الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كيف نبني مجتمعاً أفضل
؟
ألقيت هذه المحاضرة في طرابلس لبنان في نادي جمعية مكارم الأخلاق الإسلامية، وذلك في يوم الأربعاء أول تموز (يوليو) سنة 1959 وقد نقلت عن الشريط المسجل بأكملها.
سادتي:
اسمحوا لي أولاً أن أقدم شكري إلى جمعية مكارم الأخلاق التي أتاحت لي هذه الفرصة النادرة الثمينة، التي يجب علي أن أقدرها بثمنها. والإبن عمر مسقاوي قد أشعرني بقيمة هذه الفرصة النادرة في كلماته الأخيرة، ووصل بيني وبينكم أنا بوصفي متحدثا بسيطا، وأنتم بوصفكم مستمعين كراما تربطني بكم صلة المحبة وصلة الأخوة والزمالة في الطريق.
إنني لم آت لأحاضركم، فالمحاضرة تتطلب شروطا لم يوفرها لي لساني، ولكني سوف أتحدث معكم بكل بساطة، كما يتحدث الأخ إلى أخيه في موضوع، تمليه على كل مسلم ملابسات التي نراها في العالم، والتطورات التي تجري في العالم العربي، حيث نرى نهضة كبرى يرفع رايتها زعيم كريم هو الرئيس جمال عبد الناصر.
إنني أريد أن أدرس معكم بعض الملابسات العالمية، حتى نتجنب التناقض بين سلوكنا ونشاطنا أفراداً وجماعات وبين سير العالم. فإنني أرى العالم وكأنه يطوي الصفحة الأخيرة من العصر الذي سماه جيلنا نحن كبارا بالعصر الجديد. فإن هذا العصر قد أصبح قديماً وبدأ التاريخ اليوم يمحو معالمه.
ولقد كنا- نحن الذين عشنا بوادر هذا العصر منذ أربعين سنة- نرى من معالم هذا العالم الجديد انتشار ضوء الكهرباء مثلاً وشبكة الخطوط الحديدية، غير أننا اليوم بعد أربعين سنة أو أقل من ذلك، نرى أن هذا العالم قد بدأ يدخل في ظلام التاريخ، وبدأت الخطوط الحديدية التي كانت تمثل في أعيننا علأمة العصر الحديث، بدأت هذه المخترعات تبدو لنا شيئاً قديماً أودع ضمير الماضي.
ففي بعض الأقطار اليوم عطلت فيها هذه الخطوط وأصبحت آثاراً، ولعله يأتي يوم نرى فيه هذه المصابيح الكهربائية التي أضاءتنا قرابة أربعين سنة منذ اكتشاف أديسون، وقد أصبحت هي الأخرى آثاراً تدل على طور من أطوار العالم، فقد دخلنا عهداً جديداً: عهد الصاروخ الموجه الذي اكتشف الفضاء، عهد الصاروخ الكوني الذي ربما سيحمل الإنسان إلى ما وراء الأرض وربما إلى وراء القمر.
فالملابسات هذه تدعنا في حيرة أمام المستقبل القريب، المستقبل العاجل الذي نرى التاريخ يتمخض ليلده عما قريب.
فما حظ العالم من هذا المستقبل؟ إن هذه قضية لا شك تهمنا، ولكن الذي يهمني أكثر من ذلك أن أعلم أنا بوصفي عربياً ماذا سوف يكون مصيري في هذا المستقبل، وما هو حظي من هذا الغيب القريب المؤكد.
فلقد وقفنا على الأهداف التي حققها العصر الذي سميناه بالعصر الحديث
…
ولكن ما هي الأهداف التي سوف يحققها عالم الصاروخ الموجه؟ وعالم القنبلة الهيدروجينية؟ إننا لا نعلم منها شيئاً. ولكن الذي ينبغي علينا أن نعلمه ونفكر فيه منذ اليوم، هولون الواجبالا التي يلقيما على؟ هلنا بناء النهضة،! مة مجتمعنا. ذلك المجتمع الذي أصبحنا نشعر بوجوب بنائه وتحريك طاقاته التي عطلهما التاريخ منذ قرون، قرون التدهور والأنحطاط التي كان حظ العالم الإسلامي منها كب! يرأ بعد ازدهارحضارته.
فليس من الترف الفكري إذن أن نختارموضوعأ كهذا الوضموع عنوانه (كيف نبني مجتمعاً أفضل). فالظروف واللابسات هي التي تملي هذا الموضوع. ولوأننا تأملنا شيئاً فشيئاًا لمجتمعات الحيوانية التي تعيش كجتهعنا، كما لنحلة مثلاً، فإننا نرى أن النحلة لا يمكنها أن تعيش بعسلها ونشاطها، ولا أن تحقق أهداف حيا! اوكيانها، لو! يكن نشاطها هادفاً إلى فكرة عأمة ومستقرة في حياة المجتمع الذي هي جزء منه، أي في حياة ثلاثة آلاف أوأربعة آلاف من الحشراتا
التي تعيش معها في الخلية. فلو أنها انفصلت يوماً من الأيام أوفصلاً من الفصول عن الخلية، فإنها ستموت حتما مهما يكن في الطبيعة من زهور، ومهما يكن فيها من طاقات للعمل، لأن الله عز وجل قد ربط كيانها بهذا المجتمع، وأودع في نفسها وفي غريزتها سر الحياة الاجتماعية. فعلينا إذن أن نتعلم معنى الحياة الاجتماعية حتى من الحشرات، لأن في حياتها دروساً لنا قيمة. ففي مستوى حشرة بسيطة كالنحلة، نرى أن الحياة الاجتماعية ضرورة بالنسبة لكيان الفرد، فهو يلقي نفسه إلى التهلكة إذا ما انفصل عنها. والإنسان شأنه في هذا شأن النحلة، إنه لا يستطيع أن ينعزل عن المجتمع ويحاول العيش بجهده الخاص فمصيره من غير شك إلى الموت.
