المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مقدمة كنا نشرنا في كتاب سابق (حديث في البناء الجديد) (1) - تأملات

[مالك بن نبي]

الفصل: ‌ ‌مقدمة كنا نشرنا في كتاب سابق (حديث في البناء الجديد) (1)

‌مقدمة

كنا نشرنا في كتاب سابق (حديث في البناء الجديد)(1) خمس محاضرات، ولعله كان من المناسب أن نجمع المحاضرات، التي ننشرها اليوم، تحت العنوان نفسه، مع الترقيم اللازم، باعتبار هذا الكتاب جزءاً ثانياً للذي سبقه.

ولكن مهما تكن الصلة بين الكتابين واضحة، بمقتضى وحدة الموضوع، لا من الناحية الشكلية ولكن من حيث النسيج المعقد، الذي تنسجه الأيام في حياة الشعوب، التي تواجه في القرن العشرين مشكلات خاصة بكيانها، ومشكلات مشتركة، تعبر عن امتداد كيانها في عالم الآخرين، فالنظرة إلى هذا الازدواج الحيوي، هي التي أوحت بجمع المحاضرات التي ننشرها هنا تحت عنوان مستقل (تأملات في بعض مشكلاتنا)، حتى يشعر القارئ أن هذا الكتاب يمثل حلقة جديدة في سلسلة (مشكلات الحضارة)، الحلقة التي تتضمن، بالإضافة إلى بعض ضرورات البناء في الداخل، ضرورات ناتجة عن التطورات الخاصة التي حدثت في حياة الشعوب تحت تأثير عوامل مختلفة مثل الإستعمار الذي ربط، بصورة غير مباشرة، حياة الشعوب الإفريقية الآسيوية، وتأثير العامل الفني الذي صاغ بالنسبة لكل شعب ضرورات من نوع خاص، تفرض على حياته

إلتزامات ومسؤوليات جديدة في نطاق أوسع من نطاقه التاريخي الجغرافي المعتاد.

(1) طبع في بيروت عام 1960م، ونعيد طبعه ضمن هذا الكتاب مرجئين المحاضرات الخمس التي اشتمل عليها إلى آخر التأملات، على الرغم من سبقها التاريخي، وذلك حرصاً منا على تصدير هذه الطبعة بمقدمة المؤلف، رحمه الله، التي قدم بها لكتاب (تأملات في المجتمع العربي).

ص: 11

فهذا الكتاب يحاول مواجهة هذا الازدواج بالنسبة إلى المجتمع العربي، والمؤلف قد تناوله في نطاق هذه المحاضرات التي يتصل بعضها بكيان المجتمع العربي في حدوده التاريخية الخاصة، وبعضها الآخر يتصل بارتباطه بالعالم الإسلامي والمفاهيم الإسلامية، وبارتباطه بالبلاد التي ربطه بها الطوق الإستعماري في القرن التاسع عشر، أي الشعوب التي تعيش على محور طنجة- جاكرتا.

فالمؤلف خصص هذه المحاضرات لهذه الجوانب المختلفة، التي يرتبط بها كيان المجتمع الذي نعيش فيه، وامتداد كيانه في عالم الآخرين.

فالمحاضرة الأولى تواجه عقدة نفسية، قد أشرنا إليها في دراسة أخرى (1)، وهي في وجه من الوجوه صعوبة تعترض، في المجال النفسي، حركة النمو أو النهضة في مجتمعنا. ومن وجه آخر، هي في المجال الاجتماعي، علأمة هذا النمو وهذه الحركة.

فالمحاضرة الأولى تناولت الموضوع من هذا الوجه، فهي محاولة لتوضيح الصعوبات التي يعانيها مجتمعنا اليوم في مواجهة ضرورات البناء الداخلي، وقد هدف فيها المؤلف إلى الإسهام في تخليص القارئ من مركب النقص، الذي يعتريه عندما يمنطق عن وعي الصعوبات التي تحيط بحياته الاجتماعية اليوم، إذ هو غالباً يعزو هذه الصعوبات إلى طبيعة المشكلات عوضاً عن أن يعزوها أولاً إلى نفسه من الناحية العقلية في إدراكه هذه المشكلات، ومن الناحية الأخلاقية في سلوكه إزاءها.

فإسهام المحاضرة يكون قد تحقق في تصفية العقدة التي نشير إليها، بقدر ما يتمكن القارئ من فهم الخطأ الذي نقع فيه، عندما نقدر الصعوبات والمسؤوليات في ضرورات البناء.

(1)(وجهة العالم الإسلامي) حيث بين المؤلف ما يعاني المجتمع الإسلامي من عقد، من بينها العقدة التي تدفعه إلى استسهال الصعب واستصعاب السهل.

ص: 12

ويتبقى بعد ذلك أن ندرس كيف ولماذا تنشأ هذه الصعوبات في عالم نفوسنا أكثر مما تنشأ في عالم الأشياء؟

فهذا السؤال هو بالضبط موضوع المحاضرتين الثانية والثالثة، في أي ترتيب شئنا نتناولهما، سواء تناولنا موضوع (المسوّغات في المجتمع) أم لا، كما فعلنا أو تناولنا قبله موضوع (المفاهيم الإقتصادية والقيم الإنسانية).

