الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفعالية
محاضرة ألقيت في بيروت يوم 8/ 7/ 1959
إنني لم آت لأحاضركم، وإنما لأتحدث معكم، فإن المحاضرة تتطلب مني التهيؤ
لها والاستعداد، وكرم الاستاذ محمد عمر الداعوق قد حرمني هذا كله، فهو قد أخذني منذ أمس ولم يسلمني إلى نفسي إلا منذ قليل.
لقد كنت الآن في القاعة التي أنتظر فيها موعد الحديث، أستمع إلى أحد إخواننا المهندسين وكان يدرس في جنيف. ولقد استفدت من حديثه إذ أتاح لي أن أستيقن من ظاهرة نعيشها اليوم، وهي ظاهرة النهضة العربية في مختلف المجالات حتى في مجال الفن المعماري، والفن المعماري لا شك يتصل كبقية الفنون بأرواحنا وقلوبنا. ولقد عبرت عن إعجابي بما شاهدته من نموذج جديد لصورة المنبر في المساجد التي أشرف على بنائها الأخ المهندس.
غير أني شعرت في أثناء حديثه أنه يواجه مشكلات، وخاصة مشكلة يعبر
عنها بالرموز، لأنه مؤدب ويتحاشى إن أفصح القول أن يسيئنا فقال: ليت لنا هيئات علمية أو معاهد فنية تقوم بنشر ما نعده اليوم تجديداً لثورتنا الفنية. وهكذا في كل خطوة من خطواتنا في طريق الحياة نرى أنه تواجهنا مشكلات، وتعلق على رؤوسنا عدداً عديداً من نقط الاستفهام والألغاز، تحثنا للجواب عليها. وأحياناً نجد أنفسنا مضطرين إلى الاعتراف بأننا لا نجيد التصرف بها أو توجيه إمكانياتنا التوجيه المناسب لحلها. فالمشكلة بالنسبة لكل عربي يعيش هذه المرحلة الخطيرة التي نسميها النهضة العربية، والتي- والحمد لله- أصبحت رايتها مرفوعة في كثير من البلدان العربية وفي مقدمتها الجمهورية العربية المتحدة، أقول إن المشكلة بالنسبة لكل فرد عربي يعيش هذه المرحلة الخطيرة، أن يحاول فهم الصعوبات التي تواجهنا في صورة مشكلات متنوعة سواء في ناحية الإقتصاد أو الثقافة، وبعبارة أخرى أن يصوغ حياته صياغة جديدة تطابق حاجاته وما يحس به.
إن الأخ المهندس حينما عبر عن هذه المشكلة عبر عن حالة نفسية يمكن أن نسميها
بأنها قلق؛ والحمد لله فقد أصبحت نفوسنا تشعر بهذا القلق، لأنه هو علأمة الحياة الأولى، هو علأمة الولادة الجديدة، إن الطفل يستبشر أهله بولادته ولادة سليمة حينما يبكي.
فنحن إذ يعترينا القلق في حياتنا نشعر بأنا قد ولدنا ولادة جديدة، فقد
عشنا قروناً طويلة لا نشعر فيها بأي قلق. فحياة جدي رحمه الله كان يحتويها جو من الطمائينة، فقد كان رجلاً فاضلاً مؤمنا يقوم بواجباته مسما، ولكنه لا يشعر في يوم من الأيام بوجود مشكلة في حياته. ثم أتى من بعده جيل هو جيل أبي فبدأت المشكلات تواجهه رويداً رويداً وبدأ يشعر شيئاً ما بالقلق. ثم أتى جيلنا فتعلقت على رأسه آلاف من المشكلات ونقط الاستفهام ملحة للجواب عليها، ملحة لدراستها لأنها تتصل بجوهر الحياة، بجوهر كياننا. فمثلا الآن وأنا أحدثكم أشعر بأن هناك مشكلة قائمة تنصب على رأسي نقطة استفهام خطيرة، نقطة استفهام حمراء، وهي مثلاً الثورة الجزائرية. لأنني بالطبع أفكر في هذا وأرجو من الله أن يحلها. ثم أرى مشكلة أخرى قريبة من مشكلة الثورة الجزائرية وهي مشكلة فلسطين، فهي أيضاً تمس حياتي في الصميم بصفتي مواطناً عربياً وبصفتي مسلماً، ثم إنى أرى مشكلة أخرى تواجهني حينما أقرأ في صحيفة عن قضية برلين، فهذه المشكلة وإن كانت بعيدة عني ظاهراً فإنها تمس حياتي من جانب آخر وفي مستوى آخر طبعاً، إذ أن هذه المشكلة إذا لم تحل حلاً سلمياً تورطنا نحن مع بعدنا عن برلين وواشنطن وجنيف وموسكو، تورطنا في ساحة المعركة، لأن القنبلة الذرية الأولى إذا انفجرت فإن وراءها سلسلة من القنابل الذرية والصواريخ الموجهة، تستطيع القضاء على كيان البشرية.