على أننا إذا سلمنا بهذه البديهة فإن علينا أن نتساءل: هل الفرد يعيش ويحقق قسطه من الحياة ومصلحته فيها، بمجرد اتصاله بشيء نسميه المجتمع أي بعدد من الأفراد؟ هنا: سادتي، يبتدئ عندنا لبس أدى للاسف؛ في التاريخ القريب أي في الاربعين سنة أو الخمسين سنة التي مضت، أدى بنا إلى غلطات ارتكبناها لأننا لم ندقق في مصطلحات الاجتماع، ففهمنا أن المجتمع إنما هو عبارة عن عدد من الأفراد، يعيشون كما يشاؤون مهما كانت الصلات بينهم ليس هذا هو المجتمع. هذا يمكن أن نسميه بقايا مجتمعات أو بداية مجتمعات قبل أن تقوم بوظيفتها التاريخية. أما المجتمع الذي يقوم بوظيفته التاريخية، المجتمع الذي يقوم بوظيفته نحو الفرد ويحقق راحة الفرد، فإنه لابد أن نفهم معناه فهماً دقيقا. فهو ليس عددا من الأفراد، وإنما هو شيء خاص، هو بنيان وليس تكديسا من الأفراد، بنيان فيه أشياء مقدسة متفق عليها. فقبل أن تتجمع الأفراد تكون هناك فكرة عأمة هي التي تؤلف بين أفراد المجتمع. فإذا فقدت هذه الفكرة فقد فقدت الصلات بين الأفراد، وتفكك المجتمع وضاعت المصلحة التي كانت تتمثل فيه. فكما أن النحلة لو انفصلت عن خليتها ماتت، فإن المصلحة التي تجمع وتنسق سلوك كل نحلة من الخلية لو انعدمت لسبب لا أعلمه فإن الخلية ستتمزق، أي يضيع المجتمع ويضيع أفراده أيضاً.
فالقضية إذن ليست قضية تكديس لأفراد، فنسيمي كل تكديس مجتمعا.
ولقد تورط أهل العلم أنفسهم، أهل علم (الأتنولوجي) في أوربا في هذه التعبيرات الزائفة، فسموا التجمعات البدائية مجتمعات، ولا بأس في هذا إن كان المراد به التعليم وتبسيط الأشياء. أما إذا أردنا أن نعلم الأشياء ونعمل بها فالمفاهيم تتطلب فحصاً أكثر. فلا يجوز لي أن أقول مجتمع بدائي وثقافة بدائية لمجرد أنني سمعت الكلام عن حضارة بدائية وهذا خرافة.
إذن سادتي إذا قررنا أن المجتمع وظيفته حفظ كيان الفرد، وتحقيق أهداف جماعته، فإن هذه الأهداف في مستوى الحشرات حفظ النوع، ولكنها في مستوى الإنسان تفوق ذلك. فالقضية عن المجتمع الإنساني ليست قضية حفظ النوع، لأن التناسل قد وفرته الحياة الطبيعية، فالإنسان يعيش لأهداف أخرى، والمجتمع الإنساني يقرر فكرته في مستوى آخر ليس مستوى البقاء، ولكن مستوى تطور النوع ورقيه، هذه هي حقيقة المجتمع التي ينبني عليها كيانه.
فما هي الأهداف التي من أجلها يتكون المجتمع بالمعنى والاصطلاح الذي نعنيه؟ إننا إذا عبرنا عتها بالنسبة للفرد المسلم، وجدنا القرآن الكريم يعبر عنها بقوله:{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77/ 28] فالحياة الاجتماعية بالنسبة للمسلم لا تنفصل فيها الحياة الدنيوية عن الحياة الأخروية، فالرسول يقول «الدنيا مطية الآخرة» فنحن بالطبع لا نفصل الدنيا عن الأخرى، إذ هي المطية التي نمتطيها للوصول إلى أهداف هي أبعد من الموت. فإذا كانت هناك بعض المجتمعات الحديثة اليوم، تبني المجتمع لغايات اجماعية بحتة ولحياة أرضية بحتة- وأنا لا أقلل من شأن هذه الغايات وإنما أعلم أنها تقف في منتصف الطريق- فإن مجتمعنا يبني لما بعد الحياة، كما يبني لأهداف يحققها لحياة كل فرد. وهذا بالطبع يتطلب من المسلم ومن العربي جهدا أقدر من جهد الآخرين وجهادا أكبر من جهادهم.
غير أني أحب أن أعبر عن المشكلة لا بلسان الدين، ولكن باللسان البسيط، بلسان الأدب. فما هي المشكلة وكيف نعبر عنها؟ ولماذا يحيا الفرد؟ ولماذا يتصل بالمجتمع؟ ولماذا لا يستطيع أن ينفصل عنه؟
وهنا سأجيب بكل بساطة فأقول: إن الغاية من ذلك كله تحقيق سعادته.
