المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثاني: حاجة تراثنا اللغوي إلى التهذيب والتنقية - بحوث ومقالات في اللغة

[رمضان عبد التواب]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌الباب الأول: في أصوات اللغة

- ‌الفصل الأول: صوت القاف بين الفصحى واللهجات

- ‌الفصل الثاني: نظرية المحاكاة الصوتية ومناسبة اللفظ للمعنى

- ‌الباب الثاني: في أبنية العربية والتطور اللغوي

- ‌الفصل الأول: كراهة توالي الأمثال في أبنية العربية

- ‌الفصل الثاني: رأي في تفسير الشواذ في لغة العرب

- ‌الباب الثالث: في أصول الاحتجاج اللغوي

- ‌الفصل الأول: أسطورة الأبيات الخمسين في كتاب سيبويه

- ‌الفصل الثاني: حاجة تراثنا اللغوي إلى التهذيب والتنقية

- ‌الباب الرابع: في تاريخ العربية

- ‌الفصل الأول: الفصحى وتحديات العصر

- ‌الفصل الثاني: الفصحى بين الجمود والتحرر

- ‌الباب الخامس: في مناهج البحث اللغوي

- ‌الفصل الأول: في أصول البحث العلمي وتحقيق النصوص

- ‌الفصل الثاني: مصادر "كتاب المزهر" للسيوطي

- ‌الباب السادس: في اللهجات العربية

- ‌الفصل الأول: الخصائص اللغوية القبيلة طيئ القديمة

- ‌الفصل الثاني: من امتداد اللهجات العربية القديمة في بعض اللهجات المعاصرة

- ‌فهرس الكتاب:

الفصل: ‌الفصل الثاني: حاجة تراثنا اللغوي إلى التهذيب والتنقية

‌الفصل الثاني: حاجة تراثنا اللغوي إلى التهذيب والتنقية

عُني اللغويون والنحاة العرب منذ أواخر القرن الأول الهجري، بدراسة الفصحى، وهي تلك اللغة الأدبية المشتركة بين مختلف القبائل العربية، تلك اللغة التي سجل بها الشعراء خواطرهم، ومظاهر الحياة من حولهم، كما استخدمها الخطباء في محافلهم وأسواقهم الأدبية، ثم توجها القرآن الكريم، فأنزله الله تعالى بأعلى ما تصبوا إليه هذه اللغة من مستوى.

ومنذ ذلك الحين، ارتبطت هذه اللغة بالقرآن الكريم، واجتهد النحاة واللغويون في دراستها، وتحديد معالمها من نواحي الأصوات، والصيغ والأبنية، والدلالة، وتركيب الجملة، ووظيفة الكلمة في داخل هذا التركيب.

وقد نشأت الدراسات اللغوية عند العرب، بين كثير من الدراسات التي قامت لخدمة الدين الإسلامي، ولغرض فهم القرآن الكريم، المصدر الأول للتشريع الإسلامي ودستور المسلمين، فقد أدت الحاجة إلى معرفة معاني الألفاظ الغريبة في القرآن الكريم إلى دراسة الشعر العربي، للاستشهاد به على تلك المعاني، فالسبب في الاشتغال بدراسة هذا الشعر في العصور الإسلامية الأولى، كان -فيما أعتقد- هو الحاجة إلى شرح الكلمات الصعبة من القرآن الكريم، وتفسيرها بالشواهد الشعرية.

ومن المعروف أن القرآن الكريم، أنزل بلغة فصحى، تعلو عن مستوى العامة من العرب، ولذلك أخذ الناس في الصدر الأول من الإسلام، يسألون كبار الصحابة، عن تفسير آياته وغريب ألفاظه. وتحدثنا الروايات الإسلامية بأن الناس كانوا يسألون الصحابي المشهور "عبد الله بن عباس".

ص: 141

رضي الله تعالى عنهما، عن معنى ألفاظ معينة من القرآن الكريم، فيفسرها للناس، ويستشهد على تفسيرها بأبيات من الشعر العربي. وقد جمعت هذه الأسئلة وإجاباتها في كتاب مستقل، باسم:"سؤالات نافع بن الأزرق"، ونشرها الدكتور إبراهيم السامرائي، ببغداد سنة 1968م، كما ذكرها جلال الدين السيوطي، في النوع السادس والثلاثين من كتابه:"الإتقان في علوم القرآن"1.

ويمكننا لذلك أن نعد تفسير ابن عباس للقرآن الكريم على هذا النحو، نواة للمعاجم العربية، فقد بدأت الدراسة في هذا الميدان من ميادين اللغة، بالبحث عن معاني الألفاظ الغربية في القرآن الكريم، ولذلك نجد التآليف الأولى في المعاجم، كانت تحمل اسم:"غريب القرآن". وأقدم مؤلف يحمل هذا الاسم، هو لأبي سعيد أبان بن تغلب بن رباح البكري، المتوفى سنة 141هـ2.

وخلص اللغويون العرب من ذلك شيئا فشيئا، إلى دراسة ألفاظ الشعر، واستخراج معانيها، على غرار ما في كتاب "المعاني الكبير" لابن قتيبة الدينوري، المتوفى سنة 276هـ، كما ساح الرعيل الأول من اللغويين في الجزيرة العربية، يجمعون اللغة من أفواه العرب، فقد روي عن الكسائي المتوفى سنة 189هـ، أنه أنفد خمس عشرة قنينة حبر، في الكتابة عن العرب، سوى ما حفظ3.

1 وانظر بعضها في الكامل للمبرد 3/ 222-228 وإيضاح الوقف والابتداء لابن الأنباري 76-98.

2 انظر: معجم الأدباء 1/ 108.