فأنا إذن تواجهني المشاكل كل يوم في صور مختلفة، غير أني إذا رتبتها ترتيبا منطقياً لأعرف أي قيمة أعطي لكل نوع منها، فإنني أرى أن هذه المشكلات تترتب في فصلين: مشكلة تهمني بصفتي مواطناً عربياً، ومشكلات أخرى تواجهني بصفتي إنساناً يعيش في مجتمع أوسع من المجتمع العربي والإسلامي، إنه
المجتمع الإنساني، فإن هذا المجتمع قد أصبح يفرض كيانه اليوم. ولعلنا كنا من قبل هذا التاريخ لا نشعر بحتمية هذا المجتمع ولا باتصاله في حياتنا اتصالاً دقيقاً، أما اليوم فإننا بمجرد الضغط على زر في جهاز الراديو نستطيع أن نسمع صوت موسكو وواشنطن والعالم أجمع، فكأنه بهذا قد وقع بيني وبين العالم صلة شخصية. وهذه الصلة الشخصية ليست صلة معنوية فحسب، ولكنها صلة إقتصادية أيضاً، فإن ظروفنا الإقتصادية الكبرى تخضع اليوم لقوانين عالمية، فالقضايا الحيوية كقضية السلام أو الحرب، لا تتعلق برأي مسيو خروتشوف أو رأي أيزنهاور، وإنما تتعلق بكياني أنا بوصفي فرداً مسلماً جزائرياً عربياً إلخ ..
فأنا إذن أواجه دائماً وفي كل لحظة من حياتي المشكلات من نوعين: مشكلة المواطن ومشكلة الإنسان.
غير أن الحياة لا تخطئ في صياغة المشاكل، لأنها تأتي بالنتائج طبقاً للمسببات. ولكنني بعد تجربة طويلة أشعر للأسف بأنني أخطئ في فهم المشكلات، أخطئ في نطاق جوهر المشكلات.
ولقد نتج عن هذا أنني أواجه المشكلات وخاصة مشكلاتي بصفتي مواطناً ببديهيات: فأجمع المشكلات تحت عناوين مسبقة. إنه قد أصبح من الشائع في صحافتنا وكتبنا التكلم مثلاً عن الفقر في البلاد المتخلفة، ونحن بالطبع قطعة من هذه البلاد، فنجعل عدداً معيناً من المشكلات التي تواجهنا يومياً تحت عنوان الفقر، ثم نقتنع بهذا صياغة للمشكلة، واقتناعنا هذا يؤدي إلى حل ضمني، فكلمة فقر تقابلها كلمة غنى؛ ثم نجعل عدداً آخر من المشكلات تحت عنوان آخر هو الجهل مثلا، والحل المتبادر إلى الذهن هنا العلم. وكذلك المشاكل التي نضعها تحت عنوان الإستعمار فإن علاجه ما يناقضه من الاستقلال. فنقتنع هكذا بهذه الصياغة السهلة لمشكلات وبالحل البديهي لها.
ولكن النظرة الفاحصة تكشف لنا عن ضعف الحلول. ودليل ضعفها أنني
بعد تجربة ثلانين سنة، أرى أننا ما حصلنا طائلاً في وضعنا المشكلات تحت هذه العناوين البديهية، ذلك لأننا لم نضع المشكلات في وضعها الصحيح، ولم نتأملها في جوهرها؛ فإن جوهر المشكلات ليست في حوادث خارجية. فنحن إذا تصورنا المشكلات في إطار اجتماعي فقلنا هي الجهل، أو في إطار إقتصادي فقلنا هي الفقر، أو في إطار سياسي فقلنا هي الإستعمار، فإننا في هذا كله إنما نبحث نتائج لأسباب سابقة أصولها في أنفسنا. ومن هنا كان الضعف في ثمرات أعمالنا وجهادنا وكفاحنا المرير، إذ هي ثمرات لا تقنعنا في النهاية.