فالفرد إذ يتصل بالمجتمع فإنما ليحقق سعادته، وما أتت الأديان والفلسفات إلا لتحقق السعادة، وما خططت السياسات إلا لهذا الغرض. ولكن ما هي هذه السعادة التي نتطلع إليها؟ وما هو الشيء الذي يحققها؟ لو أردنا أن نستخدم لغة العصر، وهي لغة الإقتصاد الذي يسيطر اليوم على عقولنا وعلى سير التاريخ، لو أردنا أن نقبس من هذا المنطق لندخل في موضوعنا فإننا نقول: إنه متوسط الدخل السنوي للفرد؛ فلو أنني أخذت قائمة متوسط الدخل السنوي للفرد عالميا، فإنني سوف أجد فيها مئات الأرقام طبعا، ولكني سأكتفي منها بأرقام ثلاثة.
فمتوسط الدخل السنوي للفرد في العالم يتراوح بين 1850 دولارا في أميركا إلى 38 دولارا في جمهورية ليبريا. هذا هو سلم الدخل السنوي في العالم، من أول درجة فيه إلى أسفل درجة.
ولو أني أمسكت بطرفي السلم وبحثت عن نقطة الوسط لا من جهة الأرقام
بل من جهة المستوى الإقتصادي، وبالنسبة للحقائق الأخرى كتجنيد الطاقات الاجتماعية وحل مشكلة البطالة، وحل مشكلة الأمية، وبكلمة واحدة بالنسبة لتحقيق سعادة الفرد، فإننا نرى حسب ما نعلم عن الحياة وعن توزيع الثروة العالمية والمستوى الاجتماعي في العالم، أن متوسط الدخل في العالم هو 200 دولار سنوياً. وهذه النقطة تتفق بالضبط مع حياة ودخل اليابان. فمتوسط الدخل الفردي في اليابان 200 دولار، وبه يتحقق للفرد الياباني جميع الضمانات. أعني 200 دولار تحل جميع مشكلات المجتمع الياباني، فإنه لا أمية فيه ولا مرض وبائياً ولا فقر بصفة وبائية. فالحياة الإجتماعية منظمة تحقق للإنسان ما نسميه السعادة
بالمنطق الإقتصادي. وهذا يعني أننا دون ذلك سنسقط في الحضيض، في مستوى الشقاء.
والآن سادتي، لو أعود فأوزع هذه الأرقام على خريطة العالم فإنني أرى شيئا يدعو إلى الملاحظة. أرى أن الأرقام التي تكون السلم من 200 دولار إلى 1850 دولاراً تمتد من سان فرنسيسكو إلى طوكيو- أي في القطاع الشمالي من العالم بين القطب الشمالي ومستوى جنوب أوربا، على طول خط العرض حتى جزر اليابان
…
فالأرقام التي تكون السلم من 200 إلى 1850 دولاراً تكون هذه القارة التي نسميها قارة السعادة. والأرقام التي تكون السلم من 200 إلى 38 دولاراً تكون القارة التي تسمى الآن بالمصطلح السياسي الدولي البلاد المتخلفة؛ أي الحياة الإقتصادية لـ 29 دولة، وهي الدول التي اجتمعت في مؤتمر باندونج.
إذن فنحن أمام ظاهرة غريبة. فإن شرط السعادة أن نحقق مستوى للدخل الفردي فوق الـ 200 دولار؛ والمسألة هكذا تبدو بسيطة، ولكن هذه البساطة صورة فقط. إن هذا ظاهر الشيء، وسوف يكون من الخطأ أن نفكر هذا التفكير السطحي. ولكي ندرك هذا الخطأ ونشعر به سوف أوضحه من ناحيتين:
أ- في صورة إنسانية شاهدتها بعيني، وكانت هي الحافز الذي حفزني على
هذا الاتجاه. فقد كنت جالساً على ظهر مقهى في مرسيليا وبجاني رجل فاضل، عالم كريم، أخلاقه سامية وهو من العلماء التقليديين الجزائريين. وقد كان شديد البنية متكاملا من جميع النواحي جسماً وعقلاً وخلقاً. وكان يشكو لي الزمن، وهو أب ذو عائلة، وله أبناء كثر، يقص لي قصة مؤسفة حدثت له، ثم لم يلبث أن انصرف. وبقيت بعده مدة، وفي تلك المدة التي بقيت فيها على سطع المقهى أتت امرأة فرنسية، أتصور فيها كل معاني الانحطاط الأخلاقي لو كان لنحات أن ينحته، هذا إلى قبح في الخلقة كبير. ثم وقفت على رجل واحدة ورقصت وهي
مخدرة بالسكر وغنت أقبح الصوت ومدت يدها للجالسين وبقيت أنظر. فرأيتها أخذت من سخاء الجالسين ومن طيبة الفرنسيين ما كان يزود أخي الذي كانت تتمثل فيه الفضيلة، وأهله أسبوعا.
هذه القصة توضح لنا ناحيتين:
1 -
فالإنسان لا تسعفه خصائصه، وإمكانياته الشخصية في تحقيق سعادته. وليس
يعني هذا أنني أغض من قيمة هذه الخصائص، ولكني أرى أن القيم الأخلاقية هنا أصبحت عاجزة أمام ظاهرة أخرى. فإن هذا الرجل الذي تتوافر فيه الصحة والفضيلة والكرم والعلم والنشاط لا يملك قوت يوم. والمرأة التي تصورت فيها الرذيلة يأتيها عيشها رغدا. فإن هذا السر عميق يدعونا إلى كثير من التأمل إذ هنا بيت القصيد. فقضية تحصيل السعادة ليست بلا قيد ولا شرط، بل هناك أمور أخرى. فقد سبق أن قلت إن ارتباط الفرد بالمجتمع هو الذي يحقق السعادة. والآن أرى هذه الواقعة تؤيد صحة هذا المقياس.
