه القود.
واستدل البيهقي [8/ 230] لهذا بما رواه عن سعيد بن المسيب: (أن رجلا وجد مع امرأته رجلا فقتله أو قتلها فأشكل القضاء فيها على معاوية، فأرسل إلى أبي موسى أن يسأل عنها عليا، فسأله، فقال علي: عزمت عليك لتخبرني من سألك عن هذه فقال: معاوية كتب بها إلي، فقال علي: أنا أبو الحسن، إن لم يأت بأربعة شهداء .. فليعط برمته).
وَفِي الْقَائِلِ: بُلُوغٌ وَعَقْلٌ، وَالْمَذْهَبُ: وُجُوبُهُ عَلَى السَّكْرَانِ. وَلَوْ قَالَ: كُنْتُ يَوْمَ الْقَتْل صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا .. صُدِّقَ بِيَمِنِهِ إِنْ أَمْكَنَ الصِّبَا وَعُهِدَ الجُنوُنُ. وَلَوْ قَالَ: أَنَا صَبِيٌ .. فَلَا قِصَاصَ وَلَا يُحَلَّفُ. ولَا قِصَاصَ عَلَى حَرْبِيِّ،
ــ
قال: (وفي القاتل: بلوغ وعقل) ، فلا قصاص على صبي ومجنون؛ لرفع القلم عنهما.
هذا في الجنون المطبق، أما المتقطع .. فهو كالعاقل في وقت إفاقته وكالمطبق في وقت جنونه، ومن وجب عليه القصاص ثم جن .. استوفى منه.
وعن أبي حنيفة: لا يقتص منه في حال الجنون.
قال: (والمذهب: وجوبه على السكران)؛ لتعديه، وفي المسألة طرق تقررت في (الطلاق) ، وألحق به المتعدي بتناول الأدوية المزيلة للعقل.
ومحل الخلاف: في غير المعذور بسكره، فمن أكره على شرب الخمر أو جهل كونها خمرًا .. فهو كالمعتوه.
قال: (ولو قال: كنت يوم القتل صبيًا أو مجنونًا .. صدق بيمينه إن أمكن الصبا وعهد الجنون)؛ لان دعواه موافقة للأصل، ولا يخفى أن هذا بشرط الإمكان.
وقيل: المصدق الولي؛ لأن الأصل السلامة.
فلو أقام الوارث بينة على: أن القاتل كان عاقلًا يومئذ، وأقام القاتل بينة على: أنه كان مجنونًا .. تعارضنا وسقطتا.
قال: (ولو قال: أنا صبي .. فلا قصاص ولا يحلف)؛ لأنه لو ثبت صباه .. لبطلت يمينه، وقيل: يحلف كغيره، وقيل: يحلف إذا بلغ.
قال: (ولا قصاص على حربي)؛ يعني: إذا قتل في حال حرابته ثم أسلم أو عقدت له الذمة؛ لقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}
وتواتر من النبي صلى الله عليه وسلم عدم الإفادة ممن أسلم كوحشي قاتل حمزة،
وَيَجِبُ عَلَى المَعْصُومِ وَالْمُرْتَدِّ. وَمُكَافَأَةٌ،
ــ
ولأنه لا يضمن مال المسلم بالغضب فلا تضمن نفسه بالقتل.
وذهب الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني إلى: أنها يجب على الحربي ضمان المال والنفس؛ تخريجًا على أن الكفار مخاطبون بالفروع.
وفي (فتاوي القاضي حسين): أن العبادي حكى عن المزني في (المنثور) التفصيل بين أن تعقد له الذمة فلا يسقط، أو يسلم فيسقط، وبه تجتمع ثلاثة أوجه.
قال: (ويجب على المعصوم) أي: بأمان أو ذمة؛ لالتزامه الأحكام، وعبارة (المحرر): ويجب على الذمي، فعدل عنها المصنف إلى (المعصوم)؛ لعمومها، فإنها تشمل الذمي ومن له هدنة وأمان، قاله في (الدقائق).
قال: (والمرتد)؛ لالتزامه أحكام الإسلام، وهذه زيادة زادها على (المحرر)؛ لأجل تعبيره بـ (المعصوم) حتى لا يرد على المفهوم؛ فإنه غير معصوم ومع ذلك يجب عليه القصاص.
هذا إذا لم تكن له شوكة وقوة، فإن ارتدت طائفة لهم وأتلفوا مالًا أو نفسًا في القتال ثم تابوا وأسلموا .. ففي ضمانهم القولان في البغاة.
وظاهر عبارة (الشرح الصغير): ترجيح المنع؛ فإنه اقتصر عليه خاصة، وهو الذي نص عليه في (الأم) في (سير الوافدي) فقال: وإن كان ارتد عن الإسلام فأحدث بعد الردة حدثًا ثم جاء مؤمنًا .. سقط عنه جميع ما أحدثه في الردة والمتناع؛ فقد ارتد طليحة عن الإسلام وثنيًا، وقَتَلَ ثابتَ بن أقرم وعكاشة بن محصن، ثم أسلم، فلم يقد بواحد منهما ولم تؤخذ منه دية بواحد، هذا لفظه، والقصة في ذلك ذكرها ابن عبد البر وغيره.
قال: (ومكافأةٌ) وهي: المساواة، فيشترط لوجوب القصاص في القتيل: أن يساوي القاتل.
فَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِذِمِّيٌ، وَيُقْتَلُ بِذِمِّيٌ بِهِ، وَبِذِمِّيٌ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مِلَّتُهُمَا،
ــ
قال: (فلا يقتل مسلم بذمي)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (ألا لا يقتل مسلم بكافر) رواه البخاري [111] عن أبي جحيفة عن علي مرفوعًا.
قال ابن المنذر: وهو ثابت لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر يعارضه، ولأنه لا يقتل بالمستأمن بلا خلاف فكذلك لا يقتل بالذمي.
ووقع في (المطلب) و (الكفاية) عن (حلية الشاشي) حكاية قول عن (الإملاء): أن المسلم يقتل بالمستأمن وتبعه الشيخ مجد الدين وغيره، وكله وهم، وسببه: أن ابن الرفعة قلد فيه صاحب (الذخائر) ، وإنما هو في (الحلية) منسوب لـ (إملاء أبي يوسف) صاحب أبي حنيفة.
ولو عبر المصنف بالكافر. كان أعم؛ لشموله من لم تبلغه الدعوة، فإن المسلم لا يقتل به على الأصح، ولموافقته لفظ الحديث، لكن كأنه إنما ذكره لينبه على خلاف أبي حنيفة، واقتضى كلامه: أنه لا يقتل بالذمي ولو كان القاتل زانيًا محصنًا، وهو كذلك بالاتفاق.
ولو قتل عبد مسلم عبدًا مسلمًا لكافر .. وجب القصاص في الأصح؛ لتساوي العبدين.
ولو قتل عبد كافر عبدًا كافرًا لمسلم .. فعن القاضي حسين: فيه احتمالان، رجح المصنف منهما: ثبوت القصاص.
قال في (المهمات): والمسألة لا يتصور مجيء احتمالين فيها، بل يجب القصاص جزمًا؛ فإن العبدين متكافئان، وكون سيد المقتول مسلمًا لا ينقصه عن القاتل إن لم يزده شرفًا.
قال: (ويقتل ذمي به) أي: بالمسلم (وبذمي وإن اختلف ملتهما)؛ لأن الكفر كله كالملة الواحدة، فيقتل اليهودي بالنصراني وبالمجوسي وبالعكس، ويقتل الذمي أيضًا بالمعاهد والمستأمن.
فَلَوْ أَسْلَمَ الْقَاتِلُ .. لَمْ يَسْقُطِ الْقِصَاصُ. وَلَوْ جَرَحَ ِّمِّيٌ ذِمِّيًّا فَأَسْلَمَ الْجارِحُ ثُمَّ مَاتَ الْمَجْرُوحُ .. فَكَذَا فِي الأَصَحِّ،
ــ
والضابط: أن الذمي يقتل بكل كافر معصوم الدم، ويقتل المستأمن بمثله وبالذمي.
قال: (فلو أسلم القاتل .. لم يسقط القصاص)؛ لأنهما كانا متكافئين حالة الجناية والاعتبار في العقوبات بها لا بما يطرأ، وكذلك إذا زنى العبد أو قذف ثم عتق .. يقام عليه حد العبيد.
قال في (الأم): وليس هذا قتل مسلم بكافر، بل قتل كافر بكافر، إلا أن الموت تأخر عن حال القتل، ومنهم من حمل عليه حديث: أنه عليه الصلاة والسلام قتل مسلمًا بكافر وقال: (أنا أكرم من وفى بذمته) رواه أبو داوود في (مراسيله)[250] ، هذا هو المشهور.
وحكي القاضي مجلي في (الذخائر) عن إليكا الهَرَاسي في (تعليقه) وجهًا: أنه لا يقتل به؛ لإسلامه وقت القصاص جريًا على ظاهر الحديث، وذكر: أن شيخه أبا المعالي إمام الحرمين كان يذهب إليه ويعول عليه.
ووقع في (الكفاية) حكايته عنه فيما إذا كان المستحق ذميًا، وليس كذلك.
وأفاد بقوله: (لم يسقط القصاص):أن الكفارة لا تسقط، وهو الأصح؛ لانها حق الله تعالى، فهي كالديون اللازمة.
قال: (ولو جرح ذمي ذميًا فأسلم الجارح ثم مات المجروح .. فكذا في الأصح) لا يسقط القصاص؛ لتكافئ حالة الجرح.
والثاني: يسقط؛ نظرًا لحالة الزهوق.
وهذا الخلاف في قصاص النفس، أما إذا كانت الجراحة بحيث يجب فيها القصاص، كما لو قطع ذمي يد ذمي وأسلم القاطع ثم سرى القطع .. فالقصاص واجب في الطرف لا محالة.
وَفِي الصُّورَتَيْنِ إِنَّمَا يَقْتَصُ الإِمَامُ بِطَلَبِ الْوَارِثِ. وَالأَظْهَرُ: قَتْلُ مُرْتَدَّ بَذِمِّيِّ وَبِمُرْتَدِّ،
ــ
وعكس المسألة: لو جرح مسلم مسلمًا ثم ارتد المجروح ومات .. لم يجب القصاص.
قال: (وفي الصورتين) أي: إذا أسلم القاتل بعد القتل أو بعد الجرح (إنما يقتص الإمام بطلب الوارث) فلا يفوضه إليه؛ لأن الكافر لا يسلط على قتل المسلم، اللهم إلا أن يكون أسلم فيفوضه إليه؛ لزوال المانع.
هذا إذا كان له وارث، فإن لم يكن .. فللإمام أن يقتص.
وعلم من عبارته: أنه لا يقتص إذا لم يطلب الوارث، وقد نص الشافعي على: أنه إذا لم يطلبه .. ليس للسلطان أن يفيده، ولذلك عد ابن خيران في (اللطيف) من شروط القود مطالبة المستحق.
قال: (والأظهر: قتل مرتد بذمي) ، سواء عاد إلى الإسلام، بدليل قضاء الصوم والصلاة، وحرمة الاسترقاق، وعدم تمكين الذمي من نكاح المرتدة.
قال: (وبمرتد) أي: الأظهر قتل مرتد بمرتد؛ لتساويهما، كما لو قتل الذمي ذميًا.
والثاني: لا؛ لأن المقتول مباح الدم، والخلاف في هذه: في (الشرح) و (الروضة): وجهان، وفي (المحرر) و (المنهاج): قولان.
لَا ذِمِّيٌ بِبُرْتَدِّ، ولَا يُقْتَلُ حُرٌ بِمَنْ فِيهِ رِقٌ،
ــ
قال: (لا ذمي يقتل بمرتد)؛ لأنه مهدر كالحربي.
والثاني: يقتل الذمي بقتله؛ لأنه يقتله عنادًا لا تدينًا، فأشبه ما لو قتل مسلمًا.
فإن قلنا: يجب .. استوفاه الحاكم على المذهب.
وقيل: قريبه المسلم الذي كان يرثه لولا الردة، فإذا عفا على مال أو كان خطأ .. فلا دية في الأصح؛ لأنه لا قيمة لدمه، وإنما أوجبنا القصاص؛ لأن الذمي يقتله عنادًا لا تدينًا- فإنه يعتقده محقون الدم، بخلاف المسلم- فقتلناه به زجرًا أو سياسة.
وإذا أوجبنا الدية بقتل المرتد .. فهل هي دية مسلم لبقاء علقة الإسلام، أو أقلُ الديات وهي دية المجوسي؟ وجهان: أصحهما: الثاني.
قال: (ولا يقتل حر بمن فيه رق) وإن قل، وسواء المكاتب والمدير والمستولدة؛ لقوله تعالى:{الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ}
وروى الدارقطني [8/ 35] عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقتل حر بعبد).
ولأن حرمة النفس أعظم من الأطراف، وبالاتفاق لا يقطع طرف حر بطرف عبد، فأولى أن لا يقتل به، وإنما اقتصر المصنف على حكم المبعض؛ ليؤخذ حكم قاتل الرقيق من باب أولى.
وقال النخعي وأبو داوود: يقتل السيد بعيده؛ لما روى أحمد [5/ 10] وأصحاب السنن الأربعة عن الحسن عن سمرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل عبده .. قتلناه، ومن جدع أنفه .. جدعناه، ومن خصاه .. خصيناه).
والجواب: انه منقطع.
وقال البيهقي في (خلافياته): إنه منسوخ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وقال ابن المنذر: ليس بثابت وإن صح، فهو محمول على ما إذا أعتقه ثم قتله؛ لئلا يتوهم أن تقدم الملك يمنع من ذلك.
وروى الدارقطني [3/ 143] عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أن رجلًا قتل عبده متعمدًا، فجلده النبي صلى الله عليه وسلمونفاه سنة، ومحا سهمه من المسلمين، ولم يقده به، وأمره أن يعتق رقبة).
وقال بن كّج: لو حكم حاكم بقتل حر بعبد .. لم ينقض حكمه، ولو حكم بقتل مسلم بذمي .. نقض، والأصح في المسألتين: عدم النقض.
وحكي الروياني: أن بعض فقهاء خراسان سئل في مجلس أميرها عن قتل الحر بالعبد، فقال: أُقدِّم حكاية، ثم قال: كنت أيام تفقهي ببغداد نائمًا ذات ليلة على شاطئ دجلة، فسمعت ملاحًا يترنم ويقول [من الطويل] ،
خذوا بدمي هذا الغزالَ فإِنَّهُ رماني بسهمَي مقلتيهِ على عمد
ولا تقتلوهُ إنَّني أنا عبدُهُ .... ولم أَرَ حُرًا قَطُّ يُقتلُ بالعبدِ
فقال الأمير: حسبك؛ فقد أغنيت عن الدليل، قال الثعالبي: وكان أبو الحسن الماسرجسي ينشد في تدريسه هذين البيتين.
فرع: قتل المسلم الحر شخصًا لا يعلم أنه مسلم أو كافر، أو لا يعلم أنه حر أو عبد .. فلا قصاص؛ للشبهة، كذا نقله الشيخان عن صاحب (البحر) وأقراه.
قال الشيخ شرف الدين البارزي: وهذه المسألة مثل مسألة اللقيط سواء، والأصح فيها: الوجوب، ولا يظهر بين المسألتين فرق.
وقال القمولي: الظاهر: أن مراده ما إذا لم يكن له ولي ادعى الكفاءة، أما إذا كان له ولي .. فهي مسألة اللقيط، وهي التي صحح فيها الشيخان: وجوب القصاص بقتله
وَيُقْتَلُ قِنٌ وَمُدَبَّرٌ وَمُكَاتَبٌ وَأُمُ وَلَدٍ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ. وَلَوْ قَتَلَ عَبْدٌ عَبْدًا ثُمَّ عَتَقَ الْقَاتِلُ أَوْ عَتَقَ بَيْنَ الْجُرْحِ وَالْمَوْتِ .. فَكَحُدُوثِ إسْلَامٍ
ــ
قبل البلوغ، وعللاه بأن الدار دار حرية وإسلام، وبهذا يجتمع الكلامان ولا تناقض.
قال: (ويقتل قِنٌ ومُدبِّر ومكاتب وأم ولد بعضهم ببعض)؛ للتساوي في الملك، ولا نظر إلى ما انعقد لهم من سبب الحرية.
وإنما ذكر المكاتب وأم الولد؛ ليفهم أن توقع الحرية واستحقاقها في المستقبل لا يمنع القصاص، وإنما المؤثر الحرية الناجزة عند القتل.
وذكر المدبر؛ ليعلم تساوي سبب انعقاد اللازم وغيره، لكن يستثنى من إطلاقه: المكاتب؛ فلا يقتل بعبده على المذهب وإن كان رقيقًا مثله؛ لأنه سيده.
قال في (الروضة): وإذا أوجبنا .. استوفاه سيده؛ لأنهما عبدان له.
قال: (ولو قتل عبد عبدًا ثم غتق القاتل أو عتق بين الجرح والموت .. فكحدوث إسلام) أي: بعد القتل أو بينه وبين الجرح، فالقصاص في الأولى، وكذا في الثانية في الأصح.
فلو عتق بعد إرسال السهم وقبل الإصابة .. فلا قصاص في الأولى، وكذا في إسلام الذمي عقب إرسال السهم.
وَمَنْ بَعْضُهُ حُرٌ لَوْ قَتَلَ مِثْلَهُ .. لَا قِصَاصَ، وَقِيلَ: إنْ لّمْ تَزِدْ حُرِّيَّةُ الْقَاتِلِ .. وَجَبَ. وَلَا قِصَاصَ بَيْنَ عَبْدٍ مُسْلِمٍ وَحُرِّ ذِمِّيٌ، وَلَا بِقَتْلِ وَلَدٍ
ــ
قال: (ومن بعضه حر لو قتل مثله .. لا قصاص)؛ لأنه لا يقتل ببعضه الحر البعض الحر وبالرقيق الرقيق، بل قتل جمعيه بجمعيه، فلو قتلناه به .. أدى إلى قتل جزء من الحر بجزء من الرقيق، وإذا تعذر القصاص في البعض .. تعذر في الجميع.
ونظيره: لو باع شقصًا وسيفًا قيمة كل واحد عشرة بعبد وثوب قيمة كل واحد عشرة .. فإنا لا نجعل الشقص في مقابلة العبد أو الثوب، بل المقابل له النصف من هذا والنصف من ذاك.
قال: (وقيل: إن لم تزد حرية القاتل .. وجب)؛ لأن القصاص يقع بين الجملتين من غير تفصيل وهما متساويان، وأصل الخلاف قولا الحصر والإشاعة.
وفي قوله: (إن لم تزد) تنبيه على أن موضع الخلاف: إذا تساويا أو كانت الحرية في المقتول أكثر، فأما إذا كانت في القاتل أكثر .. فلا قصاص قطعًا؛ لانتفاء المساواة.
قال: (ولا قصاص بين عبد مسلم وحر ذمي)؛ لأن المسلم لا يقتل بالذمي والحر لا يقتل بالعبد، ولأنا لو قتلناه به .. لقتلنا الكامل بالناقص، والفضائل لا تتقابل وإن كان في كفاءة النكاح قد قيل: إن النقيصة تجبر النقيصة، فقال الإمام: لا يأتي ذلك هنا، لكن لو قتل ذمي عبدًا ثم نقض العهد واسترق .. لا يجوز قتله وإن صار كفئًا؛ لأن الاعتبار بوقت الجناية ولم يكن مكافئًا له.
قال: (ولا بقتل ولد) سواء ساواه الولد في الحرية والدين أم لا؛ لما روى الترميذي [1399] عن سراقة بن مالك قال: (حضرت النبي صلى الله عليه وسلم يقيد الأب من ابنه، ولا يقيد الابن من أبيه).
وروى أحمد [1/ 16] والطبراني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقتل الوالد بالولد).
وروى الحاكم [4/ 369] والبيهقي [8/ 38] عن عمر أنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يقاد الرجل من ابنه).
وَإِنْ سَفَلَ وَلَا لَهُ،
ــ
ولأن الوالد سبب في وجوده، فلا يحسن أن يكون الولد سببًا في إعدامه.
ونقل الشافعي في (الأم) و (المختصر) فيه الإجماع، وأراد به في الجملة؛ لأن مالكًا يخالف فيما إذا ذبحه كالشاة.
وأطلق ابن المنذر عن مالك: أنه لا يقتل به ، واختاره.
وقيل: أراد به إجماع الصحابة؛ فإن عمر حكم به بحضرتهم ولم يخالفه منهم أحد.
ولرعاية حرمته .. انتفى عنه الحد بقذفه.
وكره للجلاد أن يقتل أباه حدًا أو قصاصًا، وللغازي أن يقتل أباه الكافر، ويقولنا قال أبو حنيفة وأحمد.
وحكي الإمام خلافًا في أن القصاص هل وجب على الأب ثم سقط، أو لم يجب أصلًا؟ ثم قال: وهذا من حشو الكلام؛ فالمانع من الاستيفاء مانع من الوجوب، وأسقط من (الروضة) هذا الخلاف.
ولو حكم حاكم بقتله بالولد .. نقض حكمه، قال الرافعي: وليكن هذا في المواضع التي يساعد عليه مالك.
قال: (وإن سفل) فلا تقتل الأجداد والجدات بالأحفاد؛ لأنه حكم يتعلق بالولادة فاستوي فيه من ذكرنا كالنفقة، وخرج صاحب (التلخيص) فيه قولًا، وهو كالخلاف في رجوع الوالد في هبة الولد، وفي أنه هل له ولاية إجبار بنت ابنه في النكاح؟
قال: (ولا له) أي: كما لا يقتل بالولد لا يقتل له، فلو قتل الوالد معتق ولده .. لم يكن للولد أن يقتص منه؛ لأنه إذا لم يقتص منه بجنايته على الولد .. كان أولى أن لا يستوفيه الولد.
وَيُقْتَلُ بِوَالِدِيْهِ. وَلَوْ تَدَاعَيَا مَجْهُولًا فَقَتَلهُ أَحَدُهُمَا: فَإِنْ أَلْحَقَهُ الْقَائِفُ بِالَاخَر .. اقْتَصَّ، وَإِلَّا .. فَلَا،
ــ
وفي بعض نسخ (المنهاج) _ وهو ساقط من أصل المصنف-: ولا يقتل بمن يرثه الولد؛ بأن قتل زوجة ابنه أو زوجته وله منها ولد، وكذا إذا قتل عبد ابنه أو لد ولده، وهو إيضاح لما تقدم.
ولا فرق في سقوط القصاص بين أن يثبت للولد جميع القصاص أو جزء منه.
وهذا فيما إذا وجب القصاص للولد ابتداء، ويلتحق به ما إذا وجب لغيره ابتداء، ثم انتقل بالإرث كله أو بعضه إلى ولد القاتل، وصرح بهذه في (التنبيه) فقال: وإذا وجب القصاص على رجل فورث القصاص ولده .. لم يستوف، لكن يرد عليه الولد المنفي باللعان؛ فليس هو ولده، ومع ذلك لا يجب القصاص بقتله على الأصح كما نقله الشيخان عن المتولي في (باب موانع النكاح)؛ لبقاء شبهة النسب، فإنه لو استلحقه .. لحقه.
قال: (ويقتل بوالديه) بالإجماع، سواء في ذلك الآباء والأجداد؛ لحديث سراقة المتقدم، وأفهم كلامه: أن المحارم يقتص لبعضهم من بعض، وقد صرح به في (المحرر) ، وأسقطه المصنف؛ لأنه مفهوم مما ذكره.
وأفهم: أن المكاتب يقتل إذا قتل أباه وإن كان ملكه، وهو أقوى الوجهين في (الشرح الصغير)، والأصح في (أصل الروضة): المنع، وهو المعتمد؛ لأنه مملوكه والسيد لا يقتل بعبده.
قال: (ولو تداعيا مجهولًا فقتله أحدهما: فإن ألحقه القائف بالآخر .. اقتص، وإلا .. فلا)؛ لأنا تبينا أنه غير أبيه في الأولى دون الثانية، فلو ألحقه بثالث .. اقتص من القاتل، وهو وارد على مفهوم عبارة المصنف لا على (المحرر)؛ فإنه قال:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فإن ألحقه القائف بعد ذلك بالقاتل .. فلا قصاص، وإن ألحقه بالآخر .. اقتص.
أما قبل الإلحاق .. فلا قصاص؛ لأن أحدهما أبوه، وإن اشتركا في قتله .. فلا قصاص على الذي ألحق به، ويقتص من الآخر؛ لأنه شريك الأب.
وفي وجه: لا يقتص من الآخر؛ لان إلحاق القائف مبني على الأمارات والأشباه، وهو ضعيف لا يناط به القصاص الذي يسقط بالشبهات.
فلو رجع المُقِرّان بنسب اللقيط عن دعواهما ثم قتلاه أو أحدهما .. لم يجب القصاص؛ لأنه صار بدعواهما ابن أحدهما، فلا يسقط حقه برجوعهما، فالشبهة قائمة.
وإن رجع أحدهما وأصر الآخر .. فهو ابن الآخر، فيقتص من الراجع إن اشتركا في قتله أو انفرد هو بقتله.
هذا إذا لحق المولود أحدهما بالدعوى، فإن لحقه بالفراش؛ بان نكحت معتدة وأتت بولد يمكن كونه من الأول أو من الثاني، أو فرض وطء شبهة من اثنين .. فإنما يتعين أحدهما بإلحاق القائف أو بانتساب المولود بعد بلوغه، فلو نفاه أحدهما .. فهل يتعين للثاني أم الإبهام حتى يعرض على القائف أو ينتسب؟ قولان: أظهرهما: الثاني
فإن ألحقه القائف بأحدهما وكانا قد قتلاه .. اقتص من الآخر إن انفرد بقتله أو شارك فيه، وإن ألحقه بأحدهما أو انتسب بعد البلوغ فقتله الذي لحقه .. لم يقتص منه، فإن أقام الآخر بينة بنسبه .. لحقه واقتص من الأول.
وَلَوْ قَتَلَ أَحَدُ الأَخَوَيْنِ الأَبَ وَالآخَرُ الأُمَّ مَعًا .. فَلِكُلِّ قِصَاصٌ، وَيُقَدَّمُ بِقُرْعَةٍ، فَإِنْ اقْتَصَّ بِهَا، أَوْ مُبَادِرًا .. فَلِوَارِثِ المُقْتَصِّ إِنْ لَمْ نُوَرِّثْ قَاتِلًا بِحَقِّ، وَكَذَا إِنْ قَتَلَا مُرتَّبًا وَلَا زَوْجِيِّةَ، وَإِلَا .. فَعَلَى الثَّانِي فَقَطْ،
ــ
قال: (ولو قتل أحد الأخوين الأب والآخر الأم معًا .. فلكل قصاص) أي: على الآخر؛ لأنه قتلَ مورِّثَه، هذا يقتص بأبيه، وهذا بأمه، ولا يرث كل قاتل من قتيله شيئًا.
