الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قيم إنسانية وقيم إقتصادية
محاضرة ألقيت بنادي الطلبة الفلسطينيين سنة 1960
سادتي:
إن لكل جيل مراكز تفكير معينة، تحددها ضرورات الحياة وروح العصر،
أي الفلسفة العأمة التي تسيطر على الأفكار، لا في مستوى النخبات المثقفة فحسب، بل في مستوى المجاهير، فتتكون هكذا نقط تقاطع والتقاء، تتقاطع أو تلتقي فيها التيارات الفكرية التي تعبر عن روح العصر.
فالجيل الذي عاش في القرن التاسع عشر اكتشف مع آدم سمث ومع كارل ماركس، قيمة الواقع الإقتصادي في تحديد الظاهرة الاجتماعية، فأصبح الإقتصاد أحد مراكز التفكير، المركز الذي تلتقي فيه الأفكار بحدة، إما لأنها أفكار عملية تبحث عن سبل جديدة لتيسير الحياة المادية، أو أنها أفكار نظرية تحاول فهم الظاهرة الاجتماعية في ضوء الإقتصاد، أو أحياناً لأنها هذا وذاك. ولقد نما هذا الروح في القرن العشرين، فتأكدت فيه مراكز التفكير الإقتصادي، حتى إنه يمكن تعريف هذا القرن بأنه يخضع لقانون التوسع الإقتصادي، كما كان القرن السابق يخضع لقانون التوسع الإستعماري، وحتى أصبح الإقتصاد ميزة ومقياساً تقاس به الأشياء، في داخل بلد معين، فنقول عنه إنه في حالة نمو إذا كان إقتصاده نامياً، أو بالقياس مع بلد آخر فنقول عن أحدهما إنه متخلف إذا كان إقتصاده كاسداً.
ثم أتت الحرب العالمية الثانية فكان من بين المحصول الطائل الذي خلفته،
من العلوم النظرية والتطبيقية ومن بين المفاهيم الجديدة التي أضافتها إلى عالم الأفكار، أنها خلفت بالنسبة إلى الشعوب الإفريقية الآسيوية مفهوم التخلف، الذي يعبر عن وضع اجتماعي خاص بهذه الشعوب ويمكن تصويره ببعض الأرقام.
فلو استعرنا من أحد المصادر المختصة (1) إحصائية متوسط الدخل السنوي
للفرد في العالم، وقدرنا هذه الأرقام بالقيمة الاجتماعية لا بالقيمة المالية، أي لو قدرناها بما تكفل من ضمانات اجتماعية في وطن معين، ثم لو وزعنا هذه الأرقام على الخريطة، فإننا سنجد أنها تحدد قارتين: قارة تتمتع بمتوسط دخل سنوي للفرد يتراوح بين 1850 دولاراً و 200 دولار، والأخرى يتراوح متوسط الدخل السنوي فيها بين 200 و 38 دولاراً.
فإذا قدرنا (2) أن الحد الادنى الذي يكفل الضمانات الاجتماعية لا يمكن أن
يكون دون 200 دولار، أي متوسط الدخل في اليابان، فإننا نرى أن توزيع الأرقام على الخريطة يصور فعلا قارتين: قارة يُسْر تمتد من واشنطن إلى موسكو وطوكيو، وقارةُ عُسْر تمتد من طنجة إلى جاكرتا.
فكلمة (عسر) ليست هنا إلا التعبير الادبي عن الواقع الاجتماعي الذي يعبر
عنه مصطلح (تخلف)، وليست هذه الكلمة هي المهمة في حد ذاتها، وإنما الواقع الذي تعبر عنه. ولقد أخذ هذا الواقع مكانه في الدراسات الإقتصادية التي تخصصت فيها مؤسسات ومعاهد علمية، كما أخذ مكانه أيضاً في بعض الدراسات السياسية التي تهتم بمصير البلاد الإفريقية الآسيوية، مثل الكتاب الذي ألفه بهذا الشأن السفير الهندي (بانيكار) تحت عنوان (مشكلات الدول الجديدة).
