الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النَّوْع الثَّانِي عشر التَّدْلِيس
قَالَ ابْن السَّيِّد إِنَّه مُشْتَقّ من الدلس وَهُوَ الظلام وَنقل الشَّيْخ أَبُو الْفَتْح الْقشيرِي فِي كتاب اقتناص السوانح عَن الْحَافِظ أبي بكر التَّدْلِيس اسْم ثقيل شنيع الظَّاهِر لكنه حقيق الْبَاطِن سهل الْمَعْنى
167 -
(قَوْله) التَّدْلِيس قِسْمَانِ
لَيْسَ كَمَا قَالَ بل هُوَ أَقسَام وسنتكلم على مَا أهمله
168 -
(قَوْله) وَهُوَ أَن يروي عَمَّن لقِيه إِلَى آخِره
أَي شَرط التَّدْلِيس أَن يكون المدلس قد لَقِي الْمَرْوِيّ عَنهُ وَلم يسمع مِنْهُ ذَلِك الحَدِيث الَّذِي دلسه عَنهُ وَشرط الْبَغَوِيّ فِي شرح السّنة أَن يكون مَشْهُورا بالرواية عَنهُ أما إِذا روى عَمَّن لم يُدْرِكهُ بِلَفْظ موهم فَلَيْسَ بتدليس على الصَّحِيح الْمَشْهُور بل هُوَ من قبيل الْإِرْسَال كَمَا سبق فِي بَابه عَن حِكَايَة الْخَطِيب وَحكى ابْن عبد الْبر عَن قوم أَنه تَدْلِيس فَجعلُوا التَّدْلِيس أَن يحدث الرجل عَن الرجل بِمَا لم يسمعهُ مِنْهُ بِلَفْظ لَا يَقْتَضِي تَصْرِيحًا بِالسَّمَاعِ وَإِلَّا لَكَانَ كذبا قَالَ ابْن عبد الْبر وعَلى هَذَا فَمَا سلم من التَّدْلِيس أحد لَا مَالك وَلَا غَيره
وَقَالَ ابْن الْقطَّان فِي الْوَهم وَالْإِيهَام التَّدْلِيس أَن يروي عَمَّن قد سمع مِنْهُ مَا لم يسمع مِنْهُ وَكَذَلِكَ قَالَ الْحَافِظ أَبُو بكر الْبَزَّار صَاحب الْمسند فِي جُزْء لَهُ فِي معرفَة من يتْرك حَدِيثه أَو يقبل
وَاعْلَم أَن هَذَا التَّعْرِيف الَّذِي ذكره المُصَنّف منطبق على مُرْسل الصَّحَابَة مَعَ أَنه لَا يُطلق عَلَيْهِ تَدْلِيس وَأما مَا رَوَاهُ ابْن عدي فِي كَامِله عَن يزِيد بن هَارُون قَالَ سَمِعت شُعْبَة يَقُول أَبُو هُرَيْرَة كَانَ يُدَلس فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ إِسْقَاط الْوَاسِطَة بَينه
وَبَين النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي بعض الأحيان كَمَا اتّفق لَهُ فِي حَدِيث صَوْم الْجنب لما أنكر عَلَيْهِ قَالَ حَدَّثَنِيهِ الْفضل بن الْعَبَّاس وَلَا يَنْبَغِي إِطْلَاق مثل هَذِه الْعبارَة فِي حق الصَّحَابَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم وَإِنَّمَا ذَلِك إرْسَال
وَقد نقل ابْن الْحَاجِب وَغَيره أَن قَول الصَّحَابِيّ الْعدْل قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يدل على سَمَاعه مِنْهُ خلافًا للْقَاضِي أبي بكر
169 -
(قَوْله) وَإِنَّمَا يَقُول قَالَ فلَان أَو عَن فلَان وَنَحْو ذَلِك
أَي أَن (أ 93) فلَانا وَمثله إِن أسقط ذَلِك ويسمي الشَّيْخ فَقَط فَيَقُول فلَان كَمَا ترَاهُ فِي حِكَايَة ابْن عُيَيْنَة
170 -
(قَوْله) مِثَال ذَلِك إِلَى آخِره
هَكَذَا مثل هَذَا الْقسم ثمَّ حكى الْخلاف فِيمَن عرف بِهِ هَل يرد حَدِيثه مُطلقًا أَو مَا لم يُصَرح فِيهِ بالاتصال وَهُوَ يَقْتَضِي جَرَيَانه فِي ابْن عُيَيْنَة وَهُوَ مَرْدُود فَإِن
ابْن عبد الْبر حكى عَن أَئِمَّة الحَدِيث أَنهم قَالُوا يقبل تَدْلِيس ابْن عُيَيْنَة لِأَنَّهُ إِذا وقف أحَال على ابْن جريج وَمعمر ونظرائهما
وَقَالَ الْكَرَابِيسِي دلّس ابْن عُيَيْنَة عَن مثل معمر ومسعر بن كدام وَمَالك ابْن مغول وَقَالَ الْحَاكِم فِي سؤالاته للدارقطني سُئِلَ عَن تَدْلِيس ابْن جريج فَقَالَ يتَجَنَّب تدليسه فَإِنَّهُ وَحش التَّدْلِيس لَا يُدَلس إِلَّا فِيمَا سَمعه من مَجْرُوح فَأَما ابْن عُيَيْنَة فَإِنَّهُ يُدَلس عَن الثِّقَات
وَقَالَ ابْن حبَان فِي ديباجة كِتَابه الصَّحِيح وَهَذَا شَيْء لَيْسَ فِي الدُّنْيَا إِلَّا لِسُفْيَان بن عُيَيْنَة وَحده فَإِنَّهُ كَانَ يُدَلس وَلَا يُدَلس إِلَّا عَن ثِقَة متقن وَلَا يكَاد يُوجد
لِابْنِ عُيَيْنَة خبر دلّس فِيهِ [إِلَّا وجد] ذَلِك الْخَبَر بِعَيْنِه قد تبين سَمَاعه عَن ثِقَة ثمَّ مثل ذَلِك بمراسيل صغَار الصَّحَابَة فَإِنَّهُم لَا يرسلون إِلَّا عَن صَحَابِيّ انْتهى
