الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوجه الثامن عشر
اختلف العلماء في إنبات العانة: هل يقتضي الحكم بالبلوغ؟ فمن العلماء من أنكر ذلك، وهو أبو حنيفة رضي الله عنه، ومنهم من قال به في حق المسلمين والكفار، وهو أحد الوجهين لأصحابنا بناء على أنه بلوغ حقيقة كسائر أسباب البلوغ، أو أنه علامة يحتاج إليها عند الاشكال فيهما، وهو مذهب مالك، ومنهم من قال به في حق الكفار خاصة، وهو الصحيح عند أصحابنا بناء على أنه ليس ببلوغ، ولكنه دليل على البلوغ وأمارة؛ أنه يستعجل بالمعالجة، ولأن تواريخ المواليد في المسلمين يسهل الكشف عنها بخلاف الكفار، فإنه لا اعتماد على قولهم، فجعل علامة في حق الكافرخاصة، واحتجن من جعله دليلا في حق الكفار بحديث عطية القرظي قال: كنت من سبي قريظة فكانوا ينظرون من أبنت الشعر قتل، ومن لم ينبت لم يقتل، فكنت فيمن لم ينبت. قال: فكشفوا عانتي فوجدوها لم تنبت فجعلوني في السبي. رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وعن أبي سعيد الخدري: أن سعدا حكم في بني قريظة أن تقتل مقاتلتهم وتسبي ذراريهم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:(حكمت بحكم الله) . متفق عليه.
وعن عطية قال: كنت ممن حكم عليه سعد، فكان من أنبت قتل، ومن لم ينبت ترك، فكنت ممن لم ينبت فتركت.
وهذه الاحاديث حجة قوية في الحكم بالبلوغ لذلك، وغاية ما فيه تخصيص قوله:(رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم) إذا فرض الإنبات قبل الاحتلام، على أن القول بالتخصيص إنما يلزم من يقول: إنه بلوغ حقيقة، أما من يقوله أمارة على البلوغ فمعناه إنما نستدل به على أنه بلغ بالاحتلام أو بالسن فلا يلزم التخصيص، وسياق هذا يقتضي أن الشخص لو عرف من نفسه أنه لم يحتلم ولم يكمل خمس عشرة وقد أنبت أنه لا يحكم ببلوغ نفسه، وأن يستديم حكم الصبا، وإن كنا نحن نحكم ببلوغه، وهذا يقتضي القول بأنه أمارة، سواء قلنا به في حق الكفار أم في حقهم وحق المسلمين، وقد رأيت للشافعي رضي الله عنه ما يدل على ذلك، فإن ابن الحداد نقل في كتاب (الجزية) له: أنا لو تحققنا أن عمره دون خمس عشرة فلا أثر للإنبات، وعلى ذلك نص الشافعي؛ إذ قال: فإن قال: أنبت من أني تعالجت بشيء تعجل إنبات الشعر، لم يقبل ذلك منه إلا أن يقوم شاهدان مسلمان على ميلاده فيكون لم يستكمل خمس عشرة فندعه. انتهى. وهذا مقتضى جعله دليلا لا بلوغا، ومراد الشافعي: أنه لا يقبل في رفع الجزية عنه، أما إذا كان
المشركين وأسرناه وأردنا قتله فادعى ذلك، وقلنا: إنه علامة. قال أبو عاصم العبادي: تسمع دعواه ويحلف، فإذا حلف ترك قتله. ولعل الفرق بين الذمي والمشرك حظر الدم وسهولة أمر الجزية، وهو يشعد أيضا لما قلته.
فإن قلت: ولو جعلناه علامة فلم لا يقال بأنه مظنة، والمظنة إذا وجدت لا يعتبر معها وجود الحكمة ولا يضر تخلفها، كالنوم لما كان مظنة للحدث كان موجبا للوضوء، ولو تحققنا عدم الحدث، إلا ما حكي عن أبي موسى الأشعري.
قلت: المظنة إنما تكون في أمر خفي مستتر فيقام وصف ظاهر منضبط مقامه فصير هو المعتبر، وأما الاحتلام والسن فأمران منضبطان لا يحتاجان إلى مظنة، وإنما الإنبات دليل ظاهر إذا لم يعلم خلافه، فإن علم اتبع، على أن المظنة إذا قطعنا بانتفاء الحكم عنها قيل: إنا لا نرتب الحكم عليها، وتحقيق ذلك محله أصول الفقه.
والأقرب أن الانبات علامة في حق المسلم والكافر كما هو مذهب مالك، ويدل له ما روي أنه رفع إلى عمر رضي الله عنه غلام من الأنصار شبب بامرأة في شعره فقال عمر رضي الله عنه: لو أنبت الشعر لحددتك. ولعل مراد عمر بالحد التعزير.