الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خواطر عن نهضتنا العربية
ألقيت على مدرج جامعة دمشق يوم الاحد في 26 تموز (يوليو) سنة 1959
سادتي:
إنني أشكر الجامعة أن أتاحت لي فرصة الحديث معكم وتفضلت بوضعه تحت إشرافها، وإنني أوجه شكري خاصة إلى السيد المدير وإلى هيئة الأساتذة المحترمين، الذين تفضلوا بتحقيق هذه الفرصة، كما أشكر المستمعين الكرام الذين شرفوني بحضورهم، ملتمساً منهم العذر عن قصوري في التعبير العربي تعبيراً صحيحاً، يناسب ما يقتضيه موضوع الحديث من الوضوح.
سادتي: إن الأمة العربية تمر اليوم بتجربة تتضمن نتيجتها مصير كل عربي، وربما تتضمن نصيباً من مصير كل إنسان بمقتضى التفاعلات الموجودة اليوم بين الكتل البشرية التي تؤلف الإنسانية، وبمقتضى الترابط الموجود بين الحوادث، التي تجري اليوم في عالم غيرته في جذوره التطورات العلمية والفنية، خلال الخمسين سنة الأخيرة، حتى أصبح من الصعب تقدير الأشياء والأحداث بالمقاييس، التي تصوغها الاعتبارات المحلية فقط.
لاشك أن التجربة التي تقوم بها الأمة العربية اليوم، تأخذ معناها أولاً من الاعتبارات الخاصة الناتجة من صميم حياة العرب، المتصلة باطراد تاريخهم، ثم إنها تأخذ أيضاً معناها من اعتبارات أخرى تتصل بالاطراد العام، الذي يكون تاريخ الإنسانية ويربط أطوارها بعضها ببعض، لأن هذا الاطراد وذاك يلتقيان اليوم في نقطة أصبحت تمثل قطب التاريخ، القطب الذي كانت تتجه إليه تطورات العالم بصورة غامضة وأصبحت تتجه إليه بكل وضوح .. أعني أنه يفرض اليوم على سير التاريخ حتمية، دخلت في نطاق حسنا وشعورنا، حتى إننا نرى أثرها في التفكير الحديث عند بعض المؤرخين مثل (توينبي).
إن التجربة العربية تأخذ أيضا معناها من الوسائل الفنية الضخمة، التي أصبحت اليوم تحت تصرف الإنسانية، تفتح أمامها عهداً جديدا، وتعلق في وقت واحد على مصيرها كل التوقعات.
إن العهد الحديث الذي مدّ شبكة الخطوط الحديدية في العالم وأضاء مدنه بنور الكهرباء، إن هذا العهد الحديث الذي بهر جيلنا منذ خمسين سنة أصبح قديماً، وبدأ يولي مدبراً إلى ظلمات التاريخ، وبدأت تذهب معالمه شيئاً فشيئاً، وتصبح آثاراً ومخلفات من بينها خطوط حديدية معطلة في أوربا، وبعض الخطوط الهاتفية التي أصبحت دون جدوى في قعر البحار.
إن التطور العلمي خلف هذا كله وراءه، وكأن التاريخ يطوي الصفحة الأخيرة من الفصل الذي كتبه الجيل في عهد البخار، وأصبحنا على أبواب عهد جديد لا نعرف اسمه بعد، وإنما بدأنا نرى علاماته في الآفاق وفي أنفسنا، في عالم جديد تبصر فيه عيوننا إلى بعد المئات من الكيلو مترات، وتسمع فيه آذاننا إلى بعد الآلاف من الكيلو مترات، ويمتد حضورنا إلى أي مكان من العالم بسرعة الضوء، وننتقل فيه بسرعة الطائرة النفاثة اليوم وبسرعة الصاروخ الموجه غداً.