وَخرج من هَذَا عدم اخْتِصَاص ابْن عُيَيْنَة بل من كَانَت عَادَته لَا يُدَلس إِلَّا عَن ثِقَة فَحَدِيثه مَقْبُول وَبِذَلِك صرح أَبُو الْفَتْح الْأَزْدِيّ وَأَبُو بكر الْبَزَّار فَقَالَ فِي الْجُزْء الْمَذْكُور إِن من كَانَ يُدَلس عَن الثِّقَات كَانَ تدليسه عِنْد أهل الْعلم مَقْبُولًا ثمَّ قَالَ فَمن كَانَت هَذِه صفته وَجب أَن يكون حَدِيثه مَقْبُولًا وَإِن كَانَ مدلسا وَإِلَى ذَلِك أَشَارَ أَبُو بكر الصَّيْرَفِي فِي كتاب الدَّلَائِل والأعلام فَقَالَ كل من ظهر تدليسه عَن غير الثِّقَات لم يقبل خَبره حَتَّى يَقُول حَدثنِي أَو سَمِعت انْتهى
وَمَا سبق عَن الدَّارَقُطْنِيّ عَن ابْن جريج فِيهِ تَشْدِيد ويروى أَن ابْن أبي خَيْثَمَة
فِي تَارِيخه [قَالَ] حَدثنَا إِبْرَاهِيم عَن عُرْوَة حَدثنِي يحيى بن سعيد عَن ابْن جريج قَالَ إِذا قلت قَالَ فَإِنِّي سمعته (د 58) مِنْهُ وَإِن لم أقل سمعته مِنْهُ
قَالَ وَحدثنَا يحيى بن معِين ثَنَا سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم] قَالَ مَا نَفَعَنِي مَال أحد مَا نَفَعَنِي مَال أبي بكر
فَاتبع سُفْيَان صديق كَانَ لَهُ قَالَ هَذَا الحَدِيث سمعته من الزُّهْرِيّ قَالَ لَا وَلَكِن حَدثنِي بِهِ وَائِل بن دَاوُد قَالَ يحيى بن معِين وَوَائِل بن دَاوُد لم يسمع من الزُّهْرِيّ وَإِنَّمَا سمع من ابْنه بكر بن وَائِل وَكَانَ بكر ندب إِلَيّ الزُّهْرِيّ انْتهى
والمثال الْجيد لهَذَا الْقسم أَن التِّرْمِذِيّ أخرج فِي جَامعه من حَدِيث ابْن شهَاب
عَن أبي سَلمَة عَن عَائِشَة مَرْفُوعا لَا نذر فِي مَعْصِيّة وكفارته كَفَّارَة يَمِين ثمَّ قَالَ هَذَا حَدِيث لَا يَصح لِأَن الزُّهْرِيّ لم يسمعهُ من أبي سَلمَة سَمِعت مُحَمَّدًا يَقُول رُوِيَ عَن غير وَاحِد مِنْهُم مُوسَى بن عقبَة وَابْن أبي عَتيق عَن الزُّهْرِيّ عَن سُلَيْمَان بن ارقم عَن يحيى بن أبي كثير [عَن أبي سَلمَة] عَن عَائِشَة مَرْفُوعا قَالَ مُحَمَّد والْحَدِيث هُوَ هَذَا
171 -
(قَوْله) الْقسم الثَّانِي كي لَا يعرف
أَي لكَونه ضَعِيفا أَو مُتَأَخّر الْوَفَاة قد شَارك الرَّاوِي عَنهُ جمَاعَة دونه فِي السماع مِنْهُ أَو يكون أَصْغَر من الرَّاوِي سنا [سمع] أَو تكون أَحَادِيثه الَّتِي عِنْده كَثِيرَة فَلَا يحب تكْرَار الرِّوَايَة عَنهُ كَمَا ذكره ابْن الصّلاح عَنهُ
قَالَ الْحَاكِم فِي سُؤَالَات البغداديين لَهُ مَذْهَب سُفْيَان بن سعيد أَن يكني الْمَجْرُوحين من الْمُحدثين إِذا روى عَنْهُم مثل بَحر السقاء يَقُول حَدثنَا أَبُو الْفضل والصلت بن دِينَار يَقُول حَدثنَا أَبُو شُعَيْب والكلبي يَقُول حَدثنَا أَبُو النَّضر
وَسليمَان بن أَرقم يَقُول حَدثنَا أَبُو معَاذ انْتهى
وَلأَجل هَذَا أفرد المُصَنّف النَّوْع الثَّامِن وَالْأَرْبَعِينَ (أ 94) فِيمَن ذكر بأسماء مُخْتَلفَة وَمن ذَلِك تكْثر ألقاب إِبْرَاهِيم بن يحيى وَمُحَمّد بن سعيد المصلوب إِلَى نَحْو الْمِائَة قَالَ أَبُو دَاوُد حدث ابْن جريج عَن إِبْرَاهِيم بن أبي يحيى وَمُحَمّد بن سعيد فَقَالَ عَن إِبْرَاهِيم بن أبي عَطاء حَكَاهُ الْآجُرِيّ وكنوا عَن الْوَاقِدِيّ مُحَمَّد بن أبي سَلمَة وَيدخل
فِي كَلَام المُصَنّف [وَهُوَ] أَن يذكر الرَّاوِي الضَّعِيف باسمه أَو كنيته وَلَكِن لَا يُتَابع فِي تَعْرِيفه وشاركه فِي تِلْكَ الكنية ثِقَة فَتوهم أَنه ذَلِك الثِّقَة قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل بَلغنِي أَن عَطِيَّة كَانَ يَأْتِي الْكَلْبِيّ فَيَأْخُذ عَنهُ التَّفْسِير فَكَانَ يكنيه بِأبي سعيد فَيَقُول قَالَ أَبُو سعيد يَعْنِي ليوهم النَّاس أَنه يروي عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ التَّفْسِير الَّذِي كَانَ يَأْخُذهُ عَنهُ وَأَيْنَ هَذَا من عَليّ بن الْمَدِينِيّ كَانَ يروي عَن أَبِيه وَكَانَ أَبوهُ ضَعِيفا فيبينه ثمَّ يَقُول وَفِي حَدِيث الشَّيْخ مَا فِيهِ
وَاعْلَم أَنهم قد يَفْعَلُونَ ذَلِك لَا لقادح فِي الشَّيْخ بل لِمَعْنى عِنْد الرَّاوِي مثل مُحَمَّد بن يحيى بن عبد الله بن خَالِد بن فَارس بن ذُؤَيْب الذهلي النَّيْسَابُورِي الإِمَام الْمَشْهُور يروي عَنهُ البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح (وَلَا يُصَرح) بنسبه بل ينْسبهُ مرّة إِلَى جده وَمرَّة إِلَى جد أَبِيه قَالَ النَّسَائِيّ هُوَ ثِقَة مَأْمُون وَإِنَّمَا فعل ذَلِك للفتنة الْوَاقِعَة بَينه وَبَينه فِيمَا حَكَاهُ الْخَطِيب فِي تَارِيخه وَقَول الذهلي من كَانَ يخْتَلف إِلَى هَذَا الرجل فَلَا يخْتَلف إِلَيْنَا قَالَ ابْن الْمُنِير وَإِنَّمَا أبهم البُخَارِيّ