3 انظر: إنباه الرواة 2/ 258.

ص: 142

وتتردد في مؤلفات هؤلاء اللغويين العرب القدامي، أسماء كثير من البدو الفصحاء، الذين تلقوا اللغة عنهم، مثل: أبي تمام الأعرابي، وأبي ثروان العكلي، وأبي الجراح العقيلي، وأبي جميل الكلابي، وأبي حزام العكلي، وأبي شنبل الأعرابي، وأبي صاعد الكلابي، وأبي الغمر العقيلي، وأبي مرة الكلابي، وأبي مهدي الباهلي، وأبي مهدية الكلابي وغيرهم. بل لقد تلقوا اللغة أحيانا عن الأعرابيات، مثل: أم الحمارس البكرية، وغنية الكلابية، وقريبة الأسدية، وغيرهن.

وانتشرت في تلك الفترة المبكرة، طريقة تأليف الرسائل اللغوية الصغيرة، ذات الموضوع الواحد. وممن بقي لنا شيء من تآليفهم على هذه الطريقة في تلك الفترة: الأصمعي المتوفى سنة 216هـ، فقد نشر له "أوجست هفنر" كتابي:"خلق الإنسان" و"الإبل" في ليبزج سنة 1905م، وكتاب "الخيل" في فينا سنة 1895م، وكتاب "الشاء" في فينا سنة 1896م. كما نشر له "رودلف جاير" كتاب "الوحوش" في فينا سنة 1887 م، ونشر له "موللر" كتاب "الفرق" في فينا سنة 1876م، و"لويس شيخو" كتاب:"النبات والشجر" في بيروت سنة 1914م.

ومثل الأصمعي معاصره: أبو زيد الأنصاري المتوفى سنة 214هـ، الذي بقي لنا من مؤلفاته اللغوية، ذات الموضوع الواحد: كتاب "المطر" نشره "جوتهايل" في نيويورك سنة 1895م، ثم نشره "لويس شيخو" في بيروت سنة 1914م، وكتاب "اللبأ واللين" نشره "لويس شيخو" في بيروت سنة 1914م، و"كتاب النوادر في اللغة" نشره "سعيد الخوري الشرتوني"، في بيروت سنة 1894م.

ص: 143

ويطول بنا القول، لو تتبعنا ما وصل إلينا من مؤلفات لغوية، ذات موضوع واحد، لعلماء عاشوا في هذه الفترة، كابن الكلبي المتوفى سنة 204هـ، والفراء المتوفى سنة 207هـ، وأبي عبيدة معمر بن المثنى المتوفى سنة 210هـ، وابن الأعرابي المتوفى سنة 231هـ، وأبي عبيد القاسم بن سلام المتوفى سنة 224هـ، وابن السكيت المتوفى في سنة 244هـ.

وقد عاش إلى جانب هؤلاء كذلك علماء آخرون، ألفوا معاجم شاملة للغة العربية، غير متخصصة في موضوع واحد، كالخليل بن أحمد الفراهيدي المتوفى سنة 175هـ، الذي ألف معجم "العين"، وقد طبع جزء صغير منه، بتحقيق الدكتور عبد الله درويش في بغداد سنة 1976م، ثم صدرت منه عدة أجزاء في بغداد منذ سنة 1980م بتحقيق الدكتور مهدي المخزومي والدكتور إبراهيم السامرائي. وبعد الخليل بزمن يسير جاء أبو عمرو الشيباني المتوفى سنة 206هـ، وألف معجم "الجيم". وقد نشر هذا المعجم بعناية مجمع اللغة العربية بمصر سنة 1975م.

وبعد هذه الفترة الأولى توقفت حركة جمع اللغة، واقتصر جهد اللاحقين من اللغويين، على تنظيم تلك المادة التي جمعها السابقون، وتبويبها طبقا لمناهج مختلفة، فنشأت عندنا ثلاثة أنواع من المعاجم العربية، أحدها: ينظم المادة على حسب المعاني والموضوعات، بجمع تلك الرسائل اللغوية المفردة -التي تحدثنا عنها من قبل- في مؤلف واحد، يضم أبوابا تشبه عناوينها عناوين الرسائل القديمة، ومن هذا النوع من المعاجم:"الألفاظ الكتابية" لعبد الرحمن بن عيسى الهمذاني المتوفى سنة 320هـ، وقد طبع عدة طبعات آخرها بتحقيق الدكتور البدراوي زهران سنة 1980م، ومعجم "متخير الألفاظ" لابن فارس اللغوي المتوفى سنة 395هـ نشره هلال ناجي

ص: 144

في بغداد سنة 1970م، وكتاب "التلخيص في معرفة أسماء الأشياء" لأبي هلال العسكري المتوفى بعد سنة 395هـ، نشره عزة حسن، بدمشق سنة 1969م، و"مبادئ اللغة" للخطيب الإسكافي المتوفى سنة 421هـ، نشر بالقاهرة سنة 1325هـ، و"فقه اللغة" لأبي منصور الثعالبي المتوفى سنة 429هـ طبع أكثر من مرة بالقاهرة وغيرها. وأهم كتب هذا النوع من المعاجم هو كتاب "المخصص في اللغة" لابن سيده الأندلسي المتوفى سنة 458هـ، وقد طبع في 17 سفرا بالقاهرة سنة 1316هـ.