إننا نعيش اليوم في عالم صاغه العامل الفني صياغة ذات أثر عميق في أنفسنا، لأن العوامل الجغرافية التي كان لها الجانب الأكبر في التأثير على سير التاريخ تفقد اليوم شيئاً فشيئاً مفعولها. إن العالم الذي نعيش فيه أصبح صغير الحجم، وبقدر ما يقل فيه تأثير الأبعاد الجغرافية، تزيد فيه سرعة التطور بفعل عوامل التسريع التي ذكرناها من TV و SF وأجهزة النقل. فالعالم اليوم يختصر الطريق ويختزل التاريخ، ويعيش تحت قانون اجتماعي وتاريخي جديد، هو قانون السرعة في جميع وجوه النشاط، لا يظهر أثره في عالم الأشياء والاعتبارات العسكرية فقط، بل يظهر أثره في عالم النفوس، التي بدأت تشعر به شعوراً واضحاً، كما يتبين ذلك من خلال دراسات حديثة مطبوعة بطابع خاص، يمكن
أن نسميها السياسة المقارنة أو الإقتصاد المقارن، مثل الدراسات التي خصصها (تيبور موند) للحالة في جنوب آسيا الشرقية، فإننا نفاجأ في مثل هذه الدراسات باعتبارات ذات طابع نفسي جديد، يترجم عن روح العصر وعن الاتجاهات والدوافع الخفية الجديدة، التي سجلها التطور في أعماق الأنفس، فنكون مثلاً نقرأ صفحة عن الإصلاح الزراعي في الهند، وإذا بجملة عن الإنتاج الزراعي في الصين تعترضنا فجأة، إن هذا يعني أن الحقائق الاجتماعية والإقتصادية في بلد ما، لا تصاغ في ضوء الأرقام التى تعبر عن حاجات وضرورات البلد فحسب، بل تسلط عليها أضواء من الخارج، وتقاس بمقاييس وأرقام تأتي من بلد بعيد، وليس في هذا الاتجاه إلا ضرورة من نوع جديد تعبر عن تصغير العالم وسعة التطور فيه، وعن وحدة المصير الذي يتجه إليه اليوم التاريخ، كما تتجه الإبرة المغناطيسية إلى قطبها في مجال المغناطيسية.
وكل هذه الاعتبارات مسجلة اليوم في شعورنا وفي لا شعورنا، مسجلة بأي صفة كانت في أنفسنا، حتى إنه لا يمكن لأي شعب أن يفصل حياته عن هذا القانون العام، الذي صاغه العامل الفني خلال نصف القرن الأخير، لا يمكنه أن يفصل حياته عنه دون أن يتعرض إلى خطر النشوز في العالم والخروج من التاريخ، لأن التاريخ يعزل من لا يسير في اتجاهه، وكل من عزله التاريخ فإنه يدخل حتما في حظيرة الشعوب البدائية أو في حظيرة العدم، مثل الشعوب التي اكتشفها (كولومب) في أميركا. فهذه هي الظروف العامة الجديدة التي تدخل فيها النهضة العربية في عهدنا، الذي لا نعرف اسمه بعد وإنما نرى علاماته في الآفاق وفي أنفسنا، وهكذا تدخل نهضتنا عهد الصاروخ لتحقق مصير كل عربي ونصيبا من مصير الإنسانية.
وهكذا يجب علينا حينما نضع قضية النهضة العربية نصب أعيننا أن ندرس مقتضياتها من جانبين: بنظرة إلى الخارج لنحدد واجباتها نحو العالم أي لنحدد
شروط انسجامها مع ضرورات السير العام، ثم بنظرة إلى الداخل لنحدد الطاقات التي يمكن توظيفها، من أجل المحافظة على البقاء في الداخل، والمحافظة على الاتجاه الصحيح في الخارج.
فأما من الجانب الأول فإن كل عربي يعلم أن نظرة الرئيس جمال عبد الناصر، خطّت للنهضة العربية الاتجاه الصحيح، الذي يحقق الشرط الأول للانسجام مع القانون العام، وهو الشرط الذي يخص وحدة المصير، لأن قضية وحدة المصير في الظروف التي نمر بها في صميم قضية السلام. ومن يخط سياسته الخارجية على مبدأ الحياد الإيجابي مثل ما فعل عبد الناصر- وقد كشفت الحوادث الأخيرة عن شدة تمسكه بهذا المبدأ- من يرسم سياسته الخارجية هكذا، فإنه يضمن للأمة العربية ولنهضتها شروط الانسجام مع القانون العام فيما يتصل بوحدة المصير.
ومن ناحية أخرى فإننا نجد في التخطيطات التي تجري الآن في الجمهورية العربية المتحدة، تحقيقاً لانسجام النهضة العربية مع ما يتصل بالجانب الثاني من القانون العام، وهو ما يتعلق بعوامل الشريع في التاريخ وسعة التطور في العالم: فإن فكرة التخطيط تلعب دوراً هاماً في العالم الحديث، لأنها تؤثر في الأوضاع النفسية والاجتماعية معا، إذ أنها تشخص الغايات قبل تحقيقها، فتزرع بذلك الأمل في النفوس الطامحة وتبث فيها روح التضحية والعمل. ولنا في تاريخنا القديم مثال ندل به على ذلك الأثر النفسي الذي ظهر واضحاً في نفس عمار بن ياس، حينما كان يقوم بمجهود عاملين في بناء أول مسجد في الإسلام. وفي تاريخنا الحديث مثال آخر يرينا الأثر النفسي عند (ستاخانوف) إبان النهضة السوفييتية، حينما قام بمجهود عاملين في التخطيطات الصناعية الأولى.