فلو عفا أحدهما عن الآخر .. كان للمعفو عنه قتل العافي، والاعتبار في المعية والتعاقب بزهوق الروح لا بالجرح، وتعبير المصنف بـ (القتل) يشير إليه.
قال: (ويقدم بقرعة)؛ إذ لا ترجيح لأحدهما على الآخر، والقرعة تقطع منازعتهما في ذلك.
قال: (فإن اقتص من خرجت قرعته أو بادر بلا قرعة.
فإن قلنا: القاتل بحق لا يحرم الميراث ولم يكن المقتص محجوبًا .. سقط القصاص عنه؛ لأنه ورث القصاص المستحق على نفسه أو بعضه.
وإن قلنا: يحرم- وهو المذهب- أو كان هناك من يحجبه .. فلوارث المقتص منه أن يقتص من المبادر؛ لثبوته عليه.
قال: (وكذا إن قتلا مرتبًا ولا زوجية) أي: بين الأبوين، فلكل منهما أن يقتص من الآخر، وهل يقدم بالقرعة أو يبدأ بالقاتل الأول؟ فيه وجهان: أرجحهما في زائد (الروضة): الثاني، ونقله الإمام عن الأصحاب.
قال: (وإلا .. فعلى الثاني فقط) أي: إذا كانت الزوجية باقية بين الأب والأم .. فلا قصاص على القاتل أولًا، ويجب علي القاتل الثاني؛ لأنه إذا سبق أحدهما إلى قتل الأب .. لم يرث من الأب؛ لكونه قاتلًا، وكان حق القصاص للابن الآخر وللأم بالزوجية، فإذا قتل الآخر الأم .. كان الأول هو الذي يرثها، فينتقل إليه القصاص المستحق عليه ويسقط.
ولو تقدم قتل الأم وتأخر قتل الأب .. سقط القصاص عن قاتل الأم وثبت على قاتل
وَيُقْتَلُ جَمْعٌ بِواحِدٍ،
ــ
الأب، فإذا اقتص القاتل الأول من الثاني وقلنا: القاتل بحق يُحرَم الميراثَ، أو كان المقتص محجوبًا .. فلوثة المقتص منه نصيبه من دية القتيل الأول، ويطالبون القاتل الأول.
قال: (ويقتل جمع بواحد) سواء تساووا في عدد الجراحة أم تفاوتوا؛ لما روى مالك [2/ 871] والشافعي [1/ 200] والبخاري والبيهقي [8/ 200]: أن عمر قتل نفرًا خمسة أو سبعة برجل قتلوه غيلة، وقال:(لو تمالأ عليه أهل صنعاء .. لقتلهم جميعًا) ولم ينكر عليه، فصار إجماعًا.
و (الغيلة): أن يخدع ويقتل في موضع لا يراه فيه أحد.
وقتل علي رضي الله عنه ثلاثة بواحد، وقتل المغيرة سبعة بواحد، وقال ابن عباس:(إذا قتل جماعة واحدًا .. قتلوا به كانوا مئة) ، ولم ينكر عليهم أحد، فكان إجماعًا.
ولأن القصاص شرع لحقن الدماء، فلو لم يجب عند الاشتراك .. لكان كل من أراد أن يقتل عدوه يستعين بآخر على قتله، فيزداد قوة، ويتمكن بسبب المعاونة على ما لا يقدر عليه وحده، ويحصل غرضه، ويأمن القصاص.
ونقل الماسرجسي والقفال قولًا عن القديم: أن للولي أن يقتل واحدًا منهم باختياره، ويأخذ حصة الآخرين من الدية، ولا يقتل الجميع، ويكفي في الزجر:
وَلِلْوَلِيَّ الْعَفْوُ عَنْ بَعْضِهِمْ عَلَى حِصَّتِهِ مِنْ الدِّيَةِ بِاعْتِبَارِ الْرُؤُسِ. وَلَا يُقْتَلُ شَرِيكُ مُخْطِئِ،
ــ
كون كل واحد منهم على وَجَلٍ من القتل، ويروى هذا عن مالك، وهو مذهب الزهري وابن سيرين.
وقال ربيعة وداوود: لا سبيل إلى قتلهم به، بل تؤخذ منهم الديات بالسوية، وعلى المشهور: إن آل الأمر إلى الدية .. أخذت دية واحدة.
قال: (وللولي العفو عن بعضهم على حصته من الدية باعتبار الرؤوس) توزيعًا عليهم، سواء كانت جراحة بعضهم أفحش وأكثر عددًا ام لا؛ لأن تأثير الجنايات لا ينضبط، وقد تزيد نكاية الجرح الواحد على جراحات كثيرة.
وللاقتصاص منهم شروط:
أن يصدر من كل منهم ما لو انفرد لقتل.
وأن يكافئه كل منهم بحيث لو انفرد بقتله لقتل به، وهو معلوم مما سبق.
قال: (ولا يقتل شريك مخطئ)، لمَّا قرر: أن الجماعة تقتل بواحد .. عقبها بما ينفي القتل عن الجميع، فلا قصاص على المتعمد الذي شارك مخطئًا؛ لان الموت
وَشِبْهِ الْعَمْدِ، وَيُقْتَلُ شَرِيكُ الأَبِ، وَعَبْدٌ شَارَكَ حُرًّا فِي عَبْدٍ، وَذِمِّيٌ شَارَكَ مُسْلِمًا فِي ذِمِّيٌ،
ــ
حصل بفعلين لا يجب بأحدهما القصاص، فغلب المسقط، كما إذا قتل المبعض رقيقًا.
وقال مالك وأحمد والمزني في (العقارب): يقتص من شريك المخطئ، وقيل: إنه قول الشافعي.
لكن يستثنى من إطلاقه: ما لو قطع طرف رجل عمدًا، ثم قطع آخر طرفه الثاني خطأ، ثم سرى إلى نفسه ومات .. فعليه القصاص، وعلى المذهب على عاقلة المخطئ نصف دية الخطأ، وفي مال المعتمد دية العمد إن كانت جراحته لا توجب قصاصًا، أو آل الأمر إلى الدية، وعليه قصاص الطرف إن كان قطع طرفًا.
قال: (وشبهِ العمد) لأنه كالخطأ وهذه من زياداته على (المحرر) وهو غير محتاج إليه للعلم بان حكمهما واحد.
قال: (ويقتل شريك الأب) ، خلافًا لأبي حنيفة؛ لأن فعل الأب عمد محض، ومع تحقق العمدية لا يضر كونه لا يجب على أحدهما، بدليل ما لو عفا عن أحد الشريكين في القتل وخالف شريك المخطئ؛ فإن الخطأ شبهة في فعله، والفعلان مضافان إلى محل واحد فكان لفعل المخطئ أثر في الدرء وهنا لا شبهة في الفعل وإنما هي في الذات وذات أحدهما غير ذات الآخر، وبقولنا قال مالك وأحمد.
وقال أبو حنيفة: لا قصاص على شريك الأب، وحكاه الصيمري قولًا.
قال: (وعبد شارك حرًا في عبد ، وذمي شارك مسلمًا في ذمي)؛ لأن كلًا منهما لو انفرد .. لزمه القصاص.
وَكذَا شَرِيكُ حَرْبيِّ، وَقَاطِع قِصَاصًا أَوْ حَدًّا، وَشَريكُ النَّفْسِ وَدَافِعِ الصَّائِلِ فِي الأَظْهَرِ. وَلَوْ جَرَحَهُ جُرْحَيْنِ عَمْدًا وَخَطَا ومَاتَ بِهِمَا، أَوْ جَرَحَ حَرْبِيًّا أّوْ مُرْتَدًّا ثُمَّ أَسْلَمَ وَجَرَحَهُ ثَانِيًا فَمَاتَ .. لَمْ يُقْتَلْ،
ــ
قال: (وكذا شريك حربي وقاطعٍ قصاصا أو حدًا، وشريكُ النفس ودافع الصائل في الأظهر)؛ لحصول الزهوق بفعلين عمدين، وامتناعُ القصاص على الآخر لمعنى يخصه، فصار كشريك الأب.
والثاني: لا يجب، بل عليه نصف الدية؛ لان من لا يضمن أخف حالًا من المخطئ، فأولى ألا يجب على شريكه.
ويجري القولان أيضًا: فيما إذا جرح مسلم مرتدًا أو حربيًا ثم أسلم فجرحه غيره، أو جرح ذمي حربيًا ثم عقدت له الذمة فجرحه ذمي آخر.
ولو جرحه سبع أو لدغته حية وجرحه رجل .. فالأشهر: طرد القولين.
وقيل: لا قصاص قطعًا، وصححه القاضي حسين والإمام والغزالي.
فشريك السبع صححا فيه وجوب القصاص، لكن صحح المصنف في (التصحيح): أنه لا يجب.
قال: (ولو جرحه جرحين عمدًا وخطًا ومات بهما، أو جرح حربيًا أو مرتدًا ثم أسلم وجرحه ثانيًا فمات .. لم يقتل).
أما الأولى .. فلأن الزهوق لم يحصل بالعمد المحض، لكن يجب نصف الدية المخففة على العاقلة، ونصف الدية المغلظة في ماله.
وأما إذا جرح حربيًا أو مرتدًا فأسلم وجرحه ثانيًا .. فلأن الموت حصل بمضمون وغير مضمون.
وَلَوْ دَاوَى جُرْحَهُ بِسُمَّ مُذَفُفٍ .. فَلَا قِصَاصَ عَلَى جَارِحِهِ، وَإِنْ لَمْ يَقْتُلْ غَالِبًا .. فَشِبْهُ عَمْدٍ، وَإِنْ قَتَلَ غَالِبًا وَعَلِمَ حَالَهُ .. فَشَرِيكُ جَارِحِ نَفْسِهِ، وَقِيلَ: شَرِيكُ مُخْطِئٍ،
ــ
نعم؛ يثبت موجب الجراحة الحاصلة في حال العصمة من القصاص أو الدية المغلطة، وكذلك الحكم لو قطعه قصاصً أو بسرقة ثم جرحه أو قطعه ظلمًا، أو جرح الصائل أو الباغي دفعًا جرحه موليًا.
قال: (ولو داوى جرحه بسم مُذفف .. فلا قصاص على جارحه)؛ لأن المجروح قتل نفسه، كما لو جرحه إنسان فذبح هو نفسه، ومراد المصنف نفي القصاص بالنسبة إلى النفس، فلو كان الجرح يقتضي قصاصًا .. وجب؛ تنزيلًا لقطع أثر السراية بالتذفيف منزلة البرء.
فلو قال المصنف: فلا ضمان في النفس .. كان أولى؛ ليعلم انتفاء الدية أيضًا.
وعلم من إطلاقه: أنه لا فرق بين أن يعلم بحال السم أو لا، وبه صرح الماوردي والروياني.
قال: (وإن لم يقتل غالبًا .. فشبه عمد) فلا قصاص على الجارح، وإنما يلزمه نصف الدية المغلظة أو القصاص إن كانت الجراحة مما فيها قصاص، وكذلك لو خاط المجروح جرحه في لحم حي .. ففيه الطرقان.
ولو كوى الجرح .. فهو كالخياطة، فلو كوى لحمًا ميتًا لا يؤلم ولا يضر .. فالجارح القاتل، وإن كان مؤلمًا .. فهما قاتلان.
قال: (وإن قتل غالبًا وعلم حاله .. فشريك جارح نفسه) أي: فيجب القود في الأظهر؛ إجراءً لفعل المجروح مجرى العمد.
قال: (وقيل: شريك مخطئ) فلا قصاص عليه؛ لأنه إنما قصد المداواة، فشريكه شريك مخطئ، وهذه طريقة لا وجه.
أما إذا لم يعلم المجروح أنه يقتل غالبًا .. فلا قصاص، كما إذا كان مما لا يقتل.
وَلَوْ ضَرَبُوهُ بِسِيَاطٍ فَقَتَلُوهُ وَضَرْبُ كُلِّ وَاحِدٍ غَيْرُ قَاتِلٍ .. فَفِي الْقِصَاصِ عَلَيْهِمْ أَوْجُهُهٌ: أَصَحُّهَا: يَجِبُ إِنْ تَوَاطَؤُوا. وَمَنْ قَتَلَ جَمْعًا مُرَتَّبًا .. قُتِلَ بِأَوَّلِهِمْ، أَوْ مَعًا .. فَبِالْقُرْعَةِ،
ــ
قال: (ولو ضربوه بسياط فقتلوه وضربُ كلِّ واحد غير قاتل .. ففي القصاص عليهم أوجه: أصحهما: يجب إن تواطؤوا)؛ يعني: على ضربه تلك الضربات، ولا يجب إن وقع اتفاقًا، ويخالف الجراحات حيث لا يشترط فيها التواطؤ؛ لأن نفس الجرح يقصد به الإهلاك، بخلاف الضرب بالسوط.
والثاني: لا قصاص؛ لأن فعل كل واحد شبه عمد.
والثالث: يجب على الجميع القصاص؛ لئلا يتخذ ذلك ذريعة إلى القتل.
واحترز بقوله: (وضرب كل واحد غير قاتل) عما لو كان قاتلًا او انفرد؛ فعليهم القصاص بلا خلاف.
وإذا آل الأمر إلى الدية .. فهل توزع على الضربات أو على الرؤوس؟ قولان: أرجحهما: الأول، بخلاف الجراحات، وهذا الخلاف كالخلاف فيما إذا زاد الجلاد على العدد المضبوط في الحد .. هل عليه نصف الدية أو توزع على الأعداد؟ وكالخلاف فيما إذا استأجر دابة لحمل مئة مَنَّ مثلًا فزاد عليها وهو غير منفرد باليد فتلفت الدابة: أن الضمان يتصنف أو يوزع على مقدار المحمول؟
قال: (ومن قتل جمعًا مرتبًا .. قتل بأولهم)؛ لسبق حقه.
وقيل: يقتل بجميعهم وتجب لكل واحد من الأولياء حصته من الدية، حكاه الفوراني، وإليه ذهب أبو حنيفة، ولا فرق بين أن يكون ولي الأول حاضرًا أو لا، وفي (الإبانة) قول: إن ولي الأول إن غاب أو كان صبيًا .. فلولي الثاني أن يقتص، والمشهور: الأول.
قال: (أو معًا .. فبالقرعة)؛ لتساويهم في الاستحقاق، كما إذا هدم عليهم جدارًا أو جرحهم وماتوا معًا.
وَلِلْبَاقِينَ الدِّيَاتُ. قُلْتُ: فَلَوْ قَتَلَهُ غَيْرُ الأَوَّلِ .. عَصَى وَوَقَعَ قِصَاصًا، وَلِلأَوَّلِ دِيَةٌ، وَاللهُ أَعْلَمُ،
ــ
والأصح: أن القرعة واجبة، قيل: مستحبة، فللإمام أن يقتله بمن شاء، وصححه الروياني، وكذلك الحكم إذا أشكل السابق لعدم الأولوية، فمن خرجت له القرعة .. قتل به الجاني، وليس لولي الثاني أن يجبر ولي الأول على المبادرة إلى القصاص أو العفو، بل حقه على التراخي، قاله ابن الرفعة.
ولا فرق بين أن يثبت الترتيب بالبينة أو بإقرار الجاني كما أفهمه إطلاق المصنف، والاعتبار في التقديم والتأخير بوقت الموت لا بوقت الجناية.
قال: (وللباقين الديات) أي: في الصورتين؛ لأنها جنايات لو كانت خطأ .. لم تتداخل، فعند التعمد أولى، فلو لم يدر أقتلهم معًا أو مرتبًا .. جعل كما لو قتلهم معًا، فيقرع.
ولو كان بعض أولياء القتيل غائبًا او مجنونًا أو صبيًا .. فالقياس: الانتظار إذا أوجبنا الإقراع.
وفي (الوسيط) عن رواية حرملة: أن للحاضر والكامل أن يقتص، ويكون الحضور والكمال مرجحا كالقرعة، واستعمل المصنف هنا لفظه (معًا) للاتحاد في الزمان، وقد تقدم ما فيه قريبًا.
قال: (قلت: فلو قتله غير الأول .. عصى)؛ لأنه قتل نفسًا منع من قتلها، ويعزر بذلك؛ لإبطال حق غيره.
قال: (ووقع قصاصًا)؛ لأن حقه متعلق به، بدليل ما لو عفا ولي الأول .. فإنه ينتقل إلى من بعده.
قال: (وللأول دية والله أعلم)؛ لتعذر القصاص بغير اختياره، لكن لو لم يجيء ولي الأول .. قال الشافعي: أحببت أن يبعث الإمام إليه، فإن لم يبعث وقتله الثاني .. كرهته ولا شيء عليه.
قال الرافعي: يشبه أنها كراهة تحريم؛ لأنه قال في (الأم): فقد أساء.
فَصْلٌ:
جَرَحَ حَرْبيًّا أَوْ عَبْدَ نَفْسِهِ فَأَسْلَمَ وَعَتَقَ ثُمَّ مَاتَ بِالْحُرْحِ .. فَلَا ضَمَانَ،
ــ
تتمة:
أطلقوا إيجاب الدية ولم يبينوا أنها دية القتيل أو القاتل، وذكر المتولي: أنه لو مات الجاني أو قتل بقصاص آخر أو رجم .. هل تجب دية القتيل أو القاتل؟ وجهان، وفائدتهما فيما لو اختلف قدر الديتين .. فعلى الثاني: لو كان القتيل رجلًا والقاتل امرأة .. وجب خمسون من الإبل، وفي العكس .. مئة، قال: وإذا أخذت الدية قسمت على الجميع، وبه جزم القاضي حسين.
وقيل: يختص بها ولي الأول.
ولو تمالأ عليه أولياء القتيل وقتلوه جميعًا .. ففيه ثلاثة أوجه.
أصحهما: أن القتل عن جميعهم موزع عليهم، فيرجع كل واحد منهم إلى ما يقتضيه التوزيع من الدية، فإن كانوا ثلاثة .. أخذ كل واحد منهم ثلث حقه وله ثلثا الدية.
والثاني: يقرع بينهم، ويجعل القتل واقعًا عمن خرجت له القرعة، وللباقين الديات.
والثالث: يكتفي به عن جميعهم، ولا رجوع إلى شيء من الدية.
قال: (فصل) هذا عقده لتغير حال المجروح من وقت الجرح إلى الموت إما بالعصمة أو الإهدار، وإما في القدر المضمون، ولذلك أحوال ذكر المصنف بعضها.
قال: (جرح حربيًا أو مرتدًا أو عبد نفسه فأسلم وعتق ثم مات بالجرح .. فلا ضمان) لا بمال ولا قصاص؛ لأن الجرح السابق غير مضمون، وما وقع غير مضمون لا يجب بسرايته قصاص، كقطع يد السارق إذا سرت إلى النفس، وكما لو جرح صبي
وَقِيلَ: تَجِبُ دِيةٌ. وَلَوْ رَمَاهُمَا فَأَسْلَمَ وَعَتَقَ .. فَلَا قِصَاصَ، والْمَذْهَبُ: وُجُوبُ دِيَةِ مُسْلِمٍ،
ــ
إنسانًا ثم بلغ الصبي ومات المجروح لم يجب القصاص؛ لان الكفاءة تعتبر حالة الجراحة دون الموت.
قال: (وقيل: تجب دية)؛ نظرًا لحال استقرار الجناية، والمراد: دية حر مسلم كما سيأتي.
قال: (ولو رماهما فأسلم وعتق .. فلا قصاص)؛ لعدم الكفاءة في أول أجزاء الجناية.
وكان الأحسن أن يقول: رماهم؛ ليشمل الحربي والمرتد وعبد نفسه، وأجيب عنه بأنه أشار إلى النوعين ملك نفسه والكافر بصنفيه من ردة وحرابة، فهما مسألتان:
الأولى: إذا رمى إلى عبد نفسه ثم أعتقه قبل الإصابة، وهو أولى بالوجوب؛ لأنه معصوم مضمون بالكفارة.
والثانية: إذا رمى إلى عبد نفسه ثم أعتقه قبل الإصابة، وهو أولى بالوجوب؛ لأنه معصوم مضمون بالكفارة.
قال: (والمذهب: وجوب دية مسلم)؛ اعتبارًا بحالة الإصابة، لان حالة الرمي حالة سبب الجناية، وحالة الإصابة حالة تحققها، فكان الاعتبار بها أولى.
وكما لو حفر بئرًا وهناك حربي أو مرتد فأسلم ثم وقع فيها .. فإنه يضمنه وإن كان عند السبب مهدرًا.
وقيل: لا يلزمه شيء، وهو مذهب أبي حنيفة؛ اعتبارًا بحالة الرمي، فإنه الداخل تحت الاختبار.
وقيل: تجب في المرتد دون الحربي؛ لان قتل الحربي مباح لكل أحد وقتل المرتد لا يجوز لغير الإمام فيفوض إليه، فلو كان الرامي إلى المرتد هو الإمام .. فلا شيء عليه.
مُخَفَّفَةٍ عَلَى الْعَاقِلَةِ. وَلَوْ ارْتَدَّ الْمَجْرُوحُ ثُمَّ مَاتَ بِالسِّرَايَةِ .. فَالْنَفْسُ هَدَرٌ، وَيَجِبُ قِصَاصُ الْجُرْحِ فِي الأظْهَرِ،
ــ
ويجري الخلاف: فيما إذا رمى إلى قاتل أبيه ثم عفا عنه قبل الإصابة، وهو أولى بالوجوب من المرتد.
قال: (مخففة على العاقلة) كما لو رمى إلى صيد فأصاب آدميًا، وهذا ما جزم به في (المحرر) وحكي في (الشرح) في (الديات) فيه ثلاثة أوجه: دية عمد، ودية شبه العمد، ودية خطأ.
وعكس ذلك: لو جرح حربي مسلمًا ثم أسلم الجارح أو عقدت له الذمة ثم مات المجروح .. صحح المصنف: أنه لا ضمان، وبه قطع البغوي.
قال: (ولو ارتد المجروح ثم مات بالسراية .. فالنفس هدر) لا قصاص فيها ولا دية ولا كفارة؛ لأنه لو قتله في هذه الحالة مباشرة .. لم يجب شيء، فبالسراية أولى.
واحترز بقوله: (فمات بالسراية) عما إذا اندملت بأن قطع يده ثم ارتد المقطوع واندملت يده؛ فله القصاص.
قال: (ويجب قصاص الجرح في الأظهر)؛ لأن القصاص في الطرف منفرد عن القصاص في النفس ومستقر فلا يتغير بما يحدث بعده، كما لو قطع طرفه وجاء آخر فحز رقبته .. يجب على الأول قصاص الطرف وإن لم يجب عليهما قصاص النفس، وهذا منصوص (المختصر).
والثاني- وهو نص (الأم)، واختاره الإصطخري-:لا يجب؛ لأن الطرف تبع النفس إذا صارت الجناية قتلًا، فإذا لم يجب قصاص النفس لا يجب قصاص الطرف، ولذلك لو قطع طرف إنسان فمات منه فعفا وليه عن القصاص .. لم يكن له أن يقتص في الطرف.
وَيَسْتَوْفِيهِ قَرِيبُهُ الْمُسْلِمُ، وَقِيلَ: الإِمَامُ، فَإِنِ اقْتَضَى الْجُرْحُ مَالًا .. وَجَبَ أَقَلُّ الأَمْرَيْنِ مِنْ أَرْشِهِ وَدِيَتِهِ، وَقِيلَ: أَرْشُهُ، وَقِيلَ: هَدَرٌ،
ــ
وحكي أبو حامد الإسرافييني وجهًا ثالثًا: أنه يسقط القصاص والأرش جميعَ=ًا، وهو فاسد.
قال: (ويستوفيه قريبه المسلم)، المراد: قريبه الذي كان يرثه لولا الردة؛ لأن القصاص شرع للتشفي وذلك يتعلق بالقريب دون الإمام.
وعلى هذا: لو كان القريب صغيرًا أو مجنونًا .. انتظر بلوغه وإفاقته ليستوفي.
قال: (وقيل: الإمام) كما يستوفي قصاص من لا وارث له، ونسبه ابن كَج والماوردي إلى الأكثرين، لكن الرافعي ذكر: أن الآخذين بالأول أكثر، وعلى الصحيح: يجوز للقريب العفو على مال على الأصح ويأخذه الإمام.
قال: (فإن اقتضى الجرح مالًا) وذلك كالجائفة والهاشمة) .. وجب أقل الأمرين من أرشه وديته)؛ لأنه المتيقن، فإذا كان الأرش أقل كالجائفة وقطع اليد الواحدة .. لم يُزد.
وكذلك إذا كانت دية النفس أقل، كما إذا قطع يديه ورجليه فارتد ومات؛ لأنه لو مات بالسراية مسلمًا .. لم يجب أكثر منها، فإذا مات مرتدًا .. كان أولى أن لا يجب أكثر منها.
قال: (وقيل: أرشه) أي: أرش الجرح بالغًا ما بلغ وإن زاد على دية النفس أضعافًا، فيجب في قطع يديه ورجليه ديتان؛ لأن الأرش إنما يندرج في الدية إذا وجب ضمان النفس بتلك الجراحة، والنفس هنا تلفت مهدرة، فلو أدرجنا .. لأهدرنا، فجعلت الردة قاطعة للإدراج قائمة مقام الاندمال.
وعلى كل حال: فالواجب لا يأخذ القريب منه شيئًا.
قال: (وقيل: هدر)؛ لأن الجراحة إذا سرت .. صارت قتلًا، وصارت الأطراف تابعة للنفس، والنفس مهدرة، فكذلك ما يتبعها.
وَلَوْ ارْتَدَّ ثُمَّ أّسْلَمَ فَمَاتَ بِالسِّرَايَةِ .. فَلَا قِصَاصَ، وَقِيلَ: إِنْ قَصُرَتِ الرِّدَّةُ .. وَجَبَ وَتَجِبُ الدِّيَةُ، وَفِي، وَفِي قَوْلٍ: نِصْفُهًا،
ــ
هذا كله إذا طرأت الردة بعد الجرح، فلو طرأت بعد بعد الرمي وقبل الإصابة .. فلا ضمان بالاتفاق؛ لأنه حين جني عليه كان مرتدًا.
قال: (ولو ارتد) أي: المجروح (ثم أسلم فمات بالسراية .. فلا قصاص)؛ لتخلل حالة الإهدار، وتجب الكفارة؛ لأنه انتهى إلى حالة لو مات فيها .. لم يجب القصاص، فصار ذلك شبهة دارئة للقصاص.
قال: (وقيل: إن قصرت الردة .. وجب)؛ لأنها إذا قصرت .. لم يظهر فيها أثر للسراية، ثم الأصح: تخصيصهما بما إذا قصرت مدة الردة، فإن طالت .. فلا قطعًا كما قال المصنف.
وقيل: بطردهما مطلقًا؛ لأنه مضمون بالقصاص في حالتي الجرح والموت، فلا نظر إلى ما يتخللهما.
ومثله لو جرح ذمي ذميًا أو مستأمنًا، فنقص والتحق بدار الحرب، ثم جدد العهد ومات.