اسْمه فِي الصَّحِيح لِأَنَّهُ لما اقْتضى التَّحْقِيق عِنْده أَن تبقى رِوَايَته عَنهُ خشيَة كتم الْعلم وعذره فِي قدحه فِيهِ بالتأويل خشِي على النَّاس أَن يقعوا فِيهِ فَإِنَّهُ قد عدد من جرحه وَذَلِكَ يُوهم أَنه صدقه على نَفسه فيجر ذَلِك وَهنا إِلَى البُخَارِيّ فأخفى اسْمه وغطى وسمه وَمَا كتم عَلَيْهِ فَجمع بَين المصلحتين وَالله أعلم بمراده
172 -
(قَوْله) عَن ابْن مُجَاهِد كَانَ ينْسب النقاش إِلَى جد لَهُ
يَقْتَضِي كَرَاهَة ذَلِك وَلِهَذَا جعله تدليسا وَحكى ابْن الْمواق فِي بغية النقاد خلافًا فِي نِسْبَة الرجل إِلَى جده وَاخْتَارَ التَّفْصِيل بَين الْمَشْهُور بِهِ فجوز ذَلِك وَإِلَّا فَلَا لما فِيهِ من إِبْهَام أَمرهم وتعمية طَرِيق معرفتهم
173 -
(قَوْله) أما الْقسم الأول فمكروه جدا ذمه أَكثر الْعلمَاء
أَي وَمِنْهُم من سهله قَالَ أَبُو بكر الْبَزَّار فِي مُسْنده التَّدْلِيس لَيْسَ بكذب وَإِنَّمَا هُوَ تَحْسِين لظَاهِر الْإِسْنَاد
174 -
(قَوْله) فروينا عَن الشَّافِعِي إِلَى آخِره
الَّذِي رَوَاهُ عَن الشَّافِعِي عبد الْعَزِيز بن مِقْلَاص قَالَ سَمِعت أبي يَقُول سَمِعت الشَّافِعِي يَقُول [كَانَ شُعْبَة يَقُول] التَّدْلِيس أَخُو الْكَذِب رَوَاهُ ابْن عدي فِي الْكَامِل وَكَذَا عبد الْغَنِيّ فِي أدب الحَدِيث لَكِن بِلَفْظ أخي الْكَذِب
بِالتَّصْغِيرِ وَهِي دون الأولى وَالرِّوَايَة الثَّابِتَة عَن شُعْبَة رَوَاهَا عَنهُ أَبُو نعيم ذكرهَا ابْن عدي أَيْضا وَأسْندَ عَن قراد قَالَ سَمِعت شُعْبَة يَقُول كل حَدِيث لَيْسَ فِيهِ حَدثنَا وَأخْبرنَا فَهُوَ خل وبقل
وَقَالَ أَبُو عَاصِم النَّبِيل أقل حالات المدلس عِنْدِي أَنه يدْخل فِي حَدِيث النَّبِي صلى الله عليه وسلم المتشبع بِمَا لم يُعْط كلابس ثوبي زور
وَحكى عبد الْغَنِيّ بن سعيد عَن وَكِيع قَالَ لَا يحل تَدْلِيس الثَّوْب فَكيف تَدْلِيس الحَدِيث
وَقَالَ أَبُو الْفرج الْمعَافى بن زَكَرِيَّا النهرواني فِي الْمجْلس الثَّالِث وَالْخمسين من كتاب الجليس الصَّالح كَانَ شُعْبَة يُنكر التَّدْلِيس وَيَقُول فِيهِ مَا يتَجَاوَز الْحَد مَعَ كَثْرَة رِوَايَته عَن المدلسين ومشاهدته من كَانَ مدلسا من أَعْلَام أهل الْعلم الْمُحدثين
كالأعمش وسُفْيَان الثَّوْريّ وَابْن عُيَيْنَة وهشيم بن بشير وَغَيرهم والمدلس من هَؤُلَاءِ لَيْسَ بِكَذَّابٍ فِي رِوَايَته وَلَا مَجْرُوح فِي عَدَالَته وَلَا مغموص فِي إِمَامَته وأعلام الْفُقَهَاء يحتجون فِي الدّين بنقله وَكَانَ الشَّافِعِي لَا يرى بِمَا يرويهِ المدلس حجَّة إِلَّا أَن يَقُول فِي رِوَايَته حَدثنَا وَأخْبرنَا أَو سَمِعت (أ 95) فقد وجدنَا لشعبة مَعَ سوء قَوْله فِي التَّدْلِيس تدليسا فِي عدَّة أَحَادِيث رَوَاهَا جَمعنَا ذَلِك فِي مَوضِع هُوَ أولى بِهِ انْتهى كَلَامه
وَلَا يخفى مَا فِيهِ من التحامل وسيتبين أَنه إِنَّمَا كَانَ يروي عَن المدلس إِذا صرح لَهُ بِالتَّحْدِيثِ وَإِلَّا تَركه وَهَذَا غير قَادِح وَأما نسبته إِيَّاه إِلَى التَّدْلِيس فَإِن ثَبت
فَلَيْسَ هُوَ من التَّدْلِيس المذموم وَسَنذكر فِي آخر الْبَاب فصلا فِي مَقَاصِد الثِّقَات بالتدليس
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ فِي القواطع اعْلَم أَن عَامَّة الْمُحدثين من أهل الْحجاز قد صانوا أنفسهم عَن التَّدْلِيس إِلَّا مَا ذَكرْنَاهُ عَن ابْن عُيَيْنَة وَهُوَ كُوفِي وَقد سكن مَكَّة وَصَارَ إِمَام الدُّنْيَا فِي الحَدِيث وَإِنَّمَا كثر التَّدْلِيس من أهل الْكُوفَة وَجَمَاعَة من أهل الْبَصْرَة وَالشَّام وَقد كَانَ هشيم بن بشير كثير التَّدْلِيس وَهُوَ من أهل وَاسِط (د 59) وَأما أهل بَغْدَاد وَالْجِبَال وَأهل خُرَاسَان وَمَا وَرَاء النَّهر فَلَا يذكر عَن أحد مِنْهُم التَّدْلِيس إِلَّا الشَّيْء الْيَسِير وَقد روى عبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث بن سعيد
عَن أَبِيه أَنه قَالَ التَّدْلِيس ذل وَحكى عَبْدَانِ عَن ابْن الْمُبَارك أَنه ذكر رجلا فِيمَن كَانَ يُدَلس فَقَالَ فِيهِ قولا شَدِيدا وَأنْشد فِيهِ
(دلّس للنَّاس أَحَادِيثه
…
وَالله لَا يقبل تدليسا)
175 -
(قَوْله) ثمَّ اخْتلفُوا فِي قبُول رِوَايَة من عرف بِهَذَا التَّدْلِيس إِلَى آخِره
فِيهِ أُمُور
