المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الوجه السابع عشر - إبراز الحكم من حديث رفع القلم

[تقي الدين السبكي]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌الوجه السابع عشر

‌الوجه السابع عشر

اختلف العلماء في البلوغ بالسن؛ فعن مالك إنكاره مطلقا، وأن البلوغ إنما هو بالاحتلام، وعن أبي حنيفة: أن بلوغ الغلام بثمان عشرة سنة، وفي الجارية روايتان عنه: إحداهما كذلك، والثانية بسبع عشرة سنة، وقال الشافعي: إن البلوغ فيهما بخمس عشرة سنة، واختلف أصحابه في ضبطها؛ فالمذهب المشهور أن المعتبر تمام السنة الخامسة عشر، وفي وجه مشهور في طريق المراوزة زمانه بالطعن فيها، وفي وجه غريب: أنه بمضي ستة أشهر منها، ولا دلالة للحديث الذي نحن فيه على شيء من ذلك، ولكن استندوا فيه إلى حديثين: أحدهما: عن ابن عمر قال عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني. متفق عليه.

قال نافع: فحدثت بهذا الحديث عمر بن عبد العزيز في خلافته فقال: إن هذا لحد بين الصغير والكبير. وقيل: إن عمر بن عبد العزيز أمر بذلك بعد، وكان يجعل من دون خمس عشرة في الذرية، وكتب إلى عماله: أن افرضوا لابن خمس عشرة، وما كان سوى ذلك فألحقوه بالعيال.

ص: 70

والمخالفون اعتذروا عن هذا الحديث بأن الإجازة في القتال حكمها منوط بإطاقته والقدرة عليه، وإنما أجازه النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمر في الخمس عشرة؛ لأنه رآه مطيقا للقتال، ولم يكن مطيقا له قبله، لا لأنه أدار الحكم على البلوغ وعدمه.

ولعمري! إن هذا العذر يلوح ولكن يرده أن جماعة مع ابن عمر اتفق لهم ذلك وأسنانهم متساوية، وكان فيمن رد من يتشرف للقتال ويظهر من نفسه الجلادة والقوة، وذكر ابن عمر السن في المقامين دليل على أنه فهم أن ذلك منوط بالسن، ويعضد ذلك بفهم عمر بن عبد العزيز ومن وافقه، والأمر فيه محتمل، وأمر عمر بن عبد العزيز بجعل من دون خمس عشرة في الذرية ظاهر لما قدمناه من البحث في الوجه الثالث عشر، وكذلك ينسحب حكم عدم البلوغ على ما قبل تمامها بالبحث المذكور، لا ريبة فيه عندي، فلا بلوغ قبل استكمال خمس عشرة سنة بغير احتلام، وإنما النظر في البلوغ بتمامها، والإجازة في القتال لا تدل على البلوغ؛ لأن الصبي القادر على القتال يجوز له الحضور وإن لم يجب عليه.

وقد ذكر الرافعي في هذا الحديث زيادة، وهي قول ابن عمر في المرة الأول: ولم يرني بلغت، وفي الخندق رآني قد بلغت. وهذه الزيادة إن صحت كافية في الاستدلال مع إمكان أن يحملها الخصم على بلوغ القتال، ولكن الظاهر خلافه، وبعض هذه الزيادة رواة البيهقي، وهو قول ابن عمر عن يوم أحد: ولم يرني بلغت. رواه ابن جريج، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر. وفي رواية جماعة، عن عبيد الله: فاستصغرني.

ص: 71

وأما الحديث الثاني: فرواه الدارقطنين على ما نقله إمام الحرمين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استكمل المولود خمس عشرة سنة كتب ما له وما عليه، وأقيمت عليه الحدود) . وهذا الحديث نص في المقصود، فإن الذي دلت عليه السير أن ابن عمر يوم الخندق كان في ست عشرة سنة ولكنه لم يحسب تلك الزيادة فقال: وأنا ابن خمس عشرة؛ لأنه كان أكملها وزاد عليها، فإجازة النبي صلى الله عليه وسلم له يحتلم أن يكون لقدرته على القتال مع صباه، ويحتمل أن يكون لاستكماله خمس عشرة، ويحتمل أن يكون لبلوغه قبل ذلك أو بعده، وأما هذا الحديث فنص في اعتبار كمال خمس عشرة سنة، وصريح في أنه يكتب ما له وما عليه وتقام عليه الحدود، وهذا معنى التكليف، فإن صح هذا الحديث فلا ريبة في هذا الحكم، وإلا فنقول: اعتبار أبي حنيفة أيضا لسبع عشرة أو لثمان عشرة لا دليل عليه، وبقاء الصبا إلى إلى الاحتلام أبدا لا صائر إليه، وربما لا يحتلم شخص، وقد دل القرآن على بلوغ النكاح، وهو السن الذي تتوق فيه النفس إلى الجماع ويقدر عليه، وهو مختلف باختلاف الاشخاص، والغالب وجوده في ابن خمس عشرة وما قاربها، وقد شهد له حديث ابن عمر والحديث الآخر، فهو أولى بالاعتبار

ص: 72

وإقامته مظنته، فلذلك يختار موافقة الشافعي في الحكم بالبلوغ باستكمال خمس عشرة ظاهرا لا قطعا، أما إذا استكمل سبع عشرة أو ثمان عشرة فيحكم بالبلوغ باتفاق منا ومن الحنفية، ومخالفة مالك بعيدة؛ لأنه لا غاية بعدها، وحيث أطلقنا السنين فالمراد القمرية، وحيث حكمنا بالبلوغ بالسن بدون الاحتلام فذلك يقتضي تخصيص قوله:(رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم) أو أنه استعمل الاحتلام في الأعم منه ومن بلوغ وقته.

ص: 73