قال: (وتجب الدية) أي: بكمالها في ماله؛ نظرًا لحالة الزهوق وهو فيها مسلم.
قال: (وفي قول: نصفها)؛ توزيعًا على العصمة والإهدار، وهذا صححه البغوي، ومحله عند الجمهور: إذا طالت المدة وقلنا: لا قصاص، وإلا .. فيقطع بكمالها.
وفي قول ثالث- خرجه ابن سريج-: يجب ثلثاها؛ توزيعًا على الأحوال الثلاثة: حالتي العصمة، وحالة الإهدار، فيسقط ثلثها بإزاء السراية في الردة.
وَلَوْ جَرَحَ مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا فَأَسْلَمَ أَوْ حُرٌ عَبْدًا فَعَتَقَ وَمَاتَ بِالسِّرَايَةِ .. فَلَا قِصَاصَ، وَتَجِبُ دِيَةُ مُسْلِمٍ، وَهِيَ لِسَيِّدِ الْعَبْدِ، ....
ــ
وعن القاضي الطبري قول مخرج: إن الواجب أقل الأمرين من كل الدية وأرش الجراحة.
وخامس: أقل الأمرين من كل الدية وأرش الجناية، وحكاه الرافعي.
وسادس: يجب أرش الجرح ويسقط ضمان السراية.
قال: (ولو جرح مسلم ذميًا فأسلم أو حر عبدًا فعتق ومات بالسراية .. فلا قصاص)؛ لأنه لم يجن على مكافئة، وأشار المصنف بهذا إلى ما يغير مقدار الدية، واقتصر في الكتاب على التغير الزيادة، وسيأتي في آخر الفصل التغير بالنقص.
والضابط فيهما: اعتبار حال الموت؛ لأن الضمان بدل التالف فينظر فيه إلى حال التلف.
واحترز بقوله: (مات بالسراية) عما إذا مات بعد اندماله؛ فإنه يجب أرش الجناية.
والواجب في العبد لسيده، فإذا قطع يديه ومات بعد اندماله .. وجب كمال قيمته مطلقًا.
وقيل: إن اندمل بعد العتق .. وجب دية حر.
قال: (وتجب دية مسلم)؛ لأن الجرح مضمون والزيادة في المضمون لازمة كزيادة المغضوب، ولأن الاعتبار في قدر الدية بحال استقرارها بالموت، ألا ترى أنه إذا مات من قطع اليد .. تجب دية بعد أن كانت نصفًا، وإذا مات من قطع اليدين والرجلين .. تجب دية بعد أن كانت ديتين.
وإنما لم يجب القصاص؛ لأنه لم يقصد قتل المكافئ فكان شبهة.
قال: (وهي لسيد العبد) سواء كانت الدية مثل القيمة أو أقل؛ لأنه استحق هذا القدر بالجناية الواقعة في ملكه.
فَإِنْ زَادَتْ عَلَى قِيمَتِهِ .. فَالْزِيَادَةُ لِوَرَثَتِهِ. وَلَوْ قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ فَعَتَقَ ثُمَّ مَاتَ بِالِّسِّرَيةِ .. فَلِلسِّيِّدِ أَقَلُّ الأَمْرَيْنِ مِنَ الدَّيةِ الوَجِبَةِ وَنصْفِ قِمَتِهِ، وَفِي قَوْلٍ: الأَقَلُّ مِنَ الدِّيَةِ وَقِيمَتِهِ. وَلَوْ قَطَعَ يَدَهُ فَعَتَقَ فَجَرَحَهُ آخَرَانِ وَمَاتَ بِسِرَايَتِهِمْ .. فَلَا قِصَاصَ عَلَى الأَوَّلِ إِنْ كَانَ حُرًّا، وَيَجِبُ عَلَى الآخَرَيْنِ،
ــ
قال: (فإن زادت) أي: الدية (على قيمته .. فالزيادة لورثته)؛ لأنها وجبت بسبب الحرية.
وقال المزني: إذا كانت القيمة أكثر .. وجبت بكمالها وصرفت إلى السيد.
قال: (ولو قطع يد عبد فعتق ثم مات بالسراية .. فللسيد أقل الأمرين من الدية الواجبة ونصف قيمته) ، وهو أرش الطرف المقطوع في ملكه لو اندملت الجراحة؛ لأن السراية لم تحصل في الرق حتى تعتبر في حق السيد. فإن كان كل الدية أقل .. فلا واجب غيره، وإن كان نصف القيمة أقل .. فهو أرش الجناية الواقعة في ملكه.
قال: (وفي قول: الأقل من الدية وقيمته) أي: من كل الدية وكل القيمة؛ لأن السراية حصلت بجناية مضمونة للسيد، وقد اعتبرنا السراية حيث أوجبنا دية النفس، فلا بد من النظر إليها في حق السيد، فنقدر موته رقيقًا وموته حرًا، ونوجب للسيد أقل العوضين، فإن كان قدر الدية أقل .. فليس على الجاني غيرها ومن إعتاق السيد إلا قدر القيمة الذي كان يأخذه لو مات رقيقًا.
قال: (ولو قطع يده فعتق فجرحه آخران ومات بسرايتهم .. فلا قصاص على الأول إن كان حرًا)؛ لعدم المكافأة حال الجناية.
قال (ويجب على الآخرين) أي: قصاص الطرف قطعًا، وكذا النفس على المذهب؛ لأنهما كفآن، وسقوطه عن الأول بمعنىّ فيه، فأشبه شريك الأب.
وسكت المصنف عن الدية، وهي دية حر موزعة على الجنايات الثلاث كل واحد ثلثها؛ لأن جروحهم صارت قتلًا بالسراية.
ولا حق للسيد فيما على الآخرين، وإنما يتعلق بما يؤخذ من الجاني عليه في
فَصْلٌ:
يُشْتَرَطُ لِقِصَاصِ الطَّرَفِ وَالْجُرْحِ مَا يُشْتَرَطُ لِلنَّفْسِ،
ــ
الرق؛ لأنه الذي جنى على ملكه، والآخران جنبًا على حر، فله في مسألتنا الأقل من ثلث الدية وأرش الجراحة في ملكه، وهو نصف القيمة، وقيل: الأقل من ثلث الدية وثلث القيمة.
أما إذا تغير الحال بالنقص؛ بان جنى على يهودي فتمجس، فإن قلنا: يقر عليه .. وجبت دية مجوسي، وإلا .. فكالردة، فيجب الأقل من أرش الجناية على يهودي ودية نفسه، وقيل: الأرش بالغًا ما بلغ.
تتمة:
كل جرح أوله غير مضمون لا ينقلب مضمونًا بتغير الحال في الانتهاء، وإن كان مضمونًا في الحالين .. اعتبر في قدر الضمان الانتهاء، وفي القصاص تعتبر الكفاءة في الطرفين والوسط.
قال: (فصل:
يشترط لقصاص الطرف والجرح ما يشترط للنفس) ، فكما يعتبر في القتل أن يكون عمدًا محضًا عدوانًا، كذلك يعتبر في الطرف؛ لوله تعالى:{وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} .
فلا يتعلق القصاص بالجراحات وإبانة الأطراف إذا كانت خطأ أو شبه عمد.
ومن صور الخطأ: أن يقصد بالحجر جدارًا فيصيب رأس إنسان فيوضحه.
ومن صور شبه العمد: أن يضرب رأسه بلطمة أو حجر لا يشج غالبًا؛ لصغره،
فيتورم الموضع إلى أن يتضح العظم.
وَلَوْ وَضَعُوا سَيْفًا عَلَى يَدِهِ وَتَحَامَلُوا عَلَيْهِ دَفْعَةً فَأَبَانُوهَا .. قُطِعُوا،
ــ
وقد يكون الضرب بالعصا الخفيفة والحجر المحدد عمدًا في الشجاج؛ لأنه يوضح غالبًا، ويكون شبه عمد في النفس؛ لأنه لا يقتل غالبًا.
وكذلك يشترط لقصاص الطرف والموضحة: أن يكون الجاني مكلفًا ملتزمًا للأحكام، وفي المجني عليه: أن يكون معصومًا؛ فمن لا يقتل به الشخص لا يقطع طرفه، بطرفه، ومن يقتل به يقطع طرفه بطرفه.
ولا يشترط في قصاص الطرف التساوي في البدل كما لا يشترط في قصاص النفس؛ فتقطع يد العبد بالعبد، والرجل بالمرأة، وبالعكس، ويد الذمي بيد المسلم، والعبد بالحر، دون العكس.
وقال أبو حنيفة: إنما يجري قصاص الطرف بين حرين أو حرتين، ولا يجري بين العبدين، ولا بين العبد والحر، ولا بين الذكر والأنثى.
لنا: أن من قتل بغيره .. وجب قطع طرفه بطرفه عند السلامة كالحرين.
والمراد بـ (الجرح): ما كان في الرأس والوجه والجسد، إلا أن اقتصار المصنف عليهما فيه قصور؛ فإن إزالة المنفعة كذلك، فلو قال: ما دون النفس .. كان أعم.
وقد تفترق النفس والطرف فيما إذا قتل السيد مكاتبه؛ فإنه لا يضمنه، ولو قطع طرفه .. ضمنه؛ لان الكتابة تبطل بقتله فيموت على ملك السيد، ولا تبطل بقطع الطرف، وأرشه كسب له فيجب ذلك له، وهذا شيء يضمن بعضه ولا يضمن كله، عكس الشاة المعجلة كما تقدم.
قال (ولو وضعوا سيفًا على يده وتحاملوا عليه دفعة فأبانوها .. قطعوا) كما في النفس، وهذا بخلاف ما لو سرق رجلان نصابًا؛ فإنه لا قطع؛ لان القطع في السرقة حد لله تعالى والحدود بالمساهلات أحق، بخلاف القصاص الذي هو حق آدمي.
واحترز بقوله: (وتحاملوا عليه) عما إذا تميز فعل بعضهم من بعض؛ بان كان
وَشِجَاجُ الرَّاسِ وَالْوَجْهِ عَشْرٌ: حَارِصَةٌ، وَهِيَ الَّتِي تَشُقُّ الْجِلْدَ قَلِيلًا،
ــ
قطع هذا من جانب وهذا من جانب حتى التقت الحديدتان، أو قطع أحدهما بعض العضو وجاء آخر فقطع الباقي؛ فلا قصاص على واحد منهما، بل الواجب على كل منهما الحكومة على ما يليق بجنايته، وينبغي أن يبلغ مجموع الحكومتين دية اليد.
وعن صاحب (التقريب) حكاية قول: أنه يقطع من كل واحد منهما بقدر ما قطع إن أمكن ضبطه، وكذا لو جرَّا حديدة جرَّ المنشار.
وعند الجمهور: أنهما فعلان متميزان.
وقال ابن كَج: هو اشتراك يجب به القصاص.
وقال الإمام إن تعاونا في كل جذبة وإرساله .. فاشتراك، وإن جذب كل إلى نفسه وفتر عن الإرسال إلى صاحبه .. فكقول الجمهور.
قال: (وشجاج الرأس والوجه عشر).
الجنايات فيما دون النفس ثلاثة أنواع: شق، وقطع يبين عضوًا، وإزالة منفعة من غير شق وقطع. وكذلك رتبها المصنف.
فالأول: (الشِّجاج)، وهي- بكسر الشين- جمع: شَجَّة، بفتحها، وهي: الجرح في الرأس والوجه، وفي غيرهما تسمى: جراحة، ودليل كونها عشرًا؛ استقراء كلام العرب.
وعبارة المصنف تقتضي: أن العشر تتصور في الوجه، ولا شك في تصورها في الجبهة، وتتصور فيما عدا المأمومة والدامغة في الخد وقصبة الأنف والحنك الأسفل.
قال: (حارصةٌ) بحروف مهملات، وبدأ بها؛ لأنها أولهن.
قال: (وهي التي تشق الجلد قليلًا) كالخدش، وتسمى: القاشرة، وفسرها صاحب (المذهب) وغيره بأنها تكشط الجلد.
وتسمى: الحريصة أيضًا، يقال: حرص القصار الثوب: إذا خدشه وشقه بالدق.
وَدَامِيةٌ تُدْمِيهِ، وَبَاضِعَهٌ تَقْطَعُ اللَّحْمَ، وَمُتَلَاحِمَةٌ تَغُوصُ فِيهِ، وَسِمْحَاقٌ تَبْلُغُ الْجِلدَةَ الَّتِي بَيْنَ اللَّحْمِ وَالْعَظْمِ، وَمُوضِحَةٌ تُضِحُ الْعَظْمَ،
ــ
قال (ودامية تدميه)، المراد: تدمى موضعها ولا يقطر منها دم، فإن سال منها دم .. فهي الدامغة، كذا قاله أهل اللغة.
وذكر الإمام والغزالي في تفسيرها: سيلان الدم، وهو خلاف ما اشتهر عن لفظ الشافعي، وجعله المصنف خلاف الصواب.
وما قاله الإمام والغزالي قاله القاضي حسين، ونقله ابن داوود عن ابن الإعرابي، ونص عليه الجوهري في فصل (بضع)، فقال: الباعضة: الشجة التي تقطع الجلد وتشق اللحم وتدمي إلا أنه لا يسيل الدم، فإن سال .. فهي الدامية، هذا لفظه، لكنه ذكر ما يخالفه في فصل (دمي)، فقال: والدامية: الشجة التي تدمي ولا تسيل.
قال: (البعضة): القطعة من اللحم، قال صلى الله عليه وسلم:(فاطمة بضعة مني).
قال: (ومتلاحمةٌ تغوص فيه) ولا تبلغ الجلدة التي بين اللحم والعظم، وقد تسمى: اللاحمة.
قال: (وسِمحاق تبلغ الجلدة التي بين اللحم والعظم)، سميت بذلك؛ لأن الجلدة يقال لها: السمحاق، وكل جلدة رقيقة فهي سمحاق.
وقد تسمى هذه الشجة: الملطا والمِلطاة واللاطية.
قال: (وموضحة توضح العظم) أي: تخرق اللحم وتبدي وضح العظم.
يقال: وضح الأمر وضوحًا إذا تبين، وهذا يقتضي اعتبار ظهوره، وليس كذلك، بل لو غرز ميلًا حتى انتهى إلى العظم وسله .. فهي موضحة على المذهب،
وَهَاشِمَةٌ تَهْشِمُهُ، وَمُنَقِّلَةٌ تَنْقُلُهُ، وَمَامُومَةٌ تَبْلُغُ خَرِطَةَ الدِّمَاغِ، وَدَامِغَةٌ تَخْرِقُهَا. وَيَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْمُوضِحَةِ فَقَطْ،
ــ
كما قاله الرافعي في (الفصل الثالث) في المماثلة، وفي (الباب الثاني) في دية ما دون النفس، ولهذا قال في (المطلب): المراد: أن يكشفه بحيث يقرعه المرود وإن كان غير مشاهد لأجل الدم الذي يستره.
قال: (وهاشمةٌ) أي: تكسره، سواء أوضحته أم لا، ويقال للنبات اليابس المتكسر: هشيم، قال تعالى:{فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ}
قال: (ومنقلةٌ تنقله) أي: من موضع إلى موضع، ويقال: هي التي تكسر وتنقل.
ويقال: هي التي تكسر العظم حتى يخرج منها فراش العظام.
والفَراشة: كل عظم رقيق.
قال: (ومأمومة تبلغ خريطة الدماغ) المحيطة به، ويقال لها: الآمة أيضًا.
قال: (ودامغة تخرقها)؛ بان تصل إلى نفس (الدماغ)، وهو: حشو الرأس، وهذه مُذفِّفة غالبًا.
فهذه العشرة هي المشهورة، قال الجوهري: وزاد أبو عبيد الدامعة- بالعين المهملة- بعد الدامية، ولذلك جعلها الماوردي أحد عشر.
قال: (ويجب القصاص في الموضحة فقط)؛ لتيسر ضبطها واستيفاء مثلها، وادعى المتولي في ذلك الإجماع.
وفي (سنن البيهقي)[8/ 65] عن العباس بن عبد المطلب: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا قود في المأمومة ولا الجائفة ولا المنقلة).
وفي (أحكام عبد الحق): أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقض فيما دون الموضحة بشيء إذا كان كذلك بغير الحكومة.
وروى طاووس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا قصاص فيما دون الموضحة من الجراحات).
وَقِيلَ: وَفِيمَا قَبْلَهَا سِوَى الْحَارِصَةِ. وَلَوْ أَوْضَحَ فِي بَاقِي الْبَدَنِ أَوْ قَطَعَ بَعْضَ مَارِنٍ أَوْ أُذُنٍ أَوْ لَمْ يُبِنْهُ
…
وَجَبَ الْقِصَاصُ فِي الأَصَحِّ،
ــ
ولا قصاص فيما بعد الموضحة؛ لأنه لا تؤمن الزيادة والنقصان في طول الجراحة وعرضها، ولا يوثق باستيفاء المثل، ولذلك يمتنع القصاص في كسر العظام كما سيأتي.
قال: (وقيل: وفيما قبلها سوى الحارصة)، قال في (الدقائق):(هذا الاستثناء زيادة في (المنهاج) لا بد منها؛ فغن الحارصة القصاص فيها مطلقًا قطعًا، وإنما الخلاف في غيرها) اهـ
وذكر ابن الرفعة أن كلام الماوردي والفوراني والمتولي يفهم خلافًا فيها.
قال: (ولو أوضح في باقي البدن أو قطع بعض مارن أو أذن أو يبنه .. وجب القصاص في الأصح)، أما الأول .. فلقوله تعالى:{وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ، ولتيسير المثل؛ فإنه ينتهي إلى عظم يؤمن معه الحيف كالرأس والوجه.
والثاني: لا يجب كما لا يجب فيه أرش مقدر، ولأن الخطر في الجراحة على الرأس والوجه أعظم، والشين الحاصل فيها أقبح.
وأما في الثانية، وهي ما إذا قطع بعض الأذن أو بعض (المارن)، وهو: ما لان من الأنف، ولم يبنه .. فيجب فيه القصاص؛ لإمكان الاطلاع عليهما وتقدير المقطوع بالجزئية كالثلث والنصف، ويستوفى من الجاني مثله، ولا نظر إلى مساحة المقطوع، وقد تختلف الأذنان كبرًا وصغرًا.
وكلام المصنف يفهم: انه إذا أبانه لا يكون كذلك، وليس كذلك، بل الصحيح الوجوب، وهو أولى به من غير الإبانة، ولذلك عبر في (الروضة) في المبان بالصحيح، وفي غيره بالأظهر، فالتقييد حينئِذ بعدم الإبانة لا فائدة له.
وإبانة بعض الشفة واللسان والحشفة كبعض الأذن يقتص فيه على الصحيح.
وَيَجِبُ فِي الْقَطْعِ مِنْ مَفْصِلٍ حَتَّى فِي أَصْلِ فَخِذٍ وَمَنْكِبٍ إِنْ أَمْكَنَ بِلَا إِجَافَةٍ، وَإِلَّا .. فَلَا عَلَى الصَّحِيحِ. وَيَجِبُ فِي فَقءِ عَيْنٍ وَقَطْعِ أُذُنٍ وَجَفْنٍ وَمَارِنٍ وَشَفَةٍ وَلِسَانٍ وَذَكَرٍ وَأُنْثَيَيْنِ،
ــ
فرع:
قطع يدًا أو عضوًا وبقي المقطوع معلقًا بجلدة .. وجب القصاص أو كمال الدية؛ لأنه أبطل فائدة العضو، ثم إذا انتهى القطع في الاقتصاص إلى تلك الجلدة .. فقد حصل الاقتصاص، ثم يراجع أهل الخبرة ويفعل ما فيه المصلحة من قطع أو ترك.
قال: (ويجب في القطع من مَفصِل) وهو بفتح الميم وكسر الصاد، واحد: مفاصل الأعضاء، كالأنامل والكوع والمرفق ومَفصِل القدم والركبة، كل ذلك؛ لانضباطه.
قال: (حتى في أصل فخذ ومنكب إن أمكن بلا إجافة)؛ لان المقصود المساواة، فمتى حصلت .. فعلت.
قال: (وإلا .. فلا على الصحيح) أي: إذا لم يمكن القصاص إلا بالإجافة .. لم يقتص، سواء أجافه الجاني أم لا؛ لان الجوائف لا تنضبط ضيقًا وسَعة وتأثيرًا ونكاية، ولذلك لم يجز القصاص فيها.
والثاني: انه يقتص إذا كان الجاني قد أجاف وقال أهل النظر: يمكن أن يجاف مثل ذلك.
قال: (ويجب) القصاص (في فقء عين وقطع أذن وجفن ومارن وشفة ولسان وذكر وأنثيين)؛ لان لها نهايات مضبوطة وإن لم يكن مَفصِل، ويجري أيضًا في الأذن والمارن واللسان؛ لأن له حدًا ينتهي إليه، فأشبه الأنف.
وقال أبو إسحاق: لا قصاص في اللسان؛ لأنه لا يمكن استيعابه إلا بقطع غيره، وفي الشفة وجه عن أبي حامد.
وَكَذَا أَلْيَانِ وَشُفْرَانِ فِي الأَصَحِّ،
ــ
قال: (وكذا أليان وشفران في الأصح)؛ لأن لها حدًا تنتهي إليه.
والثاني: لا؛ لأنه لا يمكن الاستيفاء إلا بقطع غيره.
وادعى الغمام في الأليين: اتفاق الأصحاب عليه.
و (الآليان): تثنية آلية، وفي لغةٍ قليلة: آليتان بزيادة التاء، وبها جاءت رواية البخاري عن سهل بن سعد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث عويمر العجلاني: (إن جاءت به عظيم الأليتين).
وفي حديث ابن عباس: (سابغ الأليتين) بإثبات التاء في الروايتين.
وكذلك في حديث أبي واقد الليثي.
و (الشفران) بضم الشين المعجمة: طرفا جانب الفرج، وسيأتي ضبط ذلك في (الديات).
أما الذكر .. فيؤخذ بعضه ببعض على الأصح باعتبار الجزئية، ويؤخذ ذكر الفحل بذكر الخصي، والمختون بالأعغلف، وكذلك عكسه.
وقطع في (الروضة) بوجوب القصاص في الجفن، وليس كذلك؛ فقد حكى الرافعي عن بعض الأصحاب: انه لا قصاص فيه، والرافعي لم يدع القطع بذلك، ثم قال الرافعي: ولا قصاص في إطار السه؛ لأنه ليس له حد مقدر، وهي بكسر الهمزة وتخفيف الطاء المهملة، أي: أطراف حلقة الدبر؛ لان المحيط بالحلقة لا ضابط له.
ووقع في (الروضة) بخط المصنف: إطار الشفة، وهو تصحيف ووهم؛ فغن القصاص يجب في أطراف الشفة بالجزئية كالثلث والربع لا بالمساحة.
وسكوت المصنف عن القصاص في الثدي يشعر بأنه لا قود فيه، وهو الذي نقله الرافعي عن (التهذيب) في (كتاب الديات)؛ لأنه لا تمكن رعاية المماثلة فيه، ثم
وَلَا قِصَاصَ فِي كَسْرِ الْعِظَامِ، وَلَهُ قَطْعُ أَقْرَبِ مَفْصِلٍ إِلَى مَوْضِعِ الْكَسْرِ وَحُكُومَةُ الْبَاقِي. وَلَوْ أَوْضَحَهُ وَهَشَمَ .. أَوْضَحَ وَأَخَذَ خَمْسَةَ أَبْعِرَةٍ. وَلَوْ أَوْضَحَ وَنَقَّلَ .. أَوْضَحَ وَلَهُ عَشَرَةُ أَبْعِرَةٍ. وَلَوْ قَطَعَهُ مِنَ الْكُوعِ .. فَلَيسَ لَهُ الْتِقَاطُ أَصَابِعِهِ،
ــ
قال: ولك أن تمنع ذلك وتقول: الثدي هو الشاخص، وهو أقرب إلى الضبط من الشفتين والأليين ونحوهما. اهـ
ولم يتذكر رحمه الله انه قال عقب (باب العفو عن القصاص): (ويقطع الثدي بالثدي، وفيما إذا لم يتدل وجه: أنه لا يقطع؛ لأنه لا يتميز عن لحم الصدر).
قال: (ولا قصاص في كسر العظام)؛ لعدم انضباطها إلا في السن على خلاف يأتي فيها.
قال: (وله قطع أقرب مَفصِل إلى موضع الكسر وحكومة الباقي)؛ لتعذر القصاص، وله أن يعفو ويعدل إلى المال.
وعند أبي حنيفة: لا يجمع بين القطع والمال، بل يسقط القصاص ويجب المال.
قال: (ولو أوضحه وهشم .. أَوضَح)؛ لإمكان القصاص في الموضحة.
قال: (واخذ خمسة أبعرة)؛ لتعذر القصاص في الهشم، وهذا المأخوذ هو أرش ما بين الموضحة والهاشمة.
قال: (ولو أوضح ونقَّل .. أَوَضَح وله عشرة أبعرة)؛ لما تقدم.
ولو أوضح وأمَّ .. فله أن يوضح ويأخذ ما بين أرش الموضحة والمأمومة، وهو ثمانية وعشرون وثلث؛ فإن في المأمومة ثلث الدية.
قال: (ولو قطعه من الكوع .. فليس له التقاط أصابعه)؛ لأنه قادر على محل الجناية، ومهما امكن بالمماثلة لا يعدل عنها.
و (الكوع) بضم الكاف، ويقال له: الكاع: طرف الزند الذي يلي الإبهام، يقال: فلان أحمق يمتخط بكوعه، والاكوع: المعوج الكوع.
وأما (البوع) بالباء الموحدة .. فهو: العظم الذي عند أصل الإبهام من الرجل، ومنه قولهم: لا يعرف كوعه من بوعه، أي: لا يدري من غباوته ما اسم العظم الذي
فإِنْ فَعَلَهُ .. عُزِّرَ وَلَا غُرْمَ، وَالأصَحُّ: أَنَّ لَهُ قَطْعَ الْكَفِّ بَعْدَهُ. وَلَوْ كَسَرَ عَضُدَهُ وَأَبَانَهُ .. قُطِعَ مِنَ الْمِرْفَقِ، وَلَهُ حُكُومَةُ الْبَاقِي، فَلَوْ طَلَبَ الْكُوعَ .. مُكِّنَ فِي الأَصًحِّ،
ــ
عند إبهام يده من الذي عند إبهام رجله.
قال: (فإن فعله .. عزر)؛ لعدوله عن المستحق.
قال: (ولا غرم)؛ لأنه يستحق إتلاف الجملة، فلا يلزمه بإتلاف البعض غرم، كما أن مستحق القصاص في النفس لو قطع طرفًا من الجاني .. لا يلزمه غرم.
قال: (والأصح: ان له قطع الكف بعده) ، كما أن مستحق النفس لو قطع يد الجاني .. له أن يعود ويحز رقبته.