أَحدهَا حَاصله حِكَايَة مذهبين أَحدهمَا أَنه يرد حَدِيثه مُطلقًا سوء بَين السماع أم لَا وَأَن التَّدْلِيس جرح قَالَ القَاضِي عبد الْوَهَّاب فِي الملخص وَهُوَ
الظَّاهِر عِنْدِي على أصُول مَالك وَالثَّانِي وَصَححهُ التَّفْصِيل فَإِن صرح بالاتصال كَقَوْلِه سَمِعت وَحدثنَا وَأخْبرنَا فَهُوَ مَقْبُول يحْتَج بِهِ وَإِن أَتَى بِلَفْظ مُحْتَمل فَحكمه حكم الْمُرْسل وَهَذَا القَوْل هُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي كَمَا قَالَه ابْن السَّمْعَانِيّ فِي القواطع وَقد تقدم نَقله أَيْضا عَن الشَّافِعِي من كَلَام النهرواني وَسوى بَين حَدثنَا وَأخْبرنَا وَالَّذِي حَكَاهُ القَاضِي عبد الْوَهَّاب فِي الملخص عَن الشَّافِعِي أَنه لَا يقبل من المدلس إِلَّا إِذا صرح بحدثني أَو سَمِعت دون قَوْله عَن أَو أَخْبرنِي وَهُوَ ظَاهر نقل ابْن السَّمْعَانِيّ أَيْضا بل هُوَ ظَاهر نَص الشَّافِعِي فِي الرسَالَة فَإِنَّهُ قَالَ فَقُلْنَا لَا يقبل من مُدَلّس حَدِيثا حَتَّى يَقُول فِيهِ حَدثنِي أَو سَمِعت هَذَا كَلَامه وَهُوَ نَص غَرِيب لم يحكمه الْجُمْهُور وَيخرج مِنْهُ مَذْهَب ثَالِث فِي الْمَسْأَلَة وَذكر بعض الْحَنَفِيَّة من شارحي الْبَزْدَوِيّ
مذهبا آخر وَهُوَ التّرْك مُطلقًا وَبَين أَنه الْمُصَحح عِنْدهم لِأَن عَدَالَة الرَّاوِي تَقْتَضِي أَنه مَا ترك ذكره إِلَّا لِأَنَّهُ عدل ثِقَة عدهَا على الِاحْتِجَاج بالمرسل وَأَنه يرى تعديله صَرِيحًا لَكِن الثَّانِي هُوَ قَول الْأَكْثَرين من الْمُحدثين وَالْفُقَهَاء وَمِنْهُم عَليّ بن الْمَدِينِيّ وَيحيى بن معِين وَغَيرهم قَالَ يَعْقُوب بن شيبَة سَأَلت يحيى بن معِين عَن التَّدْلِيس فكرهه وعابه قلت لَهُ أفيكون المدلس حجَّة فِيمَا روى [أَو] حَتَّى يَقُول حَدثنَا وَأخْبرنَا قَالَ لَا يكون حجَّة فِيمَا دلّس
وَقَالَ يحيى الْقطَّان سَمِعت شُعْبَة يَقُول كنت أَجْلِس إِلَى قَتَادَة فَإِذا سمعته يَقُول سَمِعت فلَانا وَحدثنَا فلَان كتبت وَإِذا قَالَ قَالَ فلَان وَحَدِيث فلَان لم أكتب
وَقَالَ يَعْقُوب بن شيبَة من دلّس عَن غير ثِقَة وَعَمن لم يسمع مِنْهُ فقد جَاوز التَّدْلِيس الَّذِي رخص فِيهِ الْعلمَاء وَقَالَ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي صَحِيحه وَأما المدلسون الَّذين هم ثِقَات عدُول فَإنَّا لَا نحتج بأخبارهم إِلَّا بِمَا بينوا السماع فِيمَا رووا مثل الثَّوْريّ وَالْأَعْمَش وَأبي إِسْحَاق (أ 96) وأضرابهم من الْأَئِمَّة المتقنين وَأهل الْوَرع فِي الدّين لأَنا مَتى قبلنَا خبر مُدَلّس دلّس هَذَا الْخَبَر عَن ضَعِيف اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يكون المدلس يعلم أَنه مَا دلّس قطّ إِلَّا عَن ثِقَة فَإِذا كَانَ كَذَلِك قبلت رِوَايَته وَإِن لم يبين السماع وَهَذَا لَيْسَ فِي الدُّنْيَا إِلَّا لِسُفْيَان بن عُيَيْنَة وَحده انْتهى
وَيخرج من هَذَا مَذْهَب رَابِع وَهُوَ التَّفْصِيل بَين أَن يكون من عَادَته فَلَا يقبل حَتَّى يبين وَهَذَا مَذْهَب أبي الْفَتْح الْأَزْدِيّ فَإِنَّهُ قَالَ إِن كَانَ التَّدْلِيس عَن ثِقَة لم يحْتَج أَن يُوقف على شَيْء مِنْهُ وَإِن كَانَ عَن غير ثِقَة لم يقبل حَتَّى يَقُول حَدثنِي أَو سَمِعت فَيقبل تَدْلِيس ابْن عُيَيْنَة ونظرائه لِأَنَّهُ يحِيل على مَلِيء ثِقَة وَلَا يقبل تَدْلِيس الْأَعْمَش لِأَنَّهُ يحِيل على غير مَلِيء انْتهى
وَحكى بَعضهم الِاتِّفَاق على أَن المدلس إِذا لم يُصَرح بِالتَّحْدِيثِ لم يقبل
وَحَكَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي الْمدْخل عَن الشَّافِعِي وَسَائِر أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ يَعْنِي فِيمَن لَا يقبل الْمُرْسل على أَن بعض من احْتج بالمرسل لَا يقبل عنعنة المدلس وَحكى القَاضِي عبد الْوَهَّاب والخطيب فِي الْكِفَايَة أَن جُمْهُور من احْتج بالمرسل يقبل خبر المدلس
الْأَمر الثَّانِي أَن حَاصِل مَا حَكَاهُ من التَّفْصِيل عَن الْجُمْهُور أَنه لَا يصير مجروحا بذلك وَعَن غَيرهم الْجرْح سَوَاء بَين السماع أم لَا وَفصل ابْن السَّمْعَانِيّ فِي القواطع فَقَالَ إِن كَانَ إِذا استكشف لم يخبر باسم من يروي عَنهُ فَهَذَا يسْقط الِاحْتِجَاج بحَديثه لِأَن التَّدْلِيس مِنْهُ تزوير وإيهام لما لَا حَقِيقَة لَهُ وَذَلِكَ يُؤثر فِي صدقه وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم المتشبع بِمَا لم يُعْط كلابس ثوبي زور