فمشكلات التخلف تهم إلى حد بعيد البلاد الإسلامية، سواء في الصورة السياسية أم في الصورة الإقتصادية، ويبدو الأمر أكثر أهمية في الصورة الثانية، لأن هذه البلاد تواجه الازمة الإقتصادية، لا من الناحية المادية التي تسد الحاجات الضرورية فحسب، ولكن من الناحية المعنوية أيضاً لأنها ترتبط روحاً وفكراً بالعصر الذي يجعل القيم الإقتصادية في الدرجة الأولى من سلم القيم.
(1) مثل جمعية الامم.
(2)
وهذا التقدير يقرره الواقع في البلاد التي ندرس أحوالها مثل اليابان.
والبلاد الإسلامية تواجه مشكلة البناء الإقتصادي، وهي في هذه الحالة
لا تدرس فقط الموضوع، بل أصبحت هي ذاتها موضوع الدراسة، كما تدل على هذا بعض العناوين التي ظهرت أخيراً في المكتبات الاجنبية مثل كتاب (الإسلام أمام التطور الإقتصادي) للكاتب الفرنيسي (جاك اوستري). فالمشكلة إذن مشكلتنا نحن معشر الشعوب التي تعيش حول محور طنجة جاكرتا عأمة، والشعوب الإسلامية خاصة.
ولا يمكن حل هذه المشكلة إلا على أساس التفكير الاجتماعي الجاد، لأنها مشكلة اجتماعية في صميمها.
ويجب أن نلاحظ، أن تيار التفكير الاجتماعي الحديث له مدارس متعددة، ومناهج أحياناً متباعدة، ولكن لا يخلو في هذه الظروف كلها من أن يكون مركز هذا التفكير الإقتصاد، ولابن خلدون قصب السبق في الموضوع فقد فطن إلى هذه الظاهرة، فكان أول من رأى أهمية العامل الإقتصادي في الواقع الاجتماعي، وكأنه بذلك يحدد مركز تفكير جديد. أي المركز الذي سيأخذ في المدرسة الماركسية قيمة نادرة تستقطب الأفكار حول فكرة الإقتصاد. فالعالم الإسلامي يكتشف اليوم قيمة العامل الإقتصادي في ضروراته الحيوية، ليس فحسب فيما يتعلق بحياته المادية في المستوى القومي، بل فيما يتعلق بمقتضيات السياسة في المستوى الدولي أيضاً، لأن الإقتصاد أصبح يشارك الديبلوماسية في تحديد مكانة بلد ما في العالم.
على أن العالم الإسلامي لا يملك نظرة أو نظرية خاصة في الإقتصاد تتواءم
مع ضروراته ومع إمكانياته في وقت معاً. فتراه يندفع في مشروع إقتصادي يخططه إقتصاد أجنبي، على أسس أتقنتها تجربة في بلد مصنع، أي بلد لا يخضع فيه النشاط لعوامل التخلف، وهكذا يخفق المشروع في النهاية. ونحن نستحي أن نذكر عدد المشاريع الإقتصادية التي أخفقت في البلاد الإسلامية.
وأسباب الإخفاق هذا يعود لامرين: فقد يقدر الاختصاصي المشروع بصورة تتجاوز إمكانيات البلد المادية، وقد تكون شروط التنفيذ التي وضعها ذلك الاختصاصي، أي الاسس التي بنى عليها تتناقض مع بعض عوامل التخلف النفسية (1). وبعبارة أخرى فإن الاختصاصي يضع المشروع بعيداً عن عدة البلد أو فوق استعداداتها أو فوق الأمرين معاً.
والخطأ من جانب الاختصاصي الاجنبي الذي يخطط المشروع، يعود إلى أنه
يدلي بآراء تكون صحيحة في نطاق تجربته الشخصية كما حددتها ظروف بلاده، غير أنها تصبح نسبية أو دون جدوى في بلد تمر تجاربه في ظروف أخرى.