والنوع الثاني من المعاجم العربية، يرتب المادة اللغوية، على حسب مخارج الأصوات، وطريقة التقاليب، مثل تقليب مادة الضاد والراء والباء مثلا، على: ضرب - ضبر - ربض - بضر - برض، وغير ذلك. وقد سار على هذه الطريقة كتاب "العين" للخليل بن أحمد الفراهيدي، الذي كان من الرعيل الأول من اللغويين العرب، وتابعه على ذلك كثيرون منهم: أبو منصور الأزهري المتوفى سنة 370هـ في كتابه: "تهذيب اللغة" الذي نشرته الدار المصرية للتأليف والترجمة والنشر، بتحقيق عبد السلام هارون وآخرين بالقاهرة سنة 1964-1967م، وكذلك ابن سيده الأندلسي، صاحب كتاب "المخصص" السابق، الذي ألف كتابا آخر على طريقة كتاب "العين"، وهو "المحكم والمحيط الأعظم" وقد نشر معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية بالقاهرة سبعة أجزاء منه حتى الآن.

أما النوع الثالث من المعاجم، فإنه يرتب المادة اللغوية، على الترتيب الهجائي المعروف لنا، إما بحسب الأصل الأول للكلمة، كما فعل الزمخشري المتوفى سنة 538هـ في كتابه:"أساس البلاغة"، والفيومي المتوفى سنة

ص: 145

770هـ، في كتابه:"المصباح المنير". وإما بحسب الأصل الأخير للكلمة، مع مراعاة الأصل الأول أيضا. وقد كان المشهور عند الدارسين، أن مبتدع هذا الترتيب هو الجوهري المتوفى حوالي سنة 400هـ، بناء على ما ذكره هو في مقدمة معجمه:"تاج اللغة وصحاح العربية"، من قوله:"على ترتيب لم أسبق له، وتهذيب لم أغلب عليه"، غير أننا اكتشفنا حديثا، معجما أقدم منه، هو:"التقفية" لأبي بشر اليمان بن أبي اليمان البندنيجي المتوفى سنة 284هـ، وقد حققه تلميذي الدكتور خليل العطية، ونشره في بغداد سنة 1976م، وهو يسير على نظام القافية، أو الأصل الأخير من الكلمة. وأغلب الظن أن اللغويين اختاروا هذا النوع من الترتيب، حتى يساعدوا الشاعر على اختيار قافيته في شعره.

وممن سار على هذا الترتيب كذلك: ابن منظور الإفريقي المصري المتوفى سنة 711هـ، في معجمه المشهور:"لسان العرب" الذي طبع في بولاق سنة 1300-1307هـ في عشرين جزءا، كما طبع في بيروت سنة 1955م، في خمسة عشر مجلدا. وكذلك مجد الدين الفيروزآبادي المتوفى سنة 817هـ في معجمه الذي طبقت شهرته الآفاق، وهو:"القاموس المحيط". وقد شرحه "الزبيدي" المتوفى سنة 1205هـ، في كتابه:"تاج العروس".

هذا أحد جوانب تراثنا اللغوي في العربية، وهو جانب متن اللغة، أو "المعجم". ولا ينكر أحد ما بذله أسلافنا فيه، من الجهد الكبير، في البحث والتنقيب، والجمع والترتيب، غير أنه لم يخل من بعض العيوب التي نلخص أهمها فيما يلي:

1-

مادة هذه المعاجم اللغوية، قد جمعها الرعيل الأول من

ص: 146

اللغويين، ثم توقفت حركة الجمع هذه بعد فترة، واقتصر جهد العلماء بعد ذلك، على تبويب هذه المادة وعرضها بطرق مختلفة، وبذلك أغفلوا ناحية مهمة، من نواحي الدراسات اللغوية، تلك هي ناحية التطور اللغوي، في نواحي: الأصوات، والبنية، والدلالة، والأسلوب، فلم يحاول مثلا أحد المؤلفين في المعاجم، في القرن الرابع أو الخامس الهجري مثلا، أن يبين لنا تطور معنى الكلمة التي جمعها من قبله أحد علماء القرن الثاني الهجري، وبعبارة أخرى: لم يبين لنا المعنى، الذي كان يفهم من الكلمة في عصره، كما أنه لم يبين لنا كيف كانت تنطق الكلمة في لغة التخاطب في عصره، وليس لدينا في هذا المجال سوى إشارات سريعة، فيما يسمى بكتب "لحن العامة".

2-

قصور هذه المعاجم في الاستدلال على المعنى بالشواهد أحيانا، فهي رغم غناها بالشواهد، من القرآن الكريم، والحديث الشريف، والأمثال، والشعر، فيها الكثير من المواد التي تخلو من هذه الشواهد خلوا تاما، مما قد يشكك في صحه ورودها عن العرب، مثل المواد: كمثل، وكمتل، وكندش، وكندس، وغيرها.

وهذه الناحية تستدرك الآن، بعمل معجم للغة العربية، يستمد ألفاظه من الشعر والنثر. وهذه المعجم بدأه المستشرق الألماني "أوجست فيشر" A. Fischer في المجمع اللغوي بالقاهرة، ويخرجه الآن نخبة من المستشرقين الألمان، وعلى رأسهم أستاذنا بروفسور "شبيتالر" A. Spitaler رئيس معهد اللغات السامية بجامعة ميونخ.

3-

رغم أن شيئا من اللغات السامية، كان معروفا لدى بعض اللغويين العرب، فإنهم لم يفيدوا من هذه المعرفة، في مقارنة العربية بأخواتها.

ص: 147

الساميات، كالعبرية والآرامية والحبشية. ومن الممكن أن تفيد هذه المقارنات، في إلقاء الضوء على الدلالات المركزية والدلالات الهامشية، لهذه اللفظة أو تلك، والفصل في قضية التعريب والمولد والدخيل، وغيرها من المصطلحات التي تمتلئ بها معاجمنا العربية، دون تحديد واضح لتلك المصطلحات.