فإذا ما وضعت مشكلة ما تحت عنوان فقر، فإنني خلال الطريق يأتيني أخ كريم ويقول لي مثلاً: والله إننا نتمنى أن تكون هناك هيئات علمية تقوم بنشر الأفكار والثقافة، وبتشجيع الجانب الفني في نهضتنا. فهذه المشكلة يمكن أن نضعها تحت عنوان فقر، فنقول إننا لا نستطيع ذلك لأننا فقراء، غير أنه سرعان ما يعقب الأخ ويقول لنا- وهنا صورة أخرى لمشكلة- إن أثرياءنا الذين بأيديهم ثروات طائلة، يصرفونها في اللهو ويبخلون بالقرش في سبيل حل هذه المشكلة؛ فهل نضع هنا المشكلة تحت عنوان فقر، أو تحت عنوان ثروة لا نحسن التصرف بها؟ المشكلة هنا مزدوجة. فأحياناً تضطرنا الظروف أن نجعلها عنوانما فقر، وأحياناً حينها نستمع إلى الأخ نجعلها تحت عنوان ثروة معطلة.
فالقضية إذن ليست قضية إمكانيات، ليست قضية فقر أو غنى، لأننا
لو قدمنا عنوان الغنى فإننا سنستمر عشر خطوات، فتضطرنا الظروف أن نجعل المشكلة تحت عنوان فقر، فنحن إذن في مناقضة ضرورية لأن تفكيرنا لم يتصل بجوهر القضية.
فما هي القضية إذن؟ إن القضية سواء كانت في إطار إقتصادي أو إطار اجتماعي أو إطار سياسي تتصل بموقفنا نحن أفراداً. تتصل بموقفي مواطناً أمام المشكلات، إنني عاجز عن صياغتها فكرياً، وإذا صيغت فكرياً بصورة ما فإنني
عاجز عن التصرف في الإمكانيات لحلها، فعجزي إذن مزدوج وليس عجزاً بسيطا.
فحينما نعالج مشكلة النظافة في الشوارع مثلاً، فإننا نرجعها إلى إهمال المواطنين وتهاونهم، وهذا صحيح ومن ثم فإنني أشعر بنصيبي في التفريط. فانا أحد المسؤولين الذين يحملون جزءاً من هذا التفريط، غير أني حينما أعالج هذه المشكلة بزيادة عدد سلال المهملات في الشوارع فقط، فإنني أشعر بخطئي في حل المشكلة حلاً صحيحاً. فإن السلال الزائدة إذا كانت تصلح لمجتمع معين، فإنها في مجتمع كالمجتمع العربي مثلاً، أرى بعد خبرة دامت ثلاثين عاماً أن هذا الحل حل نظري، فهو تكديس لعدد آخر من سلال الهملات. ودليلي على ذلك أنني شاهدت في كثير من شوارعنا عددا كبيراً من سلال المهملات، ولكنها شبه فارغة ومن حولها الأرض ملأى بالمهملات.
فالقضية إذن ليست قضية أدوات ولا إمكانيات، إن القضية كانت في أنفسنا، إن علينا أن ندرس أولاً الجهاز الاجتماعي الأول وهو الإنسان، وليست السلال وغيرها؛ فإذا تحرك الإنسان تحرك المجتمع والتاريخ، وإذا سكن سكن المجتمع والتاريخ (1). ذلك ما تشير إليه النظرة في تاريخ الإنسانية منذ أن بدأ التاريخ، فنرى المجتمع حيناً يزخر بوجود النشاط وتزدهر فيه الحضارة، وأحياناً نراه ساكناً لا يتحرك يسوده الكساد وتغمره الظلمات.