أما الخطأ من جانب البلد الإسلامي الذي يلجأ إلى مثل هذا الاختصاصي الاجنبي، كما لجأت جمهورية إندونيسيا إلى الدكتور (شاخت) في السنوات الأولى بعد التحرير، فلأنه ككل مجتمع ناشئ يمر بمرحلة طفولة تفرض عليه سيطرة الأشياء أو عقلية الشيئية، لأن الاطفال يمرون بثلاث مراحل في طفولتهم، فهم يرتبطون أولاً بعالم الأشياء، قبل أن يدخلوا عالم الأشخاص وقبل أن يصلوا إلى عالم الأفكار الذي يمثل بالنسبة إليهم سن الرشد، فالمجتمع الإسلامي عأمة في سن الأشياء، تسيطر عليه العقلية الشيئية، حتى إن الأفكار التي يدلي إليه بها الاختصاصي الاجنبي، تفقد قيمتها بصفتها أفكاراً ترتبط بأصولها في نطاق نظرية تتيح تطويرها في سياق ظروف جديدة، بل تصبح أشياء تفقد المرونة مع الظروف، أو إذا شئت قلت إنها تصبح أفكاراً متحجرة فقدت إشعاعها، وبفقدها لإشعاعها تفقد إمكان مسايرة الحياة في حدود المبادئ وفي نطاق الاصول التي تمت إليها.
فالبلد الإسلامي الذي يطلب ويقبل نصيحة من عالم إقتصاد أجني، يحجر
(1) إنني تناولت بالبحث هذا الجانب في كتاب الفكرة الإفريقية الآسيوية، فصل (مبادى إقتصاد إفريقي آسيوي فعال).
هذه النصيحة دون أن يشعر بذلك، فتفقد في متناوله كل ميزاتها لمسايرة ظروف الحياة المتغيرة، فالأفكار التي يدلي لنا بها هذا الاختصاصي لا تصبح في متناولنا حقائق يعطينا معناها الحياة، بما تكشف لنا ما وراء تلك الحقائق من أسباب أو أصول، بل تصبح كلمات نبحث عن معناها في القاموس.
وهكذا لا نستطيع تطبيق الأفكار المستعارة في سياق حياتنا، وإنما نقلدها
في الصورة التي يطبقها فيها غيرنا في حياته، وهذا يجعلنا نزهد في استخدام كل إمكانياتنا في بناء إقتصادنا، لأننا نريد أن نقلد إقتصاد الآخرين كما يضعونه بوسائلهم الخاصة المتطورة التي ليست في متناولنا في مرحلة تطورنا، وهكذا يضيع علينا بعض إمكانياتنا حين لا ندرك قيمتها وراء الكلمات التي أدلى بها الاختصاصي الذي خطط لنا، وهكذا يضيع الوقت أيضاً.
إن الاختصاصي تكلم لنا عن مقومات الإقتصاد، فذكر وسائل الإنتاج، وسعة الإنتاج، وعن الإطارات الفنية، وعن تركيز رؤوس الأموال.
فأخذنا بهذه المصطلحات بالحرف، وفق معناها في القاموس، وانزلقنا
هكذا في التقليد الإقتصادي، كما انزلقنا وننزلق في التقليد في الادب وفي اللباس وفي الذوق، وأصبحنا نعمل في الحقل الإقتصادي بوسائل دون وسائل غيرنا لأننا لا نملك وسائلهم، ودون وسائلنا لأننا لا نعرف قيمتها الواقعية، في مشروع جرى تقديره بأفكار تحجرت حين تناولناها، وأصبحت لا تسير مع ظروف حياتنا الخاصة.
يجب إذن أن نعيد النظر في القضية على أساس أن وسائلنا ليست في رصيد ثروة صناعية مجهزة بكل الطاقات الميكانيكية، وإنما في رصيد ثروتنا الطبيعية المجهزة بالطاقات البشرية.
ولا بد أن نلاحظ من ناحية أخرى أن العوامل الإقتصادية كلها، مهما كانت
درجة تعقدها، هي في مرحلة أولى، نتيجة الإنسانية الأولية، وأنه من الممكن إذن لبناء الإقتصاد في بلد في مثل هذه المرحلة، أن نقدر القيم الإقتصادية بالقيم الإنسانية، أي أن نحدد المصدر الأول في الثروة الطبيعية التي تحت تصرفنا.
يمكننا أن نضع على هذا المنوال القائمة التالية:
الإنسان .......... الإقتصاد
(1)
اليد والوقت .......... وسائل إنتاج
(2)
عقول .......... إطارات فنية
(3)
تركيز العمل .......... تركيز رؤوس أموال
فبالنظر إلى هذا الجدول البسيط يتبين من اللحظة الأولى، أن القيم الإقتصادية المذكورة في العمود الثاني صادرة كلها عن الأسباب المذكورة في العمود الأول، حتى بالنسبة إلى تركيز رؤوس الأموال، إذا لاحظنا أن المال ما هو إلا العمل المخزن في صورة متنقلة.