4-

التضخم الذي نلحظه في المؤلفات المتأخرة، مثل:"لسان العرب" لابن منظور، و"تاج العروس" للزبيدي. والسر في ذلك يرجع -في نظري- إلى نقل المادة اللغوية الواحدة من أكثر من مصدر، فمثلا ينقل صاحب اللسان عن "تهذيب اللغة" للأزهري، و"المحكم" لابن سيده، و"الصحاح" للجوهري. وكل واحد من هذه المعاجم الثلاثة، استخدم بعض المصادر التي استخدمها الآخر، كالغريب المصنف لأبي عبيد، ولذلك تقابلنا مثلا عبارات هذا الكتاب الأخير في "لسان العرب" منقولة ثلاث مرات، عن المصادر الثلاثة المتقدمة.

5-

تخلط هذه المعاجم كثيرا، بين مستوى العربية الفصحى واللهجات القديمة، في اللفظ والدلالة، بلا إشارة إلى ذلك في كثير من الأحيان، مثل: السراط، والصراط، والزراط، بمعنى: الطريق مثلا، وكذكرها لكلمة:"العجوز" مثلا، أكثر من سبعين معنى، من بينها: الإبرة والجوع، والسمن، والقبلة، واليد اليمنى. فمن المحال أن تكون هذه المعانى جميعها، مستعملة في الفصحى وحدها.

6-

انتاب المادة اللغوية الكثير من التصحيف والتحريف، بسبب كثرة تعاور النساخ لها على مر العصور. وقد وقع اللغويون العرب، في وهم هذا التصحيف والتحريف في معاجمهم، كالتحريف الذي وقع فيه الجوهري

ص: 148

صاحب، "الصحاج" حين استشهد على أن "اللجز" مقلوب:"اللزج" ببيت ابن مقبل:

يعلون بالمردقوش الورد ضاحية

على سعابيب ماء الضالة اللجز

ونسي أن هذا البيت من قصيدة نونية في ديوان ابن مقبل1 وصحة الروي فيه: "اللجن"!

وهذا هو محمد بن المستنير المعروف بقطرب، والمتوفى سنة 206هـ، يجعل في كتابه عن "الأضداد" كلمة:"برد" بمعنى: "التبريد والتسخين، ويسوق على المعنى الثاني شاهدا، هو قول الشاعر:

عافت الماء في الشتاء فقلنا

برديه تصادفيه سخينا2

ولا شك أن هذا تحريف لعبارة: "بل رديه" من الورود لشرب الماء، قال أبو الطيب اللغوي في التعليق على هذا البيت:"قال قطرب: معنى برديه في هذا البيت: سخنيه. وقال أبو حاتم: هذا خطأ، إنما هو: بل رديه، من الورود، ولكنه أدغم الراء في اللام، كما يقرأ: كلا بل ران على قلوبهم. قال أبو الطيب: وهذا الصحيح، وبه يستقيم معنى البيت"3.

ومثل ذلك أيضا، ما وقع فيه "الفيروزآبادي" صاحب:"القاموس المحيط" حين نقل في معجمه4، أن: السواق كسحاب القثاء، وداء يأخذ الإبل فتهلك. وما درى الفيروزآبادي أن هذا "القثاء" ليس إلا

1 ديوان ابن مقبل 307.

2 أضداد قطرب 258.

3 أضداد أبي الطيب 1/ 86.

4 القاموس المحيط "سوف" 3/ 155.

ص: 149

تصحيفا لكلمة: "الفناء" وهو: الهلاك، الموجود في المعنى الثاني، الذي ذكره.

7-

عدم المنهجية في ترتيب مفردات المادة الواحدة، فيتحتم على المرء في كثير من الأحيان، أن يقرأ المادة كلها، للعثور على بغيته، إذ يلزم أن تقرأ عشر صفحات، في مادة عرف، إذا كنت تبحث مثلا عن معنى كلمة:"معرفة الفرس" وما شابه ذلك.

هذه هي أبرز العيوب في هذا القطاع اللغوي في العربية. وفي مقدورنا بالطبع التغلب على هذه العيوب، إذا أعدنا النظر مرة أخرى في معاجمنا اللغوية، فصفيناها من الحشور والتكرار، وفصلنا بين مستوى الفصحى واللهجات القديمة، في ألفاظها ومدلولاتها، ورتبنا كلمات المادة الواحدة ترتيبا منهجيا صارما، وأعدنا استقراء النصوص القديمة من جديد، لنخلص هذه المعاجم مما فيها من تحريف أو تصحيف، أو مواد هي من صنع اللغويين، ولم تجر بها ألسنة العرب القدماء.

هذا، ويعمل مجمع اللغة العربية بالقاهرة، على إخراج معجم كبير للغة العربية، مستخدما المعاجم العربية، التي وصلت إلينا، إلى جانب كتب الأدب واللغة، ودواوين الشعراء. وقد اتبع في تأليفه منهجا صارما، تغلب فيه على شيء من العيوب السابقة. وقد خرج الجزء الأول من هذا "المعجم الكبير" خاصا بحرف الهمزة، وطبع بمطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة سنة 1970م، كما طبع الثاني الخاص بحرف الباء سنة 1981م، وهو جهد يتطلب الكثير من الوقت، وتعاون المتخصصين في هذا الميدان.