فإن الأول حينما رأى غايته في الحياة قد تمثلت له وكأنه يراها رأي العين، سعى إليها بدافع نفسي عجيب. ولا يختلف الثاني عن الأول في رؤيته لأهدافه وسعيه
إليها السعي الحثيث، حتى أصبح سلوكه عنواناً لنظرية في الإنتاج (استاخانوفية).
وأما من الناحية الفنية فإن فكرة التخطيط تكتل الوسائل وترب ضمناً - بدافع تفرضه طبيعة العمل المخطط- بين بعض المشاكل، التي قلما نفكر في ربطها بصفة منهجية، لأن العادات الفكرية لا تتغير بسرعة التطورات التي يحدثها العامل الفني في الأشياء. فقلما نفكر في العمل غير المخطط أن نربط بين مشكلة اليد ومشكلة العقل، أو بين مشكلة العمل ومشكلة الوقت، بينما يكون الربط بين هذه المشكلات ضرورة حتمية في العمل المخطط: ضرورة تفرضها طبيعة العمل نفسه دون إجهاد في التفكير، لأن التخطيط عملية تفكير، تفكير مسبق في عمل محدد من ناحية، ومن ناحية أخرى هو توقيت هذا العمل في مدة معينة وتوزيعه على عدد معين من السنوات. وبهذا فإنه يربط بين عوامل اجتماعية فعالة، ويحل ضمناً المشكلات التي تتضمنها، مثل مشكلة الربط الضروري بين العمل والفكر من ناحية العمل والوقت من ناحية أخرى، حتى تسير الوسائل بأسرع ما يمكن إلى أهدافها، وتنتج أكبر ما يمكن إنتاجه في وقت معين. فالتخطيط: هو، جملة، تعميم لنظرية (تايلور) الذي فكر في المشكلة في مستوى المصنع، بينما يرفع القرن العشرين هذه النظرية من مستوى المصنع، الذي يصنع منتوجاً حضارياً معيناً مثل السيارة والطائرة، إلى مستوى المجتمع الذي يصنع حضارة.
فكما كان تطبيق نظرية (تايلور) من العوامل التي أثرت تأثيرا عميقاً في تسريع العمليات الصناعية منذ القرن التاسع عشر، فإن التخطيط يؤثر اليوم تأثيراً عميقاً في تسريع العمليات الاجماعية التي تقوم عليها الحضارة، فالتخطيطات القائمة اليوم في الجمهورية العربية المتحدة، تكون في النهضة العربية عنصراً أساسياً لانسجامها مع القانون العام من حيث سرعة التطور.
فيمكن إذن أن نقول إن النهضة العربية أخذت، تجاه الضرورات الخارجية، الإتجاه الصحيح بفضل سياسة الحياد الإيجابي التي يلتزمها الرئيس عبد الناصر، كما بدأت أيضاً تتجه الإتجاه الصحيح إزاء ضرورات الداخل بفضل المشروعات المخططة، التي أخذت طريقها إلى التنفيذ في الجمهورية العربية المتحدة.
ولكن نظرتنا إلى هنا في الموضوع إنما هي نظرة إلى المستقبل، أي أنها تتصل بالشروط النظرية التي يجب أن تستجيب إليها النهضة العربية، كي تحقق مصير الأمة العربية وتسهم في تحقيق نصيب من مصير الإنسانية. ولا شك أن هذه النظرة كافية إلى حد ما بالنسبة إلى ضرورات الخارج، لأن مبدأ الحياد الإيجابي لا يتوقف تنفيذه إلا على إرادة فولاذية، لا تحيد عن سياسة الحياد، ولا شك أن الرئيس عبد الناصر برهن على أنه لا يحيد مهما تكن الظروف. ونرى إذن أن نظرتنا إلى المستقبل كافية بالنسبة إلى ضرورات الخارج، لأن تقرير المبدأ النظري يكفي في هذا المجال ولكنه لا يكفي وحده بالنسبة لضرورات الداخل، أي بالنسبة إلى مشروعات البقاء الاجتماعي المختلفة، بل لابد هنا من نظرة إلى الماضي لأن مقتضيات النهضة لا تنفذ بقرار من إرادة فولاذية، ففي المشكلات الداخلية جانب نفسي لا تعبر عنه الأرقام مهما تكن دقيقة، ولا يمكن في أي بناء اجتماعي أن نهمل هذا الجانب لأنه يصور معادلة شخصية، تتدخل ضمناً في أي حل تمليه الاعتبارات الفنية.