والثاني: ليس له قطع الكف بعد لقط الأصابع؛ لأنه أخذ ما يقابل الدية وزاد ألمًا.
وعلى المذهب: لو ترك قطع الكف وطلب حكومتها .. لم تجب؛ لان حكومة الكف تدخل في دية الأصابع، وقد استوفى الأصابع المقابلة بالدية.
قال: (ولو كسر عضده وأبانه .. قطع من المرفق)؛ لأنه أقرب مَفصِل إلى محل الجناية.
قال: (وله حكومة الباقي)؛ لتعذر القصاص فيه، وهذه الصورة كانت تعلم من قوله قبل هذا:(وله قطع أقرب مَفصِل إلى موضع الكسر، والحكومة للباقي).
قال: (فلو طلب الكوع .. مكن في الأصح)؛ لأنه عاجز عن القطع في محل الجناية، وهو بالعدول إلى الكوع تارك بعض حقه، فلا يمنع منه.
والثاني: المنع؛ لعدوله عما هو أقرب إلى محل الجناية، ولا ترجيح في (الشرح) ولا في (الروضة) هنا، والراجح في (الشرح الصغير): عدم التمكين، والمعتبر ما في (المنهاج).
ولو أراد لقط الأصابع .. لم يمكن؛ لان فيه تعديد الجراحة، وذلك عظيم الموقع. فإن اقتصر على إصبع واحدة .. فالقياس: أنه على الوجهين في قطع
وَلَوْ أَوْضَحَهُ فَذَهَبَ ضَوْءُهُ .. أَوْضَحَهُ، فَإِنْ ذَهَبَ الضَّوْءُ وَإِلَّا .. أَذْهَبَهُ بِأَخَفِّ مُمْكِنٍ كَتَقْرِيبِ حَدِيدَةٍ مُحْمَاةٍ مِنْ حَدَقَتِهِ، .....
ــ
الكوع، وإذا قلنا: ليس له أن يقطع من الكوع، فلو قطع ثم أراد القطع من المرفق .. لم يمكن.
فرع من (الأم):
لو شق كفه حتى انتهى إلى مَفصِل ثم قطع من المَفصِل أو لم يقطع .. اقتص منه إن قال أهل الخبرة: يمكن أن يفعل به مثله.
قال: (ولو أوضحه فذهب ضوءه .. أوضحه، فإن ذهب الضوء، وإلا .. أذهبه بأخفِّ مُمكنٍ كتقريب حديدة محماة من حدقته) ، شرع يتكلم في المنافع والمعاني وهما يضمنان بالإذهاب كالأطراف، غير أنه لا تمكن مباشرتهما بالتفويت، وإنما يفوتان على وجه التبعية لمحالهما، فإذا أوضح رأسه فذهب ضوء عينه .. فالنص: أنه يجب القصاص في الضوء كما يجب في الموضحة.
ونص فيما إذا قطع إصبعه فسرى إلى الكف أو إلى إصبع أخرى بتأكُّلٍ أو بشلل: أنه لا يجب القصاص في محل السراية.
والفرق: أن الأجسام تنال بالجناية، فالجناية على غيرها لا تعد قصدًا إلى تفويتها، وضوء البصر لا يباشر بالجناية، فطريق تفويته الجناية على محله أو على ما يجاوره ويتعلق به، فضمن بالقصاص كالنفس.
وقيل: في مسألة الضوء قولان، ولا قصاص في المتأكِّل قطعًا، حكاه الرافعي، وأسقطها من (الروضة).
ولأهل الخبرة طرق في إبطالها، كتقريب حديدة محماة إلى الحدقة أو طرح الكافور فيها.
ولو هشم رأسه فذهب ضوء عينيه .. عولج بما يزيل الضوء، ولا يقابل الهشم بالهشم.
قال الجوهري: يقال: أحميت الحديد في النار، فهو محميً، ولا يقال: حميته.
وَلَوْ لَطَمَهُ لَطْمَةٌ تُذْهِبُ ضَوْءَهُ غَالِبًا فَذَهَبَ .. لَطَمَهُ مِثْلَهَا، فَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ .. أُذْهِبَ. وَالسَّمْعُ كالْبَصَرِ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيهِ بِالسِّرَايَةِ، وَكَذَا الْبَطْشُ وَالذوْقُ وَالشَّمُّ فِي الأَصَحِّ،
ــ
قال: (ولو لطمه لطمة تذهب ضوءه غالبًا فذهب .. لطمه مثلها)؛ طلبًا للمماثلة، أما اللطم والضرب الذي لا يوجب شيئًا مما ذكره .. فالواجب فيه: التعزيز.
قال الجوهري: (اللطم): الضرب على الوجه بباطن الراحة، وفي المثل:(لو ذات سوار لطمتني) قالته امرأة لطمتها مضن ليست لها بكفء.
قال: (فإن لم يذهب .. أذهب) أي: بالمعالجة، والمراد: ذهابه من العينين معًا، فإن ذهب من إحداهما .. لم يلطم؛ لاحتمال أن يذهب منهما، بل يفعل به كما سيأتي.
وفي وجه- صححه البغوي واستحسنه الرافعي-: أنه لا يقتص في اللطمة؛ لعدم انضباطها.
قال: (والسمع كالبصر يجب القصاص فيه بالسراية)؛ لأن له محلًا مضبوطًا، كذا صححه الغمام رواية ونقلًا، وجعلهما صاحب (التقريب) أيضًا في درجة، ويليهما الكلام، ويليه البطش، ويليه العقل.
وفي (المهذب): انه لو جنى على رأسه فذهب عقله، أو على أنفه فذهب شمه، أو على أذنه فذهب سمعه .. لم يجب القصاص في العقل والشم والسمع؛ لأن هذه المعني في غير محل الجناية فلا يمكن القصاص فيها.
قال: (وكذا البطش والذوق والشم في الأصح)؛ لما قلناه، ولأهل الخبرة طرق في إبطالها أيضًا.
والثاني: المنع؛ لان هذه المعاني لا يمكن القصاص فيها.
فإن قيل: اقتصر المصنف من الحواس على أربعة ولم يذكر اللمس، وقال البارزي: إنه في معنى باقي الحواس، ولهذه أطلقه في (الحاوي) .. فالجواب: أنه لم يذكره؛ لان زواله إن كان بزوال البطش .. فقد ذكره، وإن لم يَزُلِ البطشُ .. لم
وَلَوْ قَطَعَ إصْبَعًا فَتَأَكَّلَ غَيْرُهَا .. فَلَا قِصَاصَ فِي الْمُتَأَكِّلِ،
ــ
يتحقق زوال اللمس، فإن فرض تخدرٌ .. وجبت الحكومة لا القصاص.
قال: (ولو قطع إصبعًا فتأَكَّل غيرُها .. فلا قصاص في المتأَكِّل)؛ لعدم تحقق العمدية، هذا هو المنصوص.
وفيه قول مخرج من ذهاب الضوء بالموضحة: إنه يجب القصاص كما تقدم.
وقال أبو حنيفة: يسقط قصاص الإصبع بالسراية إلى الكف.
لنا: أنها جناية مضمونة بالقصاص، لو لم تسْر .. فلا يسقط القصاص فيها بالسراية، كما لو قطع يد حامل فسرى إلى جنينها فسقط ميتًا.
تتمة:
علم من نفيه القصاص خاصة: وجوب الدية على الجاني، وتجب حالَّةَ في ماله؛ لأنها سراية جناية عمد وغن جعلناها خطأ في سقوط القصاص.
وقيل: على العاقلة؛ لانا قدرناها في حكم الخطأ.
وإذا اقتصر على إصبع .. وجب أربعة أخماس الدية للأصابع الأربع الذاهبة بالسراية، ولا تجب لمنابتها من الكف حكومة، بل تدخل في ديتها.
خاتمة
ضرب يده فتورمت ثم سقطت بعد أيام
…
وجب القصاص، حكاه الشيخان في (الفروع المنثورة) قبيل (الديات) عن البغوي، وخالف ما نحن فيه؛ لان جنايته على جميع البدن وجميع النفس، فتأخير سقوطه لا يمنع القود، والله ألعم.
بَابُ كَيْفِيَّةِ الْقِصَاصِ وَمُسْتَوْفِيهِ وَالاخْتِلَافِ فِيهِ
ــ
بَابُ كَيْفِيَّةِ الْقِصَاصِ وَمُسْتَوْفِيهِ وَالاخْتِلَافِ فِيهِ
(القصاص): القود، ولفظه مأخوذ من القص، وهو القطع، وقيل: من اقتصاص الأثر، وهو تتبعه؛ لأن المقتص يتبع الجاني إلى أن يقتص منه.
والمصنف رحمه الله عقد هذا الباب لما ذكره وللعفو، فذكر في الترجمة ثلاثة أمور، وعقد لكل منها فصلًا، غير انه خالف ترتيب الترجمة؛ لأنه قدم (فصل الاختلاف) على (فصل من يستوفي القصاص).
والأصل في الباب قبل الإجماع: قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} ، وقوله تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}
قال ابن عطية: وهذا نحو قول العرب: القتل أنفى للقتل، ويروى: أبقى- بباء وقاف- وأوفى، بالواو.
والمعنى: إن القصاص إذا أقيم وتحقق الحكم فيه .. ازدجر من يريد قتل أحد مخافة أن يقتص منه، وربما كان ذلك سببًا لموت كثير من القبائل، فلما شرع القصاص .. قنع الجميع به وتركوا الاقتتال، فلهم في ذلك حياة.
وقال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية.
وشرع من قبلنا شرع لنا إذا لم يرد في شرعنا ناسخ له في قول، وفي قول: هو شرع لنا إذا دل عليه الدليل، وقد دل.
روى البخاري [2703] عن أنس بن النضر: أن أخته الرُّبَيِّع كسرت ثنية جارية، فطلبوا الأرش وطلبوا العفو، فأبوا فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمر بالقصاص، فقال أنس: أتكسر ثنية الرُّبَيِّع يا رسول الله؟! لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها، فقال:(يا أنس؛ كتاب الله القصاص) فرضي القوم وعفوا.
لَا تُقْطَعُ يَسَارٌ بِيَمِنٍ، وَلَا شَفَةٌ عُلْيَا بِسُفْلَى وَلَا عَكْسُهُ، وَلَا أَنْمَلَةٌ بِأُخْرَى، وَلَا زَائِدٌ بِزَائِدٍ فِي مَحَلٍّ آخَرَ،
ــ
وروى مسلم [1675]: (أن الرُّبَيِّع جرحت إنسانًا وفيه فقالت أمها: أيقتص من فلانة يا رسول الله؟! والله لا يقتص منها ..) وباقيه بنحوه.
وليس في كتاب الله آية فيها القصاص في السن أو الجراحة إلا هذه، وسيأتي الجواب عنه في كسر السن.
قال: (لا تقطع يسار بيمين) من يد ورجل وأذن وعين ومنخر؛ لاختلاف المحل والمنفعة، والمقصود من القصاص المساواة ولا مساواة بينهما.
وعلم من تمثيله: إن امتناع العكس من باب أولى.
وقال ابن سيرين: تؤخذ اليمين باليسار.
وقال شريك: إن كان له يمين .. لم يجز العدول إلى اليسار، فإن لم يكن .. جاز.
قال: (ولا شفة عليا بسفلى ولا عكسه)؛ لما قلنا، وكذلك الجفن الأعلى بالأسفل، كما لا تؤخذ عين بأنف، فلو تراضيا بذلك وفعلاه .. لم يقع قصاصًا، وفي المقطوعة بدلًا الدية دون القصاص، والأصح: سقوط القصاص الأول.
قال: (ولا أنملة بأخرى)؛ لأنها جوارح مختلفة المنافع والأماكن.
وعلم من هذا: انه لا تقطع إصبع بإصبع أخرى كالسبابة والوسطى، وذكره في (المحرر) ، وإنما حذفه المصنف للعلم به من مسألة الأنملة.
قال: (ولا زائد بزائد في محل آخر) كما إذا كانت زائدة المجني عليه تحت الخنصر وزائدة الجاني تحت الإبهام، بل تؤخذ الحكومة.
وأفهم قوله: (في محل آخر): انه يقطع الزائد بالزائد عند اتحاد المحل، وهو كذلك، لكن يستثنى: ما لو كانت زائدة الجاني أتم؛ بان كان لإصبعه الزائدة مثلًا ثلاثة مفاصل، ولزائدة المجني عليه مفصلان؛ فلا قطع بها على المنصوص؛ لأن هذا أعظم من تفاوت المحل.
وَلَا يَضُرُّ تَفَاوُتُ كِبَرٍ وَطُولٍ وَقُوَّةِ بَطْشٍ فِي أَصْلِيِّ، وَكَذَا زَائِدٌ فِي الأَصَحِّ. وَيُعْتَبَرُ قَدْرُ الْمُوضِحَةِ طُولًا وَعَرْضُا،
ــ
قال: (ولا يضر تفاوت كبر وطول وقوة بطش في أصلي)؛ لإطلاق قوله تعالى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} ، فغنه يقتضي عدم النظر إلى ذلك كما اقتضاه بالنفس حتى يؤخذ العالم بالجاهل.
وتقطع يد الصانع بيد الأخرق، ولا يضر التفاوت في الصغر والكبر، والطول والقصر، والقوة والضعف، والضخامة والنحافة.
وتقطع يد القوي بيد الشيخ الذي ضعف بطشه، لكن لو كان النقص بجناية؛ بان ضرب رجل يده فنقص بطشها وألزمناه الحكومة ثم قطع تلك اليد كامل البطش .. فقد حكى الإمام: انه لا قصاص، وانه لا تجب كاملة على الأصح.
وهذا يوافق ما سبق: إن من صار إلى حالة المحتضر بلا جناية لو حز إنسان رقبته .. لزمه القصاص، ولو انتهى إلى تلك الحالة بجناية .. لا قصاص على حازه.
قال: (وكذا زائد في الأصح) ، فلا يؤثر أيضًا كالأصلي، وذلك كالإصبع والسن الزائد.
والثاني: يضر؛ لأنه ليس لها اسم مخصوص حتى يكتفى بالاتفاق في الاسم، فينظر إلى القدر وتراعى الصورة، بخلاف الأصلية؛ لأن لها اسمًا مخصوصًا فيقابل بعضها ببعض؛ لتكامل المسميات.
فإذا قلنا بهذه الوجه فكانت زائدة الجاني أكثر حكومة .. لم يقتص، او أصغر .. فله أن يقتص ويأخذ حكومة النقص.
وخص الغمام الوجهين بما إذا لم يؤثر تفاوت اللحم في الحكومة، فإن أثر .. اختلفت نسبتهما إلى الجملة، وذلك يمنع القصاص.
قال: (ويعتبر قدر الموضحة طولًا وعرضًا) ، فلا تقابل ضيقة بواسعة، ولا يقنع بضيقة عن واسعة.
وتذرع موضحة المشجوج بخشبة أو خيط، ويلحق ذلك الموضع من رأس الشاج إن كان عليه شعر، ويخط عليه بسواد أو حمرة، ويضبط الشاج حتى لا يضطرب،
وَلَا يَضُرُّ تَفَاوتُ غِلَظِ لَحْمٍ وَجِلْدٍ. وَلَوْ أَوضَحَ كُلَّ رَاسِهِ وَرَاسُ الشَّاجِّ أَصْغَرُ .. اسْتَوْعَبْنَاهُ ولَا نُتِمُّهُ مِنَ الْوَجْهِ وَالْقَفَا، بَلْ يَاخُذُ قِسْطَ الْبَاقِي مِنْ أَرشِ الْمُوضِحَةِ لَوْ وُزِّعَ عَلَى جَمِيعِهَا. وَإِنْ كَانَ رَاسُ الشَّاجِّ أَكْبَرَ .. أُخِذَ قَدْرُ رَاسِ الْمَشْجُوجِ فَقَطْ، وَالصَّحيِحُ: أَنَّ الاِخْتِيَارَ فِي مَوْضِعِهِ إِلَى الْجَانِي،
ــ
ويوضح بحديدة حادة كالموسى، ولا يوضح بالسيف وإن كان قد أوضح به؛ لأنه لا تؤمن الزيادة به، وكذلك لو أوضح بحجر أو خشب .. يوضح بالحديدة ثم يفعل ما هو أسهل عليه؛ من الشق دفعة واحدة، أو الشق شيئًا فشيئًا.
قال: (ولا يضر تفاوت غلظ لحم وجلد)؛ لان اسم الجراحة معلق بإنهائها إلى العظم، والتساوي في قدر الغوص قليلًا ما يتفق، فيقطع النظر عنه كما يقطع عن الصغر والكبر في الأطراف.
قال: (ولو أوضح كلَّ رأسه ورأسُ الشاج أصغر .. استوعبناه)؛ لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} .
قال: (ولا نتمه من الوجه والقفا)؛ لأنه غير محل الجناية.
ولو قال: ولا نتمه من غيره .. كان أحسن؛ ليتناول غيرهما من الجوانب، وهكذا الحكم لو أوضح جبهتَه وجبهةُ الجاني أضيق .. لا يرتقي إلى الرأس.
قال: (بل يأخذ قسط الباقي من أرش الموضحة لو وزع على جميعها)؛ لتعذر القصاص فيه، فيوجب البدل، وطريق معرفته بالمساحة، بخلاف اليد الصغيرة؛ فإنه يكتفى بها في مقابلة الكبيرة؛ لان المرعي فيها اسم اليد، وفي الموضحة المقدار.
وعند أبي حنيفة: لا يجمع بين أرش وقصاص.
قال: (وإن كان رأس الشاج أكبر .. أخذ قدر رأس المشجوج فقط)؛ لحصول المساواة.
قال: (والصحيح: إن الاختيار في موضعه إلى الجاني)؛ لأن جميع رأسه محل الجناية.
والثاني إلى المجني عليه، فإن أراد أن يستوفي بعض حقه من مقدم الرأس والبعض
وَلَوْ أَوْضَحَ نَاصِيَتَهُ وَنَاصِتُهُ أَصْغَرُ .. تُمِّمَ مِنْ بَاقِي الرَّاسِ. وَلَو زَادَ المُقْتَصُّ فِي مُوضِحَةٍ عَلَى حَقِّهِ .. لَزِمَهُ قِصَاصُ الزَيَادَةِ، فَإِنْ كَانَ خَطَأ أَوْ عَفَا عَلَى مَالٍ .. وَجَبَ أَرْشٌ كَامِلٌ،
ــ
من مؤخره .. فالصحيح: المنع؛ لأنه يقابل موضحة بموضحتين.
وقيل: يبتدئ من حيث بدأ الجاني، ويذهب إلى الجهة التي ذهب إليها إلى أن يتم القدر، فإن كان في رأس الجاني موضحة والباقي بقدر ما فيه القصاص .. تعين وصار كأنه كل الرأس.
ولو أراد أن يستوفي بعض حقه من مقدم الرأس وبعضه من مؤخره .. لم يكن له الباقي .. لم يكن له ذلك على الأصح.
قال: (ولو أوضح ناصيتَه وناصيتُه أصغر .. تُمم من باقي الرأس)؛ لأن الرأس كله عضو واحد فلا فرق بين مقدمه ومؤخره، ويخالف ما سبق في الرأس والوجه؛ فإنهما عضوان.
وقيل: لا تجوز مجاوزة ذلك الموضع، بل يستوفي الناصية ويأخذ الأرش لما بقي، وصحح هذا ابن هريرة والماوردي والروياني، واختاره القاضي حسين وآخرون.
قال: (ولو زاد المقتص في موضحة على حقه .. لزمه قصاص الزيادة).
إذا زاد المقتص في الموضحة على قدر حقه .. نظر؛ فإن كان باضطراب الجاني .. فلا غرم، وغن زاد عمدًا- وهي مسألة المصنف-: اقتص منه الزيادة؛ لتعمده، ولكن بعد اندمال الموضحة التي في رأسه.
قال: (فإن كان خطأ)؛ يعني: أخطأ باضطراب يده (أو عفا على مال .. وجب أرش كامل)؛ لان حكم الزيادة مخالف لحكم الأصل؛ فالأصل عمد ومستحق، والزيادة خطأ وغير مستحقة، وتغاير الحكم؛ كتعدد الجاني.
وَقِيلَ: قِسْطٌ. وَلَوْ أَوْضَحَهُ جَمْعٌ .. أَوْضَحَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِثْلَهَا، وَقِيلَ: قِسْطٌ،
ــ
قال: (وقيل: قِسْطٌ) أي: قسط ما زاد على حقه بعد توزيع الأرش عليهما؛ لاتحاد الجراح والجراحة.
وسكت الأصحاب عما إذا زادت باضطرابهما .. هل يترتب الحكم على من اضطرب أولًا، أو يوزع فيهدر الشطر ويلزم المستوفي الشطر؟ فيه نظر.
فغن قيل: عبارته توهم تجويز تفويض الاستيفاء إلى المشجوج، والصحيح المنصوص كما سيأتي: المنع، فغما ان يكون هذا فيما إذا بادر أو خالف فاقتص بنفسه، أو يكون تفريغًا على وجه التجويز .. فالجواب: أنه تفريع على الصحيح، ويتصور بصورتين:
إحداهما: أن يرضى الجاني باستيفاء المستحق.
والثانية: أن يوكل المستحق في الاستيفاء فيستوفي زائدًا.
ولو زاد وقال: أخطأت .. صدق بيمينه.
قال: (ولو أوضحه جمع)؛ بان تحاملوا على الآلة وجروها)
…
أوضح من كل واحد مثلها) أي: مثل جميعها؛ لأنه ما من جزء إلا وكل واحد منهم جان عليه، فأشبه ما إذا اشتركوا في قطع عضو.
قال (وقيل: قِسْط)؛ لإمكان التجزئة، فصار كما لو اتلفوا مالًا؛ فإنه يوزع عليهم الغرم.
والوجهان احتمالان للإمام جعلهما المصنف وجهين تبعًا لـ (المحرر).
قال الشيخان: ويجري الاحتمالان فيما إذا آل الأمر إلى المال .. هل يجب على كل واحد أرش كامل أم يوزع عليهم؟
وَلَا تُقطَعُ صَحِيحَةٌ بِشَلَاّءَ وَإِن رَضِيَ الجَانِي، فَلَو فَعَلَ .. لَم يَقَع قِصَاصًا، بَل عَلَيهِ دِيَتُهَا، فَلَو سَرَى قِصَاصُ النَّفسِ
ــ
قال الإمام: وهذا الثاني أقرب، وبالأول قطع البغوي.
فرع:
يحلق محل الموضحة عند الاقتصاص إذا كان لكل منهما شعر، فإن لم يكن للشاج شعر .. فلا حلق، وإن لم يكن على رأس المشجوج شعر وكان على رأس الشاج .. لم يمكن من القصاص؛ لما فيه من إتلاف شعر لم يتلفه، نص عليه في (الأم) ، ولا يضر التفاوت في خفة الشعر وكثافته.
قال: (ولا تقطع صحيحة بشلاء وإن رضي الجاني)؛ رعاية للمماثلة، كما لا يقتل حر بعبد وإن رضي الجاني، وإنما الواجب في الطرف الأشل الحكومة.
وصورة المسألة: إذا وقف القطع، فإن سرى إلى النفس .. فالأظهر عند الأكثرين: قطعها بها.
قال الشيخ أبو محمد: المراد ب (الشلل) في اليد والرجل: زوال الحس والحركة، وقال الإمام: لا يشترط زوال الحس بالكلية، وإنما الشلل بطلان العمل.
قال: (فلو فعل .. لم يقع قصاصًا)؛ لأنها غير مستحقة له (بل عليه ديتها، فلو سرى .. فعليه قصاص النفس)؛ لتفويتها بغير حق.
هذا إذا قطع بغير رضا الجاني، فإن قطع برضاه .. فلا قصاص عند السراية؛ لأنه قطع بالإذن.
ثم ينظر؛ فإن كان الجاني قال: اقطع، وأطلق .. كان القاطع مستوفيًا ولا شيء
وَتُقطَعُ الشَّلَاّءُ بِالصَّحِيحَة، ِ إلَاّ أَن يَقُولَ أَهلُ الخِبرَةِ: لَا يَنقَطِعُ الدَّمُ، وَيَقنَعُ بِهَا مُستَوفِيهَا. ويُقطَعُ سَلِيمٌ بِأَعسَم وَأَعرَجَ،
ــ
عليه، وإن قال: اقطعها عوضًا عن يدك أو قصاصًا .. فوجهان: أحدهما – وبه قطع البغوي -: أن عليه نصف الدية، وعلى الجاني الحكومة؛ لأنه لم يبذلها مجانًا.
والثاني: لا شيء على المجني عليه، وكأن الجاني أدى الجيد عن الرديء وقبضة المستحق.
قال: (وتقطع الشلاء بالصحيحة)؛ لأنها دون حقه.
وقال أبو إسحاق: لا تقطع بها مطلقًا؛ لأن الشرع لم يرد فيها القصاص.
قال: (إلا أن يقول أهل الخبرة: لا ينقطع الدم)؛ فإن أفواه العروق تنفتح ولا تنسد بالحسم، فلا تقطع بها وإن رضي الجاني؛ لما فيه من استيفاء النفس بالطرف، بل للمجني عليه دية يده.
فإن قالوا: ينقطع .. فله قطعها، ويقع قصاصًا، كقتل الذمي بالمسلم والعبد بالحر؛ لفضيلة الإسلام والحرية.
وأما الشلاء بالشلاء .. فالمشهور: أنهما إن استويا في الشلل أو كان الشلل في يد القاطع أكثر .. فيقطع بها.
والشرط: أن لا يخاف نزف الدم، وإن كان الشلل في يد المقطوع أكثر .. فلا قطع بها.
وقول المصنف: (أهل الخبرة) يقتضي: اشتراط جماعة، ولا شك في الاكتفاء بعدلين كالمرض المخوف.
قال: (ويقنع بها مستوفيها) ، فليس له أن يطلب بسبب الشلل شيءًا؛ لأنهما استويا في الجرم، وإنما اختلفا في االصفة وهي لا تقابل بمال.
قال: (ويقطع سليم بأعسم وأعرج)؛ لأنه لا خلل في اليد والرجل.
و (الأعسم) بعين وسين مهملتين، مأخوذ من العسم بالفتح، وهو: يبس المفصل حتى يعرج، أو قصر في الساعد، تقول ممنه: رجل أعسم، وامرأة عسماء.
وَلَا أَثَرَ لِخُضرَةِ الأَظفَارِ وَسَوادَهَا، وَالصَّحِيحُ: قَطعُ ذَاهِبةِ الأظفَارِ بِسَلِيمَتَهَا دُونَ عَكسِهِ. وَالذَّكَرُ صِحَّةً وَشَلَلًا كاليَدِ،
ــ
وعن الشيخ أبي حامد: الأعسم: الذي يكون بطشه بيساره أكثر، وهو الأعسر في العرف، وفي عبارة (الأم) ما يشهد له.
قال: (ولا أثر لخضرة الأظفار وسوادها)؛ لأنه علة ومرض في الظفر، والظفر السليم يستوفى بالعليل.