وَإِن كَانَ إِذا استكشف عَنهُ أخبر باسمه وأضاف الحَدِيث إِلَى ناقله فَهَذَا لَا يسْقط الحَدِيث وَلَا يُوجب الْقدح فِي الرَّاوِي
قَالَ وَقد كَانَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة يُدَلس فَإِذا سُئِلَ عَمَّن حَدثهُ أخبر باسمه وَلم يَكْتُمهُ وَهَذَا شَيْء مَشْهُور عَنهُ ثمَّ نبه على فَائِدَة جليلة وَهِي أَن الشَّافِعِي كَانَ لَا يروي عَنهُ مَا يدْخلهُ التَّدْلِيس دينا
الثَّالِث أَنه سوى على قَول الْجُمْهُور بَين حَدثنَا وَأخْبرنَا فِي الحكم بالاتصال وَقد علمت أَن مَذْهَب الشَّافِعِي أَنه لَا يقبل فِي أخبرنَا وَلِهَذَا أورد الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ على الْمَذْهَب الْمَشْهُور سؤالا وَهُوَ أَنه يجب أَن لَا يقبل قَول المدلس أخبرنَا فلَان لِأَن ذَلِك يسْتَعْمل فِي السماع وَغَيره فَقَالَ أَخْبرنِي على قصد المناولة وَالْإِجَازَة وَالْمُكَاتبَة وأجابه بِأَن هَذَا لَا يلْزم لِأَن هَذِه اللَّفْظَة ظَاهِرَة السماع وَالْحمل على غير ذَلِك مجَاز وَالْحمل على الظَّاهِر أولى وَمَا
ذكره الْخَطِيب لَا يقوى مَعَ شُبْهَة التَّدْلِيس وَلنَا أَن نلتزم السُّؤَال ونقول لَا يقبل قَوْله أَخْبرنِي كَمَا سبق نَقله عَن الشَّافِعِي لهَذَا الْمَعْنى
176 -
(قَوْله) وَأَن مَا رَوَاهُ المدلس بِلَفْظ مُحْتَمل لم يبين فِيهِ السماع والاتصال فَحكمه حكم الْمُرْسل
يسْتَثْنى من هَذَا مَا إِذا كَانَ المدلس لَا يُدَلس إِلَّا عَن ثِقَة فَإِنَّهُ تقبل رِوَايَته وَإِن لم يبين السماع كسفيان بن عُيَيْنَة
177 -
(قَوْله) وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا من الْكتب الْمُعْتَمدَة من حَدِيث هَذَا الضَّرْب كثير جدا إِلَى آخِره
هَكَذَا ذكره محتجا [بِهِ] على قبُول رِوَايَة المدلس إِذا صرح بالاتصال وَلَيْسَ هَذَا من مَوضِع النزاع قَالَ النَّوَوِيّ فِي مُخْتَصره مَا كَانَ فِي الصَّحِيحَيْنِ
وَغَيرهمَا من الْكتب الصَّحِيحَة عَن المدلسين يَعْنِي فَمَحْمُول على ثُبُوت سَمَاعه من جِهَة أُخْرَى
وَكَذَا قَالَ الْحَافِظ الْحلَبِي فِي الْقدح الْمُعَلَّى إِن المعنعنات الَّتِي فِي الصَّحِيحَيْنِ منزلَة [منزلَة] السماع
وَتوقف فِي ذَلِك من الْمُتَأَخِّرين الشَّيْخ صدر الدّين بن الْوَكِيل وَقَالَ فِي كِتَابه الْإِنْصَاف لعمر الله إِن فِي النَّفس لغصة (د 60) من اسْتثِْنَاء أبي عَمْرو بن الصّلاح
وَغَيره من الْمُتَأَخِّرين (أ 97) عنعنة المدلسين فِي الصَّحِيحَيْنِ من بَين سَائِر معنعنات المدلسين ورد مقَالَة النَّوَوِيّ وَقَالَ هِيَ دَعْوَى لَا تقبل إِلَّا بِدَلِيل لَا سِيمَا مَعَ أَن كثيرا من الْحفاظ يعللون أَحَادِيث وَقعت فِي الصَّحِيحَيْنِ أَو أَحدهمَا بتدليس رواتها كَمَا فعلوا فِي حَدِيث الْوَلِيد بن مُسلم فِي نفي قِرَاءَة الْبَسْمَلَة فِي الصَّلَاة وَغَيره قلت قد أَزَال الغصة الشَّيْخ الإِمَام تَقِيّ الدّين بن دَقِيق الْعِيد فاشار فِي كَلَام لَهُ إِلَى استشكال حول رِوَايَة المدلس فِي الصَّحِيحَيْنِ ورد رِوَايَته فِي غَيرهمَا قَالَ وَلَا بُد من الثَّبَات على طَريقَة وَاحِدَة إِمَّا الْقبُول أَو الرَّد الْمُمكن هُنَا من الْأَحْوَال الثَّلَاثَة إِمَّا أَن ترد الْأَحَادِيث من المدلس مُطلقًا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا وَإِمَّا أَن تقبل مُطلقًا تَسْوِيَة بَين الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا وَإِمَّا أَن يفرق بَين مَا فِي الصَّحِيح من ذَلِك وَمَا خرج عَنهُ فَأَما الأول فَلَا سَبِيل إِلَيْهِ للاستقرار على ترك التَّعَرُّض لما فِي الصَّحِيحَيْنِ وَإِن خَالف فِي ذَلِك الظَّاهِرِيَّة من المغاربة فَإِنِّي رَأَيْتهمْ
يجسرون على أَشْيَاء من أَحَادِيث الصَّحِيحَيْنِ بِسَبَب كَلَام قيل فِي بعض الروَاة وَلَا يجْعَلُونَ راويها فِي حمى من تَخْرِيج صَاحب الصَّحِيح لَهُم
وَأما الثَّانِي فَفِيهِ خُرُوج عَن الْمَذْهَب الْمَشْهُور فِي أَن رِوَايَة المدلس مَحْكُوم عَلَيْهَا بالانقطاع حَتَّى يتَبَيَّن السماع
وَأما الثَّالِث وَهُوَ التَّفْصِيل بَين مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ من ذَلِك وَبَين غَيره فَلَا يظْهر فِيهِ وَجه صَحِيح فِي الْفرق وَغَايَة مَا يُوَجه بِهِ أحد أَمريْن