ولكن يبدو لنا أن موضوع (المسوّغات)، الذي خصصنا له المحاضرة الثانية، يسبق بحكم الطبيعة موضوع المحاضرة الثالثة، لأن الأول يدرس الأسباب العأمة التي تطلق الطاقات الاجتماعية وتوجهها نحو مشكلات البناء، بينما تدرس المحاضرة الأخرى- المفاهيم الإقتصادية والقيم الإنسانية- مصدر الطاقات الخاصة الي يتطلبها البناء الإقتصادي، في مجتمع لم يزوده بعد التطور بالجهاز العادي، الذي نجده في حوزة مجتمع بلغ درجة معينة من النمو وكون رصيده الإقتصادي من مصانع ومصارف.

فالمحاضرة الثانية تكون إذن، بالنسبة للثالثة، كالمقدمة العأمة بالنسبة للنتيجة الخاصة في علم المنطق.

أما المحاضرة الرابعة (الديمقراطية في الإسلام) فإنها تعالج مشكلة ذات طابع مزدوج: فهي تتناول موضوع بناء وموضوع اتصال أو اتجاه في وقت واحد، لأننا حاولنا أن نبين فيها للقارئ أن كل مشروع ديمقراطي: قبل أن يصبح بناء المؤسسات والمنظمات السياسية ذات الطابع الديمقراطي، فهو بناء الإنسان بناء خاصاً، حتى يكون شعوره نحو الـ (أنا)(1) ونحو الآخرين، الشعور الذي تنبعث منه كل المسوّغات الكفيلة بتحقيق هذه المؤسسات والمنظمات، والكفيلة بحايتها خلال التطورات التي يأتي بها التاريخ.

(1) الأنا بمصطلح علم النفس معناها الذات.

ص: 13

ومن ناحية أخرى فالموضوع الذي تطرقه هذه المحاضرات يتصل بجانب من مشكلات الاتصال، أي المشكلات المشتركة بين الشعوب الإسلامية التي خصصنا لها دراسة سابقة (1).

فالجانب الذي نعنيه هنا يخص صياغة الشخصية الإسلامية حتى تفي بصورة موحدة بمسؤوليات المسلم في العالم، وهذا يعني توحيد النماذج التي تمثل المسلم اليوم، النماذج التي يمثل بعضها الرجل الذي لم تكيفه حضارة ولا زال على فطرته، مثل الملايين من المسلمين الذين يعيشون في إفريقيا السوداء، ويمثل بعضها الرجل الذي مرّ بدور حضارة وتبقت في نفسه رواسب انحلال حضارة، أي الفريقين اللذين يعيشأن على طرفي التطور الاجتماعي التاريخي، لأن الواحد يعيش في عهد ما قبل الحضارة والآخر في عهد ما بعد الحضارة.

فإذا لاحظنا البعد النفسي بين هذين الرجلين، أدركنا الصعوبات التي لا تجعل من اليسير توحيدهما في مشروع حضاري واحد، أي أن نحدد لهما مسؤوليات موحدة في العالم.

فهذه الصعوبات هي التي يجب أن يتغلب عليها مشروع ديمقراطي إسلامي جديد، يقوّم المسلم تقويما جديداً، فيضع في ضميره من جديد الشعور بالتكريم الذي أودعه فيه الله يوم خلق آدم، ويضعه هكذا في الطريق نحو الحضارة.

أما المحاضرة الخامسة فإنها تتناول موضوع (التضامن الإفريقي الآسيوي)، فبأي شيء تدخل هذه المحاضرة في نطاق المحاضرات السابقة وبأي شيء ترتبط بها؟

إننا قدمنا في دراسة سابقة (2) أن للمسلم مسؤوليات في هذا العالم، وأن حضوره في الأحداث الكبرى التي تطرؤ فيه من الضرورات الملازمة لمسؤولياته.

(1و2) فكرة كومنولث إسلامي.

ص: 14

فأي دراسة تستهدف توضيح الشروط التي يقتضيها بناء المسلم وتحديد دوره، لابد أن تهتم بالمجالات المختلفة التي يجري فيها هذا الدور، سواء في ميدان السياسة أم الإقتصاد أم الأخلاق.

فالمجال الذي حددته فكرة باندونج هو أحد هذه المجالات التي يرتبط بها حضور المسلم، أي أنه مجال لإلقاء القيم الإسلامية في معركة القرن العشرين، ولإقحام رسالة المسلم في هذه المعركة الكبرى التي ستحدد مصير الإنسانية ومستقبلها.

ولكن لهذا المجال معطياته الخاصة، لا يمكن للمسلم أن يقوم بدوره فيه دون معرفة هذه المعطيات، التي تتضمن بالنسبة إلى مئات ملايين البشر، التي تمشي اليوم تحت لواء (التضامن الإفريقي الآسيوي)، معوقات رجل الفطرة الذي لم يدخل بعد في دورة حضارة، ورواسب الإنسان الذي خرج منها وسلبته الأيام، في الهند أو في الصين أو في البلاد العربية، مقومات حضارة اندثرت.

وبما أن لهذه المعوقات ولهذه الرواسب أثراً سلبياً في صورة مركبات، تتعارض مع مقتضيات حضارة جديدة، لذلك يجب أن تدرس هذه المعطيات دراسة واقعية، وقد حاولنا أن ندرسها في هذه المحاضرة كي يعلم الشاب المسلم نصيبه من هذه المعوقات وهذه الرواسب، ونصيبه في مسؤولية التخلص منها، ضمن القوى التي تجمع جهودها في العالم للتخلص من الإستعمار، ولمناصرة الإنسانية في معركة السلام والحضارة.

فالمحاضرة الخامسة هي محاولة لإجلاء حقيقة (التضامن الإفريقي الآسيوي) بوصفه مجالاً جديداً لإلقاء القيم الإسلامية ولامتداد رسالة المسلم فيه.

القاهرة في1961/ 4/24 مالك بن نبي

ص: 15