2 -
غير أن هناك جانبا آخر تدل عليه هذه القصة. فلو كان المقياس الإقتصادي الذي سبق أن أوضحته لكم أعني مقياس متوسط الدخل صحيحا، فمن الطبيعي أن يحقق أوتوماتيكيا وبلا قيد وشرط، شروط الحياة لذلك الرجل الفاضل أيضا، لأنه يعيش في بيئة متوسط دخلها 600 دولار. فلماذا هو قد حرم وتوافرت سبل المعيشة لهذه المرأة؟
فالملاحظة إذن تدعونا أن نقرر هذين المبدأين: القياس الإقتصادي ليس صحيحا بدون استثناء وإنما بشروط.
الفرد لا يحصل على قوته بمجرد نشاطه فهناك شروط أيضا وإنه لمفيد لنا أن
نتخذ من هذه الملاحظات دليلاً يوصلنا إلى سعادة الفرد حينما نتكلم على مجتمع أفضل.
ب- أما دليلنا الثاني على ضعف المقياس الإقتصادي فهو منطقي. فإنه لو كان المقياس صحيحا فإنه لا يجوز لي حينما أتساءل عن سبب السعادة، أن أقول إنه تحقق دخل سنوي فوق المئتين من الدولارات، لأن هذا السبب وراءه أسباب أخرى. وعلي دائما أن أبحث عن السبب الأول وليس عن سبب ثان أو ثالث أو رابع. وإن لم أفعل ذلك فسوف أقع في الخطأ حتما، لأن تحقيق السبب الخامس حينئذ يقتضي تحقيق السبب الرابع، والرابع شأنه في ذلك شأن الخامس. فالسبب الأول هو غايتي في البحث لأنه هو الذي يحقق لي الأسباب الأخرى آلياً.
فحينما أضع العدد الذي أشرت إليه من نقط الاستفهام، فأين أجد الجواب عليها؟ إنني أجده في رجوعي إلى الخريطة التي سميتها السعادة. فقد سميت خريطة السعادة الرقعة الجغرافية التي يتوزع فيها الدخل السنوي فوق مئتي دولار للفرد الواحد. ولكن حينما أنسلخ عن منطق الإقتصاد وأتكلم بمنطق التاريخ ثم الاجتماع، وأتساءل ما هي هذه الرقعة التي تمتد من سان فرنسيسكو إلى طوكيو؟ فإن الجواب على هذا السؤال سوف يعطيني الجواب على جميع المسببات الثانية التي أتت بمتوسط الدخل السنوي للفرد وخلافه.
هنا أصبح أمام مشكلة تاريخية واجتماعية. فلو أني رجعت إلى الوراء خمسين
سنة أو مئة سنة وطبقت هذا المنطق، منطق الاجتماع. ومنطق الاجتماع ليس منطق الاستقرار، ليس منطق دراسات الحالات الساكنة بل المتحركة والمتطورة. فلو أني أخذت خريطة سنة 1848 واستخرجت متوسط الدخل فيها، ثم خريطة سنة 1900واستخرجت متوسط دخلها أيضاً. وفعلت مثل ذلك سنة 1950، والخريطة فيها شيء جوهري، فقط نسبة الأشياء كمّاً ومساحةً. فخريطة سنة 1848 التي تشير إلى عهد بداية التصنيع في العالم، متوسط الدخل السنوي المرتفع فيها مكانه في الرقعات المصنعة. أي في ألمانيا
الغربية وسييسيا وإنكلترا وإلى حد ما في أميركا. ولو أني سرت مع التاريخ قليلا ووقفت عند سنة 1900م ونظرت نظرتي السابقة، فإني سأجد البقعة لم تتغير وإنما اتسعت. فكأن الظاهرة بدأت تتسع لأن الإقتصاد في حركة لا تعرف الجمود. فهو قد انتشر شرقا في روسيا وغربا في أميركا. والأمر في سنة 1905 قد انتشر قليلاً عن ذي قبل ولكنه بلغ مساحة كبيرة جداً في سنة 1950. فلو أني رسمت خريطة سنة 1905 لوجدت أن متوسط الدخل السنوي المرتفع قد انتشر من سان فرنسيسكو إلى طوكيو مثلاً. فمتوسط الدخل السنوي فوق 200 دولار لم يتزحزح عن مكانه، وإنما اتسع فقط. فكأنه زلزال حدث في منتصف القرن الثامن عشر أو بدئه، في وسط أوربا بين برلين وباريس ولانكشير ولندن، وامتدت تموجاته واتسعت، ولكنها لم تتسع في جميع الاتجاهات، فكأن التمهوجات موجهة لتتجه في اتجاهات معينة، لو دققنا النظر لوجدناها اتجاهات الحضارة الغربية، فقد اتسع الإقتصاد واتسعت رقعته في خريطة الحضارة الغربية.
ودليلي على ذلك أنني لو رجعت إلى الوراء، لأستخرج هذه المرة خريطة الحضارة الغربية لا خريطة الإقتصاد لسنة 1848 و1900 و1940، لوجدت تطابقا تاما بين الخريطة الإقتصادية وخريطة فكرة الحضارة الغربية، وما ذلك إلا لأن الظاهرة الإقتصادية صورة للحضارة الغربية. فمراحل الظاهرة الإقتصادية هي مراحل الحضارة الغربية فقط. ونستطيع أن نستنتج من هذا التحليل شيئا: فالإنسان الذي لا يكون مجتمعه مجتمع حضارة، معرض للحرمان من الضمانات الاجتماعية. فأنا حينما أحاول تحديد مجتمع أفضل فإننى أحاول تحديد أسلوب حضارة. إذ أنني حينما أحقق الحضارة، أحقق جميع شروط الحياة، والأسباب التي تأتي بمتوسط الدخل المرتفع، بمعنى أنني أحقق الخريطة الإقتصادية، ونتائجها الاجتماعية والثقافية أيضا.