أَحدهمَا أَن يدعى أَن تِلْكَ الْأَحَادِيث عرف صاحبا الصَّحِيح صِحَة السماع فِيهَا وَهَذَا إِحَالَة على جَهَالَة وَإِثْبَات لِلْأَمْرِ بِمُجَرَّد الِاحْتِمَال وَحكم على
صَاحب الصَّحِيح بِأَنَّهُ يرى هَذَا الْمَذْهَب أَعنِي أَن رِوَايَة المدلس مَحْمُولَة على الإنقطاع وَإِلَّا فَيجوز أَن يرى أَنَّهَا مَحْمُولَة على السماع حَتَّى يظْهر الِانْقِطَاع وَإِذا جَازَ وَجَاز فَلَيْسَ لنا الحكم عَلَيْهِ بِأحد الجائزين مَعَ الِاحْتِمَال
وَالثَّانِي أَن يدعى أَن الْإِجْمَاع على صِحَة مَا فِي الْكِتَابَيْنِ دَلِيل على وُقُوع السماع فِي هَذِه الْأَحَادِيث وَإِلَّا لكَانَتْ الْأمة مجمعة على الْخَطَأ وَهُوَ مُمْتَنع وَهَذَا
يحْتَاج إِلَى إِثْبَات الْإِجْمَاع الَّذِي يمْتَنع أَن يَقع فِي نفس الْأَمر خلاف مُقْتَضَاهُ وَهَذَا فِيهِ عسر وَنحن مَا ادعيناه وَإِنَّمَا ادعينا أَن الظَّن الثَّابِت سَبَب الإطباق على التَّصْحِيح لما فِي الْكِتَابَيْنِ أقوى من الظَّن الْمُقَابل لَهُ وَيلْزم من سلك هَذِه الطَّرِيق أَلا يسْتَدلّ بِمَا جَاءَ فِي رِوَايَة المدلس من غير الصَّحِيح وَلَا يَقُول هَذَا شَرط مُسلم فلنحتج بِهِ لِأَن الْإِجْمَاع الَّذِي يدعى لَيْسَ مَوْجُودا فِيمَا لم يخرج فِي غير الصَّحِيح قَالَ وَالْأَقْرَب فِي هَذَا أَن نطلب الْجَواب من غير هَذَا الطَّرِيق أَعنِي طَرِيق الْقدح بِسَبَب التَّدْلِيس
178 -
(قَوْله) وَقد أجراه الشَّافِعِي فِيمَن عَرفْنَاهُ دلّس مرّة
قلت يُشِير إِلَى أَن الْعَادة فِي التَّدْلِيس يثبت بِمرَّة لِأَنَّهُ نوع جرح وَقد رَأَيْت نَص الشَّافِعِي فِي الرسَالَة بذلك فَقَالَ وَمن عَرفْنَاهُ دلّس مرّة فقد أبان لنا عَوْرَته فِي رِوَايَته وَلَيْسَت تِلْكَ الْعَوْرَة بكذب فَيرد بهَا حَدِيثه وَلَا نصيحة فِي الصدْق فنقبل مِنْهُ مَا قبلناه من أهل النَّصِيحَة والصدق فَقُلْنَا لَا يقبل من مُدَلّس حَدِيثا حَتَّى يَقُول فِيهِ حَدثنِي أَو سَمِعت انْتهى
وَمَعْنَاهُ أَنه إِذا قَالَ المدلس بِلَفْظ مُحْتَمل السماع وَعَدَمه لَا يقبل مِنْهُ حَتَّى يبين
أَنه سَمعه مِنْهُ أَو سَمعه مِمَّن سَمعه مِنْهُ وَقد حكم الْبَيْهَقِيّ بِعَدَمِ قبُول قَول من دلّس مرّة (أ 98) وَاحِدَة مثل القنان ثمَّ إِذا بَين أَنه سَمعه مِمَّن أسْند الْخَبَر إِلَيْهِ قبل وَإِن لم يبين أَنه سَمعه مِمَّن سَمعه مِنْهُ فقد تَأَكد فِيهِ شَيْء فِيهِ الْخلاف
179 -
(قَوْله) أما الْقسم الثَّانِي فَإِنَّهُ أخف وَفِيه تَضْييع للمروي عَنهُ
أَو للمروي أَيْضا بألا يُثبتهُ فَيصير بعض رُوَاته مَجْهُولا قَالَ الشَّيْخ أَبُو الْفَتْح الْقشيرِي للتدليس مفْسدَة إِذْ يصير الرَّاوِي مَجْهُولا فَيسْقط الْعَمَل بِالْحَدِيثِ بِجَهَالَة الرَّاوِي وَإِن كَانَ عدلا فِي نفس الْأَمر وَهَذِه جِنَايَة عظمى ومفسدة كبرى وَله مصلحَة وَهُوَ امتحان النَّفس فِي اسْتِخْرَاج التدليسات وإلقاء ذَلِك إِلَى من يُرَاد اختبار حفظه ومعرفته بِالرِّجَالِ
ووراء ذَلِك مفْسدَة أُخْرَى يراعيها أَرْبَاب الصّلاح والقلوب وَهُوَ مَا فِي التَّدْلِيس من التزين وَقد تنبه لذَلِك ياقوتة الْعلمَاء الْمعَافى بن عمرَان
الْموصِلِي وَكَانَ من أكَابِر الْعلمَاء والصلحاء انْتهى
وَلم يُصَرح ابْن الصّلاح بِحكم من عرف بِهَذَا الْقسم وَقَضِيَّة كَلَامه أَنه غير قَادِح وَحَكَاهُ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق فِي اللمع وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح وَأطلق ابْن السَّمْعَانِيّ فِي القواطع الأول قَالَ وَمِنْه تَغْيِير الْأَسَامِي بالكنى والكنى بالأسامي لِئَلَّا يعرفوا وَقد فعله سُفْيَان الثَّوْريّ وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا يُوجب الْقدح فِي الحَدِيث
وَفصل ابْن الصّباغ فِي الْعدة بَين أَن يفعل ذَلِك لكَون من روى عَنهُ غير ثِقَة غير نَفسه عِنْد النَّاس وَإِنَّمَا أَرَادَ أَن يُغير اسْمه ليقبلوا خَبره فَلَا يقبل خَبره وَإِن كَانَ هُوَ يعْتَقد فِيهِ الثِّقَة فقد غلط فِي ذَلِك لجَوَاز أَن يعرف غَيره من جرحه مَا لَا يعرفهُ هُوَ فَإِن كَانَ لصِغَر سنه فَيكون ذَلِك رِوَايَة عَن مَجْهُول لَا يجب قبُول خَبره حَتَّى يعرف من روى عَنهُ