وهل هذه المظاهر غير تعبير عن حركة الإنسان أو ركوده؟
على أنني حينما أرى في حركة التاريخ حركة الإنسان وفي ركودِه ركودَه،
فإن ذلك يضعني أمام مشكلة تتصنف تحت عنوان الفعالية، فعالية الإنسان في التاريخ. فما هي شروط هذه الفعالية؟ وللجواب على هذا السؤال لا بد أن نوضح ما نعني بالتاريخ وبالإنسان.
(1) إلى هنا ينتهي الجزء المسجل.
إن نظرتنا إلى التاريخ لا تؤدي إلى نتائج نظرية فحسب، بل إلى نتائج تطبيقية تتصل بسلوكنا في الحياة، فهي تحدد مواقفنا أمام الأحداث، وبالتالي أمام المشكلات التي تنجم عنها. ذلك أننا إذا نظرنا إلى التاريخ باعتباره مجرد حوادث تتعاقب، دون ما ربط جدلي بينها، فإن هذه النظزة تؤدي إلى نتائج معينة، ليست هي التي تنتج عن نظرنا إليه، حينما نعده سيراً مطرداً، تترتب فيه الحوادث ترتيباً منطقياً كما تترتب عن الأسباب مسبباتها. فإن النظرة الأولى تؤدي إلى تسجيل ما يطرؤ من حوادث في أنفسنا وفي مذكراتنا، على أنه من حكم القضاء والقدر، أي من حكم لا يد للإنسان فيه، ولا يسعه أمامه سوى الإذعان ومسايرة الظروف، أو كما يعبر عنه بعضهم الاستسلام للواقع. فهذه النظرة تجعلنا نطأطئ الرؤوس أمام الأحداث، لأن جهلنا بأسبابها ونتائجها يؤدي بنا إلى أن نحني لثقلها ظهورنا، فإذا ما وضعتها عن ظهورنا يد الموت ألقتها على كاهل الأجيال من بعدنا.
أما نظرتنا الثانية إليه فإنها بدلاً من أن تلقي على أكتافنا ثقل الأحداث تجعلنا نحدد إزاءها مسؤولياتنا. فبقدر ما ندرك أسبابها ونقيسها بالقياس الصحيح، نرى فيها منبهات لإرادتنا وموجهات لنشاطنا، وبقدر ما نكتشف من أسرارها نسيطر عليها بدلاً من أن تسيطر علينا، فنوجهها نحن ولا توجهنا هي، لأننا حينئذٍ نعلم أن الأسباب التاريخية كلها تصدر عن سلوكنا وتنبع من أنفسنا، من مواقفنا حيال الأشياء، أعني من إرادتنا في تغيير الأشياء تغييراً يحدد بالضبط وظيفتنا الاجتماعية، كما رسمها القرآن الكريم في قوله تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110/ 3].
والمعروف في أعم صوره والمنكر في أشمل معانيه، يكونان جوهر الأحداث التي تواجهنا يومياً كما يكونان لب التاريخ.
هذا هو المعنى العام للفعالية، وشرطها الأول: هو الذي يحدد موقف الإنسان إزاءها بصفته صانعا للتاريخ ومحركا له.
غير أننا إذا راجعنا الآن على ضوء هذه الملاحظة الفترة الطويلة التي قضيناها في معركتنا مع الإستعمار منذ قرن مثلاً، وجدنا أننا قد أضعنا وقتاً طويلا، إذ لم نضع مشكلاتنا خلال هذه الفترة بمنطق الفعالية.
فنحن لو تأملنا في حقيقة الكلمة نفسها، كلمة استعمار التي جعلناها عنواناً لصراعنا منذ ما يزيد عن نصف قرن، نرى أن الشعوب العربية الإسلامية قد تصارعت مع الإستعمار صراع الأبطال لتتخلص منه، ولكنها كانت في الواقع تتصارع مع ظل وليس مع واقع بالمعنى الصحيح، كنا نتصارع مع وهم من الأوهام ومع شبح من الأشباح لا مع حقيقة. والصراع مع الأشباح ينهك القوة، والنصر فيه قليل الجدوى أو عديمها، لأن فيه شيئا من الخيال الذي كان يحيط بالصراع. هذا ما تكشف عنه النظرة الفاحصة في معنى الإستعمار. وقد كان علينا أن نفعل ذلك منذ عهد بعيد، حتى ينجلي عن صراعنا الغبار سواء في المستوى السياسي أو الاجتماعي.