ومن هنا نرى أنه ينبغي أن نبحث المسألة من زاوية واحدة. ولقد كنا من
قبل منذ مئة سنة نخطئ إذ نبحث المسألة من زوايا متعددة، فتشعب علينا الأمور. وأحيانا نترك الطريق ونخرج عن الجادة. على أننا اليوم نتوقع بفضل ما يطرؤ ويدور في المجتمع العربي الناشئ من نهضة جديدة تحقيق مجتمع أفضل. وعلى ضوء هذه الكلمات نفهم ما عنى به الزعيم جمال عبد الناصر في تصريحاته أمس حينما قال: إن بناء المجتمع يتطلب تنمية إقتصادية وطاقات روحية. ولم يقل تنمية إقتصادية فقط.
ولقد عدنا والحمد لله نقرن الأشياء ولا نمزقها، لأن الحقائق العلمية والاجتماعية والرياضية إذا مزقت فإنها لا تكون من الأجزاء حقيقة. فينبغي علينا أن نحتفظ بكيان الحقائق. لأن الحقائق لا تؤدي مفعولها في التاريخ إلا بوصفها أشياء كاملة. فإذا أردنا أن نبني مجتمعا أفضل فهذا يعني أننا نبني مجتمعاً متحضراً، وهو بدوره أيضاً يعني أنه لابد أن نعمل لتكوين حضارة.
وإن نظرة واحدة إلى نهضتنا البعيدة، حينما نهضنا على صوت زعمائنا الأقدمين كجمال الدين ومحمد عبده والشيخ رشيد رضا، حينما سمعنا هذه الأصوات الجليلة وأيقظتنا من سباتنا فأين توجهنا؟ إننا توجهنا بالطبع في طريق الحضارة. ولكنا بكل أسف من غير أن نحدد الهدف ونوضح معالم الطريق. فلو أننا وازنّا سيرنا الحضاري بسير حضارة أخرى، فسوف نشعر في عصر السرعة، في العصر الذي يخضع فيه التطور الاجتماعي إلى عوامل التاريخ، إلى عوامل التسريع، بأننا نسير في بطء. وهذه الحقيقة تتجلى بكل وضوح في مقارنة بسيطة. فحينما استمعنا لأول مرة لمنادي النهضة العربية الإسلامية وهو جمال الدين الافغاني سنة1858 نهضنا وبدأنا السير.
ولكن فلنوازن سيرنا ونتائجه الاجتماعية بسير مجتمع آخر استيقظ بعد عشر سنوات سنة 1868 وهو مجتمع اليابان. أيقظه الإستعمار كما أيقظنا نحن، فقد دقت على بابه يد الإستعمار الحمراء وشعر بأن كيانه مهدد، ففتح الأبواب له ولأفكاره
الإستعمارية، غير أن الياباني أدرك أن واجبه أن ينهض وأن يقوم بدور حاسم قبل أن يسيطر عليه الإستعمار ويمحو شخصيته. فقام وسار في الطريق نفسها التي حاولنا أن نسير فيها.
والغريب أن هذا المجتمع الذي نهض بعدنا بعشر سنوات قد سار إلى الحضارة ووصل إليها، وأصبح خلال أربعين سنة دولة قوية تناهض دولة من العصر الإستعماري، وهي دولة روسيا في ذلك الحين. فإنه حينها وقعت حرب سنة 1905 وجد المجتمع الياباني في نفسه وفي عبقريته السلاح الكافي لمقاومة أكبر دولة استعمارية في ذلك العهد. بينما لو نوازن إنتاجنا الحضاري سنة 1905 بالإنتاج الحضاري للمجتمع الياباني، فإنكم تعترفون بأنه لا مجال للموازنة. وهذا يعني أن القانون الذي طبقه المجتمع الياباني في سيره ليس هو القانون الذي طبقناه في سيرنا.
فنحن قد مررنا في طريقنا مر الكرام، تستوقفنا الزهور التي في جنباتها مرة، ونتسلى بالطيور أخرى ونصغي إلى صوت أوربا أحيانا، ونشيد البلابل الأوربية. أما الياباني فقد فكر في خطته تفكيراً علميا، وخطط لها تخطيطا فنيا، وبعث في الأنفس حقيقة فكرة عأمة، جعلت كل ياباني يتصل بالمجتمع الياباني، كما تتصل النحلة بخليتها، فلقد أصبح المجتمع الياباني في خلال المرحلة من سنة 1868 إلى سنة 1905 كخلية النحل، كل نحلة تعمل لمصلحة عأمة في إطار فكرة عأمة، بينما نحن كنا ممزقين: جزائريون يفتح بهم الإستعمار المراكشيين، ومراكشيون يفتح بهم الإستعمار التونسيين، وتونسيون ومراكشيون يفتح بهم الإستعمار بعد الحرب العالمية الأولى لبنان وسوريا إلخ
…
وهكذا مرت البلاد العربية في تجربة مؤلمة قاسية، وعاشت مرحلة غريبة، عاشتها في يقظتها لا في نومها وهنا كانت الغرابة. وذلك أننا لو أرخنا للعالم الإسلامي، لأرّخنا له من سنة 1858 من معركة (السيباي) في الهند، التي حركت الوعي في العالم
الإسلامي، عندما حركت الوعي في روح طاهر نقي هو روح جمال الدين الأفغاني. غير أنه للأسف لم تحرك فينا ساكناً، فسرنا في الطريق رويداً رويداً ولا نصل بعد. فإذا فعلنا في الطريق وماذا فعلت اليابان؟
إن اليابان قد بنى مجتمعاً متحضراً، فهو قد دخل الأشياء من أبوابها. وطلب الأشياء بوصفها حاجة، درس الحضارة الغربية بالنسبة لحاجاته، وليس بالنسبة لشهواته. فلم يصبح من زبائن الحضارة الغربية يدفع لها أمواله وأخلاقه. أما نحن فقد أخذنا منها كل رذيلة، وأحياناً نأخذ منها بعض الأشياء الطيبة التي قدرها الله لنا.