بالإضافة إلى هذا، فالجدول يكشف لنا عرضاً، لأي سبب يعود الضعف،
إلى درجة معينة، في المشروعات الإقتصادية المخططة على أساس الاعتبارات الفنية فقط، أي الاعتبارات الإقتصادية المجردة، التي لا تأخذ في حسابها العامل الإنساني مع جميع الظروف التي تحتويه.
فمن الواضح أن الإنتاج الميكانيكي نفسه والإطارات الفنية، وفعالية رؤوس الأموال، وبكلمة أخيرة جميع القيم الإقتصادية، ترتبط من حيث التأثير والفعالية، بحالات خاصة تتصل بالعوامل الإنسانية، حتى إن الآلة الميكانيكية ذاتها يزيد أو ينقص إنتاجها حسب ما يعتري الوسط الإنساني، الذي تعمل فيه من حالات توتر أو فتور، أو بعبارة أخرى حسب قيمة المسوّغات الموجودة وراء نشاطه.
ولو حللنا بعض المشروعات الإقتصادية التي نفذت أو في حيز التنفيذ في البلاد التي تمر بمرحلة البناء لأدركنا قيمة العامل الإنساني في هذه المشروعات، كما ندرك هذا من خلال السياسة الديمغرافية التي اتبعتها الصين الشعبية في السنوات الأخيرة، نرى هذا البلد يحدد النسل أولاً ثم يتراجع فوراً عن هذه الخطة، لأن القيادة أدركت، في ضوء معلومات جديدة، قيمة العامل الإنساني في البناء الإقتصادي، الذي قام بالدور الأساسي في التخطيطات السابقة وفي التخطيط الذي يجري الآن.
كما أنه بإمكاننا أن نستزيد من التوضيح بهذا الصدد لو عقدنا موازنة بين تجربتين: جرت الواحدة منهما ببلاد مصنعة، فقدت في ظروف معينة كل المقومات الإقتصادية المذكورة في العمود الثاني من جدولنا السابق، ثم استعادتها باستخدام المقومات الإنسانية الأساسية الموجودة في الثروة الطبيعية، التي هي في رصيد كل شعب، وجرت التجربة الأخرى في بلاد تقع في قارة التخلف، وشاء أن يتصنع بالطرق الفنية التي ينصح بها عالم في الإقتصاد كالدكتور شاخت.
فهذه الموازنة بين محاولة جرت بأندونيسيا، ومشروع في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، تجعلنا نتساءل: لماذا أخفق تحقيق الدكتور (شاخت) في إندونيسيا، مع أنه صادر من عالم إقتصاد أجدر من غيره لتقديم النصيحة في هذا الصدد. فقد نجح تماماً المشروع الألماني تحت إشراف الدكتور (أهرارد)، بعد الحرب العالمية الثانية، أي في السنوات نفسها، مع اختلاف الظروف الأخرى من وجوه عديدة اختلافاً يؤيد وجهة نظرنا:
1 -
فألمانيا لم تفقد على أثر الحرب العالمية الثانية المقومات الإقتصادية الخاصة بدولة مصنعة فحسب، بل فقدت معها المقومات السياسية، أي سيادتها حتى لم يبق بيدها إلا الوسائل البدائية الطبيعية الموجودة في ثروة كل شعب.
2 -
ثم إن هذه الثروة الطبيعية ذاتها في ألمانيا التي تعد بلاداً ذات طبيعة
فقيرة، لا تساوي ثروة إندونيسيا التي تعد من حيث الطبيعة، أغنى بلاد الله في الأرض.
فعندما نعقد الموازنة بين التجربتين، مع مراعاة الظروف التي أحاطت بكل واحدة، وفي ضوء ما قدمنا عن التجربة الصينية، فإن دور القيم الإقتصادية يتضاءل أمام القيم الإنسانية.
فالتجربة الألمانية نجحت لا لأنها تصرفت في عدد أكبر من الوسائل الفنية،
مما كان في رصيد التجربة الإندونيسية، ولكن لأنها تصرفت في وسائل وقيم إنسانية تتسم بفعالية أكثر.