ص: 150

هذا هو جانب المعجم في تراثنا اللغوي

فإذا جئنا إلى الدراسة الخاصة بنظام الجملة، ووظائف الكلمات في داخل الجمل، وجدنا تراثا ضخما تباهي به الأمة العربية سائر الأمم في هذا المضمار. وقد وصل إلينا أول كتاب في هذا المجال كاملا يبهر النفوس، ويستحوذ على القلوب، ويبعث على الإعجاب بعقلية مبدعه، وتفكير منشئه، وهو كتاب سيبويه النحوي البصري المشهور "المتوفى سنة 180هـ" وتوالت المؤلفات العربية في هذا الميدان بعد سيبويه، ومن أهم هذه المؤلفات: كتاب "المقتضب" لأبي العباس المبرد "المتوفى سنة 285هـ"، و"أصول النحو" لابن السراج "المتوفى سنة 316هـ"، و"الجمل" للزجاجي "المتوفى سنة 340هـ"، و"المفصل" للزمخشري "المتوفى سنة 538هـ"، و"الإنصاف" لأبي البركات ابن الأنباري "المتوفى سنة 577هـ" و"شرح المفصل" لابن يعيش "المتوفى سنة 643هـ"، و"الألفية" المشهورة، لابن مالك "المتوفى سنة 672هـ"، وكتب العلامة المصري "ابن هشام""المتوفى سنة 761هـ" كشذور الذهب، وقطر الندى، وأوضح المسالك، ومغني اللبيب عن كتب الأعاريب، وشرح الأشموني "المتوفى سنة 872هـ " على ألفية ابن مالك، و"همع الهوامع" لجلال الدين السيوطي "المتوفى سنة 911هـ" وغير ذلك كثير كثير

وإن من يتصفح هذه المؤلفات الكثيرة، يعجب من الجهد المبذول فيها حقا، غير أنه يضل وسط الآراء الجدلية النظرية، التي لا تفيد كثيرا في الدرس النحوي، والابتعاد عن الواقع اللغوي إلى الافتراض. وانظر معي إلى قول الزجاج مثلا: "والمازني يجيز في: يا أيها الرجلُ، النصب في الرجل. ولم يقل بهذا القول أحد من البصريين غيره، وهو قياس؛ لأن موضع المفرد.

ص: 151

المنادى نصب، فحملت صفته على موضعه، وهذا في غير يا أيها الرجل جائز عند جميع النحويين، نحو قولك: يا زيدُ الظريفُ والظريفَ. والنحويون لا يقولون إلا: يا أيها الرجلُ، ويا أيها الناسُ، والعرب لغتها في هذا الرفع ولم يرد عنها غيره"1.

ففي هذا النص نجد المازني يبتدع لغة، لم تجر على لسان العرب، ويترك الواقع اللغوي، إلى افتراضات قياسية ما أنزل الله بها من سلطان، فإذا كان العرب قد قالوا: يا زيدُ الظريفَ، فلا مانع عند المازني أن تقول: يا أيها الرجلَ، وإن لم تقل بذلك العرب!

وما صنيع المازني في هذا الزمن القديم، إلا كصنيع من يبتدع قياسا باطلا في لهجات الخطاب المعاصرة، ويدعيه على أصحاب هذه اللهجات، فيجيز أن تجمع كلمة:"تاج" على: "أتواج"، قياسا على جمع: مال على أموال، أو يعكس فيجيز أن تجمع كلمة:"مال" على: "ميلان"، قياسا على جمع: تاج على تيجان، وما أشبه ذلك مما لا يصح أن يدخل إلا في دائرة الأوهام والخيالات.

وأنت واقع هنا وهناك في التراث النحوي، على كثير من التعليلات الواهية، التي لا يسندها قانون لغوي، أو قاعدة كلية تسري على مجموعة من اللغات البشرية، وتأمل معي قول الزجاج في تعليل إعراب المثنى من اسم الإشارة واسم الموصول: "فإن قال قائل: فما بالك تقول: أتاني اللذان في الدار، ورأيت اللذين في الدار، فتعرب كل ما لا يعرب، في تثنيته نحو: هذان، وهذين. وأنت لا تعرب. هذا ولا هؤلاء؟ فالجواب في ذلك أن جميع

1 معاني القرآن وإعرابه للزجاج 1/ 64.

ص: 152

ما لا يعرب في الواحد مشبه بالحرف الذي جاء لمعنى، فإذا ثنيته فقد بطل شبه الحرف الذي جاء لمعنى؛ لأن حروف المعاني لا تثنى"1.

وقد فات الزجاج أن الجمع يمكن أن يقال فيه، ما قاله هو في التثنية، من بطلان شبه الحرف الذي جاء لمعنى، فلماذا لم يُعرب إذن: اسم الموصول المجموع، مثل:"الذين" واسم الإشارة للجمع، مثل هؤلاء؟!

وليست كل التفسيرات التي قدمها النحاة القدامي، للظواهر اللغوية في العربية، خطلا نحذر الناس منه، أو خطايا نستغفر الله للنحاة العرب من الوقوع في أدرانها، وإنما نحذر بعض شبابنا الباحثين، من الوقوع أسرى لبعض هذه التفسيرات الواهية، وندعوهم إلى إعمال العقل في المنقول عن هؤلاء النحاة، من مختلف التفسيرات للظواهر اللغوية.

ولسنا في دعوتنا هذه نخرج كثيرا عن منهج كبار علمائنا القدامى، ورحم الله عبقري العربية، الخليل بن أحمد، حين سئل عن العلل التي يعتل بها في النحو، فقيل له: عن العرب أخذتها أم اخترعتها من نفسك؟ فقال: إن العرب نطقت على سجيتها وطباعها، وعرفت مواقع كلامها، وقام في عقولها علله، وإن لم ينقل ذلك عنها، واعتللت أنا بما عندي أنه علة لما عللته منه، فإن أكن أصبت العلة فهو الذي التمست، وإن تكن هناك علة أخرى له، فمثلي في ذلك رجل حكيم، دخل دارا محكمة البناء، عظيمة النظم والأقسام، فكلما وقف هذا الرجل في الدار على شيء منها، قال: إنما فعل هذا هكذا لعلة كذا وكذا، ولسبب كذا وكذا، سنحت له وخطرت بباله، محتملة لذلك. فجائز أن يكون الحكيم الباني

1 معاني القرآن وإعرابه للزجاج 1/ 34.