قال: (والصحيح: قطع ذاهبة الأظفار بسليمتها دون عكسه) ، أما الأولى .. فلأنها بعض حقه، وهذا لا خلاف فيه، وأما عكسه .. فلأنها نقصان خلقة ولا يؤخذ الكامل بالناقص.
قال: (والذكر صحة وشللًا كاليد) أي: الصحيحة والشلاء؛ إذ لا فارق بينهما.
و (صحة وشللًا) منصوبان على الحال من الذكر، لكن مجيء الحال من المبتدأ خلاف مذهب سيبويه، ويمكن أن يكون حالًا من الجار والمجرور بعده، أي: كاليد صحة وشللًا.
ويجب في قطع الذكر وفي قطع الأنثيين وفي إشلالهما القصاص، سواء قطع الذكر والأنثيين معًا أو قدم الذكر أو الأنثيين.
ولو دق خصيتيه .. ففي (التهذيب): أنه يقتص بمثله إن أمكن، وإلا .. وجبت الدية، ويشبه أن يكون الدق ككسر العظام.
ولو قطع أشل إحدى أنثييه وقال أهل الخبرة: يمكن القصاص من غير إتلاف الأخرى .. اقتص.
وحكى القاضي أبو الطيب عن الماسرجسي أنه قال: رأيت رجلًا من فراوة له
وَالأشَلُّ: مٌنقَبِضٌ لَا يَنبَسِطُ أَو عَكسُهُ، وَلَا أثَرَ لِلِانتِشَارِ وَعَدَمِهِ، فَيُقطَعُ فَحلٌ بِخَصِّي وَعنِّينٍ، وَأنفٌ صَحِيحٌ بِأَخشَمَ، وأُذُنُ سَمِيعٍ بِأَصَمَّ،
ــ
خصية، فسئل عن ذلك، فقال: كانت بي حكة، فقعدت في الشمس أحك خصيتي إلى أن انشقت وسقطت وبقيت الأخرى.
قال: (والأشل: منقبض لا ينبسط أو عكسه)، المراد: أنه يلزم حالة واحدة ولا يتحرك أصلًا، وهذه العبارة المتداولة، ويقال: الذي لا يتقلص في البرد ولا يسترسل في الحر، وهو بمعنى العبارة الأولى.
قال: (ولا أثر للانتشار وعدمه، فيقطع فحل بخصي وعنين)؛ إذ لا خلل في نفس العضو؛ لأن عدم الانتشار من ضعف القلب أو الدماغ.
وعند الأئمة الثلاثة: لا يقطع ذكر الفحل بذكر الخصي والعنين، ولا فرق بين الأقلف والمختون.
و (الخصي): من قطعت أنثياه مع جلدتهما، وقيل: من سلت أنثياه.
قال: (وأنف صحيح بأخشم)؛ لأن الشم ليس في جرم الأنف.
و (الأخشم): الذي لا يشم شيئًا.
قال في (الصحاح): ورجل أخشم من الخشم، وهو داء يعتري الأنف.
و (الخيشوم): أقصى الأنف.
قال: (وأذن سميع بأصم) وبالعكس؛ لأن السمع لا يحل جرم الأذن، وإنما الأذن طريق للسمع وآلته.
وعن مالك: لا تقطع أذن السميع بالأصم، والأظهر: أن الصحيحة تقطع بالمستحشفة؛ لبقاء الجمال والمنفعة.
ولا فرق بين المثقوبة وغيرها إذا لم يورث الثقب شيئًا أو نقصانها على المذهب، كما في أذن المرأة، وإن أورث ذلك .. فهي كالمخرومة التي قطع بعضها لا تستوفى بها أذن كاملة.
لَا عَينٌ صَحِيحَةٌ بِحَدَقَةٍ عَميَاءَ، ولَا لِسَانُ نَاطِقٍ بِأَخرَسَ
ــ
وعبارة المصنف تشمل ما لو ردها في حرارة الدم فالتصقت، وهو كذلك لا يسقط قصاصها ولا الدية عن الجاني؛ لأن الحكم متعلق بالإنابة وقد وجدت، ثم ذكر الشافعي والأصحاب: أنه لا بد من قطع الملتصق؛ لتصح صلاته.
وسببه: الحكم بنجاسة الأذن إن قلنا: ما أبين من الآدمي نجس، وإلا .. فسببه: الدم الذي ظهر في محل القطع، وقد ثبت له حكم النجاسة، فلا يزول بالاستبطان.
ويأتي فيه ما سبق في (كتاب الصلاة) في الوصل بعظم نجس، والتفصيل بين أن يثبت اللحم على موضع النجاسة أو لا يثبت، وبين أن يخاف التلف من القطع أو لا يخاف.
ولو قطعها قاطع .. لا قصاص عليه؛ لأنها مستحقة الإزالة.
قال: (لا عين صحيحة بحدقة عمياء)؛ لأنها أكثر من حقه ولو كان بياضها وسوادها باقيين؛ لأن البصر والنطق في العين واللسان بخلاف السمع والشم، وتؤخذ العين القائمة بالصحيحة إذا رضي بها المجني عليه؛ لأنها دون حقه.
ويقطع جفن البصير بجفن الأعمى؛ لتساوي العضوين في الجرم والصحة.
قال: (ولا لسان ناطق بأخرس)؛ لما تقدم، ولأن اللسان العاطل كاليد الشلاء.
ويقطع لسان الأخرس بلسان الناطق إذا رضي به المجني عليه.
قال الرافعي: ويقطع لسان المتكلم بلسان الرضيع إن ظهر فيه أثر النطق بالتحريك عند البكاء وغيره؛ لأن المراد ب (الناطق): من له قوة النطق، فإن بلغ أوان التكلم ولم يتكلم .. لم يقطع به لسان المتكلم.
ويشكل عليه: أنه صحح في (كتاب الديات): أن هذا اللسان تجب فيه الدية، وقال: إنه الذي يوجد في كتب الأصحاب، وعلله بأن الظاهر السلامة،
وَفِي قَلعِ السِّنِّ قِصَاصٌ، لَا فِي كَسرِهَا، وَلَو قَلَعَ سِنَّ صَبِيٍّ لَم يُثغَر .. فَلَا ضَمَانَ فِي الحَالِ، فَإن جَاءَ وَقتُ نَبَاتِهَا؛ بِأَن سَقَطَتِ البَوَاقِي وَعُدنَ دُونَهَا، وَقَالَ أَهلُ البَصَرِ: فَسَدَ المَنبَتُ .. وَجَبَ القِصَاصُ، .....
ــ
والذي وقع له هنا تبع فيه الإمام والغزالي.
قال: (وفي قلع السن قصاص)؛ لقوله تعالى: {والسِّنَّ بِالسِّنِّ} ، فتقلع العليا بالعليا والسفلى بالسفلى.
قال: (لا في كسرها)؛ لما تقدم في كسر العظام.
وفي قول – نص عليه في (الأم) وقطع به في (المهذب) و (الحاوي) -: يراجع أهل الخبرة؛ فإن قالوا: تمكن فيه المساواة .. اقتص، واحتج الماوردي بحديث الربيع المتقدم؛ فإنها كسرت سن جارية من الأنصار فقال صلى الله عليه وسلم:(كتاب الله القصاص) ، لكن حمله الشيخ أبو حامد على القلع من أصلها، وهو خلاف الظاهر، ولا تنافيه رواية مسلم: أنها جرحت إنسانًا؛ فإنهما قضيتان.
ولا تؤخذ السن الصحيحة بالمكسورة، وتؤخذ المكسورة بالصحيحة مع قسط الذاهب من الأرش، وتؤخذ الزائدة بالزائدة بالشرط الذي سبق.
ولو قلع سن رجل وليس للجاني تلك السن .. لا قصاص، بل الواجب الدية.
قال: (ولو قلع سن صبي لم يتغير) هو بمثناة تحت مضمومة ثم ساكنة ثم غين معجمة مفتوحة، أي: لم تسقط أسنانه التي هي رواضعه، مشتق من (الثغر): الذي هو مقدم الأسنان.
قال:) .. فلا ضمان في الحال)؛ لأنها تعود غالبًا، فأشبهت الشعر، وكذلك لا دية؛ لأنها لا يتحقق إتلافها، لكن عليه الحكومة إن نبتت سوداء أو معوجة أو خارجة عن سمت الأسنان أو بقي شين آخر بعد النبات، وإن نبتت أقصر ما كانت .. وجب تقدير النقصان من الأرش.
قال: (فإن جاء وقت نباتها؛ بأن سقطت البواقي وعدن دونها، وقال أهل البصر: فسد المنبت .. وجب القصاص)؛ لأنه قد قلع السن الحاصلة في الحال وأفسد المنبت، فيقابل بمثله، فإن قال أهل الخبرة: يتوقع نباتها إلى وقت كذا ..
وَلَا يُستَوَفى لَهُ فِي صِغَرِهِ. وَلَو قَلَعَ سِنَّ مَثغُورٍ فَنَبَتَت .. لَم يَسقُطِ القِصَاصُ فِي الأَظهَرِ
ــ
توقعناه، فإن مضت ولم تنبت .. وجب القصاص.
وملخص ما في المسألة طرقان:
إحداهما – طريقة الجمهور -: القطع بالوجوب.
والثانية: على قولين: ثانيهما: لا يجب؛ لأن سن الصبي فضله في الأصل، نازلة منزلة الشعر الذي ينبت مرة بعد الأخرى.
قال: (ولا يستوفى له في صغره) ، بل ينتظر بلوغه؛ فإن مات قبل البلوغ .. اقتص وارثه أو أخذ الأرش.
وسكت المصنف عما إذا نبتت لوضوحه؛ فإنه لا قصاص ولا دية، سواء كان ذلك في وقته أم بعد مدة طويلة.
والتقييد ب (الصغر) جري على الغالب؛ فإن قلع سن إذا لم يكن قد بدل في صغره حكمه كذلك.
فإن قيل: قوله: (لا يستوفى له في صغره) غير محتاج إليه؛ لأنه سيأتي في قوله: (وينتظر غائبهم وكمال صبيهم) .. فالجواب: أن ذاك في الوارث وهذا في المستحق نفسه، وذاك في النفس وهذا فيما دونها، فذكره لرفع توهم المغايرة.
ولو مات قبل اليأس، وقبل تبين الحال .. فلا قصاص، وفي الأرش وجهان.
قال: (ولو قلع سن مثغور فبنت .. لم يسقط القصاص في الأظهر)؛ لأنه لم تجر العادة بنبات سن المثغور، والذي اتفق نعمة جديدة من الله تعالى، فلا يسقط به حقه عن الجاني.
والثاني – وبه قال أحمد -: يسقط كالصغير إذا عاد سنه؛ لأن ما عاد قام مقام الأول، فكأنه لم يفت وصار كما لو عاد سن غير المثغور، وعلى القولين لا ينتظر العود، بل للمجني عليه أن يقتص ويأخذ الدية في الحال؛ لأن انتظار ذلك مستبعد.
وَإِن نَقَصَت يَدُهُ إصَبعًا كَامِلَةً .. قُطِعَ وَعَليهِ أَرشُ إصبَع، وَلَو قَطَعَ كَامِلٌ نَاقِصَةً: فَإِن شَاءَ المَقطُوعُ .. أَخَذَ دِيَةَ أَصَابِعِهِ الأَربَعِ، وَإن شَاءَ .. لَقَطَها، والأَصَحُّ: أَنَّ حُكُومَةَ مَنَابِتِهِنَّ تَجِبُ إِن لَقَطَ لَا إن أَخَذَ دِيَتَهُنَّ، وَأَنَهُ تَجِبُ فِي الَحاَلَينِ حُكُومَةُ خُمُسِ الكَّفِّ
ــ
قال: (وإن نقصت يده إصبعًا لم يستوف قصاصها فيكون له أرشها، واستدل له الرافعي بقوله صلى الله عليه وسلم: (في كل إصبع عشر من الإبل) رواه أحمد [2/ 182] وأبو داوود [4553] والنسائي [8/ 55] من حديث أبي موسى.
وقال أبو حنيفة: لا أرش له مع قطع اليد.
قال: (ولو قطع كامل ناقصة: فإن شاء المقطوع .. أخذ دية أصابعه الأربع، وإن شاء .. لقطها) ، هذه الصورة عكس التي تقدمت؛ فليس للمجني عليه هنا قطع اليد الكاملة من الكوع؛ لما فيه من الزيادة، لكنه يلقط الأصابع الأربع إن شاء، وإن شاء .. أخذ ديتها.
وعند أبي حنيفة: ليس له لقط الأصابع، ولا يعدل عن محل القطع إلى غيره.
قال: (والأصح: أن حكومة منابتهن تجب إن لقط)؛ لأن الحكومة من جنس الدية فلا يبعد دخولها فيها، والقصاص ليس من جنسها.
والثاني: لا تجب وتدخل تحت قصاص الأصابع كما تدخل تحت ديتها؛ فإنه أحد موجبي الجناية.
قال: (لا إن أخذ ديتهن) كما أن حكومة جميع الكف تحت ديات الأصابع .. اندرج بعضها تحت البعض؛ لأن البعض من البعض كالكل من الكل.
وحكى الإمام وغيره وجهًا: أنه لا يندرج، وتختص قوة الاستتباع بالكل.
قال: (وأنه تجب في الحالين حكومة خمس الكف)، المراد: حكومة الخمس
وَلَو قَطَعَ كَفًا بِلَا أَصَابِعَ .. فَلَا قِصَاصَ إلَاّ أَن تَكُونَ كَفُهُ مِثلَهَا، وَلَو قَطَعَ فَاقِدُ الأَصَابعِ كَامِلَهَا .. قَطَعَ كَفَّهُ وَأَخَذَ دِيَةَ الأَصَابِعِ. وَلَو شَلَّت إِصبَعَاهُ. وَلو شَلَّت إصبَعَاهُ فَقَطَعَ يَدًا كَامِلَةً: فَإِن شَاءَ .. لَقَطَ الثَّلاثَ السَّليمَةَ وَأخَذَ دِيَةَ إِصبَعَينِ، وَإن شَاءَ .. قَطَعَ يَدَهُ وَقَنَعَ بِهَا
ــ
الباقي من الكف؛ لأنه لم يستوف في مقابلته شيئًا يتخيل اندراجه فيه.
والمراد ب (الحالين): حالة القصاص، وحالة أخذ الدية.
والثاني: أن كل إصبعين تتستتبع الكف كما يستتبعها كل الأصابع.
قال: (ولو قطع كفًا بلا أصابع .. فلا قصاص)؛ لأنه لا يمكن إلا بأخذ الزائد.
قال: (إلا أن تكون كفه مثلها) فيقتص للمساواة، كذا أطلقه الشيخان، وظاهره: أن وجود الأصايع مانع من الوجوب.
وينبغي أن يكون مانعًا من الاستيفاء لا الوجوب، حتى لو سقطت الأصابع بآفة أو جناية .. حصلت القدرة على القصاص في الكف فيقتص، كما صرحوا به فما إذا قطع سليم اليد الأنملة الوسطى ممن هو فاقد الأنملة العليا، وسيأتي في التتمة بعد سبعة أسطر.
قال: (ولو قطع فاقد الأصابع كاملها .. قطع كفه وأخذ دية الأصابع) لأنه لم يستوف شيئًا في مقابلتها، وهذه المسألة مكررة مع قوله أولا:(ولو نقصت يده إصبعًا فقطع كاملة .. قطع وعليه أرش إصبع).
قال: (ولو شلت إصبعاه فقطع يدًا كاملة: فإن شاء .. لقط الثلاث السليمة وأخذ دية إصبعين، وإن شاء قطع يده وقنع بها)؛ لأنه لو عم الشلل جميع اليد وقطع قنع بها.
فإذا كان الشلل في بعضها .. فهو أولى، وفي استتباع الثلاث حكومة منابتها، واستتباع دية الإصبعين حكومة الخلاف المتقدم.
تتمة:
سليم اليد قطع الأنملة الوسطى من فاقد العليا .. فلا سبيل إلى الاقتصاص مع بقاء العليا.
فَصلٌ:
قَدَّ مَلفٌوفًا وَزَعَمَ مَوتَهٌ .. صَدَّقَ الوَلِيٌّ بِيَمِينِهِ فِي الأَظهَرِ
ــ
فإن سقطت بآفة أو جناية .. ففي القصاص الآن ثلاث طرق: أصحها وأشهرها: القطع بأن له ذلك.
وقال أبو حنيفة: لا قصاص في الوسطى؛ لتعذر الاستيفاء حال الجناية.
لنا: أن الامتناع كان لاتصال محل الجناية بغيره، فإذا زال الاتصال .. استوفى القصاص، كالحامل إذا وضعت.
وهل له طلب أرش الأنملة للحيلولة إلى أن تزول العليا؟ فيه وجهان: أصحهما: ليس له ذلك.
وشبه الوجهان بالوجهين في أن من أتلف مثليًا وغرم القيمة لإعواز المثل ثم وجد المثل .. هل يردها ويطالب به؟
وكالوجهين في أن من أخذ أرش العيب القديم لامتناع الرد بالعيب الحادث ثم زال العيب .. هل له أن يرد المبيع والأرش ويسترد الثمن؟
وكالوجهين فيما إذا أتلف طعامًا لغيره فلقيه ببلد آخر فأخذ منه قيمته للحيلولة ثم اجتمعا ببلد الإتلاف .. هل له ردها وأخذ المثل؟
وبناهما الغزالي على الخلاف فيما إذا ثبت القصاص لصبي أو مجنون .. هل لوليهما طلب المال في الحال؟
وقيده المتولي وغيره بالفقير، وهو كما ذكراه في (كتاب اللقيط).
قال: (فصل) عقده للاختلاف الواقع بين ولي الدم والجاني.
قال: (قد ملفوفًا وزعم موته .. صدق الولي بيمينه في الأظهر)؛ لأن الأصل استمرار الحياة؛ لأنه كان مضمونًا، والأصل استمرار تلك الحياة، فأشبه ما إذا قتل من عهده مسلمًا وادعى ردته.
والثاني: المصدق الجاني؛ لأن الأصل براءة ذمته عن القصاص، وصححه الشيخ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أبو حامد والماوردي والقاضي أبو الطيب والمحامل والروياني وصاحب (المعتمد) والشيخ في (التنبيه) ، وأقره عليه في (التصحيح)، وقال الماوردي: نص عليه الشافعي في أكثر كتبه.
والمشهور: طرد القولين مطلقًا، وفرق أبو الحسن الطيبي – بكسر الطاء وبالباء الموحدة – بين أن يكون ملفوفًا في ثياب الأحياء أو ما هو على صورة الكفن.
قال الإمام: وهذا لا أصل له، وقواه في (المطلب)، وقال الجاجرمي: إنه متجه.
وقال أبو إسحاق: ينظر إلى الدم السائل؛ فإن قال أهل الخبرة: إنه دم حي .. صدق الولي، وإن قالوا: دم ميت .. صدق الجاني، وإن اشتبه .. ففيه قولان.
وتصوير المسألة بالملفوف يشعر بأنه لو لم يكن ملفوفًا بل كان لابسًا كالحي .. أن المصدق الولي قطعًا، والظاهر: أنه لا فرق.
ثم إذا صدقنا الولي بلا بينة .. فالواجب الدية دون القصاص، كما نقله في زوائد (الروضة) عن البغوي والمحاملي وأقرهما؛ لأن القصاص يسقط بالشبهة.
وظاهر قوله: (بيمينه): أن الولي يحلف يمينًا واحدة، وبه صرح ابن الصباغ، وليس كذلك، بل لا بد من خمسين يمينًا.
ولو أقام الولي بينة بحياته .. عمل بها، سواء قلنا: هو المصدق أو الجاني؛ لأن الشخص تارة يصدق بالبينة وتارة باليمين، كالمودع في دعوى الرد، وللشهود أن يشهدوا بالحياة إذا كانوا رأوه يتلفف في الثوب وإن لم يتيقنوا حياته حالة القد؛ استصحايًا لما كان.
وإذا قتله ثم ادعى: رقه، وقريبه: حريته .. نص: أنه يصدق القريب، ونص في مثلها من القذف: أنه يصدق القاذف، فقيل: بتقريرهما.
والأصح: أنهما على قولين: أظهرهما: تصديق القريب.
وَلَو قَطَعَ طَرَفًا وزَعَم نَقصَهُ .. فَالمَذهَبُ: تَصدِيقُهُ إِن أَنكَرَ أَصلَ السَّلَامَةِ فِي عُضوٍ ظَاهِرٍ، وَإلَاّ .. فَلَا
ــ
قال: (ولو قطع طرفًا وزعم نقصه .. فالمذهب: تصديقه إن أنكر أصل السلامة في عضو ظاهر، وإلا .. فلا)، في المسألة نصوص وطرق مختصرها أربعة أقوال:
أحدها: يصدق المجني عليه، وبه قال أبو حنيفة.
والثاني: الجاني، وبه قال أحمد.
والثالث: يصدق المجني عليه إن ادعى السلامة من الأصل، فإن ادعى زوال النقص يعد وجوده .. صدق الجاني.
والرابع – وهو المذهب -: إن كان العضو ظاهرًا كاليد والرجل واللسان والأنف والأذنين والعينين .. فالمصدق الجاني إن أنكر أصل السلامة؛ لأن الأصل: أنه لا قصاص والمجني عليه متمكن من إقامته البينة على السلامة التي يدعيها لظهور العضو، وإن اتفقا على: أنه كان سليمًا، وادعى الجاني: حدوث النقصان .. فقولان:
أحدهما: أن الجواب كذلك؛ لأن الأصل البراءة عن القصاص.
وأظهرهما: تصديق المجني عليه؛ لأن الأصل استمرار السلامة.
وإن كان العضو باطنًا كالذكر والأنثيين .. فقولان:
أصحهما: تصديق المجني عليه؛ لعسر إقامة البينة على سلامة الأعضاء الباطنة لعدم الاطلاع.
والثاني: طرد القولين في الأعضاء الظاهرة والباطنة.
والمراد بالعضو الباطن: ما يعتاد ستره مروءة، وقيل: ما يجب، وهو العورة، والظاهر: ما سواه.
أَو يَدَيهِ وَرِجلَيهِ فَمَاتَ وَزَعَمَ سِرَايَةً، وَالَوَلِيُّ انِدمَالًا مُمكِنًا أَو سَبَبُا .. فَالَأصَحُّ: تَصدِيقُ الَوِليُّ،
ــ
وإذا صدقنا الجاني .. احتاج المجني عليه إلى بينة بالسلامة، ثم الأصح: أنه يكفي قول الشهود: كان صحيحًا، ولا يشترط تعرضهم لوقت الجناية.
وقيل: إن شهدوا بالسلامة عند الجناية .. كفى ولا يحتاج معها إلى يمين، فإن شهدوا: أنه كان سليمًا .. احتاج معها إلى اليمين؛ لجواز حدوث النقص.
قال: (أو يديه ورجليه فمات وزعم سراية، والولي اندمالًا ممكنًا أو سببًا .. فالأصح: تصديق الولي) أي: بيمينه.
هذا مخرج أيضًا على تقابل الأصلين: براءة الذمة من جانب وعدم التداخل من جانب.
والثاني: إن مضت مدة طويلة لا يمكن أن تبقى الجراحة فيها غير مندملة .. صدق الولي بلا يمين، وإلا .. فبيمين.
والثالث: إن كان احتمال الاندمال مع إمكانه بعيدًا .. صدق الجاني بيمينه، وإلا .. فالولي، وادعى الإمام: اتفاق الأصحاب عليه، ونوزع في ذلك.
أما إذا لم يمكن الاندمال؛ لقصر الزمان كيوم أو يومين .. فإن القول قول الجاني في تلك الحالة بلا يمين.
وقيل: بيمين؛ لاحتمال الموت بسم مذفف أو حية، وهو ضعيف.
وقال الرافعي: يشبه أن يقال: ليس لمدة الاندمال ضبط؛ فقد تبقى الجراحة سنين كثيرة والشخص مألوم بسببها إلى أن يموت منها، فينبغي أن يكون التصديق عند الاندمال بيمين، وهذا الذي في (التهذيب) وغيره.
وأما السبب .. فكما إذا قال الولي: أكل سمًا فمات، أو قتل نفسه، ونحو ذلك، وقال الجاني: مات بالسراية.
ووجه تصديق الجاني: احتمال ما يقوله، وأن الأصل براءة الذمة.
وَكَذَا لَو قَطَعَ يَدَهٌ وَزَعَمَ سَبَبًا وَالوليُّ سِرَايَةً. وَلَو أَوضَحَ مُوضِحَتَينِ وَرَفَعَ الحَاجِز َوَزَعمَهُ قَبلَ اندِمَالِهِ .. صُدِّقَ إِن أَمكَنَ، وَإلَاّ .. حٌلِّفَ الجَريحُ وثَبَتَ أَرشَانِ، قِيلَ: وَثَالِثٌ
ــ
ووجه الأصح: أن الأصل بقاء الديتين الواجبتين، والأصل: عدم اليبب الآخر، وهذه الحالة فيها وجهان فقط، والحالة المتقدمة ثلاثة أوجه كما تقدم.
قال: (وكذا لو قطع يده) أي: ومات (وزعم سببًا والولي سراية)؛ لأن الأصل: أنه لم يوجد سببًا آخر.
والثاني: يصدق الجاني؛ لأن الأصل براءة الذمة ولم يثبت ما يوجب تمام الدية.
ولو قال الجاني: مات بعد الاندمال فعلي نصف الدية، وقال الولي: مات بالسراية، والزمن محتمل للاندمال .. فالأصح: تصديق الجاني.
قال: (ولو أوضح موضحتين ورفع الحاجز وزعمه قبل اندماله .. صدق إن أمكن)؛ وذلك بأن يقصر الزمان؛ لأن الظاهر معه.
قال: (وإلا) أي: وإن طال الزمان) .. حلف الجريح وثبت أرشان) للأولى والثانية.
قال: (قبل: وثالث)؛ لأنه ثبت رفع الحاجز باعترافه وثبت الاندمال بيمين المجني عليه فحصلت موضحة ثالثة.
والأصح: المنع وتصديق الجاني؛ لأنه يقول: رفعت الحاجز حتى لا يلزمني أرش بل يعود الأولان إلى واحدة، فإن لم يقبل قوله في الاتحاد .. وجب أن لا يقبل في الثالث الذي لم يثبت موجبه.
تتمة:
ذكر في السبب الرابع في اختلاف الحكم من (الروضة): أنه لو أوضحه موضحتين عمدًا ورفع الحاجز بينهما خطأ، وقلنا بالصحيح: إنه لو رفعه عمدًا تداخل الأرشان .. فهل يلزمه أرش ثالث أو أرش واحد؟ وجهان. قلت: أصحهما: أرش فقط. اهـ
فصل:
الصَّحِيحُ: ثُبوتُهُ لِكُلِّ وَارِثٍ،
ــ
واعترض عليه في ذلك بأن الرافعي قال: فيه وجهان؛ لاختلاف الحكم، فإن جعلناه مؤثرً .. فعليه أرش ثالث، وإلا .. لم يلزمه إلا أرش واحد.