فما هو معنى سيرنا؟ وما هو معنى سير اليابان؟
إننا إذا عبرنا بالتعبير الصحيح، أعني بمصطلح له معنى اجتماعي، فإن اليابان قد سارت في الطريق لعمل نسميه البناء. فقد قامت خلال نصف قرن من سنة 1868 إلى سنة 1905 ببناء مجتمع، ونحن كدّسنا عناصر مجتمع.
ولسائل هنا أن يسأل: ترى ما معنى التكديس وما الفرق بينه وبين البناء؟
هناك فروق كبيرة وهي عظيمة، أظنكم بعد الذي قدمت من الحديث تشعرون بها، تشعرون بالفرق بين البناء الذي يحقق النتائج عاجلاً والتكديس الذي ربما يأتي بنتيجة. فلعله يصادف يوم يخرج من التكديس شيئاً، والتكديس في الحقيقة ظاهرة اجتماعية، فإنه يحصل أن تكدس المجتمعات في مرحلة من مراحلها، ولكنها ليست في مراحل نهضتها، وإنما في عصور انحطاطها، لأنها في هذه المرحلة لا تفكر ولا تنظم أعمالها طبق أفكار وقوانين، وإنما تكدس الأشياء: وحتى ندرك أثر التكديس في المجتمع نفترض أننا كدسنا عناصر البناء لعمارة معينة: كدسنا من الحجر والإسمنت والخشب والحديد مئات
الأطنان، فإننا لا نستطيع أن نقيم من هذا التكديس البناء ولو بعد مئات السنين. بينما لو سلكنا طريق البناء فإننا في شهر واحد نبني على الأقل شقة واحدة.
وهذا يقتضينا أن نفكر في المجتمع تفكير بناء وليس تفكير تكديس: لأن التكديس في المجتمع ظاهرة مضرة، وهي تظهر حتى في الأفكار. فقبل خمسين سنة نتكاتب ونتراسل في رسائلنا الأدبية والودية، فنبتدئ بعد الحمد لله بعشرة أسطر من الديباجات التقليدية والألقاب، ثم نقول: والحمد لله أنا بخير وأرجو أن تكونوا بخير والسلام عليكم: وهكذا تنتهي رسائل عالمنا. ومجتمعنا هذا نموذج من رسائلنا. أو إن شئت فقل رسائلنا نموذج من مجتمعنا.
ولقد ظلت هذه الظاهرة في تفكيرنا حتى حينما استيقظنا، فإنا نرى حتى في بعض كتبنا هذا النوع من التكديس: فقد قرأت كتاباً تحت عنوان (مشكلاتنا الإجتماعية)، وتحت هذا العنوان رأيت فصولا أربعة أو خمسة تعالج موضوعات الفقر والجهل والمرض: فتحت عنوان الفقر نرى كل ما يتعلق بالحياة الإقتصادية من الحديث عن المصارف والبضاعة والأسواق، أي بكل ما يتصل بكلمة فقر وما يقابلها من غنى وثروة. ذلك لأن كلمة فقر توحي بهذه المعاني جميعاً.
فهذا ضرب من تداعي المعاني والأفكار، إذ أضع كلمة وآتي تحتها بكل الأفكار التي تدخل تحتها.
ومن الطبيعي أن هذا ليس ببناء، ولكن تكديس وجمع للمفردات لا يؤدي إلى حل المشكلات ولا يأتي بنتيجة، إذ القارئ لا يشعر بأنها قدمت له حقيقة.
ثم نراه بعد ذلك يأتي إلى فصل الجهل فيتحدث عن المدارس وما يتعلق بها ويأتي بالإحصائيات في هذا المضمار، وكذلك الحالة الصحية وما يدخل تحت هذا العنوان من معان. فهذا النوع من الدراسات اسمه دراسات تكديس أو دراسات جزئية لا تأتينا بالحلول للقضايا، وإنما فقط تعطينا تلميحات لقضايا جزئية
معينة. وهذا ليس بالحل الصحيح الجذري الذي يقتلع المرض من جذوره.
فلو أنني استخدت طريقة رد الفعل في حل المشكلات فقلت الفقر علاجه الغنى، فإن النظرة الفاحصة تكشف عن فساد القياس. ذلك لأننا لو نظرنا إلى العالم الإسلامي وحددنا إمكانياته المالية والإقتصادية، فهل نراه يتصرف طبقاً لإمكانياته أو دون ذلك؟ إنه لاشك يتصرف دون إمكانياته بكثير. وحتى أدلل لكم على ذلك أقص لكم هذه القصة: فقد كنت ذات يوم أتناقش مع أحد أصدقائي في مدينة تبسة، فقال لي نحن فقراء، فأجبته ليس الفقر فينا بل أشياء أخرى أجل من الفقر وأعظم. وقد كان هذا في معرض الحديث عن ميزانية مدرسة في المدينة لجمعية العلماء الجزائريين، كان يقوم على أمرها ويبذل من جهوده وإمكانياته في سبيلها الشيء الكثير، لأن المجتمع لا يؤدي الواجب عليه نحو هذا المعهد.