ص: 153

للدار، فعل ذلك للعلة، التي ذكرها هذا الذي دخل الدار، وجائز أن يكون فعله لغير تلك العلة

فإن سنح لغيري علة لما عللته من النحو، هي أليق مما ذكرته بالمعلول فليأت بها"1.

ومن الأمور التي تلفت النظر، في تراثنا النحوي الضخم، خلوه في بعض الأحيان من الاستقراء الكامل، لبعض صور الظاهرة الواحدة، من الظواهر النحوية. ويكفي أن نذكر هنا بما يقوله النحاة، منذ أيام سيبويه، من أن الاستثناء في الكلام التام غير الموجب المنقطع، كما في مثالهم المشهور:"ما قام القوم إلا حمارًا" يجب فيه نصب المستثى على لغة أهل الحجاز، وبها نزل قول الله تعالى:{مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} . أما بنو تميم فإنهم يجيزون فيه الإتباع، كقول زياد بن حمل التميمي:

ليست عليهم إذا يغدون أردية

إلا جيادُ قسي النبع واللجم2

وليس النحاة على حق في هذا، فليس بنو تميم وحدهم في تجويز الإتباع هنا، فهذا جران العود النميري يقول:

وبلدة ليس بها أنيس

إلا اليعافيرُ وإلا العيسُ3

كما يقول ضرار بن الأزور في يوم اليمامة:

عشية لا تُغني الرماح مكانها

ولا النبلُ إلا المشرفيُّ المصمم4

1 الإيضاح في علل النحو للزجاجي 65.

2 انظر: الحماسة بشرح المرزوقي ق577/ 39 ص1402.

3 ديوانه ص52.

4 انظر: تاريخ الطبري 3/ 297.

ص: 154

وضرار شاعر من بني أسد1. ومثله قول الأخطل التغلبي:

فرابية السكران قفر فمالهم

بها شبحٌ الإ سلامٌ وحرملُ2

والسلام: الحجارة. والحرمل: شجر. ومثله قول سعد بن مالك بن ضبيعة، جد طرفة بن العبد البكري:

والحرب لا يبقى لجا

حمها التخيلُ والمراحُ

إلا الفتى الصبارُ في

النجدات والفرس الوقاح3

فهذه الأبيات -كما ترى- لشعراء من نمير، وأسد، وتغلب، وبكر، وغيرها كثير، يثبت أن استقراء النحاة العرب لهذه الظاهرة، كان استقراء ناقصا.

ومن العجب قول المرزوقي في شرح هذين البيتين الأخيرين: "إلا الفتى: ارتفع على أنه بدل من التخيل وهذه لغة تميم! ".

بل إنه ليلاحظ في هذا التراث النحوي، أن فيه متابعة تكاد تكون كاملة، لكثير مما جاء به سيبويه في كتابه، دون تمحيص أو تدقيق، على ما في بعض مسائله أحيانا من الخطأ المبني على تحريف في الرواية، أو تغيير في الشواهد العربية. وهذا مثال واحد، من أمثلة كثيرة، يدل على صدق ما نذهب إليه:

يرى النحاة العرب، منذ أيام سيبويه، أن "كان" الناسخة" تحذف وحدها أحيانا، وذلك بعد أن المصدرية، في مثل قولك: "أما أنت منطلقا انطلقت"، وأصله -كما يقول النحاة- انطلقت لأن كنت منطلقا، ثم قدمت اللام، وما بعدها على: "انطلقت" للاختصاص، ثم حذفت اللام

1 انظر: جمهرة الأنساب لابن حزم 193.

2 ديوان الأخطل ص2.

3 شرح المرزوقي للحماسة 2/ 501.

ص: 155

للاختصار، وحذفت "كان" لذلك، فانفصل الضمير، ثم زيدت "ما" للتعويض، ثم أدغمت النون في الميم للتقارب.

هكذا يقول النحاة العرب، ويستشهدون على ذلك بقول العباس بن مرداس السلمي:

أبا خراشة أما أنت ذا نفر

فإن قومي لم تأكلهم الضبع1

وقول الشاعر:

أما أقمت وأما أنت مرتحلًا

فالله يكلا ما تأتي وما تذر2

ويبدو أن هذه المسألة، مبنية على تحريف وقع في بيت العباس بن مرداس السلمي، وهو البيت الوحيد الصحيح النسبة، بين شاهدي هذه المسألة؛ لأن البيت الثاني يروى بلا نسبة، كما أنه يحتوي على عبارات إسلامية ظاهرة، مما يدل على أنه مصنوع بعد وضع القاعدة وعلى ضوئها.

وهذا يعني أن المسألة لا وجود لها في اللغة العربية أصلا، وأن النحاة وعلى رأسهم سيبويه أو شيوخه، قد وقعوا في التحريف في بيت العباس بن مرداس، وقاسوا عليه أمثلتهم الأخرى، وأن صواب رواية البيت:

أبا خراشة إمَّا كنت ذا نفر

فإن قومي لم تأكلهم الضبع

هكذا: "إما كنت" بدلا من": "أما أنت" التي يزعم النحاة منذ أيام سيبويه أن البيت يروى بها. و"إمَّا" هذه هي: "إن" الشرطية المؤكدة بما الزائدة، وهي كثيرة في الكلام العربي، ويأتى بعدها المضارع، كقوله تعالى:{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} ، والماضي كقول الأبيرد الرياحي:

1 كتاب سيبويه 1/ 148.

2 خزانة الأدب 2/ 82.