واسمحوا لي أن أبسط الموضوع ببعض صور توضح لنا معنى الإستعمار وحقيقته، وتقفنا على خطئنا في فهمه بوصفه حدثاً من أحداث التاريخ، مما أدى بنا إلى البذل في صراعه بالجهود الكبيرة، من أجل نتائج غالباً ما تكون هزيلة ناقصة، كتلك التي نراها اليوم من خلال الوضع السياسي في بعض البلاد التي حصلت على استقلالها أخيراً.
أما الصور فثلاث؛ أولاها: تعرض لنا صورة طفل صغير وجَمَل قوي كبير. فمن الطبيعي أن نرى الصبي على الرغم من حداثة سنه يسيطر على الجمل القوي، يقوده كيفما شاء يميناً ويساراً بعصاه أو بدون عصا. فلو أننا وضعنا هذه الصورة في مجال تأملنا، فلسوف نرى في الواقع حيوانا ضعيفاً يتصرف في حركات
وسكنات حيوان أقوى منه، وإذا تساءلنا عن هذه الظاهرة الغريبة فالجواب بديهي معلوم، إن الجمل القوي يفقد بطبيعته، ومن فضل الله علينا نحن الآدميين، شيئاً بسيطاً هو الإرادة.
أما الصبي فإنه قوي بالإرادة التي يمتاز بها جنسه على جنس الجمال. وهذا واضح تمام الوضوح، وتشعرون أن الحديث فيه ضرب من تحصيل الحاصل ولكننا سنجد أنه مفيد فيما بعد.
أما ثانيتها: فإنها ترينا الطفل نفسه الذي كان يتصرف مع الجمل تصرف السيد مع مسوده، يتصرف هذه المرة مع حيوان من جنسه جنس الآدميين، وهو رجل أكبر منه سنا وأقوى عضلا، ولكنه لا يتمتع بقواه العقلية فهو مجنون أو معتوه. فإن الطفل سوف يتصرف معه كما كان يتصرف مع الجمل، من أمره بالقيام أو القعود أو السير أو الوقوف. والرجل يمتثل للصبي في هذا كله، وما ذلك إلا لتمتع الصغير بإرادته مع خلو الكبير منها بحكم فرضنا.
أما ثالثة الصور: فإنها الشعب الهندي مثلا والشعب الإنكليزي في القرن التاسع عشر. فإن تعداد الأول بالنسبة للثاني، يمثل قوة الرجل الضخم فاقد الإرادة والجَمَل في صورتينا السابقتين، بالنسبة إلى ضعف الصغير الجسمي في كلتا الصورتين، فنرى أن الشعب الإنكليزي الذي تفصل بينه وبين الشعب الهندي الابعاد- إذا استعملنا اصطلاح الصورتين السابقتين- نرى بالاحرى الطفل الإنكليزي، على الرغم من حداثة سنه يتصرف في الرجل الهندي على الرغم من قوة جسمه. إذ أن إنكلترا قد كونت جهازها الصناعي خلال القرن التاسع عشر باحتلالها للهند. كما أن الطفل الهولندي- إذا اعتبرنا ستة الملايين من سكان هولندا كأنها طفل صغير لم يتجاوز السنين الست من عمره يتصرف في الثروة التي حص الله بها البلاد الإندونيسية دون غيرها فصنعت بها بلادها ومدت فيها شبكة الخطوط الحديدية الخ
…
فلو أننا جعلنا هذه القضية تحت نظرنا لنصدر فيها حكمنا، فهل يجوز أن يكون مخالفا للذي طبقناه على الصورة الأولى والصورة الثانية؟ لا فإن مقتضيات الصورة الثالثة تتطلب الحكم نفسه، بمعنى أن القضية تمثل في الصورة الأولى حالة طبيعية أوردناها للقياس، لنكون منها مقياساً نطبقه في الصورة الثانية، التي تمثل حالة مرضية ليس المريض فيها الصبي الذي يتصرف في المعتوه كما كان يتصرف في الجمل، إنما المريض هو المعتوه، وحالته تتطلب أن نعالجه علاجاً يعيد له إرادته ورشده. أما لو أننا بقينا نوجه للصبي اللوم والاستنكار على سلوكه مع المجنون مثلاً، فإنني أشك في أن استنكارنا هذا وإلحاحنا، يعيد للمريض رشده وإرادته، ولو قضينا نصف قرن أو أكثر في هذا الطريق.