والصحيح: التأثير، فتلزمه ثلاثة أروش، وهذا هو الصواب.
قال: (فصل:
الصحيح ثبوته لكل وارث) أي: على فرائض الله تعالى، فتشترك فيه العصبات وأصحاب الفروض، المكلف منهم وغير المكلف، ومن يرث بالسبب كالزوجين والمعتق ومن يرث بالنسب، وبهذا قال أبو حنيفة وأحمد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:(ثم أنتم يا معشر خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل، وأنا والله عاقله، فمن قتله بعده قتيلًا .. فأهله بين خيرتين .. إن أحبوا .. قتلوا، وإن أحبوا أخذوا الدية) رواه أبو داوود [1406] والدارقطني [3/ 96] عن أبي شريح الخزاعي.
وفي (الصحيحين)[خ 2434_ م 1355]: (من قتل له قتيل .. فهو بخير النظرين).
فخير الورثة بين الدية والقتل، والدية تثبت للجميع بالاتفاق .. فكذلك القصاص.
وفي (سنن أبي داوود)[2919]: (أن عمر كان يقول: لا ترث المرأة من دية زوجها حتى قال له الضحاك بن سفيان: كتب إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن أورث زوج أشيم الضبابي من دية زوجها).
ووقع في (المهذب) هنا: أن القائل لعمر الضحاك بن قيس، وهو وهم، ثم ذكره في (الأقضية) على الصواب.
ويقابل الأصح وجهان:
أحدهما: ستحقه العصبة الذكور خاصة؛ لأنه لدفع العار فاختص بهم كولاية النكاح، وبه قال مالك.
وَيُنتَظَرُ غَائِبُهُم وَكَمَالُ صَبِيِّهِم ومَجنُونِهِم،
ــ
والثاني: يستحقه من يرث بنسب دون سبب، فلا يثبت للزوج والمعتق؛ لأن النكاح والملك يزولان بالموت فيقدم المعنى الذي لأجله شرع القصاص.
هذا إذا كان له وارث خاص، فإن لم يكن .. فهل للسلطان أن يقتص من قاتله أو يتعين أخذ الدية؟ فيه قولان: أصحهما: أن له أن يقتص من القاتل وله أن يعفو عن الدية على ما يراه مصلحة؛ لما روى البيهقي [8/ 61]: (أن أبا لؤلؤة لما طعن عمر .. وثب عبيد الله بن عمر على الهرمزان فقتله، فقيل لعمر: إن عبيد الله ابنك قتل الهرمزان، قال: ولم قتله؟ قالوا: قال: إنه قتل أبي، قيل له: وكيف ذلك؟ قال: رأيته قبل ذلك مستخليًا بأبي لؤلؤة، وهو الذي أمره بقتله، قال عمر: ما لأدري ما هذا؟ انظروا إذا أنا مت؛ فاسألوا عبيد الله البينة على الهرمزان: أهو قتلني؟ فإن أقام البينة .. فدمه ب\مي، وإن لم يقم البينة .. فأقيدوا عبيد الله من الهرمزان.
فلما ولي عثمان .. قيل له: ألا تمضي وصية عمر رضي الله عنه في عبيد الله؟ قال: ومن ولي الهرمزان؟ قالوا: أنت يا أمير المؤمنين، قال: قد عفوت عن عبيد الله بن عمر).
ولو كان الوارث لا يستوعب القصاص كبنت أو جدة أو أخ لأم، فإن قلنا: للسلطان الاستيفاء إذا لم يكن وارث .. استوفاه مع صاحب الفرض، وإلا .. فالرجوع إلى الدية.
قال: (وينتظر غائبهم وكمال صبيهم ومجنونهم)؛ لأن اقصاص للتشفي فحقه التفويض إلى خيرة المستحق، ولا يحصل ذلك باستيفاء الولي.
وقال أبو حنيفة ومالك: لا ينتظر بلوغ الصبي ولا إفاقة المجنون؛ لأن الحسن بن علي قتل ابن ملجم بأبيه وكان لعلي أولاد صغار، وقيس عليه المجنون.
وأجاب أصحابنا بأنه قتله حدًا لكفره لا قصاصًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عنه: أنه أشقى الآخرين، ولهذا حكى في (المهذب) في (باب البغاة)
وَيُحبَسُ القَاتِل
ــ
وجهين في أن قال الإمام يقتل قصاصًا أو حدًا حتى يتحتم قتله كقاطع الطريق؛ لأن قتل الإمام من الإفساد في الأرض.
وعن أحمد في ذلك روايتان.
ولا فرق في ذلك بين قصاص النفس والطرف، وقد سبق من المصنف التنصيص على ذلك.
وعند أبي حنيفة: للولي استيفاء القصاص، وللوصي استيفاء قصاص الطرف، وسلم أن القيم لا يستوفي واحدًا منهما، وتقدم في تتمة الباب قبله: أن الصبي أو المجنون إذا قتل الجاني .. لم يصر مستوفيًا بذلك على المذهب.
فرعان:
أحدهما: إذا كان الصبي أو المجنون فقيرين محتاجين إلى من ينفق عليهما .. كان لوليهما العفو على الدية للضرورة كبيع عقارهما، وكذا في (التنبيه) ، وأقره عليه المصنف.
وقيل: لا يجوز؛ لأنهما يستحقان النفقة في بيت المال فلا احتياج.
وقيل: يجوز في المجنون دون الصبي؛ لأن الصبي غاية تنتظر، بخلاف المجنون، وهذا هو الأصح في (الروضة) في (كتاب اللقيط) ، لكنه فرضها في قطع طرفه، فلو كان له قريب تلزمه نفقته .. لم يجز العفو جزمًا.
الثاني: لو حكم حاكم للكبير باستيفاء القصاص وهناك صغير .. هل ينقض حكمه؟ فيه وجهان: أصحهما: لا، حكاه والد الروياني عن جده.
قال: (ويحبس القاتل) إلى أن يزول المانع؛ حفظًا لحق المستحق، ففي (سنن أبي داوود) [3625]:(أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس قومًا في تهمة دم) ، فعند التحقق أولى.
وكلام المصنف وغيره يقتضي: أن هذا الحبس واجب، وبه صرح الماوردي والروياني، وكلام (البسيط) يفهم: أنه ليس بواجب.
وَلَا يُخلَّى بِكَفِيلٍ، وَليَتَّفِقُوا عَلَى مُستَوفٍ، وَإلَّا .. فَقُرعًةٌ يَدخُلُهَا العَاجِزُ وَيَستَنِيبُ، .....
ــ
وعن الشيخ أبي علي: أن القاتل لا يحبس؛ لأنه عقوبة زائدة، وحمل الحبس في كلام الشافعي على التوقف للانتظار، والصحيح الذي عليه الجمهور: الأول؛ لأن حبسه أهون عليه من تعجيل القتل، ولا طريق إلى حفظ الحق سواه.
قال (ولا يخلى بكفيل)؛ لأنه قد يهرب فيفوت الحق، ولذلك يحبس إلى أن يقدم الغائب، كما لو وجد الحاكم مال ميت مغصوبًا والوارث غائب .. فإنه يأخذه؛ حفظًا لحق الميت.
وذكر ابن الصباغ: أنه لا يحبس في قصاص الطرف إلى قدوم الغائب؛ لأن الحاكم لا ولاية له على الغائب المكلف، كما لا يأخذ ماله المغصوب.
وفي كلام الإمام وغيره ما ينازع فيه، ويشعر بأنه يأخذ مال الغائب ويحفظه، وأنه يحبس في قصاص الطرف.
قال: (وليتفقوا على مستوف)؛ يعني: إذا كان القصاص لجماعة حضور كاملين .. لم يكن لهم أن يجمعوا على مباشرة قتله؛ لأن فيه تعذيبًا، ولكن يتفقون على واحد يستوفيه، أو يوكلون أجنبيًا.
قال: (وإلا .. فقرعة) إذا لم يحصل اتفاق، بل قال كل واحد: أنا أستوفيه، فيقطع تنازعهم بها، وهذا الإقراع واجب كما صرح به الروياني، فمن خرجت له القرعة تولاه، ولكن بإذن الباقين، فإن منعه غيره .. امتنع؛ لأن حقه ن الاستيفاء لا يسقط بخروجها لغيره، بدليل صحة إبرائه منه، والعفو على مال بخلاف تنازع الأولياء في الترويج إذا خرجت قرعة واحد؛ فإنه يزوج ولا يحتاج إلى إذن الباقين؛ لأن القصاص مبني على الإسقاط، والنكاح لا يجوز تأخيره.
وفي وجه: لا حاجة بعد خروج القرعة إلى إذن الباقين؛ لتظهر فائدة القرعة.
قال: (يدخلها العاجز) كالشيخ والمرأة (ويستنيب)؛ لأنه صاحب حق، وهذا صححه البغوي.
وَقِيلَ: لَا يَدخُلُ. وَلَو بَدَرَ أَحَدُهُم فَقَتَلَهُ .. فَالأظهَرُ: لَا قِصَاصَ، ......
ــ
قال: (وقيل: لا يدخل)؛ لأنه ليس أهلًا للاستيفاء، والقرعة إنما تلأتي بين المستوين في الأهلية، وهذا هو الصحيح في (الشرح) و (الروضة) ، وهو المعتمد المنصوص في (الأم) وعليه الأكثرون، بل قال الروياني في (التجربة): إن الأول غلط.
وفي (فتاوى القاضي حسين): أن المرأة إذا كانت قوية جلدة .. كان لها أن تستوفي القصاص.
قال: (ولو بدر أحدهم فقتله .. فلأظهر: لا قصاص)، قال الرافعي رحمه الله: هذه المسألة توصف بالإشكال والاعتياص، حتى حكي عن الماسرجسي أنه قال: سمعت أبا بكر الصبغي يقول: كررتها على نفسي ألف مرة حتى تحققتها، فأول ما يذكر أن من عليه القصاص إذا قتله أجنبي لزمه القصاص، ويكون ذلك لورثته لا لمن كان يستحق القصاص عليه.
قال البغوي: فلو عفا ورثته عن القصاص على الدية .. فالدية للورثة على الصحيح.
وقيل: لمن له القصاص، كما إذا قتل المرهون تكون قيمته مرهونة، وهو ضعيف.
وأما إذا بادر أحد ابني المقتول الحائزين فقتل الجاني بغير إذن الآخر .. فينظر؛ أوقع ذلك قبل عفو أخيه أم بعده؟
الحالة الأولى: إذا قتله قبل العفو .. ففي وجوب القصاص عليه قولان:
أظهرهما: لا يجب؛ لأنه صاحب حق في المستوفى فيدفع استحقاقه العقوبة، كما إذا وطء أحد الشريكين الجارية .. لا يلزمه الحد، لأن من علماء المدينة من جوز لكل واحد من الورثة الانفراد باستيفاء القصاص، حتى لو عفا بعضهم .. كان لمن لم يعف أن يستوفي، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة وأحمد، ويروى عن مالك، واختاره المزني، واختلاف العلماء شبهة تدرأ العقوبة.
والثاني: يجب القصاص؛ لأن حق القصاص لهما، فإذا قتله أحدهما .. فكأنه
وَلِلباقِينَ قِسطُ الِّديَة ِمِن تَركِهِ، وَفي قَولٍ: مِنَ المٌبَادِرِ، وَإِن بَادَرَ بَعدَ عَفوٍ غَيرِهِ .. لَزِمَمهُ القِصَاصُ، [وَقِيلَ: لاِ إِن لَم يَعلَم وَيحكُمُ قَاضٍ بِهِ]
ــ
استوفى نصف النفس متعديًا، وذلك يوجب القصاص، كما إذا قتل اثنان واحدًا.
والقولان فيما إذا قتله عالمًا بالتحريم، فإن جهل .. فلا قصاص بلا خلاف.
و [الحالة الثانية]: إن قتله بعد العفو’ فإن علمه وحكم الحاكم بسقوط القصاص عن الجاني .. لزمه القصاص قطعًا، وإن لم يحكم به .. لزمه أيضًا على المذهب، وقبل: لا؛ لشبهة اختلاف العلماء.
وإن جهله، فإن قلنا: لا قصاص إذا علمه .. فههنا أولى، وإلا .. فوجهان.
ولو قتله العافي، أو عفوا ثم قتله أحدهما .. لزمه القصاص قطعًا.
قال: (وللباقين قسط الدية)؛ لفوات القصاص لغير اختيارهم.
قال: (من تركته) أي: من تركة الجاني؛ لأن المبادر فيما وراء حقه كالأجنبي، ولو قتله أجنبي .. أخذ الورثة الدية من تركة الجاني، ولوارث الجاني على المبادر قسط ما زاد على قدر حقه من الدية.
قال: (وفي قول: من المبادر)؛ لأنه صاحب حق في القصاص، فإذا بادر إلى القتل .. فكأنه استوفى حق الآخر مع حق نفسه، فأشبه ما إذا مات المودع عن ابنين فأخذ أحدهما الوديعة وأتلفها .. فإن الآخر يرجع عليه بضمان نصيبه لا على المودع.
وفي قول مخرج: لهم الخيار بين الأخذ من المبادر أو من تركة الجاني ويبرأ؛ لأنه بمنزلة الغاصب والمتلف في يد الغاصب.
قال: (وإن بادر بعد عفو غيره .. لزمه القصاص)؛ لارتفاع الشبهة.
[قال: (وقيل: لا إن لم يعلم ويحكم قاض به)].
وَلَا يُستَوفَى قِصَاصٌ إلَاّ بِإذنِ الِإمَامِ،
ــ
قال: (ولا يستوفى قصاص إلا بإذن الإمام)؛ لاحتياجه إلى نظر واجتهاد، ولأن أمر الدم عظيم سواء حكم للمستحق بالقصاص أم لا.
وقال أبو إسحق المروزس ومنصور التميمي: إن المستحق يستقل بالاستيفاء كالأخذ بالشفعة وسائر الحقوق.
والصحيح المنصوص: الأول، وسواء فيه قصاص النفس والطرف، وتستثنى من ذلك صور:
أحدهما: السيد يستوفي من عبده على الأصح.
الثانية: إذا كان المستحق مضطرًا .. قتله قصاصًا وأكله، كما قاله الرافعي في بابه.
الثالثة: إذا انفرد بحيث لا يرى .. قال الشيخ عز الدين: ينبغي أن لا يمنع منه، لا سيما إذا عجز عن الإثبات، أو كان في موضع لا إمام فيه.
وقد جزم الماوردي بأن من وجب له على شخص تعزير أو حد قذف وكان في بادية بعيدًا عن السلطان .. له اسيفاؤه إذا قدر عليه بنفسه.
الرابعة: القاتل في المحاربة لكل من الإمام والولي الانفراد بقتله.
والمراد ب (الإمام): السلطان أو نائبه، وكذلك القاضي كما صرح به الماوردي،
فَإِنَ استَقَلَّ .. عُزِّرَ، وَيَأذَنُ لِأهلٍ
ــ
وهو مقتضى كلام الرافعي في (باب أدب القضاء)؛ فإنه ذكر أن القاضي يستفيد بولايته إقامة الحدود.
فروع:
يستحب للإمام أن يحضر الاقتصاص عدلين متيقظين؛ ليشهدا إن أنكر المقتص، ولا يحتاج إلى القضاء بعلمه إن كان الترافع إليه.
ويستحب أن يستوفي بحضرة الناس؛ لينتشر الخبر فيحصل به الزجر، وأن يأمر المقتص منه بما تعين عليه من صلاة يومه، وأن يأمره بالوصية فيما له وعليه من حق، وأن يأمره بالتوبة من ذنوبه، وأن يساق إلى موضع القصاص برفق، وأن يستر عورته.
ولا يجوز أن يذبح كما تذبح البهيمة إلا إذا فعل بقتيله كذلك، وعلى الإمام أن يتفقد الآلة ويقتص بصارم لا كال، فإن كان الجاني قتل بكال .. اقتص منه بمثله على الأصح.
ويضبط الجاني في قصاص الطرف؛ لئلا يضطرب فيؤدي إلى اسيفاء زيادة، وينبغي أن يسرع الضارب بالضرب بقوة؛ ليحصل المقصود بضربة واحدة؛ لما روى مسلم [1955] عن شداد بن أوي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قتلتم .. فأحسنوا القتلة).
قال: (فإن استقل) أي: باستيفائه) .. عزر)؛ لافتئاته على الإمام، ومع ذلك لا غرم عليه ويقع عن القصاص.
ولو استقل المقذوف باستيفاء حد القذف بإذن القاذف أو بغير إذنه .. ففي الاعتداد به وجهان: أصحهما: أنه لا يعتد به؛ لأنه لا يتعلق بموضع معين ولا يهتدي إليه كل أحد.
وعلى هذا يرك حتى يبرأ ثم يحد، فإن مات .. وجب القصاص إن كان جلده بغير إذنه، وإن كان بإذنه .. فلا قصاص، والتعزير كحد القذف.
قال: (وبإذن لأهل) وهو: الرجل القوي النفس واليد العارف بالمفصل.
فِي نَفسٍ، لَا طَرَفٍ فِي الأَصَحِّ،
ــ
قال: (في نفس)؛ يعني: إذا طلب ذلك من الإمام ونحوه؛ لقوله تعالى: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} ، ولأن التشفي يكمل بذلك.
فإن لم يكن أهلًا كالشيخ والزمن .. لم يجبه؛ لما فيه من التعذيب ويأمره بالاستنابة.
وخرج بقوله: (نفس) حد القذف؛ فلا يجوز للإمام أن يأذن فيه؛ لأن نفاوت الضربات عظيم وهو حريص على المبالغة فيه.
قال: (لا طرف في الأصح)؛ لأنه لا يؤمن منه الحيف، وهذا هو المنصوص في (الأم).
والثاني: يفوضه إليه؛ لعموم الآية.
وادعى القاضي حسين: أنه المنصوص، فإن صح .. كانت المسألة على قةلين.
وظاهر إطلاق المصنف: أنه لا فرق في ذلك بين المجني عليه وبين وارثه إذا مات قبل الاستيفاء، وهو كذلك؛ لأن الحيف متوقع من الوارث أيضًا، وكلام (الشرح) و (الروضة) مقيد بالصورة الأولى.
ويستثنى من الاسيفاء بنفسه صورة أخرى، وهي: ما إذا قتل ذميًا ثم أسلم القاتل .. فالقصاص باق، وإنما يستوفيه الإمام بطلب الوارث ولا يفوضه إليه وإن كان أهلًا؛ لما فيه من تسليط الكافر على المسلم، وقد تقدم من المصنف التبيه عليه في (فصل تخلل المهدر).
تنبيه:
سكت المصنف عن المنافع، وحكمها حكم الطرف، فإذا قلع عينه .. لم يمكن من الاستيفاء بالقلع، بل يؤمر بالتوكيل فيه كما ذكره في (التنبيه) ، وأقره عليه المصنف، لكن محله إذا قلعت عيناه، فإن وجب القصاص في واحدة وكان يبصر بالأخرى بحث لا يحصل منه حيف إذا قلع .. فإنه يمكن من الاستيفاء، كذا نقله ابن الرفعة عن تصريح الماوردي والقاضي أبي الطيب وابن الصباغ.
فَإِن أَذِنَ فِي ضَربِ رَقَبةٍ فَأَصَابَ غَيرَهَا عَمدًا .. عُزِّرَ وَلَم يَعزِلهُ، وَإن قَالَ: أخطَأتُ وَأمكَنَ .. عَزلُهُ ولَم يُعَزَّر. وَأُجرَةُ الجَلَاّدِ عَلَى الجَانِي عَلَى الصَّحِيحِ،
ــ
قال: (فإن أذن في ضرب رقبة فأصاب غيرها عمدًا .. عزر)؛ لتعديه ومخالفته.
قال: (ولم يعزله)؛ لأنه أهل له وإن تعدى بما فعل.
وفي وجه أو قول ضعيف: يعزله.
قال: (وإن قال: أخطأت وامكن .. عزله ولم يعزر) إذا ادعى الخطأ فيما يمكن أن يقع في مثله الخطأ، كما إن ضربه على الكتف أو الرأس مما يلي الرقبة فيحلف، ولا يعزر إذا حلف، لكن يعزل؛ لأن الحال يشعر بعجزه وخرقه.
وفي وجه أو قول: أنه يعزر بالخطأ ولا يعزل.
قال الإمام: وهذا الوجه ينبغي أن يكون مخصوصًا بما إذا لم يتكرر الخطأ ولم يظهر خرقه، فإن ظهر .. فليمنع بلا خلاف.
قال: وعزله على الصحيح ينبغي أن يكون مخصوصًا بما إذا لم تعرف مهارته في ضرب الرقاب، فأما الماهر .. فينبغي أن لا يعزل بخطأ اتفق بلا خلاف.
واحترز بقوله: (وأمكن) عما إذا ادعى الخطأ فيما لا يقع الخطأ بمثله، كما إذا ضربه على رجليه أو وسطه؛ فإنه يعزر.
فرع:
يمنع من استيفاء القصاص بالسيف المسموم على الأصح، وأما قصاص الطرف .. فيمتنع بالمسموم بلا خلاف، فلو اقتص به فمات .. فلا قصاص على الأصح؛ لأنه قتل بمستحق وغيره، ويجب نصف الدية، ولأشبه: أنها عليه، وقيل: على عاقلته.
فلو كان السم موحيًا .. وجب عليه القصاص قطعًا؛ لأنه مات به دون الجراحة.
قال: (وأجرة الجلاد على الجاني على الصحيح)؛ لأنها مؤنة حق لزمه أداؤه، فكان كأجرة الكيال على البائع وأجرة وزان الثمن على المشتري.
وَيَقتَصُّ عَلَى الفَورِ، وَفِي الحَرَمِ وَالحَرِّ وَالبَردِ وَالمَرَضِ،
ــ
والثاني – وبه قال أبو حنيفة، ويروى عن مالك-: أنها على المستوفي، كما أن أجرة نقل الطعام المشترى على المشتري، والصحيح المنصوص: الأول.
وفي أجرة الجلاد في الحدود والقاطع في السرقة وجهان:
أصحهما: على المجلود والسارق؛ لأنها تتمة الحد الواجب عليه.
والثاني: في بيت المال.
وأجرة الجلاد في القذف كأجرة الاقتصاص.
كل هذا إذا لم يكن منصوب مرزق من بيت المال يعطى رزقه، فإن كان .. فلا أجرة له؛ لأنه عمل واجب عليه، إذ الإمام مأمور أن ينصب من يقيم الحدود، ويستوفي القصاص بإذن المستحقين له، ويرزقه من خمس خمس الفئ والغنيمة المرصد للمصالح، فإن لك يكن عنده شيء أو كان واحتاج إليه لأهم منه .. فأجرة الاقتصاص على المقتص منه.
ولو الجاني قال: أنا أقتص من نفسي ولا أؤدي الأجرة .. فوجهان:
أصحهما: لا يقبل منه؛ لفقد التشفي.
والثاني: يقبل؛ كما لو قطع السارق يد نفسه.
والفرق: أن الغرض التنكيل وقد حصل؛ بخلاف القصاص، كذا قاله الرافعي.
والصحيح أن السارق لا يمكن من قطع يد نفسه.
قال: (ويقتص على الفور)؛ لأن القصاص موجب الإتلاف فيتعجل كقيم المتلفات.
والمراد: أن له ذلك إن شاء وله التأخير، وشمل كلامه النفس والطرف، وهو في النفس بلا خلاف، وفي الطرف على المذهب المنصوص كما قاله في (الروضة) قبل (باب اختلاف الجاني ومستحق الدم) ، لكن يستثنى من إطلاقه الحامل كما سيأتي.
قال: (وفي الحرم والحر والبرد والمرض) ، سواء كان الواجب قصاص النفس أو الطرف؛ لأنه قتل لو وقع في الحرم .. لم يوجب ضمانًا فلا يمنع منه، كقتل الحية
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
والعقرب، وسواء الملتجئ إلى الحرم فرًارا من القتل وغيره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة يوم الفتح .. قيل له: إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة؟ قال: (اقتلوه).
ولأن القصاص على الفور فلا يؤخر، وبهذا قال مالك.
وعن أبي حنيفة: لا يستوفى قصاص النفي في الحرم إلا أن ينشأ القتل فيه، ولكن يضيق عليه، فلا يكلم ولا يعامل حتى يخرج فيقتل، وسلم أنه يستوفى قصاص الطرف مطلقًا في الحرم.
وعن أحمد: لا يستوفى من الملتجئ واحد من القصاصين.
واحتج الأصحاب على أبي حنيفة بما سلمه في الطرف، وبقوله صلى الله عليه وسلم:(إن الحرم لا يعيذ فارًا بدم) وهو حديث متفق عليه.
ولو لاذ بالمسجد الحرام أو غيره من المساجد .. لم يقتل فيه على الأصح، بل يخرج ويقتل؛ لأنه تأخير يسير.
والثاني: تبسط الأنطاع ويقتل في المسجد؛ تعجيلًا لتوفية الحق.
ولو التجأ إلى الكعبة أو بيت إنسان .. أخرج قطعًا، كذا في (الروضة) ، واعترضته في (المهمات) بحكاية المتولي فيه الخلاف.
قال: والتأخير بالمرض في حدود الله تعالى محله إذا كان المرض غير مخوف، فإن لم يرج زواله .. لم يؤخر كما صرح به الرافعيفي (باب حد الزنا) ، وكلامه هنا لا يأباه.
وَتُحبَسُ الحَامِلُ فِي قِصَاصِ النَّفسِ أَوِ الطَّرفِ حَتَّى تُرضِعَهُ اللِّبَأَ وَيَستَغنِيَ بِغَيرِهَا، أَو فِطَامٍ لِحَولَينِ، ....
ــ
قال: (وتحبس الحامل في قصاص أو الطرف حتى ترضعه اللبأ ويستغني بغيرها، أو فطام لحولين).
قال القاضي أبو الطيب: أجمعوا على أن الحامل لا يقام عليها قصاص النفس ولا قصاص الطرف ولا حد القذف ولا حدود الله تعالى قبل الوضع؛ لما في إقامها من هلاك الجنين أو الخوف عليه، وهو بريء لا يهلك بجريمة غيره.
ولا فرق بين أن يكون الولد من حلال أو حرام، ولا بين أن يحدث لعد وجوب العقوبة أو قبله، حتى إن المرتدة إذا حبلت من الزنا لعد الردة .. لا تقتل حتى تضع، وإذا وضعت .. لا تستوفي العقوبة أيضًا حتى ترضع الولد اللبأ.
واسدل لعدم قتل الحامل بقوله تعالى: {فَلا يُسْرِف فِّي القَتْلِ} ، وفي قتل الحامل إسراف؛ لأنه قتل نفسين بنفس.
وفي (صحيح مسلم)[1695]: (تأخير الغامدية الحامل من الزنا).