ص: 156

فلا يبعدنك الله إما تركتنا

حميدا وأودى بعدك المجد والفخر1

ولعل الدليل على صحة ما نقول، أن بيت العباس بن مرداس، يروى كثيرا في غير كتب النحو "التي ينقل بعضها عن بعض"، بالرواية الصحيحة، وهي:"إما كنت" ويكفي أن تراجع ذلك في كتاب العين للخليل بن أحمد 1/ 331 وجمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري 2/ 110 وتهذيب الألفاظ لابن السكيت 26 وحماسة الخالدين 1/ 89 وجمهرة اللغة لابن دريد 1/ 302 وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1/ 43 ولسان العرب "خرش" 8/ 143 والاشتقاق لابن دريد 313 والشعر والشعراء لابن قتيبة 1/ 341 وشرح ديوان جرير لمحمد بن حبيب 1/ 349 والحيوان للجاحظ 5/ 24، 6/ 446 وغير ذلك.

وهذا مثال ثان يؤكد ما قلنا، من ابتداع بعض النحاة العرب لشيء من القواعد، بناء على رواية مغيرة لهذا الشاهد أو ذاك من شواهد الشعر، يقول ابن قتيبة: "وقد رأيت سيبويه يذكر بيتا يحتج به، في نسق الاسم المنصوب على المخفوض، على المعنى لا على اللفظ، وهو قول الشاعر:

معاوي إننا بشر فأسجح

فلسنا بالجبالِ ولا الحديدا

قال: كأنه أراد: لسنا الجبالَ ولا الحديدا، فرد الحديد على المعنى قبل دخول الباء.

وقد غلط على الشاعر؛ لأن هذا الشعر كله مخفوض، قال الشاعر:

فهبها أمة ذهبت ضياعا

يزيد أميرها وأبو يزيد

أكلتم أرضنا وجردتموها

فهل من قائم أو من حصيد

1 الكامل للمبرد 1/ 215.

ص: 157

ويحتج أيضا بقول الهذلي في كتابه، وهو قوله:

يبيت على معاري فاخرات

بهن ملوب كدم العباط

وليست هاهنا ضرورة، فيحتاج الشاعر إلى أن يترك صرف "معار". ولو قال:"يبيت على معار فاخرات"، كان الشعر موزونا والإعراب صحيحا. قال أبو محمد: وهكذا قرأته على أصحاب الأصمعي. وكقوله في بيت آخر.

ليبك يزيد ضارع لخصومة

ومختبط مما تطيح الطوائح

وكان الأصمعي ينكر هذا، ويقول: وما اضطره إليه؟ إنما الرواية: ليبك يزيد ضارع لخصومة"1.

وقد أسهم النساخ والطباعون، في شيوع التصحيف والتحريف في كثير من شواهد النحو، ومسائله وقضاياه، وأصبح من الواجب علينا التدقيق في إخراج هذه الكتب محققة، على وجه تخلو فيه من مثل هذه التحريفات الشنيعة، التي تتداول بين الدارسين، في مشاهير الكتب النحوية، فقد استشهد ابن عقيل في شرحه لألفية ابن مالك، على جواز نصب المفعول لأجله، إذا كان محلى بالألف واللام، بقول قريط بن أنيف:

فليت لي بهم قوما إذا ركبوا

شنوا الإغارةَ فرسانا وركبانا

والبيت على هذا الرواية، التي جاءت في كتاب ابن عقيل، ليس فيه شاهد على هذه المسألة؛ لأن "الإغارة" مفعول به، وليس مفعولا له. والذي في شعر قريط بن أنيف:"شدوا الإغارة". ويقول التبريزي في تفسيره: "ويُروى شنوا الإغارة أي فرقوها. ومن روى: شدوا الإغارة، فليس الإغارة

1 الشعر والشعراء 1/ 98.

ص: 158

مفعولا به، ولا انتصابها على ذلك، لكن انتصابها انتصاب المفعول له، أي شدوا للإغارة"1.

ويبدو أن ما في كتاب ابن عقيل، تحريف للرواية الأخرى:"شدوا"، وأن المراد:"شدوا الخيل للإغارة، وإن كان شراح شواهده، كالشيخ عبد المنعم الجرجاوي، والشيخ قطة العدوي، يريان حذف المفعول به هنا أيضا، فيقولان: "إن المعنى: شنوا أنفسهم لأجل الإغارة على العدو"، مع أن الذي في المعاجم: "شن الغارة" أي فرقها، ولم يقل: "شنوا أنفسهم" فيما وقفت عليه من نصوص العربية.

أما كتب فقه اللغة العربية، من تراثنا اللغوي، فإنها حقا تبعث على الإعجاب والإكبار، إذ يظهر في شيء غير قليل من قضاياها، سبق علمائنا القدامى لأحدث النظريات اللغوية في العصر الحديث، بألف عام أو يزيد، وعلى رأس هذه الكتب:"الخصائص" و"سر صناعة الإعراب" للإمام ابن جني "المتوفى سنة 392هـ"، و"الصاحبي في فقه اللغة" لابن فارس اللغوي "المتوفى سنة 395هـ"، و"المزهر في علوم اللغة وأنواعها" للإمام السيوطي "المتوفى سنة 911هـ"، ففي هذه الكتب وغيرها علم كثير ونظريات لغوية، تقف شامخة أمام ما وصل إليه العلماء، في عصر التكنولوجيا الحديثة، والعقول الإلكترونية.

1 انظر: شرح التبريزي لحماسة أبي تمام.