فإذا كان حكمنا في الصورة الأولى، أعني في مستوى الاعتبار صحيحاً وكان صحيحاً في الصورة الثانية- أي في مستوى حالة نفسية مرضية- فإن الحكم بالصحة ينسحب على الصورة الثالثة، التي هي في مستوى حالة سياسية مرضية، حيث التشابه بينها وبين الحالتين الأوليين واضح ظاهر.
ولكننا في تاريخنا القريب، أي منذ نصف قرن لم نتبع هذا التحليل المنطقي في معالجة مشكلة الإستعمار- وإنما نحن قد صرفنا وقتنا في التعبير بكل وسيلة وبكل صيغة عن استيائنا من سلوك الإستعمار، كأننا نطالب إبليس أن يعدل من تصرفاته، ويصبح ملكا كريماً. أما المريض الحقيقي أعني الإنسان المستعمَر، الإنسان الذي أصابه داء القابلية للاستعمار، فقد تركناه يستفحل فيه المرض من غير أن نحاول محاولة جدية في فهم حالته المرضية حتى نعالجه منها. وما ذلك إلا لأننا- خلال صراعنا مع الإستعمار- لم نعبر عن الأشياء بلغة الفعالية، ولكن بلغة العاطفة التي أدت بنا أحياناً إلى تصرفات ومواقف هزلية، تتفق تماماً مع الخطط الإستعمارية في بلادنا. وهذا ناتج عن أننا لا نقدر حوادث التاريخ كما ينبغي لنا تقديرها، أعني أن نقدرها بصفتها أفعالاً وردود أفعال بين
عوامل اجتماعية ونفسية معينة، توجب علينا فحصها بالجهد الدقيق ودراستها دراسة مدققة.
فلو أننا قد عدلنا هكذا فهمنا للتاريخ، لحققنا تلقائياً الشرط الأولي للفعالية، سواء بالنسبة للاستعمار أو بالنسبة لأي حدث آخر من أحداث التاريخ. ولو أننا قد صححنا معنى الإنسان في أذهاننا، إذن لأدركنا مباشرة السبب في أنه يحرك التاريخ أحياناً، وأحياناً أخرى لا يحرك ساكناً، في حين أن الإنسان في كل الظروف هو الإنسان الذي كرمه الله عز وجل، يوم خلق آدم عليه الصلاة والسلام، ذلك أن هناك حقيقة اجتماعية هأمة، أرى من حُسن شرحها أن أضرب المثل الآتي:
لو أخذنا قطعة من معدن الزنك مثلاً، سواء أكانت في حالتها الخام، أو في حالة مخلفات تلقى في المهملات، أي في حالة فقدت فيها صلاحيتها فما أعدت له أو تكتسب بعد تلك الصلاحية. فإن هذه القطعة في كلتا الحالتين تفقد قيمتها العملية. ومن البديهي أننا لن نستطيع أن نعيد إليها هذه القيمة، ما لم نعد إليها أولاً صلاحيتها المفقودة، أو نخلق فيها شروط تلك الصلاحية التي لم تكتسبها بعد. ولقد سنحت لي الفرصة صباح اليوم أن أزور المصنع الذي يشرف عليه الأستاذ (أبو عمر الداعوق)، ورأيت بعض تلك العمليات التي تحول قطعة معدن الزنك، بعد أن فقدت صلاحيتها وألقيت في المهملات، تحولها من الشيء التافه الذي يلتقط في الشارع، إلى الشيء الذي أعيدت إليه صلاحيته، بما طرأ عليه من العمليات الصناعية. فقد تتبعت هذه المراحل كلها، منذ أن كانت هذه القطعة شيئاً ذا قيمة إقتصادية زهيدة، إلى أن أصبحت شيئاً لا يثمن بما فيه من المادة، ولكن بما فيه من العمل.
وإنكم لتعلمون أن قيمة هذه القطعة الحقيقية، ليست غير تلك التي قدرتها الأقدار، عندما حددت ميزاتها الخاصة بوصفها عنصراً من عناصر الطبيعة. ولم
يكن للمصنع أن يعطيها أي قيمة إقتصادية، لولم تكن فيها أولاً وقبل كل شيء قيمتها الطبيعية.