فسألته عن ميزانية المدرسة فقال إنها 600 ألف فرنك، والمجتمع فقير لا يستطيع تسديد هذا المبلغ، وهو مبلغ زهيد، فقلت له إن المجتمع ليس بفقير ولكن به مرض اجتماعي آخر.
وإن شئت التأكد من صحة هذا القول فاخرج معي إلى المدينة لنقف على مبلغ فقر الشعب.
فخرجنا وبعد جولة قصيرة وجدنا في تلك الليلة قاعتي سينما ومسرحاً للحيوانات وكان زيادة على ذلك زبائن الخمارات، فقدرنا مصاريف تلك الليلة بـ 250 ألف فرنك. أي أكثر من ربع ميزانية سنة لمشروع خيري. فالقضية إذن ليست قضية فقر ولكن عدم شعور بالمسؤولية.
فالمجتمع الإسلامي عندنا لم يشعر بعد بمسؤوليته، وهناك أمثلة كثيرة تؤكد هذه الحقيقة.
فحينما نراجع مأساة فلسطين فإن لها بالنسبة للعرب دلالة وبالنسبة لليهود دلالة أخرى.
أما بالنسبة لليهود فقد كان اليهودي يؤدي واجبه منذ سنة 1932. فاليهود عندنا في الجزائر كانوا يؤدون ضريبة يومية لقضية فلسطين، وللأسف فقد أشركوا معهم بعض المسلمين من حيث لا يعلون. إذ جعلوا صناديق في المقاهي والخمارات. والمسلم الذي يدخل إلى هذه الأماكن يدفع في الصندوق ثمن فلسطين اليهودية، وهكذا كانت أموالنا تذهب. فالقضية إذن ليست قضية فقر، وإنما هي أمر يتعلق بأساس مشكلاتنا. فعلينا أن نفكر في جذور المشكلات، وندرك أن القضية قضية حضارة. وما الفقر والغنى، ولا الجهل والمرض إلا أعراض لتلك المشكلة الأساسية.
إن علينا أن نكون حضارة، أي أن نبني لا أن نكدس. فالبناء وحده هو الذي يأتي بالحضارة لا التكديس ولنا في أمم معاصرة أسوة حسنة.
إن علينا أن ندرك بأن تكديس منتجات الحضارة الغربية لا يأتي بالحضارة، والاستحالة هنا إقتصادية واجتماعية.
أما الاستحالة الإقتصادية فنحن لو أردنا أن نكدس عناصر حضارة لنكون منها حضارة، لأصبحنا أمام أشياء للحضارة لا تعد ولا تحصى. ولو أننا قدرنا ثمنها فلا نستطيع تسديده خلال ألف سنة.
ثم إن هناك مغالطة منطقية، فالحضارة هي التي تكون منتجاتها وليست المنتجات هي التي تكون حضارة. إذ من البديهي أن الأسباب هي التي تكون النتائج وليس العكس. فالغلط منطقي ثم هو تاريخي لأننا لو حاولنا هذه المحاولة، فإننا سنبقى ألف سنة ونحن نكدس ثم لا تخرج بشيء.
من هنا فقد وجب علينا أن نشعر بخطورة المشاريع التي نراها تقوم في
الجمهورية العربية المتحدة. فإن هذه المشاريع هي التي تجعلنا لأول مرة في التاريخ نقف على باب الحضارة.
فنحن قد بدأنا بالتخطيط لأننا بدأنا بالبناء وليس بالتكديس. ولكن حتى نفهم هذه الأشياء في عمقها فإن علينا أن ندركها في معناها الصحيح، يجب علينا أن نتساءل: من أي شيء يبتدئ بناء الحضارة؟ وهذا السؤال يفرضه المنطق، فأنا إذا فكرت في بناء فإن علي أن أعلم بأي شيء أبتدئ.
إن أول ما يجب علينا أن نفكر فيه حينما نريد أن نبني حضارة، أن نفكر في عناصرها تفكير الكيماوي في عناصر الماء إذا ما أراد تكوينه. فهو يحلل الماء تحليلاً علمياً، ويجد أنه يتكون من عنصرين عنصر الإيدروجين وعنصر الأوكسجين. ثم إنه بعد ذلك يدرس القانون الذي يتركب به هذان العنصران ليعطيانا الماء، وهذا بناء ليس بتكديس، ذلك لأنه لو كدس ملايين من الأطنان من الإيدروجين والأكسجين ثم بقي ينتظر أن يتكون الماء، فإنه لا يتكون وحده إلا بأن يبعث الله إليه شرارة من عنده. فحينما نحلل منتجات الحضارة ولنأخذ أياً منها ولتكن هذه الورقة، فإننا نجدها تتكون من عناصر ثلاثة: الإنسان، لأنه هو الذي ولدها بفكره وصنعها بيده في بغداد في العهد العباسي حيث اخترع الفكر الإنساني الورق.