ص: 159

ولكنك تعجب حين ترى في بعضها اشتغال هؤلاء العلماء بشيء من التعليلات الواهية والجدل العقيم، واسمع معي إلى قول ابن جني، متسائلا: لماذا رفع الفاعل ونصب المفعول؟ ثم يجيب بقوله: "لأن الفعل لا يكون له أكثر من فاعل واحد، وقد يكون له مفعولات كثيرة، فرفع الفاعل لقلته، ونصب المفعول لكثرته، وذلك ليقل في كلامهم ما يستثقلون، ويكثر في كلامهم ما يستخفون"1.

كما يقول ابن جني في موضع آخر: "لماذا يكثر الأصل الثلاثي في اللغة العربية، دون الرباعي والخماسي؟ الجواب هو: لأنه حرف يبتدأ به، وحرف يحشى به، وحرف يوقف عليه، وليس اعتدال الثلاثي لقلة حروفه فحسب، لو كان كذلك لكان الثنائي أكثر منه؛ لأنه أقل حروفا، وليس الأمر كذلك، وأقل منه ما جاء على حرف واحد

فتمكن الثلاثي إنما هو لقلة حروفه -لعمري- ولشيء آخر، وهو حجز الحشو الذي هو عينه بين فائه ولامه، وذلك لتباينهما، ولتعادي حاليهما، ألا ترى أن المبتدأ لا يكون إلا متحركا، وأن الموقوف عليه لا يكون إلا ساكنا؟ فلما تنافرت حالاهما، وسطوا العين حاجزا بينهما، لئلا يفجئوا الحس بضد ما كان آخذا فيه"2.

ويدلك على ما نقول كذلك، هذا الجدل العنيف، الذي يثيره ابن جني حول الحركة القصيرة، أهي قبل الحرف أو معه أو بعده؟ وبدلا من أن يلجأ إلى التجربة، أخذ يستخدم منطق أرسطو، في التدليل على أن الحركة القصيرة تقع بعد الحرف، مثلها في ذلك مثل حروف المد، وهي الألف

1 الخصائص 1/ 69.

2 الخصائص 1/ 55.

ص: 160

والواو والياء، فيقول:"واعلم أن الحركة التي يتحملها الحرف، لا تخلو أن تكون في المرتبة قبله أو معه أو بعده، فمحال أن تكون الحركة في المرتبة قبل الحرف؛ إذ لو كانت كذلك لما جاز الإدغام في الكلام أصلا، ألا ترى أنك تقول: قطع، فتدغم الطاء الأولى في الثانية، ولو كانت حركة الطاء الثانية في الرتبة قبلها، لكانت حاجزة بين الطاء الأولى والطاء الثانية، ولو كان الأمر كذلك لما جاز إدغام الأولى في الثانية، فجواز الإدغام في الكلام دلالة على أن الحركة ليست قبل الحرف المتحرك بها.. وبقي أن تكون معه أو بعده، وفي الفرق بينهما بعض الإشكال، فالذي يدل على أن حركة الحرف في المرتبة بعده، أنك تجدها فاصلة بين المثلين، نحو قولك، قصص، ومضض، فإن ظهر هذان المثلان، ولم يدغم الأول منهما في الآخر منهما، فظهورهما دلالة على فصل واقع بينهما، وليس هاهنا فصل ألبتة، غير الحركة المتأخرة عن الحرف الأول"1.

أما أبو علي الفارسي، فإنه لم يتصور إمكان استقلال الحركة بالنطق، ولم يستطع أن يفرق بين الصوت الصامت والحركة هذه التفرقة، فكان يرى أن الحركة تحدث مع الحرف، يقول ابن جني:"واستدل أبو علي على أن الحركة تحدث مع الحرف بأن النون الساكنة إذا تحركت، زالت عن الخياشيم إلى الفم، وكذلك الألف إذا تحركت انقلبت همزة، فدل ذلك عنده، على أن الحركة تحدث مع الحرف، وهو لعمري استدلال قوي"2.

1 سر صناعة الإعراب 1/ 32.

2 سر صناعة الإعراب 1/ 37 ومع تحمس ابن جني لرأي أستاذه أبي علي الفارسي، ووصفه دليله بأنه "استدلال قوي"، فإنه لم يرتض هذا الرأي في كتابه الخصائص 2/ 324 ورد استدلاله هناك.

ص: 161

وقد فات أبا علي الفارسي، أن الذي يزول عن الخياشيم إلى الفم، هو الحركة وليست النون، وأن الذي يتحرك هو الهمزة، وليست ألف مد؛ لأن ألف المد حركة طويلة، والحركة لا تحرك!

ولم تخل هذه الكتب كذلك من داء التصحيف والتحريف، الذي ابتليت به الكتابة العربية منذ القديم، فقد وقع في كتاب "المزهر" للسيوطي النص التالي:"قال ابن درستويه في شرح الفصيح: قول العامة نحوي لغوي، على وزن: جَهِلَ يَجْهَلُ، خطأ أو لغة رديئة"1. وفي هامشه تعليقا على عبارة: "نحوي لغوي" قال محققو المزهر: "لم نقف على ضبط هذه العبارة"!

وهذا الذي لم يقف على ضبطه محققو المزهر، موجود على الصواب في تصحيح الفصيح لابن درستويه، وهو قوله:"فتقول: غَوِيَ يَغْوَى، على نحو جَهِلَ يَجْهَل"2.

هذه هي بعض الملاحظات، التي لم يقصد كاتبها إلى الحصر والاستقصاء، وإنما هو تنبيه للأذهان، إلى أنه قد آن الأوان، لتنقية تراثنا اللغوي، من كل هذه الشوائب، التي تركت آثارها الجدرية، في وجه اللغة الحسناء، لغتنا الجميلة.

1 المزهر 1/ 225.

2 تصحيح الفصيح 1/ 119.

ص: 162