وأما في الطرف .. فلأن فيه إجهاض الجنين وهو متلف له.
وروى البيهقي: (أن عمر أمر برجم حامل من الزنا، فقال له علي: لا سبيل لك على ما في بطنها، فقال عمر: لولا علي لهلك عمر).
وقيل: القائل ذلك لعمر معاذ بن جبل.
فتحبس الحامل في القصاص إلى أن يمكن الاستيفاء كما قدم فيما إذا كان في المستحقين صبي.
ولو كان عليها رجم أو غيره من حدود الله تعالى .. لم تحبس على الصحيح؛ لأنه مبني على التخفيف.
وقيل: تحبس كالقصاص.
وَالصَّحِيحُ: تَصدِيقُهَا فِي حَملِهَا بِغَيرِ مَخِيلَةٍ
ــ
قال الإمام: وإطلاق هذا الوجه بعيد، والأقرب: أنه مخصوص بما إذا ثبت بالبينة، فإن ثبت بالإقرار .. فلا معنى للحبس مع أنه يعرض السقوط بالرجوع عن الإقرار.
وأما التأخير لإرضاع الولد اللبأ .. فإن الولد لا يعيش إلا به غالبًا، وقد تقدم ما فيه.
قال ابن الرفعة: ولا بد بعد الولادة من انقضاء النفاس أيضًا.
ثم إن كان هناك غيرها يرضع .. فلا كلام، وإن لم يكن إلا هي .. فعن ابن خيران: أنها تقتل ولا يبالى بالطفل، كما لو كان للقاتل عيال يضيعون ظاهرًا بموته.
والصحيح: أنها تؤخر إلى أن يوجد من يرضعه أو ما يعيش به ولو بهيمة، لكن الأولى للولي أن يؤخر الاستيفاء؛ لأن الولد يتضرر باختلاف اللبن عليه وبسرب لبن البهائم، ويخالف الرجم؛ فإنه يؤخر إلى أن يوجد من يكفل ولدها؛ لأن الرجم محض حق الله تعالى وليس في تأخيره ضرر، وهنا بخلاف ذلك.
فإن بادر المستحق في هذه الحالة وقتلها فما الطفل .. فالصحيح المنصوص: أنه قاتل له عمدًا يلزمه القود، كما إذا حبس رجلًا ومنعه الطعام والشراب والطلب حتى مات.
وقيل: لا يضمنه، كما لو غصب طعامه في البادية حتى مات.
وإذا قتل المستحق الحامل .. فغرة الجنين على عاقلته؛ إذ لا نتيقن حياته، فهو شبه عمد، ولا عهدة على الجلاد عند جهله بكل اعتبار.
قال: (والصحيح تصديقها في حملها بغير مخيلة)؛ لقوله تعالى: {ولا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} أي: من حمل أو حيض، ومن حرم عليه كتمان شيء .. وجب قبول قوله إذا أظهره كالشهادة.
والثاني: لا تصدق؛ لأن الأصل عدم الحمل، إلا أن تقيم بينة، وللولي قتلها قبل إقامتها، وبهذا قال الإصطخري.
وَمَن قَتَلَ بِمُحَدَّدٍ أَو خَنِقٍ أَو تَجوِيعٍ وَنَحوِهِ .. اقتُصَّ بِهِ،
ــ
قال الإمام: ولا أدري أيقول هؤلاء بالصبر إلى انقضاء مدة الحمل أم إلى ظهور المخايل؟
والأظهر: الثاني، فإن التأخير إلى أربع سنين من غير دليل بعيد.
وأراد المصنف ب (المخيلة): شهادة النسوة أو إقرقر المستحق كما صرح به الرافعي، والمراد: تصديقها في الحمل مع اليمين كما صرح به الماوردي وغيره.
فائدة:
على المرأة الإخبار بالحمل، فإن سكتت عنه فمات .. وجب الضمان على عاقلتها، وينبغي أن يمنع وزجها من الوطء؛ لئلا يقع حمل يمنع استيفاء ولي الدم، ولم أره منقولًا.
قال الرافعي: وليس المراد مما أطلقه الأصحاب من العلم بالحمل وعدم الحمل: حقيقة العلم، وإنما المراد: الظن المؤكد بظهور مخايله.
وأحسن من هذه العبارة عبارة الشيخ أبي حامد؛ فإنه عبر بالحكم فقال: هذا إذا حكم بأنها حامل.
قال: (ومن قتل بمحدد أو خنق) وحرق وتغريق (أو تجويع ونحوه .. اقتص به) أي: بمثله؛ فإن المماثلة معتبرة في الاستيفاء، قال تعالى:{وإنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ} ، {وجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} .
وفي (الصحيحين): (أن النبي صلى الله عليه وسلم رض رأس اليهودي بحجرين، كما فعل بالجارية).
رورى البيهقي [8/ 43]: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حرق .. حرقناه، ومن غرق .. غرقناه).
ولأن المقصود من القصاص التشفي، وإنما يحصل إذا قتل القاتل بمثل ما قل، وبمثل قولنا قال مالك.
وخالف أبو حنيفة فيه وقال: يتعين القتل بالسيف.
أَو بِسِحرٍ .. فَبِسَيفٍ،
ــ
ثم كما ترعى المماثلة في طريق القتل ترعى في الكيفية والمقدار؛ ففي التجويع: يحبس مثل تلك المدة ويمنع الطعام.
وفي الإلقاء في الماء والنار: يلقى في ماء ونار مثلهما ويترك تلك المدة.
وفي الإلقاء من شاهق: يلقى من مثله مع مراعاة صلابة الموضع.
وفي الضرب بالمثقل: يراعى الحجم وعدد الضربات.
وإذا تعذر الوقوف على قدر الحجم أو قدر النار أو عدد الضربات .. فالأصح عند المصنف: أنه يؤخ1 باليقين، وعن القفال: يقتل بالسيف، واعترضه في (المهمات).
وقوله: (اقتص به) لا يقتضى تعيينه، بل المراد: أن له ذلك؛ لأنه لو أراد العدول إلى السيف .. جاز جزمًا؛ فإنه أسهل، وقد صرح به المصنف بعد هذا.
وقوله: (خنق) الأفصح فيه فتح الخاء وكسر النون ككذب مصدر خنقه يخنقه يضم النون خنقًا، كذا قيده الجوهري، وجوز خاله الفارابي إسكان النون، وتبعه المصنف في (تحريره).
قال: (أو بسحر .. فسيف) ، هذه الصورة والصورتان بعدها مستثنيات من القاعدة المتقدمة، فهذه لا خلاف فيها، لأن عمل السحر حرام ولا ينضبط وتختلف تأثيراته.
وقد روى الترمذي [1460] وصحح الحاكم [4/ 360] عن جندب بن كعب العبدي – ويقال: الأزدي، وقيل: جندب بن زهير -: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مسير إذ هوَّم فجعل يقول: (زيد ما زيد؟ جندب ما جندب؟) يكرر ذلك، فسئل عنه، فقال:(رجلان من أمتي؛ أما أحدهما .. فتسبقه يده إلى الجنة ثم يتبعها سائر جسده، وأما الآخر .. فيضرب ضربة يفرق بها بين الحق والباطل).
وكذا خَمرٌ وَلِوَاطٌ فِي الأَصَحِّ،
ــ
فأصيبت يد زيد بن صوحان يوم جلولاء، ثم قتل يوم الجمل مع علي رضي الله عنهما.
وأما جندب بن كعب .. فإنه رأى ساحرًا يقال له: أبو بستان بالكوفة كان يلعب بين يدي الوليد بن عقبة، ويريهم: أنه يدخل من دير الحمار ويخرج من فيه، ويدخل من فيه ويخرج من دبره، وأنه يقطع رأس نفسه ثم يعيدها، فلما رآه جندب على تلك الحالة .. ضربه بسيفه فقتله، فحبس الوليد جندبًا، فبلغ عثمان، فكتب إليه: أن خل سبيله وسبيل أصحلبه.
و (السحر) في اللغة: صرف الشيء عن وجهه، يقال: ما سحرك عن كذا، أي: ما صرفك عنه.
قال: (وكذا خمر ولواط في الأصح)؛ لأن المماثلة ممتنعة للفاحشة، وأمر بإحسان القتلة.
والثاني: لأنه في الأولى: يوجر مائعًا كخل أو ماء أو شيء مر، وقيل: يسقى البوب، وفي الثانية: يعمل له مثل الذكر من الخشب، فيقتل به؛ لقرله من فعله، وتكون الخشبة قريبة من آلته كما صرح به الرافعي.
وظاهر كلام الجمهور: أنه لا يتقدر بذلك، بل تعمل خشبة يقتل مثلها القاتل.
قال الإمام: هذا إذا توقع موته بالخشبة، وإلا .. فالسيف.
واقتصاره على استثناء هذه الصورة أورد عليه: ما لو سقاه بولًا؛ فإنه كالخمر على الأصح، وما لو أوجره ماءً نجسًا؛ فإنه يوجر الماء الطاهر.
وبقيت صور مفزعة على الأصل:
منها: إذا شهدوا بالزنا فرجم ثم رجعوا .. فعليهم القصاص، والأصح: بالسيف، وقيل: بالرجم.
وَلَو جُوِّعَ كَتَجوِيعِهِ فَلَم يَمُت زِيدَ، وَفِي قَولٍ: السَّيفُ، وَمَن عَدَلَ إلَى سَيفٍ .. فَلَهُ
ــ
ومنها: لو قتله بسيف مسموم .. ففي قتله بمثله وجهان: الأصح: نعم كما تقدم.
ومنها: الذبح كالبهائم إذا كان الجاني قد فعل ذلك، وفيه وجهان كما تقدم، وقال في (المطلب): يتعين السيف، وهو كذلك في (الحاوي).
ومنها: لو أنهشه حية .. هل يقتاد بمثلها؟ وجهان.
وإن قتله بالغرق في ماء مالح .. جاز تغريقه في وفي العذب؛ لأنه أسهل، ولو غرقه في العذب .. لم يجز في الملح؛ لأنه أشق.
قال: (ولو جوع كتجويعه فلم يمت .. زيد)؛ ليكون الجزاء من جنس العمل، ولا بالى بزيادة الإيلام، كما لو ضرب رقبة إنسان ضربة واحدة ولم تزل رقبته إلا بضربتين .. فإنه يضرب ضربتين.
قال: (وفي قول: السيف)؛ لأن المماثلة قد حصلت، ولم يبق إلا تفويت الروح فيجب تفويتها بالأسهل، ولم يرجح الرافعي شيئًا من القولين في (شرحيه) ، إنما مسب ترجيح الأول للبغوي، والبغوي أرسل الخلاف، وصحح المصنف في (تصحيحه) ما صححه هنا، وعبارة (المحرر) رجح الأول بصيغة البناء للمفعول، والصواب: العدول إلى السيف؛ فإنه منصوص (الأم) و (البويطي).
وقال القاضي حسين: لم يختلف مذهب الشافعي فيه، وجرى عليه الجمهور؛ لظاهر قوله:(فأحسنوا القتلة).
قال: (ومن عدل إلى السيف .. فله) ، وسواء رضي الجاني أم لا؛ لأنه أسهل، قال البغوي: وهو أولى، وأشار لإمام إلى وجه: أنه لا يعدل إلى السيف عن الخنق، ثم إن المماثلة مرعية في قصاص الطرف كما هي مرعية في قصاص النفس إذا أمكن رعايتها.
فلو أبان طرفًا من أطرافه بمثقل أو رضخ رأسه بحجر .. لم يستوف القصاص إلا بالسيف، ولو أوضح رأسه بالسيف .. لم يوضح إلا بحديدة خفيفة.
وَلَو قَطَعَ فَسَرَى .. فَلِلوَلِيِّ حَزُّ رَقَبَتِهِ، وَلَهُ القَطعُ ثُمَّ الحَزُّ، وَإن شَاءَ .. انتُظِرَ السِّرَايَةَ. وَلَو مَاتَ بِجَائِفَةٍ أَو كَسرِ عَضُدٍ .. فَالحَزُّ. وَفِي قَولٍ: كَفِعلِهِ، فَإن لَم يَمُت .. لَم تُزَدِ الجَوَائِفُ فِي الأَظهَرِ
ــ
قال: (ولو قطع فسرى .. فللولي حز رقبته)؛ لأنه أسهل على الجاني من القطع ثم الحز، وأشار المصنف إلى أن هذا الحكم محله فيما إذا كانت الجراحة السراية مما يشرع فيه القصاص كقطع الكف والموضحة.
قال: (وله القطع ثم الحز)؛ طلبًا للمماثلة.
وعند أبي حنيفة: يقتصر على الحز الرقبة.
قال: (وإن شاء .. انتظر السراية) أي: بعد القطع، وليس للجاني أن يقول: أمهلوني مدة بقاء المجني عليه بعد جنايتي؛ لثبوت حق القصاص ناجزًا، ولا أن يقول: أريحوني بالقتل أو العفو، بل الخيرة للمستحق.
قال: (ولو مات بجائفة أو كسر عضد .. فالحز)؛ لأن المماثلة لا تتحقق في هذه الحالة؛ بدلسل عدم إيجاب القصاص في ذلك عند الاندمال، فيتعين للمماثلة في فعله.
قال الرافعي: وهذا عليه الأكثرون، ولم ينقل تصحيح الأول إلا البغوي، ووقع في (المحرر) نسبة الأول إلى الأكثرين، فتبعه المصنف، وكأنه سبق فلم، وصحح في (تصحيح البيه) الثاني.
وقال في (أصل الروضة): إنه الأظهر عند الأكثرين.
قال: (فإن لم يمت .. لم تزد الجوائف في الأظهر)؛ لاختلاف تأثيرها باختلاف محالها، فهي كقطع الأطراف المختلفة.
والثاني: نعم؛ ليكون إزهاق الروح قصاصًا بطريق إزهاقه عدوانًا، وهو مخرج من التجويع والإلقاء في النار ونحوهما، والمصنف تبع (المحرر) في كونهما قولين، وهما في (الشرح) و (الروضة) وجهان.
وَلَوِ اقتَصَّ مَقطُوعٌ ثُمَّ مَاتَ سِرَايَةً .. فَلِوَليِّهِ حَزٌ وَلَهُ عَفوٌ بِنِصفِ دِيَةٍ، وَلَو قُطِعَت يَدَاهُ فَاقتَصَّ ثٌمَّ مَاتَ .. فَلِوَلِيِّهِ الحَزُّ، فَإِن عَفَا .. فَلا شَيءَ. وَلَو مَاتَ جَانٍ مِن قَطعِ قِصَاصٍ .. فَهَدَرٌ، ......
ــ
قال: (ولو اقتص مقطوع) أي: من قاطعه (ثم مات سراية .. فلوليه حز، وله عفو بنصف دية) ، فالحز في مقابلة نفس موروثه، والعفو بنصف الدية واليد المستوفاة مقابلة بالنصف، وهذا عند استواء الديتين.
فإن قطعت امرأة يد رجل فاقتص منها الرجل فعفا وليه على مال .. فوجهان:
أحدهما: له نصف الدية، وهو ظاهر إطلاق الكتاب و (الروضة) هنا.
وأصحهما: ثلاثة أرباعها؛ لأنه استحق دية رجل سقط منها ما استوفاه، وهو يد امرأة بربع دية رجل، كذا صححه في (الروضة) و (الشرح) في آخر (باب العفو عن القصاص) ، وهو تقييد لما أطلقاه هنا.
ومثله لو قطع ذمي يد مسلم فاقتص منه ثم مات المسلم .. فعلى الأصح: يستحق خمسة أسداس دية مسلم، وعلى الثاني: نصفها.
فإن مات الجاني حتف أنفه أو قتل ظلمًا أو في قصاص .. وجب أخذ نصف الدية من تركته.
قال: (ولو قطعت يداه فاقتص ثم مات) أي: المجني عليه بالسراية) .. فلوليه الحز، فإن عفا .. فلا شيء)؛ لأنه استوفى ما يقابل الدية وهو الدان.
قال الرافعي: وهذه صورة يجب فيها القصاص ولا تستحق الدية بالعفو عليها، ومثلها: إذا عفا عن الدية وفرعنا على أن موجب العمد أحد الأمرين فإنه يجوز أن يقتص، وإذا أراد أن يعفو عنه إلى الدية .. لم يكن له ذلك على الأصح.
قال: (ولو مات حان من قطع قصاص .. فهدر)؛ لقوله تعاالى: {ولَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ} .
وبهذا قال مالك وأحمد؛ لأن القطع قصاصًا قطع بحق فلا تكون سرايته مضمونة كقطع السرقة.
وَإِن مَاتَا ِسِرَايَةً مَعًا أو سَبَقَ المَجنِيُّ عَلَيهِ .. فَقَدِ اقتَصَّ، وَإِن تَأخَرَ .. فَلَهُ نِصفُ الدِّيَةِ فِي الأَصَحِّ
ــ
وروى البيهقي [8/ 68] عن عمر رضي الله عنهما أنهما قالا: (من مات من حد أو قصاص .. فلا دية له والحق قتله).
وقال أبو حنيفة: يلزمه كمال الدية.
وعن ابن سيرين: نصفها، قال في (البحر): وهو أقيس من قول أبي حنيفة.
قال: (وإن ماتا سراية معًا أو سبق المجني عليه .. فقد اقتص) أي: حصل قصاص اليد باليد والسراية بالسراية، ولا شيء على الجاني.
وقيل في الثانية: لولي المجني عليه مضمونة، قال الرافعي: هذا هو المشهور، وحكاه ابن كج عن عامة الأصحاب، وحكي الأول عن أبي علي الطبري.
ومثل هذه الصورة: ما إذا اقتص في الطرف فعاد الجاني فقتل المجني عليه، ثم سرى قطع القصاص إلى نفس الجاني.
قال: (وإن تأخر) أي: موت لمجني عليه عن موت الجاني بالسراية) .. فله) أي: فلولي المجني عليه (نصف الدية في الأصح) ، وتكون في تركة الجاني، لأن القصاص لا يسبق الجناية، فإن ذلك يكون في معنى السلم في القصاص، وهو لا يتصور.
والثاني: لا شيء له ويحصل القصاص بما جرى؛ لأن الجاني مات بسراية فعل المجني عليه فحصلت المقابلة، وادعى الروياني: أن هذا هو الصحيح.
وهذا الخلاف محله في قطع يد مثلًا، فإن كانت الصورة في قطع يدين .. فلا شيء جزمًا، وإن كانت في موضحة .. فتسعة أعشار دية ونصف عشرها؛ فإنه أخذ بقصاص الكوضحة نصف العشر.
وَلَو قَالَ مُستَحِقُّ يَميِنٍ: أَخرِجهَا، فَأخرَجَ يَسَارًا وَقَصَدَ إِبَاحَتِهَا .. فَمُهدَرَةٌ، ....
ــ
قال: (ولو قال مستحق يمين: أخرجها، فأخرج يسارًا وقصد إباحتها .. فمهدرة) لا قصاص فيها ولا دية. قال الرافعي: هذه مسألة كثيرة الشعب وحق مثلها التثبت وإحضار الذهن، ويقدم عليها: أن اليمين لا تقطع باليسار ولا بالعكس كما تقدم، فإذا وجب القصاص في اليمين واتفقا على قطع اليسار بدلًا عن اليمين .. لم يكن بدلًا، كما لو قتل غير القاتل برضاه بدلًا لا يقع بدلًا، ولكن لا قصاص في اليسار؛ لشبهة البدل، وتجب ديتها، ومن علم منهما فساد هذه المصالحة .. أتم بقطع اليسار، وهل يسقط قصاص اليمين بما جرى؟ وجهان: أصحهما نعم.
ولو قال مستحق قصاص اليمين للجاني: أخرج يمينك، فأخرج يساره فقطعها المستحق .. فللمخرج أحوال: أحدها: أن يعلم أن اليسار لا تجزئ عن اليمين، وأنه يقصد بإخراجها الإباحة للمقتص، فلا قصاص في اليسار ولا دية، نص عليه الشافعي رضي الله عنه، واتفق عليه الأصحاب؛ لأن صاحبها بذلها مجانًا وإن لم يتلفظ بإباحة، كما لو قال: ناولني متاعك لألقيه في البحر، فناوله .. كان كما لو نطق بالإذن، فلا يجب ضمانه إذا ألقاه في البحر.
وحكى ابن القطان وجهًا: أنه يجب ضمان اليسار إذا لم يتلفظ المخرج بالإذن في القطع، وحمل نص الشافعي على ما إذا أذن لفظًا.
والصحيح: الأول، وبه قطع الأصحاب ، وسواء علم القاطع أنها اليسار وأنها لا تجزئ أم لا، لكن على الأصح: يعزر العالم.
وأما قصاص اليمين .. فيبقى كما كان، لكن إذا سرى قطع اليسار إلى النفس .. فات القصاص، فيعدل إلى دية اليد.
فلو قال القاطع: قطعت اليسار على ظن أنها تجزئ عن اليمين .. فوجهان: أصحهما: يسقط؛ لأنه رضي بسقوطه اكتفاء باليسار.
فعلى هذا: يعدل إلى دية اليمين؛ لأن اليسار وقعت هدرًا.
وَلَو قَالَ: جَعَلتُهَا عَنِ اليَمِينِ وَظَنَنتُ إِجزَاءَهَا فَكَذَّبَهُ: فَالأَصَحُّ: لَا قِصَاصَ فِي اليَسَارِ، وَتَجِبُ دِيَّةٌ، وَيَبقَى قِصَاصُ اليَمِينِ،
ــ
فإن قيل: يرد على قوله: (فمهدرة) ما إذا كان المقطوع عبدًا فلا إهدار .. فالجواب: أن كلامه في الحر؛ بدليل قوله بعد: (وتجب الدية).
قال: (ولو قال: جعلتها عن اليمين وظننت إجزاءها فكذبه .. فالأصح: لا قصاص في اليسار) ، هذه الحالة الثانية، والأصح فيها: لا قصاص؛ لأنا أقمنا ذلك مقام إذنه في القطع، وهو كما لو قال لغيره: اقطع يدي فقطعها .. لا قصاص عليه.
والثاني: يجب؛ لعلمه بأنه قطع ما لا يستحقه.
وقد وهم المصنف في قوله: (فكذبه)؛ فإن هذا ليس في (المحرر) ولا في (الروضة) ، وليس هذا موضع تنازعهما، والذي في (المحرر): ولو قال: قصدت إيقاعها عن اليمين وظننتها تجزئ عنها، وقال القاطع: عرفت أن المخرج اليسار وأنها لا تجزئ .. فلا قصاص في الأصح.
أي: عرفت أنا ذلك، بضم تاء المتكلم، فظن المصنف: أنها تاء الخطاب المفتوحة فعبر عنها بالتكذيب، وهو فاسد لأمرين:
أحدهما: أن هذا ليس موضع تنازعهما، والذي في (الروضة) وغيرها في هذا القسم كله: ظن القاطع أو علمه، وعبر فيها بالصحيح لا بالأصح كما هنا.
والثاني: أنه يقتضي: أنه إذا صدقه .. يجب قطعًا، والذي في (الشرح) و (الروضة) في هذه الحالة: أنه لا قصاص أيضًا على الأصح.
قال: (ويبقى قصاص اليمين) أي: على الوجهين؛ لأنه لم يستوفه ولا عفا عنه، لكنه يؤخر حتى تندمل يساره؛ لما في الموالاة من الإتلاف.
هذا إذا لم يسر القطع إلى الإتلاف، فإن سرى .. وجب عليه دية النفس، وتدخل فيها دية اليسار، وينتقل حقه من القصاص في النفس إلى نصف الدية، فيتاقاصان في
وَكَذَا لَو قَالَ: دُهِشتُ فَظَنَنتُهَا اليَمِينَ، وَقَالَ القَاطِعُ: ظَنَنتُهَا اليَمِينَ
ــ
النصف ويغرم له النصف الآخر.
قال: (وكذا لو قال: دهشت فظننتها اليمين، وقال القاطع: ظننتها اليمين) ، هذه الحالة الثالثة، والحكم فيها كالتي قبلها: لا قصاص في اليسار على الأصح؛ لأن هذا الاشتباه قريب، ويبقى قصاص اليمين.
وإذا قال القاطع: علمت أنها اليسار، فإن قال مع ذلك: وعلمت أنها لا تجزئ .. فيلزمه القصاص في الأصح ويبقى قصاص اليمين.
وإن قال القاطع: دهشت فلم أدر ما صنعت .. قال الإمام: لم يقبل منه ويلزمه القصاص في اليسار؛ لأن الدهشة السالبة للاختيار لا تليق بحال القاطع.
ولو قال المخرج: قصدت بالإخراج إيقاعها عن اليمين، وقال القاطع: أخرجتها بقصد الإباحة .. فالمصدق المخرج؛ فإنه أعرف بقصده.
تتمة:
جميع ما قرر في القصاص فإن جرى في السرقة، فقال الجلاد للسارق: أخرج يمينك، فأخرج يساره فقطعها .. فالمذهب المنصوص: أنه يكتفي بما جرى للحد ويسقط قطع اليمين.
والفرق: أن المقصود بالحد التنكيل وتعطيل الآلة الباطشة وقد حصل، والقصاص مبني على المماثلة.
وعن الحارث بن سريج النقال حكاية قول قديم: إن الحكم كما تقدم في القصاص.
وحيث أوجبنا دية اليسار في الصور السابقة .. فهي في ماله؛ لأنه قطع متعمدًا، وعن نصه في (الأم): أنها تجب على العاقلة.
فَصلٌ:
مُوجَبُ العَمدِ القَوَدُ،
ــ
وحيث قلنا: يبقى القصاص في اليمين .. لا يستوفى حتى يندمل قطع اليسار؛ لما في توالي القطع من خطر الهلاك، نص عليه.
ولو قطع طرفي رجل معًا .. فيهما معًا ولا يلزمه التفريق، نص عليه، فقيل: فيهما قولان، والمذهب: تقريرهما.
والفرق: أن خطر الموالاة في الصورة الأزلى يحصل من قطع مستحق وغير مستحق.
قال: (فصل) عقده لبيان حكم العفو: وهو التجاوز عن الذنب وترك العقاب عليه، وهو مستحب؛ لقوله تعالى:{وأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} ، وقوله:{فَمَنْ عَفَا وأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} .
وروى البيهقي [8/ 54] وغيره عن أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ما رفع إليه قصاص قط إلا أمر فيه بالعفو).
وأما ما رواه مسلم [1680] عن وائل بن حجر: أن رجلًا أتي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد اعترف بالقتل، فقال لأخي القتيل:(اعف عنه) فأبى، فقال:(اذهب به)، فلما ولى قال:(إن قتله فهما في النار) .. فهو من مشكلات الأحاديث.
وأجيب عنه بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أمره بالعفو، وقيل: لأن القاتل قال: ما أردت قتله.
قال: (موجب العمد القود) حكم العمد على أن موجب العمد في النفس والطرف ماذا؟ وفيه قولان: أظهرهما عند الأكثرين: أنه القود المحض، وإنما الدية
وَاُلدِّيَةُ بَدَلٌ عِندَ سُقُوطِهِ ، وَفِي قَولٍ: أَحَدَهُمَا مُبهَمًا ،
…
.
