الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوجه الثاني
قوله: حتى يبلغ، وحتى يستيقظ، وحتى يفيق. وهذه غايات مستقبلة، والفعل المغيا بها وهو قوله:(رفع) ماض، والماضي لا يجوز أن يكون غايته مستقبلة، فلا تقول: سرت أمس حتى تطلع الشمس غداً؛ لأن مقتضى كون الفعل ماضياً كون أجزاء المعنى جميعا ماضية، والغاية طرف المعنى، ويستحيل أن يكون المستقبل ظرفا للماضي؛ لأن الآن فاصل بينهما، والغاية إما داخلة في المعنى فتكون ماضية أيضا، وإما خارجة عنه مجاورة له فيصح أن يكون الآن غاية للماضي، وإما أن تكون منفصلة حتى يكون المستقبل المنفصل عن الماضي غاية له - فمستحيل، فكيف قال: رفع القلم عن الصبي حتى يبلغ؟! وهذا السؤال لم يبلغني عن أحد، ولكني أنا الذي حركته.
وجوابه - على ما ظهر لي - بالتزام حذف أو مجاز حتى يصح الكلام، ويتبين أن الغاية ليست للفعل الماضي أو ليست مستقبلة، فيحتمل أن يقدر: رفع القلم عن الصبي فلا يزال مرتفعا حتى يبلغ، أو: فهو مرتفع حتى يبلغ، فيبقى الفعل الماضي على حقيقته، والمغيا محذوف، وبه ينتظم الكلام.
ودل على هذا وحسنه أن الرفع فعل له أثر يستمر، فالغاية لأثره لا له، كما تقول: أجرتك داري إلى شهر. فالمغيا ليس هو الإيجار الماضي أو الحاضر، وإنما المغيا أثره، وحدف لفهم المغيا بحيث لو ذكر لكان ركيكا للاستغناء عنه بسببه.
ويحتمل أن يكون معنى: (رفع القلم) حكم برفعه، وتكون الغاية للرفع المحكوم به لا للحكم الذي هو ماض، ولكن في هذا قلق، والأقرب أنه لا يصح من جهة أنك إذا عبرت برفع عن حكم بالرفع فالمصدر الذي فيه من حيث المعنى هو الحكم لا الرفع، فلا يصح أن يكون هو المغيا، وإنما المغيا الرفع المحكوم به والفعل لم يتضمنه فيحتاج إلى تقديره فيعود إلى الوجه الأول.
ويحتمل أن يقال: إن الغاية للمصدر الذي دل عليه الفعل الماضي كقولهم: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، عند من لا يقدر فيه: أن تسمع، أو أن الفعل جرد عن دلالاته عن الزمان فلم يبق إلا المصدر فيصح الغاية المستقبلة.
ويحتمل أن يقال ذلك في الغاية، وهو قوله:(حتى يبلغ)، والمعنى: حتى بلوغه لأن هذا إخبار عن حكم شرعي حكم الله في الأزل، وأنه رفع القلم عن كل من ثبت له الصبا في وقت ما حتى بلوغه، فيشمل ذلك من كان صبيا وبلغ في الماضي، ومن هو صبي الآن ويبلغ في المستقبل، ومن يصير صبيا ويبلغ بعد ذلك.
وهذه الاحتمالات كلها في التقدير إما في التجوز في الفعل الثاني أو الفعل الأول، أو الحذف - راجعة إلى معنى واحد وهو الحكم برفع القلم إلى الغاية المذكورة.
وقد تقدم من حيث ابن ماجه الذي من مسند علي: (يرفع) بصيغة الفعل المضارع فلا يرد السؤال على هذه الراوية، وإنما تكلمنا على الروايات المشهورة.
فإن قلت: ما ذكرته جميعه مبني على أن الفعل الماضي لا يجوز أن تكون غايته مستقبلة، وقد قال الله تعالى:(وَزُلزِلوا حَتّى يَقولَ الرّسولُ)
قرىء بنصب (يَقولَ) بتقدير أن، وأن تخلص الفعل للاستقبال؟ قلت: ما أبعدك عما أردناه! نحن في المستقبل حقيقة من جهة المعنى، وذلك وإن قدر مستقبلا فهو ماض في الزمان، ألم تر إلى قول سيبويه في باب حتى: اعلم أن حتى تنصب على وجهين؛ أحدهما: أن يجعل الدخول غاية المشترك، وذلك قوله: سرت حتى أدخلها حتى قلت: سرت حتى أدخلها حتى قلت: سرت إلى أن أدخلها. فالناصب للفعل ها هنا هو الجار للاسم إذا كان غاية، فالفعل إذا كان غاية نصيب، والاسم إذا كان غاية جر، فهذا قول الخليل رحمه الله.
فأما الوجه الآخر: فأن يكون السير قد كان والدخول لم يكن، وذلك إذا جاءت مثل كي التي فيها إضمار أن وفي معناها، وذلك قولك: كلمته حتى يأمرني بشيء. انتهى.
فانظر كيف بيَّن ذلك سيبويه أنه متى كان الدخول لم يكن كانت مثل كي أي: للتعليل، وليس المراد في الحديث ذلك، وإنما المراد الغاية المجردة، وهذا واضح لا خفاء فيه، وإنما خفنا أن تلتبس على بعض المبتدئين، و (يَقولَ الرّسولُ) في الآية على قراءة الرفع والنصب جميعا مضى زمانه، والمعنى: حتى قال الرسول.