فلو أننا نقلنا هذه البديهيات إلى مستوى الإنسان، فإنها تفسر لنا لماذا نجده أحياناً عنصراً حياً في التاريخ ويسيطر على الأحداث، وأحياناً نجده ساكناً تسيطر عليه الأحداث.
إن الملاحظة تجبرنا على أن نقدر للإنسان قيمتين: قيمته إنساناً، وقيمته كائناً اجتماعياً، قيمة توهب له في طينته الأولى بما وضع الله فيها من تكريم، وليس لظرف من الظروف ولا لأحد من الناس أن يغير منها شيئا، كما أنه لا يمكن لأي ظرف أن يغير شيئاً من خصائص عينة الزنك. وقيمة أخرى تعطى له بعمليات اجتماعية معينة، تماماً كما تعطى العمليات الصناعية لعينة من الزنك قيمتها العملية. وبعبارة أخرى إن الإنسان يمثل معادلتين: معادلة تمثل جوهره إنساناً صنعه من أتقن كل شيء صنعه، ومعادلة ثانية تمثله كائنا اجتماعياً يصنعه المجتمع.
ومن الواضح أن هذه المعادلة الأخيرة هي التي تحدد فعالية الإنسان. إنسان في جميع أطوار التاريخ لا يتغير فيه شيء، بل تتغير فعاليته من طور إلى طور.
وهذا يعني أن شخصيته ليست بالبسيطة، وإنما هي مركبة تشتمل على عنصر ثابت يحدد كيانه إنسانا وعنصر متغير يحدد قيمته كائناً اجتماعياً. وهذا يجعلنا نصوغ مشكلته صياغة جديدة وأن نتساءل: ما هي الظروف التي تجعل المجتع يخلق في الفرد القيمة التي تبعث فيه الفعالية.؟
إننا حينما ندرس مجتمعا ما في حقبة من الزمن كافية لتعطينا خبرة بشؤون المجتمعات في مختلف أطوارها، نرى أن المجتمع نفسه يكون أحياناً في حالة ركود وكساد. ولو أننا قد حللنا في مثل هذه الحالة الوضع النفسي، الذي يكون عليه الفرد، فإننا نراه يتمتع بصورة واضحة بشعور الاستقرار. فلا يحتويه أي قلق
وبالتالي فإنه لا يبذل أي محاولة لتغيير الوضع من حوله، إذ تسير الأشياء والحوادث دونما تدخل من إرادته. وهنا يصبح التاريخ سيلاً يجرفه إلى حيث لا يدري مستسماً له الاستسلام المطلق.
فإذا ما حدثت في المجتمع حالة جديدة غيرت هذه الأوضاع كلها، فإن موقف الإنسان هنا يتغير أمام الحوادث والأشياء، وبالتالي يتغير مجرى التاريخ.
وهذا لا يحدث إلا في حالات معينة من تاريخ المجتمعات. ولو أننا أخذنا بالتحليل هذه الحالات، لوجدنا أنها أولا وقبل كل شيء حالة قلق، يسودها الشعور بالخطر، سواء أكان الخطر واقعياً أم مجرد فكرة خامرت العقول. وهكذا يسود المجتمع وضع جديد نستطيع تسميته بحالة إنقاذ.
وأول ما يكون من أثر هذه الحالة في نفس الفرد، أنها تحرمه الشعور بالاستقرار، بما يعتريه ويسيطر على مشاعره من قلق، لا يمكن دفعه إلا بتغيير الوضع، بتغيير الأشياء، بالوقوف أمام الحوادث لتوجيهها لغايات واضحة وقريبة في شعور الفرد، سواء أكان الواقع يؤيد هذا الشعور أم لا يؤيده.
فلقد رأينا إحدى صورها تحققت في تاريخ بني إسائيل، الذين كان فرعون يسومهم من العذاب ألواناً، يستحي نساءهم ويقتل أبناءهم ويسخرهم لأحقر الاعمال وأشقها، من غير أن يجد بنو إسائيل المخرج من هذا العذاب، حتى استسلمت أنفسهم له ورضوا به وهم كارهون.