وإذا أردنا أكثر تفصيلاً عن سبب النجاح من ناحية والفشل من الناحية الأخرى نرى:
أن مشروع الدكتور (شاخت) في إندونيسيا أخفق، لأن هذا الإختصاصي أغفل جانباً هاماً في العملية الإقتصادية، وعاملاً أساسياً فيها، ألا وهو الإنسان، فقد خطط مشروعه المذكور في ضوء معلوماته عن الإنسان الألماني، الذي يحمل في معادلته الشخصية معطيات تجربة اجتماعية سابقة، بينما لا يجد إنسان إندونيسيا في طوره الحاضر هذه المعطيات في معادلته الشخصية.
إن عنصر الحركة الدافعة في الإنسان أو ما نطلق عليه اسم الفعالية، يدخل
في بناء الشخصية عن طريق التمثل النفساني لعناصر ثقافية معينة، يمتصها الفرد في الجو الاجتماعي الذي يعيش فيه. كما يمتص الحيوان العناصر الحيوية عن طريق التنفس في الجو الطبيعي.
ولا شك أن الفعالية تتركب في بناء الشخصية بكل بساطة، عن طريق تنسيق حركي تأليفي للمقومات الأولية: الفكر، اليد، المال بمعناه الصحيح أي باعتباره العمل المخزون.
فعندما نرى تجربة نجحت في بناء إقتصاد، فمعنى ذلك أن شخصية معينة نجحت، كالشخصية الألمانية في بناء الإقتصاد الألماني بعد الحرب العالمية الثانية، وعندما نرى الإقتصاد الروسي ينجح بعد ثورة 1917، وبعد الكساد الذي عرفته روسيا القيصرية، فهذا لا يعني أن آلات جديدة بدأت تنتج في روسيا، بقدر ما يعني أن شخصية جديدة بدأت تنتج، أي تنسيقاً جديداً لحركات العقل واليد والمال بدأت تظهر آثاره المحسوسة، فنجاح العامل السوفييتي (استاخانوف) في إنتاج الفحم الحجري يعني أولاً وقبل كل شيء ظهور شخصية جديدة تمتاز بفعالية أكثر من الإنسان الرويسي Moujik الذي كان قبله.
ولا يقنع أن نقول عن (استاخانوف) إنه عبقري، فهذه الكلمة تصف فرداً ولكنها لا تفسر ظاهرة على جانب من الأهمية العملية، إذ أصبح نجاح هذا العامل السوفييتي قاعدة لمذهب يعطي للعامل الإنساني القيمة الرئيسية في الإنتاج.
فالتفسير للظاهرة التي نشاهدها في عمل فرد مثل (استاخانوف)، أوسع
من قضية هذا الفرد سواء كان عبقرياً أوغير عبقري.
ويمكننا هنا أن نلاحظ ملاحظة عأمة عن تأثير الثورة في بلد ما، على المعادلة الاجتماعية التي تمثل القيمة التي يجب أن نقدر بها الإنسان من الناحية الاجتماعية.
فالثورة الفرنسية مثلا وضعت الإنسان أمام ضرورات سياسية، تتطلب تغيير النظم والمؤسسات البالية بنظم ومؤسسات جديدة، في نطاق دستور جديد.
أما ثورة مثل الثورة الروسية فإنها وضعت الإنسان أمام ضرورات نفسية، تتطلب تغييراً أساسياً في الإنسان ذاته.
وهذا الاختلاف يعود إلى أن المستوى الثقافي أو الحضاري الذي كان عليه الإنسان الروسي، لم يكن يدعو إلى تغيير كبير في نفسه، وإنما في محيطه الاجتماعي، بينما كان مستوى الإنسان الروسي قبل الثورة يدعو إلى تغيير عميق في معادلته الشخصية قبل كل تغيير خارجي.
وهذه الملاحظة لها قيمتها بالنسبة إلى تشخيص المشكلات وكيفية مواجهتها، فالطفل لا يشعر بها، وإن واجهها فإنه يواجهها بمنطق الأشياء لا بمنطق الأفكار.
فعمر الإنسان الروسي كان عمر الطفل من الناحية النفسية، فكان على الثورة أن تغير منطقه الاجتماعي، بتغيير معادلته الشخصية.