ــ
بدل عنة عند سقوطه؛ لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِي القَتْلَى} ولأنه بدل متلف
فيعتبر جنسه كسائر المتلفات.
وخالف المصنف هذا في (نكته) فصحح الثاني وفاقًا لابن يونس.
و (موجب) بفتح الجيم: الذى يلزم بقتل العمد.
و (القوَد) بالفتح: القصاص ، تقول: أقدت القاتل بالقتيل ، أي: قتلته به.
وخرج بذكر العمد: الخطأ؛ فإن موجبه الدية خاصة ، وكان ينبغي أن يقول:
الدية أو الأرش؛ ليشمل الجراحات.
كل هذا إذا كان للقتيل وارث خاص ،فإن لم يكن .. فهل للسلطان أن يقتص أو تتعين الدية؟ قولان تقدما.
قال: (والدية بدل عند سقوطه) ، يرجع إليهما بالعفو بشرطه أو تعذر الاستيفاء بموت ونحوه.
وأطلق المصنف القولين ، ولا شك في تقييدهما بما إذا كان العمد يوجب القود، فإن تخلف لمانع كما إذا قتل الوالد ولده والمسلم الذمي .. فهل نقول: الواجب الدية عينًا ، عكس القاعدة ، أو هو كغيره يجب القود عينًا ، ثم يعدل إلى الدية؛ لأن الأبوة وشرف الدين مستقطعان؟ الظاهر: الأول.
قال: (وفي قول: أحدهما مبهمًا)؛ لما تقدم عند قول المصنف: (الصحيح:
ثبوته لكل وارث): عن أبي شريح الخزاعي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(ألا إنكم يا معشر خزاعة قتلتم هذا القتيل من هذيل ، وأنا والله عاقله ، فمن قتل بعده قتيلًا .. فأهله بين خيرين: إن أحبوا .. قتلوا ، وإن أحبوا .. أخذوا العقل)، نحوه من رواية أبي هريرة. [خ 2434 - م1335] وفي (الصحيحين) وفي (سنن البيهقي) [8/ 51] عن مجاهد وغيره: كان في شرع موسى عليه الصلاة
والسلام تحتم القصاص جزمًا ، وفي شرع عيسى عليه الصلاة والسلام أخذ الدية فقط ،
وَعَلَى القَولَينِ لِلوَليِّ عَفوٌ عَنِ الدِّيَةِ بِغَيرِ رِضَا الجَانِي ،وَعَلَى الأَوَّلِ لَو أَطلَقَ العَفوَ .. فَالمَذهَبُ: لَا دِيَةَ،
ــ
فخفف الله عن هذه الأمة وخيّرها بين الأمرين؛ لما في الإلزام بأحدهما من المشقة.
قال: (وعلى القولين للولي عفو عن الدية بغير رضا الجاني)؛ لحديث أبي شريح ، ولأنه محكوم عليه فلا يحتاج إلى رضاه ،كما لا يشترط رضا المحال عليه والمضمون.
وقال أبو حنيفة: لا يعدل إلى المال إلا برضا الجاني ، وإذا مات الجاني .. سقطت الدية.
وحكي عن القديم قول مثله ،وعن مالك روايتان: أشهرهما: مساعدة أبي حنيفة.
والثانية: تخيير الولي.
وعلم من كلامه: أنه إذا عفا بعض المستحقين .. سقط القصاص وإن لم يرض الَاخرون ، واحتج له بما روى البيهقي عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما ولا مخالف لهما في ذلك فكان إجماعًا ، وبأن القصاص لا يتجزأ ، ويغلّب جانب السقوط؛ لحقن الدماء ، وكذلك لو عفا عن عضو من أعضاء الجاني .. سقط القصاص كله ، كما أن تطليق بعض المرأة تطليق كلها ، وكذا لو أقت .. تأبد.
قال: (وعلى الأول لو أطلق العفو .. فالمذهب: لا دية) لأن القتل لم يوجبها على هذا القول ، والعفو إسقاط ثابت لا إثبات معدوم.
والثاني – واختاره المزني -: تجب لقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} أي: اتباع بالمال ، وذلك يشعر بوجوب الدية ، والأولون حملوا الَاية على ما إذا عفا على الدية.
وموضع الخلاف: إذا أمكن ثبوت المال.
فإن لم يمكن كما إذا قتل أحد عبدي الرجل عبده الَاخر .. فإن للسيد أن يقتص وله
أن يعفو ولا يثبت له على عبده مال ، فإن أعتقه .. لم يسقط القصاص ، فلو عفا بعد العتق مطلقًا .. لم يثبت المال بلا خلاف؛ لأن القتل لم يثبته ولا يخرج على الخلاف
وَلَو عَفَا عَنِ اٌلدِيَةِ .. لَغَا، وَلَهُ اٌلعَفوُ بَعدَهُ عَلَيهَا. وَلَو عَفَا عَلَى غَيرِ جِنسٍ اٌلديةِ .. ثَبَتَ إن قَبِلَ الجَانِي، وَإلِا .. فَلَا ، وَلَا يَسقُطُ القَودِ فِي اٌلأصَحِّ
ــ
هنا ، إن عفا على مال .. ثبت كذا حكاه الشيخان في الفروع المنثورة اَخر الباب وإقراء.
ولو أقر السفينة بقصاص وعفا المستحق على مال .. ففي ثبوته وجهان في (باب الحجر): أصحهما: نعم؛ لأنه يتعلق باختيار غيره لا بإقراره.
وصورة العفو المطلق: أن يقول: عفوت عن القصاص، ولا يتعرض للدية بنفي ولا إثبات، وكذلك لو قال: عفوت عنك، ولم يتعرض لقود ولا دية.
ولو قال: عفوت عما وجب لي عليك بهذه الجناية، أو عن حقي الثابت عليك، وما أشبهه .. فلا مطالبة له بشيءٍ.
فلو قال: عفوت عن حقي .. قال الماوردي: يسقط القود؛ لأنه يستحقه، ولا تسقط الدية؛ لأنه يستحقها.
وسكت المصنف عن التفريغ على المرجوح؛ لأنه طويل لا عمل عليه. قال: (ولو عفا عن الدية .. لغا) لأنه عفا عما ليس مستحقًا.
قال: (وله العفو بعده عليها)؛ لأن حقه لم يتغير بالعفو بالماضي.
قال: (ولو عفا على غير جنس الدية .. ثبت) وإن كان أكثر من الدية (إن قبل الجاني، وإلا .. فلا)؛ لأنه اعتياض، فتوقف على الاختيار كغيره.
قال: (ولا يسقط القود في الأصح)؛ لأنه رضي به على عوض ولم يحصل له، وليس كالصلح علو عوض فاسد؛ لأن الجاني هناك قبل والتزم.
وَلَيسَ لِمَحجُورِ فَلَسٍ عَفوٌ عَن مَالٍ إِن أَوجَبنَا أَحَدُهُمَا ، وَإلَا: فَإِن عَفَا عَلَى الدِّيَةِ .. ثَبَتَت ، وَإن أَطلَقَ .. فَكَما سَبقَ ، وَإن عَفَا عَلَى أَنَّ لَا مَالَ .. فَالَمذهَبُ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ شَيءٌ
ــ
والثاني: يسقط؛ لأنه رضي به حيث أقدم على الصلح وطلب العوض. ولو عفا عن القود على نصف الدية .. قال القاضي حسين: هذه معضله أسهرت الجلة.
وقال غيره: هو كعفوه عن القود ونصف الدية ، فيسقط القود ونصف الدية.
ولو تضرع إليه الجاني وسأله العفو عن القصاص بمال فإخذ المال من غي تصريح بعفو .. فهل يكون ذلك عفوًا عن القصاص؟ فيه وجهان.
قال: (وليس لمحجور فلسٍ عفوُ عن مال إن أوجبنا أحدهما)؛ للتفويت على الغرماء ، وإذا تعين المال بالعفو عن القصاص .. صرف إلى غرمائه ، ولا يكلف تعجيل القصاص أو العفو ليصرف المال إليهم.
واحترز ب (محجور الفلس) عن المحجور بسلب العبارة كالصبي والمجنون؛ فإن عفو هما لغو.
قال: (وإلا) أي: وإن قلنا: الواجب القود عينًا.
قال: (فإن عفا عن الدية .. ثبتت، وإن أطلق .. فكما سبق) فيما إذا عفا مطلقًا
فإن قلنا: إنه يوجب الدية ثبتت وإن قلنا لا يوجبهما لم تثبت.
قال: (وإن عفا على أن لا مال .. فالمذهب: أنه لا يجب شيء)؛لأن القتل لم يوجب المال ، ولو كلفنا المفلس أن يطلق ليثبت المال .. كان ذلك تكليفًا بأن يكتسب وليس عليه الاكتساب.
وقيل: يجب؛ لأنه لو أطلق العفو .. لوجب المال، فالنفي كالإسقاط؛ لما له حكم الوجوب، فكان الصواب: التعبير بالأصح؛ لأنها ذات وجهين لا ذات طرق.
واٌلمبَذِّرُ فِي الدِّيَةِ كَمُفلِسٍ، وَقِيلَ: كَصَبيّ. وَلَو تَصَالَحا عَنِ القَودِ عَلى مِئَتَي بَعِير ٍ .. لَغَا إِن أَوجَبنَا أَحَدَهُمَا ، وَإلَاّ فَالأصَحٌّ: الصِّحَّةُ
ــ
واقتضى كلام المصنف في (باب الفلس): الجزم بالصحة أيضًا؛ فإن قال:
(يصح اقتصاصه وإسقاطه)، ومقتضاه: أنه لا فرق في الإسقاط بين أن يكون على
مال أو مجانًا.
قال: (والمبذر في الدية كالمفلس) ، فيصح منه إسقاط القصاص واستيفاؤه؛ لوجود التشفي منه ، وفيما يرجع إلى الدية عند الأكثرين كالمفلس ، والمراد: المحجور عليه بالتبذير.
أما من بذر بعد رشده ولم يحجر عليه ثانيًا .. فتصرفه نافذ على المذهب كالرشيد.
وقوله: (في الدية) احتراز من القود؛ فيصح منه إسقاطه واستيفاؤه قطعًا كالرشيد.
قال: (وقيل: كصبي) فلا يصح عفوه عن المال بحال ، ويفارق المفلس؛ لأنه إذا صدى للمحجور مال .. لم يجز تركه، كما لو وهب له شيء أو وصي له به فلم يقبل .. فوليه يقبل عليه جبرًا ، والغرماء لا يقبلون على المفلس ولا الحاكم؛ لأنه لا يجب له إلا ثبت في ملكه.
ويشهد له ما نقله الشيخان في (السير) عن الإمام وأقراه: انه لا يصح إعراض المحجور عليه لسفه عن الغنيمة ، بخلاف المفلس.
وعفو المريض مرض الموت ومرض الورثة عن القصاص مع نفي المال إذا كان على التركة دين أو وصية كعفو المفلس.
وعفو المكاتب عن الدية تبرع ، فلا يصح بغير إذن سيده ، وبإذنه قولان.
قال: (ولو تصاحا عن القود على مئتي بعير .. لغا إن أوجبنا أحدهما)؛ لأنه زيادة على الواجب نازل منزلة الصلح من ألف على ألفين.
قال: (وإلا .. فالأصح: الصحة) أي: إذا قلنا الواجب القود المحض .. ففيه
وجهان: أصحهما: الصحة؛ لأنه مال يتعلق باختيار المتعاقدين ، فأشبه الخلع.
ولَو قَالَ رَشِيدٌ: اٌقطَعِني فَفَعَلَ .. فَهَدَرٌ ، فَإِن سَرَى أَو قَالَ: أقتُلنِي .. فَهَدَرٌ،
وَفِي قَولٍ: تَجِبُ دِيَةٌ ....
ــ
وقد روى الترمذي [1387]: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل متعمدًا
دفع إلى أولياء المقتول ، فإن شاءوا .. قتلوا ، وإن شاءوا .. أخذوا الدية،
وما صالحوا عليه فهو لهم).
والثاني: المنع؛ لأنه الدية تخلف القصاص عند سقوطه فلا تزاد عليه.
قال: (ولو قال رشيد: اقطعني ففعل .. فهدر) أي: لا قصاص ولا دية، كما
لو أذن في إتلاف ماله لا يجب ضمانه.
وفي تعبيره ب (الرشيد) نظر لأنه قدم: أن المبذر يصح منه إسقاط القصاص واستيفاؤه ، ولهذا عبر في (الروضة) و (الشرحين) بالمالك لأمر نفسه، وكذلك عبر الإمام، ومرادهم به: الحر العاقل سواء كان محجورًا عليه أم لا، وحينئذ فتعبير المصنف ب (الرشيد) معترض من وجهين:
أحدهما: إخراجه السفيه مع أن الحكم فيه كذلك.
والثاني: إدخاله العبد؛ فإنه رشيد ومع هذا إذنه عبر معتبر.
وقوله: (فهدر) ليس على عمومه؛ فإن الكفارة تجب لحق الله تعالى على الأصح ولا تؤثر فيها الإباحة.
والثاني- ويحكى تخريج ابن سريج -: أنها لا تجب، وحق الله تعالى يتبع في الوجوب والسقوط حق الَادمي ، فإذا صار الشخص مهدرًا .. فلا كفارة بقتله.
قال: (فإن سرى، أو قال: اقتلني .. فهدر، وفي قول: تجب دية)؛ هذا
الخلاف ينبني على: أن الدية تثبت للميت ابتداء ثم يتلقاها الوارث أو تثبت للوارث
ابتداء عقب هلاكه.
فإن قلنا بالأول، وهو الأصح .. لم تجب، وإلا .. وجبت.
وَلَو قَطَعَ فَعَفَا عَن قَودِهِ وَأرشِهِ: فَإن لَم يَسِرِ .. فَلَا شَيءَ، وَإِن سَرَى .. فَلَا قِصَاصَ
ــ
قال الإمام) والقائل بثبوتها للميت لا يمنع الملك له كما لا يمنع بقاء الدين عليه وإن رمت عظامه.
ثم إن المصنف أطلق وجوب الدية وظاهره: أنه على هذا القول تجب دية كاملة في الصورتين، وهو كذلك في صورة (اقتلني).
وأما في القطع .. فنصفها؛ لأنه الحادث بالسراية.
وأما القصاص .. ففيه طريقان:
أشهرهما: القطع بنفيه؛ لأن الإذن شبهة دارته.
والثاني: طرد الخلاف فيه.
ووجه الوجوب بأن القتل لا يباح بالإذن، فأشبه إذن المرأة في الزنا ومطاوعتها؛ فإن ذلك لا يسقط الحد.
قال: (ولو قطع) عضو إنسان (فعفا عن قوده وأرشه: فإن لم يسر .. فلا شيء) أي: لا قصاص ولا دية؛ لأن المستحق أسقط ما ثبت له، وبهذا قال أبو حنيفة.
وعن المزني: تجب الدية؛ لأن استقرار الجناية باندمالها فلا يعتبر العفو قبل ذلك.
أما لو قال: وما يحدث منها .. فلا قصاص ولا دية.
وإن اقتصر على قوله: عفوت عن هذه الجناية .. فالنص: أنه عفو عن القصاص.
قال: (وإن سرى .. فلا قصاص) أي: في النفس والطرف؛ لأن السراية تولدت من معفو عنه فأورث شبهة.
وعن ابن سريج وابن سلمة: يجب قصاص النفس؛ لأنه لم يدخل في العفو.
فعلى هذا: إن عفا عن القصاص فله نصف الدية؛ لسقوط نصفها بالعفو عن اليد.
وَأَمَّا أرَش ُالعُضوِ: فَإِن جَرَى لَفظُ وَصِيَّةٍ كَأَوصَيتُ لَهُ بِأَرشِ هَذِهِ الجِنَايَةِ .. فَوَصِيَةٌ لِقَاتِلِ، أَو لَفظٌ إِبرَاءٍ أَو إِسقَاطٍ، أَو عَفوٌ سَقَطَ، وَقِيلَ: وَصِيَّةُّ. وَتَجِبُ الزِّيَادَةُ عَلَيهِ إِلَى تَمامِ الدِّيَةِ، وَفِي قَولٍ: إِن تَعَرَّضَ فِي عَفوِهِ لِما يَحدُثُ مِنهَا .. سَقَطَت،
ــ
وما أطلقه من أنه لا يجب شيء عند السراية محله: إذا كان القطع مما يوجب القصاص، فإن كان لا يوجبه كالجافة فعفا المجني عليه عن القصاص فيها ثم سرت الجناية إلى نفسه .. فلوليه أن يقتص في النفس؛ لأنه عفا عن القود فيما لا قود فيه فلم يؤثر العفو.
وحكى الإمام فيه الاتفاق، ثم يثبت باحتمال فيه لنفسه.
قال: (وأما أرش العضو: فإن جرى لفظ وصية كأوصيت له بأرش هذه الجناية .. فوصية لقاتل) ، فإن أبطلناها .. لزمه أرش العضو، وإن صححناها، وهو الأصح .. سقط الأرش إن خرج من الثلث، وإلا .. سقط منه قدر الثلث.
قال: (أو لفظ إبراء أو إسقاط، أو عفو .. سقط)؛ لأنه إسقاط حق ناجز، والوصية هي التي تتعلق بحال الموت.
قال: (وقيل: وصية)؛ لأنه يعتبر من الثلث بالاتفاق فيعود الخلاف في الوصية للقاتل.
والطريقة الأولى – وهي القطع بمجيء الخلاف – هي الصحيحة.
قال: (وتجب الزيادة عليه) أي: على أرش العضو المعفو عنه (إلى تمام الدية)، هذا إذا اقتصر على العفة عن موجب الجناية ولم يقل: وما يحدث منها؛ لأن الشيء لا يسقط قبل ثبوته.
قال: (وفي قول: إن تعرض في عفوه لما يحدث منها .. سقطت)؛ لتصريحه بذلك.
والأظهر: لا ، فيلزمه الضمان، وهما قولان في الإبراء عما لم يجب وجرى سبب وجوبه.
فَلَو سَرَى إلَى عُضوٍ آخَرَ فَانَدَمَلَ .. ضَمِنَ دِيَّةَ السِّرَايَة ِفِي الأصَحَّ. وَمَن لهٌ قَصَاصُ نَفسٍ بِسَرَايَةِ طَرفٍ لَو عَفَا عَن النَّفسِ .. فَلَا قَطعَ،
ــ
وما ذكره من التفصيل في الأرش محله إذا كان دون الدية، فأما إذا قطع يديه فعفا عن أرش الجناية وما يحذث منها، فإن لم نصحح الوصية .. وجبت الدية بكمالها، وإن صححناها .. سقطت بكمالها إن وفى بها الثلث، سواء صححنا الإبراء عما لم يجب أو لم نصحح؛ لأن أرش اليدين دية كاملة فلا يزيد بالسراية شيء.
قال: (فلو سرى إلى عضو آخر فاندمل .. ضمن دية السراية في الأصح)؛ لأنه عفا عن مودجب الجناية الحاصلة في الحال فيقتصر أثره عليه.
والثاني: المنع؛ لأنه إذا سقط الضمان بالعفو .. صارت الجناية غير مضمونة، وإذا لم تضمن .. كانت السراية أيضًا كذلك، كما قال لغيره: اقطع يدي، فقطعها وسرى القطع إلى عضو آخر.
هذا إذا اقتصر على العفو عن موجب الجناية، أما إذا قال: وما يحدث منها، فسرى قطع الإصبع إلى قطع الكف، فإن لم نوجب ضمان السراية إذاأطلق .. فهنا أولى، وإن أوجبناه .. فيخرج ههنا على الإبراء عما لم يجب وجرى سبب وجوبه.
قال: (ومن له قصاص نفس بسراية طرف لو عفا عن النفس .. فلا قطع)؛ لأن المستحق هو القتل، والقطع طريقه، وقد عفا عن المستحق به.
وصورة المسألة: إذا قطع الجاني يد رجل فمات سراية.
أَو الطَّرفِ .. فَلَهُ حَزُّ الرَّقَبَةِ فِي الأصَحِّ. وَلَو قَطَعَهُ ثُمَّ عَفَا عَنِ النَّفسِ مَجَانًا، فَإن سَرَى القَطعُ .. بَانَ بُطلَانُ العَفوِ، وَإلَا .. فَيَصِحُّ. وَلَو وَكَّلَ ثُمَ عَفَا فَاقتَصَّ الوَكِيلُ جَاهِلًا .. فَلَا قِصَاصَ عَلَيهِ،
ــ
أما إذا قطع يده ثم قتله .. فالقصاص مستحق فيهما بطريق الأصالة.
فإن كان مستحق النفس غير مستحق الطرف .. فعفو أحدهما لا يسقط حق الآخر.
ومن صوره: أن يقطع عبد يد عبد فيعتق المجني عليه ثم يحز الجاني رقبته أو يموت.
قال: (أو الطرف .. فله حز الرقبة في الأصح)؛ لأن كلًا منهما مقصود في نفسه، كما لو تعدد المستحق، وهذا هو الأقوى في (المحرر) و (الشرحين).
والثاني: المنع؛ لأنه استحق القتل بالقطع الساري وقد تركه، وصححه الجاجرمي والمتولي.
قال: (وإلا .. فيصح) أي: إن لم يسر قطع الولي إلى نفس الجاني .. صح العفو عن النفس، ولا يلزم الولي بقطع اليد شيء.
قال: (ولو وكل ثم عفا فاقتص الوكيل جاهلًا .. فلا قصاص عليه)؛ لعدم تقصيره، وفيه قول مخرج مما إذا قتل من عخده مرتدًا فبان أنه كان قد أسلم؛ فإن الأصح فيه: وجوب القصاص.
وَالأظهَرُ: وُجُوبُ دِيَةٍ، وَأنَّهَا عَلَيهِ لَا عَلَى عَاقِلَتِهِ،
ــ
والفرق: أنه هناك مقصر والوكيل مستصحب لأصل يجوز البناء عليه فهو معذور.
كل هذا تفريغ على جواز التوكيل في استيفاء القصاص، وقد تقدم في (الوكالة): أنه يجوز في حضرة الموكل، وكذا عند غيبته على المذهب.
وحد القذف كالقصاص، وسواء جوزناه أم لا إذا استوفاه الوكيل .. صالر حق الموكل مستوفى، كما لو وكله في بيع سلعة توكيلًا فاسدًا فباع الوكيل .. صح البيع.
وإذا لم يعلن: أكان العفو قبل القتل أم بعده .. فلا شيء على الوكيل؛ لاحتمال أنه عفا بعد قتله.
واحترز بقوله: (جاهلًا) عما إذا كان عالمًا بالعفو؛ فعليه القصاص لا محالة.
فإن ادعى الولي علمه بالعفو .. حلف الوكيل، فإن نكل .. حلف الوارث واستحق القصاص.
قال: (والأظهر: وجوب دية)؛ لأنه بان أنه قتله بغير حق.
وعلى هذا: فهي مغلظة على الصحيح.
والثاني: المنع؛ لأن القتل مباح له في الظاهر فلا يناسب تضمينه.
أما الكفارة .. فواجبة على القولين، ويجريان فيما لو عزله ثم قتله الوكيل جاهلًا بعزله.
قال: (وأنها عليه لا على عاقلته)؛ لأن القتل عمد أو شبه عمد، وإنما أسقطنا القصاص للشبهة.
وقيل: على العاقلة مخففة؛ لأنه جاهل بالحال، فأشبه المخطئ.
فإذا قلنا: على الوكيل .. فهل حالة أو مؤجلة؟ وجهان: صحح المصنف منهما: الحلول.
وعطفه المسألة على ما قبلها يقتضي: أنها ذات قولين، والصواب: أنهما وجهان.
وَالأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْعَافِي، وَلَوْ وَجَبَ قِصَاُص عَلَيْهَا فَنَكَحَهَا عَلَيْهِ،، جَازَ وَسَقَطَ، فَإِنْ فَارَقَ قَبلَ وَطْءٍ. رَجَعَ بَنِصْفِ الأَرْشِ، .....
ــ
قال: (والأصح: أنه لا يرجع بها على العافي)؛لأنه محسن بالعفو.
والثاني: يرجع عليه؛ لأنه غره.
والثالث: يرجع الوكيل دون العاقلة.
والمصنف أطلق الخلاف في الرجوع وهو مقيد بأن لا يقصر الموكل في إعلامه، فإن قصر .. رجع الوكيل عيه؛ لأنه لم ينتفع بشيء، بخلاف الزوج المغرور.
وحكي الرافعي هنا عن (فتاوي البغوي): أن الوكيل لو قال: قتلته بشهوة نفسي لا عن جهة الموكل .. يلزمه القصاص، وينتقل حق الوارث إلى التركة.
وجزم القفال في (الفاتاوي) بعدم القصاص، وكلام البغوي أرجح دليلا.
قال: (وو وجب قصاص عليها فتكحها عليه .. جاز)؛ لأنه عوض مقصود، وكان ينبغي أن يقول: صحا.
أما النكاح .. فواضح، وأما الصدق .. فلأن ما جاز الصلح عنه .. جاز جعله صداقًا
قال: (وسقط) أي: ما عليها من القود؛ لملكها قصاص نفسها.
قال: (فإن فارق قبل وطء .. رجع بنصف الأرش)؛ لأنه الذي وقع العقد عليه، فهو كالمسمى المعين أولًا.
وَفِي قَوْلٍ: بِنِصْفِ مِهْرِ الْمِثْلِ.
ــ
قال: (وفي قول: بنصف مهر المثل)؛ لأن الأرش سقط وقام مقامه مهر المثل، وهو المنصوص في (الأم) كما نقله في (البحر).
وقال البغوي: إنه قياس قولهم: إذا أصدفها تعليم قرآن وطلقها قبل الدخول.
تتمة:
قال المتولي: إذا قتله بالدخان؛ بأن حبسه في بيت وسد منافذ البيت فاجتمع فيه الدخان وضاق نفسه فمات .. وجب القصاص.
وأنه لو رمى إلى شخص أو جماعة وقصد إصابة أي واحد منهم كان فأصاب واحدا .. ففي القصاص وجهان؛ لأنه لم يقصد عينه.
قال المصنف: قلت: الأرجح وجوبه.
خاتمة
ظاهر عبارة (الشرح) و (الوضة) في أول (الجنايات): أنمن استوفى منه القصاص أو الدية في الدنيا تبقى عليه العقوبة في الدار الآخرة.
والمصنف أجاب في (فتاويه) بخلافه، وقال: إن ظواهر الشرع تدل على السقوط، وذكر مثله في (شح مسلم).
ودليله: الحديث الصحيح فيه: (من ارتكب شيئًا من هذه القاذورات فعوقب به .. كانت كفارة له، وإن لم يعاقب .. فأمره إلى الله، إن شاء .. عذبه وإن شاء .. عفا عنه).
كتاب الديات