ولقد ظلوا على ذلهم حتى جاءهم موسى عليه السلام، فأثار قضية بني إسرائيل أول ما أثارها في أذهان بني جلدته أنفسهم، فصور لهم حالة خطر أو بالضبط حالة إنقاذ، لا تستطيع معها النفوس أن تعمد إلى الاستقرار بما يسودها من القلق الدائم، وتتعلق أنظارها في الأفق مرتقبة الحدث الذي يغير وضعها،
مرتقبة صوتا يرشدها إلى الطريق، بعد أن لم تعد يطيب لها المقام. وهكذا شعر بنو إسرائيل أنه لا بد من السير إلى حيث تدعوهم الأقدار، ورأوا في موسى ذلك النقذ الذي يستطيع أن يقوم بهذه المهمات جميعها، فارتفع صوته أولاً في بني إسرائيل، ليصور لهم حالة الإنقاذ التي لم يكونوا يشعرون بها من قبل، فدكّ صوته الارواح الساكنة المستسلمة، فحركها وأشاع فيها القلق؛ ثم صور لهم ضرورة السير معه في الطريق. ولكن أين نهاية هذا الطريق؟ ذلك مالم يكونوا يعلمونه، ولكنهم مع ذلك ساروا معه، لأن شعور بني إسرائيل بحالة الإنقاذ كان أقوى لديهم من غريزة المحافظة على الحياة. ولذلك فإنهم لم يترددوا في الدخول معه في اليم مستسلمين للخطر. ولكن وراء هذا الخطر الذي تحداه موسى بمعجزة يقصها علينا القرآن الكريم، كان بنو إسرائيل يرون رأي العين الغاية التي يسيرون إليها.، وقد تجسدت في شخص المنقذ الذي شق الطريق أمامهم بعصاه.
وهذه الصورة النفسية قد تكررت مع نتائجها الاجتماعية أكثر من مرة في تاريخ الإنسانية، مع اختلاف الغايات التي تسير إليها الشعوب حينما يهزها الشعور بحالة إنقاذ، فتسير وراء خطوات منقذ يشخص لها الغايات، حتى تصبح وكأنها تراها وتلمسها، كما رأى أصحاب بدر الجنة على مقدار شبر منهم، حتى إن بعضهم ليلقي بحفنة تمر كان يأكلها ليدخل المعركة، لأنه كان يرى الجنة أقرب إليه من التمرات التي كانت بيده.
والحالة النفسية هذه قد تكررت في عصرنا ولكن في اتجاه آخر، ولغايات أخرى في حياة الشعب الألماني مثلاً. فإن التاريخ قد حقق جميع شروط حالة إنقاذ ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى. فلقد كان الشعور بالقلق يسيطر على الحياة، ويسود جميع الأوساط، مما دفع المارشال هندنبرج إلى توجيه ندائه التاريخي ليطلب الخبرة من أميركا حوالي سنة 1925.
وهكذا تهيأت جميع الشروط التي فيها يظهر النقذ. ولقد كان منقذ الشعب
الألماني هتلر الذي خاض به اليم
…
ولكن اليم قد ابتلعه لأنه لم تكن بيده عصا النبوة؛ إلا أن هتلر قد خلف وراءه موضوعاً هاماً للدراسة، يعتني به كل مهتم بشأن المجتمعات التي تغمرها موجة القلق، ويهزها الشعور بحالة إنقاذ فتتشخص أمامها الغايات وتعنو لها المصاعب، وهكذا ينطلق الفرد الذي كان من قبل مكبلاً بكساده، ينطلق لأنه يشعر فجأة بانفجار ذاتي في نفسه، انفجار يطلق طاقاته المكبلة فتغير وجه التاريخ. وإن هذه الشروط- في أبسط صورها ودونما خوض في التفاصيل المدققة- لهي الشروط النفسية الاجتماعية التي تحرك المجتمعات، وتفرض على الأفراد الانسجام مع قانون تلك الحركة. بما لديهم من المؤهلات المكتسبة التي تكون ما سميناه المعادلة الاجتماعية، أعني المعادلة التي تحدد فعاليتهم أمام المشكلات وتعطيهم قيمتهم في المجتمع وفي التاريخ.
***