وَأطلق ابْن برهَان فِي الْأَوْسَط أَن فَاعل هَذَا الْقسم غير مَجْرُوح إِلَّا أَن يكون الَّذِي ورى باسمه من أهل الْأَهْوَاء وَلكنه عدل عَن اسْمه الْمَشْهُور صونا لَهُ عَن الْقدح فَلَا ترد بذلك رِوَايَته لِأَن من الْعلمَاء من قبل رِوَايَة أهل الْأَهْوَاء وَمِنْهُم من قَالَ يصير مجروحا إِذا استفسر فَلم يُفَسر بِخِلَاف غَيره
180 -
(قَوْله) وتسمح بذلك جمَاعَة من الروَاة المصنفين
تسامحهم بِهَذَا الْقسم مَحْمُول على مَا إِذا لم يكن المكنى عَنهُ هَالكا وَإِلَّا فَلَا يتَسَامَح بِهِ أحد
181 -
(قَوْله) مِنْهُم الْخَطِيب أَبُو بكر فقد [كَانَ] لهجا بِهِ فِي تصانيفه
يَعْنِي وَلِهَذَا يَقُول حَدثنَا أَحْمد بن أبي جَعْفَر الْقطيعِي وَمرَّة الرَّوْيَانِيّ وَهُوَ
هُوَ وَقَالَ حَدثنَا عَليّ بن أبي عَليّ الْمعدل وَمرَّة الْبَصْرِيّ وَهُوَ هُوَ وَقَالَ حَدثنَا مُحَمَّد بن أبي الْحسن الساحلي وَمرَّة الشِّيرَازِيّ وَهُوَ هُوَ وَغير ذَلِك
وَاعْلَم أَنه قد فَاتَ المُصَنّف من التَّدْلِيس أَقسَام
أَحدهَا تَدْلِيس الْإِسْقَاط وَهُوَ أَلا يسْقط شَيْخه لَكِن يسْقط من بعده لكَونه رجلا ضَعِيفا أَو صَغِير السن لتحسين الحَدِيث بإسقاطه ذكره الْخَطِيب قَالَ وَكَانَ الْأَعْمَش وَالثَّوْري وَبَقِيَّة يَفْعَلُونَ هَذَا النَّوْع
وَقَالَ الْعَبَّاس الدوري حَدثنَا قبيصَة قَالَ حَدثنَا سُفْيَان يَوْمًا [حَدِيثا] ترك (د 61) فِيهِ رجلا فَقَالَ لَهُ يَا أَبَا عبد الله فِيهِ رجل قَالَ هَذَا أسهل للطريق وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي علله سَمِعت أبي - وَذكر الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه عَن بَقِيَّة - فَقَالَ حَدثنِي أَبُو وهب الْأَسدي عَن نَافِع عَن ابْن عمر قَالَ (أ 99) لَا تحمدوا إِسْلَام امْرِئ حَتَّى تعرفوا عقدَة [رَأْيه] وَأَنه قَالَ أبي هَذَا الحَدِيث لَهُ عِلّة قل من يفهمها روى هَذَا الحَدِيث عبيد الله بن عَمْرو عَن إِسْحَاق بن أبي فَرْوَة عَن نَافِع عَن ابْن عمر وَعبيد الله بن عَمْرو كنيته أَبُو وهب وَهُوَ أسدي فجَاء بَقِيَّة فكنى
عبيد الله وَنسبه إِلَى بني أَسد لكَي لَا يفْطن لَهُ حَتَّى إِذا ترك إِسْحَاق بن أبي فَرْوَة من الْوسط لَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ وَكَانَ بَقِيَّة من أفعل النَّاس لهَذَا وَلَعَلَّ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه حفظ الحَدِيث عَن بَقِيَّة وَلم يتفطن لهَذَا
وَيُقَال إِن مَا رَوَاهُ مَالك بن أنس عَن ثَوْر بن زيد عَن ابْن عَبَّاس كَانَ ثَوْر يرويهِ عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس وَكَانَ مَالك يكره الرِّوَايَة عَن عِكْرِمَة فأسقط اسْمه من الحَدِيث وأرسله قَالَ الْخَطِيب وَهَذَا لَا يجوز وَإِن احْتج مَالك بالمرسل لِأَنَّهُ قد علم أَن الحَدِيث عَمَّن لَيْسَ بِحجَّة عِنْده
وَاعْلَم أَن بَعضهم سمى هَذَا النَّوْع تَدْلِيس التَّسْوِيَة وَمِنْهُم أَبُو الْحسن بن الْقطَّان وتلميذه ابْن الْمواق فَقَالَ فِي بغية النقاد وَصورته عِنْد أَئِمَّة هَذَا الشَّأْن أَن يعمد الرَّاوِي إِلَى إِسْقَاط راو من بَين شَيْخه وَبَين من رَوَاهُ عَنهُ شَيْخه أَو من بَين شَيْخه وَمن رَوَاهُ عَنهُ شيخ شَيْخه ليقرب بذلك الْإِسْنَاد وَإِنَّمَا يفعل من يَفْعَله مِنْهُم فِي رَاوِيَيْنِ علم التقاؤهما واشتهرت رِوَايَة أَحدهمَا عَن الآخر حَتَّى يصير مَعْلُوم السماع مِنْهُ ثمَّ يتَّفق لَهُ فِي حَدِيث أَن يرويهِ عَن رجل عَنهُ فيعمد ذَلِك المسوي إِلَى ذَلِك الرجل فيسقطه فَيبقى الْإِسْنَاد ظَاهر الِاتِّصَال فيسوي الْإِسْنَاد كُله ثِقَات وَهَذَا شَرّ أَقسَام التَّدْلِيس لِأَن الثِّقَة الأول قد لَا يكون مَعْرُوفا بالتدليس ويجده الْوَاقِف على الْمسند كَذَلِك بعد التَّسْوِيَة قد رَوَاهُ عَن ثِقَة آخر فَيحكم لَهُ بِالصِّحَّةِ
وَفِي هَذَا غرور شَدِيد قَالَ ومثاله حَدِيث عَليّ إِذا كَانَ لَك مَا تبادرهم ح ~ جرير سمع من أبي إِسْحَاق وروى عَنهُ الْكثير ثمَّ يروي هَذَا الحَدِيث عَن الْحسن بن عمَارَة عَنهُ فإسقاط الْحسن بن عمَارَة لكَونه ضَعِيفا تَسْوِيَة انْتهى