فالمشكلة التي تواجه الإنسان المسلم هي هذه نفسها، فهي مشكلة الإنسان الذي يعيش في عهد ما قبل الحضارة، أي الإنسان الذي يحب وضعه أمام ضرورات نفسية قبل كل شيء، تلك الضرورات التي تتطلب تغيير المعادلة الشخصية. المعادلة التي تفرض عليه في حالته الراهنة منطق الأشياء: فالمسلم اليوم يضع مشكلاته في حدود الأشياء، أي الحدود التي لا تتسع لظروف الحياة المتغيرة، بينما الأفكار وحدها تستطيع مسايرة ظروف كالظروف القاسية التي أحاطت ببناء الإقتصاد الألماني بعد الحرب العالمية الثانية.
يجب أن نوضح هذا الضيق في نطاق الأشياء بمثل محسوس، فلو افترضنا أن
فرداً طلب منا العمل، لتصورنا الجواب على سؤال كهذا في صورتين:
1 -
يمكن أن نلقي نظرة على قائمة تشغيل في مصنع معين، أو على أرقام ميزانية معينة، أي أن نستجوب (الأشياء) كي نصوغ جوابنا على سؤال الرجل، ويحتمل أن نقول له إنه لا يمكننا تشغيله لأننا وضعنا قضيته في حدود الأشياء - مصنع وميزانية- التي لا تتسع لتشغيله في ظروف معينة.
2 -
ويمكن أن توضع القضية المعروضة في حدود الأفكار مباشرة، فنصوغ جوابنا لا حسب التقديرات الشيئية التي تقدر في نطاق المصنع والميزانية، وإنما حسب مقتضيات المبدأ الذي يقرر بصورة عأمة: هذا الرجل يجب أن يعمل.
هكذا نرى بكل وضوح أن الجواب في الصورة الأولى قد ضيق نطاق الإمكانيات منذ اللحظة الأولى، لأننا وضعنا القضية في حدود ضيقة بطبيعتها، لأنها حدود الأشياء التي لا تتسع لمجرى الحياة المتنوعة في كل حين.
أما الجواب في الصورة الثانية فإنه يفتح آفاقاً متسعة، تتسع لكل الاحتمالات، لأنها تشمل جميع الطاقات الاجتماعية التي يمكن توظيفها في بناء إقتصاد، إذ توظف مثلاً العوامل الإنسانية البسيطة- اليد، الفكر، المال- دون انتظار الشروط الفنية. أي الوسائل الميكانيكية، والإطارات الفنية بمعناها الضيق الذي نجده في قاموس إقتصادي عادي.
ومما يجدر ذكره بهذا الصدد، أن النهضة الإقتصادية في اليابان سارت ونمت بوسائل بدائية، وضعها اليابان على نطاق متسع في الإنتاج المنزلي، الذي قام بدور رئيسي في بناء الإقتصاد الياباني الضخم.
ولكن نعلم مما تقدم أن فعالية العوامل الإنسانية البسيطة ليست مضمونة في سائر الظروف. فهي مشروطة بظروف تاريخية نفسية معينة، يمكن أن نحددها سلبياً فنقول: إن هذه الشروط لا تتحقق في مجتمع لا زال في عمر الطفولة، أي لا زال مرتبطاً بمنطق الأشياء يعيش في المرحلة التي نطلق عليها ما قبل الحضارة.
وهكذا يمكننا أن نحدد التخلف بعد أن حددناه بأرقام متوسط الدخل السنوي، على أنه الحالة الاجتماعية التي يكون عليها إنسان ما قبل الحضارة، الإنسان الذي يضع مشكلاته في حدود الأشياء.
ويترتب على هذا أن العلاج الجذري لمشكلات التخلف، ليس في مواجهة هذه المشكلات بوسائل جاهزة، أنتجتها حضارة شقت طريقها، وخرجت من المرحلة البدائية المتسمة بمنطق الأشياء ونفسية الشيئية، بل لابد من مواجهتها بإنشاء حضارة، توظف الطاقات الاجتماعية الموجودة، مهما كانت الظروف ((وتنشئ تدريجياً وسائلها الفنية بقدر ما تتخلص من رواسب ومعوقات ما قبل الحضارة)).
***