فالعنصر الأول إذن الإنسان أما العنصر الثاني فهو التراب. إذ من التراب كل
شيء على الأرض وفي باطنها. ومعنى التراب هنا ليس هو المعنى المتبادر إلى الذهن، فقد تعمدت ألا أستخدم كلمة مادة لأسباب فقلت التراب. لأن التراب يتصل به الإنسان بصورتين: صورة الملكية أي من حيث تشريع الملكية في المجتمع الذي يحقق للفرد الضمانات الاجتماعية، فالتراب هنا شيء حيوي في المجتمع من حيث التشريع. وهو يتصل به بصورة أخرى، من ناحية علم التراب والمعلومات التي تتصل به كالكيمياء وغيرها، فالتراب نعني به هذين الجانبين جانب التشريع
وجانب السيطرة الفنية والإستخدام الفني. فالتراب بهذا المعنى يدخل في عناصر هذه الورقة. وأما العنصر الثالث فهو الزمن، لأنه إذا صح ما أقول، فلماذا يخترع الفكر الإنساني الورق قبل هذا التاريخ؟ إن الجواب على ذلك هو نقص تجاربه في هذا المضمار، في مضمار علم التراب والنباتات. فالزمن قبل ذلك التاريخ لم يكف لتخمر فكرة ابتكار الورق.
إذن يجب أن تجتمع عناصر ثلاثة حتى يتكون منها الورق:
الإنسان- التراب- الوقت
وهذا التحليل يوجب علي أن أقول: منتوج حضارة (وهنا ورقة) = إنسان+ تراب+ وقت.
منتوج حضارة أول = إنسان + تراب + وقت
منتوج حضارة ثان = إنسان + تراب + وقت
منتوج حضارة ثالث = إنسان + تراب + وقت إلخ
إلى ما هنالك من منتجات. حتى الكلمة فإنها تعد منتوجاً حضارياً، وتساوي المعادلة السابقة، لأنها بنت هذه العناصر الثلاثة جميعاً. فلو لم تتوافر فالكلمة نفسها لا توجد .. فأنا إذن أمام كل منتوج حضاري أكتب معادلة كما يكتب الكيماوي حينما يحلل الماء إذ يقول:
ماء = إيدروجين + أوكسجين.
وأظل هكذا حتى أنتهي من قائمة المنتجات الحضارية كلها. ولسوف أستخلص من هذا التكديس النظري لمنتجات الحضارة حقيقة عأمة إذ أقول في النهاية:
حضارة = رجل + تراب + وقت.
فأنا إذن حينما أحاول التخطيط لحضارة فليس علي أن أفكر في منتجاتها، وإنما في أشياء ثلاثة: في الإنسان والتراب والوقت. فحينما أحل هذه المشاكل الثلاثة حلا علميا، بأن أبني الإنسان بناء متكاملاً، وأعتني بالتراب والزمن فإنني حينئذ قد كونت المجتمع الأفضل، كونت الحضارة التي هي الإطار الذي فيه تتم للفرد سعادته، لأنه يقدم له الضمانات الكافية الاجتماعية والسلام عليم ورحمة الله وبركاته.
وبعد أن انتهى الأستاذ من المحاضرة وجه إليه سؤالان:
س 1:- ماذا نأخذ من الحضارة، وماذا ندع حتى نستطيع النهوض؟
ج: إنه ليس من شك في أننا لا نستطيع أن نعيش منعزلين عن العالم. فحينما نقول: إنه ينبغي أن نوجه أبحاثنا إلى هذه العناصر الثلاثة التي بها تبنى الحضارة، فإن هذا لا يعني أن ندع ما انتهى إليه الآخرون لنبدأ الطريق من أوله.
إن علينا أن نأخذ من الحضارة الغربية الأدوات التي نحتاجها في بناء حضارتنا. فإذا لم نكن نستطيع صنع الآلات مثلاً فعلينا أن نستورد هذه الآلات من الخارج، حتى يأتي يوم نستطيع فيه الاستغناء عنها بمنتجاتنا.
على أنه إذا كان من العبث أن أركب الجمل في العصر الذي انتشرت فيه السيارات، فإنه من العبث الأكبر والتبذير للأموال، أن أقتني أفخر السيارات وأعظمها، لأنه لا حاجة بي إلى هذا النوع من السيارات، طالما أستطيع الاكتفاء بأقل منها درجة. فنحن في مرحله البناء ينبغي لنا أن نقتصد في إمكانياتنا حتى نستخلص منها أقصى ما نستطيع من فائدة.
ولكننا اليوم في صلتنا بالحضارة لا نضع هذه القاعدة في حسابنا، ولذلك فإن علاقتنا بالحضارة الغربية لن تستطيع أن تأتينا بالحضارة، طالما وجد في
مجتمعنا من يستورد فرو السيدات الباهظ الثمن وهو في صحراء العرب، حتى إذا ما أراد استعماله جعل داخل القصور مكيفا للهواء في درجة الصفر لتستطيع السيدات استعماله. فإن هذا عبث وصبيانية وإتلاف لإمكانيات المجتمع.
س 2:- إذا كانت الحكومة في الجمهورية العربية المتحدة تبني المجتمع بناء حضارياً كما بينتم فما هو واجبنا حيال هذا البناء؟
ج: إن علينا أن نقوم بمؤازرة كل عمل بناء، فلا تتضارب جهودنا وإنما تتضافر من أجل البناء. وإنما تؤتي الجهود ثمارها ويرتفع البناء، إذا قام كل فرد في حدود مهنته بواجبه على أتمه. فالقاضي يقوم بواجبه والزارع والتاجر أيضاً. لأن أي تهاون في هذا السبيل يعني تحطيم إمكانيات المجتمع وتخريبها. وعلينا واجب آخر، هو أن نكشف عن كل ما يخرب المجتمع ويعرقل سيره. فإنه إذا كان الحرام بيناً والحلال بيناً، فإنه في بعض الأحايين يتخفى الحرام في أثواب كثيرة، فإذا كان بعضنا يبني فإن علينا ألا ندع الآخرين يخربون.
***