وَمِمَّنْ اشْتهر بِفعل هَذَا بَقِيَّة بن الْوَلِيد بن مُسلم أحد رجال مُسلم أما بَقِيَّة فقد سبق مِثَاله وَأما الْوَلِيد بن مُسلم فَقَالَ أَبُو مسْهر كَانَ الْوَلِيد بن مُسلم يحدث بِأَحَادِيث الْأَوْزَاعِيّ عَن الْكَذَّابين ثمَّ يدلسها عَنْهُم
وَقَالَ صَالح جزرة سَمِعت الْهَيْثَم بن خَارجه يَقُول قلت للوليد بن مُسلم قد أفسدت حَدِيث الْأَوْزَاعِيّ قَالَ كَيفَ قلت تروي عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن نَافِع وَعَن الْأَوْزَاعِيّ عَن الزُّهْرِيّ وَعَن الْأَوْزَاعِيّ عَن يحيى بن سعيد وَغَيْرك يدْخل بَين الْأَوْزَاعِيّ وَبَين نَافِع عبد الله بن عَامر الْأَسْلَمِيّ وَبَينه وَبَين الزُّهْرِيّ إِبْرَاهِيم بن مرّة وقرة قَالَ أنبل الْأَوْزَاعِيّ أَن يروي عَن مثل هَؤُلَاءِ قلت فَإِذا روى عَن هَؤُلَاءِ وهم ضعفاء أَحَادِيث كَثِيرَة مَنَاكِير فأسقطتهم وصيرتها من رِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ عَن الثِّقَات ضعف الْأَوْزَاعِيّ فَلم يلْتَفت إِلَى قولي
وَمِمَّنْ ذكر هَذَا النَّوْع من التَّدْلِيس عَن الْوَلِيد بن مُسلم الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيره قَالَ الْحَافِظ أَبُو سعيد العلائي فِي كِتَابه الْمَرَاسِيل وَهَذَا النَّوْع أفحش أَنْوَاع التَّدْلِيس مُطلقًا وَقَالَ ابْن حزم صَحَّ عَن قوم (أ 100) إِسْقَاط الْمَجْرُوح وَضم الْقوي إِلَى القوى تلبيسا على من يحدث وغرورا لمن يَأْخُذ عَنهُ فَهَذَا مَجْرُوح وفسقه ظَاهر وَخَبره مَرْدُود لِأَنَّهُ سَاقِط الْعَدَالَة وَمن هَذَا النَّوْع الْحسن بن عمَارَة وَشريك بن عبد الله القَاضِي
الْقسم الثَّانِي تَدْلِيس الْبِلَاد كَمَا إِذا قَالَ حَدثنِي فلَان بالعراق يُرِيد موضعا بإخميم
أَو بزبيد يُرِيد موضعا بقوص أَو بحلب يُرِيد موضعا بِالْقَاهِرَةِ أَو بالأندلس يُرِيد موضعا بالقرافة فَهَذَا أخف الْأَقْسَام إِلَّا أَنه لَا يَخْلُو عَن كَرَاهَة لإيهامه الْكَذِب والتشبع بِمَا لم يُعْط قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي تلبيس إِبْلِيس دخل إِلَيْنَا [إِلَى] بَغْدَاد بعض طلبة الحَدِيث فَكَانَ يَأْخُذ الشَّيْخ يقعده فِي الرقة - وَهِي الْبُسْتَان الَّذِي على شاطيء دجلة - فَيقْرَأ عَلَيْهِ وَيَقُول فِي مجموعاته حَدثنِي فلَان بالرقة ويوهم النَّاس أَنَّهَا الْبَلدة الَّتِي بِنَاحِيَة الشَّام لِيَظُنُّوا أَنه قد تَعب فِي الْأَسْفَار لطلب الحَدِيث وَكَانَ يقْعد الشَّيْخ بَين نهر عِيسَى والفرات وَيَقُول حَدثنِي فلَان من وَرَاء النَّهر يُوهم نهر خُرَاسَان فِي طلب الحَدِيث
الثَّالِث جعل ابْن حزم فِي كِتَابه الإحكام من أَقسَام التَّدْلِيس أَن يعمد الْحَافِظ
الْعدْل إِلَى حَدِيث فَيحدث بِهِ على سَبِيل المذاكرة أَو الْفتيا أَو المناظرة وَلَا يذكر لَهُ سندا وَرُبمَا اقْتصر على بعض رُوَاته [وَرُبمَا أسْندهُ وَرُبمَا أرْسلهُ] قَالَ فَهَذَا [لَا يضر رَأْيه وَرِوَايَته] شَيْئا وَسَوَاء قَالَ أخبرنَا فلَان أَو عَن وَقد روينَا عَن عبد الرَّزَّاق قَالَ كَانَ معمر يُرْسل لنا أَحَادِيث فَلَمَّا قدم عَلَيْهِ عبد الله بن الْمُبَارك أسندها لَهُ قَالَ [وَهَذَا النَّوْع فعله جلّ أَصْحَاب الحَدِيث] وأئمة الْمُسلمين كالحسن الْبَصْرِيّ وَقَتَادَة وَعَمْرو بن دِينَار وَالْأَعْمَش وَأبي إِسْحَاق السبيعِي والسفيانين وَأبي الزبير قَالَ وَقد أَدخل الدَّارَقُطْنِيّ فيهم مَالك بن أنس وَلَيْسَ كَذَلِك وَلم يُوجد لَهُ هَذَا إِلَّا فِي قَلِيل من حَدِيثه أرْسلهُ مرّة وأسنده أُخْرَى
الرَّابِع التَّدْلِيس الْخَفي وَلَا يعرفهُ إِلَّا المدقق فِي هَذِه الصِّنَاعَة وَمن أمثلته أَنهم اخْتلفُوا فِي سَماع الْحسن من أبي هُرَيْرَة وَورد فِي بعض الرِّوَايَات عَن الْحسن حَدثنَا أَبُو هُرَيْرَة فَقيل أَرَادَ حدث أهل بلدنا وَهَذَا إِذا لم يقم دَلِيل قَاطع
على أَن الْحسن لم يسمع من أبي هُرَيْرَة لم يجز أَن يُضَاف إِلَيْهِ وَمِنْه قَول أبي إِسْحَاق لَيْسَ أَبُو عُبَيْدَة ذكره لَكِن عبد الرَّحْمَن بن الْأسود عَن أَبِيه فَظَاهره أَن المُرَاد سَمَاعه من عبد الرَّحْمَن بن الْأسود عَن أَبِيه لعدوله عَن أبي عُبَيْدَة قيل إِنَّه تَدْلِيس كَمَا لَو قَالَ ابْتِدَاء عبد الرَّحْمَن بن الْأسود عَن أَبِيه وَلم يقل قبله لَيْسَ أَبُو عُبَيْدَة ذكره نبه عَلَيْهِ صَاحب الاقتراح