إنه يجب ألا ننسى أن الإنسان لا يدخل العمليات الاجتماعية بوصفه مادة خاماً، بل يدخل في صورة معادلة شخصية، صاغها التاريخ وأودع فيها خلاصة تجارب سابقة وعادات ثابتة، تحدد موقف الفرد أمام مشكلات بما يكون هذا الموقف من القوة أو الوهن، من الاهتمام أو التهاون، من الضبط أو عدم الضبط الخ .. وإذن فلا تكفي هنا نظرة مجردة إلى المستقبل، لأن الإنسان جهاز دقيق، أدق من كل شيء نتصوره في الميكانيك الدقيق، ولكنه جهاز تخضع
حركاته وسكناته إلى قانون صاغه ماضي أسرته ومجتمعه وثقافته، ولا بد من نظرة إلى ماضي هذا الجهاز، لنعرف مدى صلاحيته في العمليات الاجماعية والمشروعات المخططة القائمة عليه.
ولكن هذا الإنسان ليس قضيباً من الحديد نضعه تحت المجهر أو تحت تأثير مادة مشعة لنختبره، إذا ما أردنا استعماله في تركيب ميكانيكي معين.
إن اختبار الإنسان لا يمكن أن يكون من النوع الستاتيكي، مثل قضيب الحديد في الظروف العادية، بل يجب أن يكون من النوع الديناميكي، أعني أنه يجب أن نختبره في حركاته لا في سكناته، وإذا اعتبرنا أن التاريخ إنما هو تسجيل لحركات مجتمع معين، فأي قطعة منه نحللها نجد في نهاية التحليل: إما الصورة الحقيقية لحالة الفرد بالنسبة إلى ضرورات المجتمع، وإما- على الأقل- بعض المعلومات عن معادلته الشخصية، أي عن مدى صلاحيته في العمليات الاجتماعية، كما يمكننا في نهاية التحليل أن نقرر ما يجب تعديله في تلك المعادلة، حتى تصبح منسجمة مع ضرورات الخارج وحاجات الداخل.
وإذن فأي قطعة من التاريخ العربي تدلنا على مواطن الضعف في مجتمعنا،
حتى يمكننا أن ندخل التعديل المناسب في المعادلة الشخصية التي تخصنا؟
فلنفرض أننا أخذنا صورة شمسية للعالم العربي خلال العقد الأول من القرن التاسع عشر مثلاً .. فإننا لا نرى شيئاً فيها، وكأنها صورة التقطت في ليل مظلم، ذلك الليل الطويل، الطويل جداً، الذي أشار إليه المستشرق (كوتييه) في كتابه (القرون المظلمة في الغرب).
فهذه الصورة لا تفيدنا شيئاً في موضوع الحديث، لأنها لا تصور لنا حركة المجتمع العربي في ذلك العقد وإنما نومه وسكونه.
فلنأخذ صورة شمسية أخرى حوالي سنه 1868 .. إننا لن نجد فيها معلومات
أكثر من الأولى. ولكننا نرى خلال الشريط ما يدل دلالة غامضة على فجر بدأ بصيصه يظهر في أفق العالم العربي.
ولناخذ الآن صورة شمسية ثالثة حوالي سنة 1905. إننا سوف نجد العالم العربي يعيش الآن في ضوء النهار، وسوف نحكم بمقتضى ما رأينا في الصورة الثانية والثالثة، أن النهضة العربية بدأ فجرها يطلع حوالي سنة 1868 وأن نهارها أصبح واضحا سنة 1905. ولو أننا حللنا الصورة الثالثة، لوجدنا أن النهار الجديد يضيء أشياء حديثة لم يألفها العربي في مسكنه ولباسه وشوارعه، أشياء نرى عليها طابع حضارة الغرب. نرى لا شك هذه الأشياء، علامة بينة على وجود نهضة لم نتبين أثرها في الصورة مثلاً، ولكننا لم نستنتج من تلك العلامة غير المنتظرة سوى دلالة عامة على أن التاريخ العربي قد تحرك من جديد بين سنوات (1868 - 1905)، دون أن نعرف شيئا آخر عن سرعة حركته ومدى التطور في هذه الحقبة التي اخترتها عن قصد، لأنها تطابق في تاريخ القرن التاسع عشر ما يسمى في اليابان بعهد (الميجي) من بدايته، أي عندما طرق C.perry ( بيري) قائد الأسطول الأمريكي إذ ذاك أبواب اليابان سنة 1868، فاضطرت لفتحها صاغرة حتى نهاية الحرب ضد روسيا القيصرية، وانتصار تلك الدويلة الآسيوية الناشئة على هذه الدولة الإستعمارية الكبرى سنة 1905، انتصارا بهر بعض الشعوب المستعمرة التي بدأت تنظر إلى اليابان كالبطل الآخذ بثأرها. إنه لا يهمنا الحدث نفسه وإنما تهمنا دلالته على أن النهضة التي يسمونها العهد الميجي في اليابان، قد حققت فيه ما لم تحققه في البلاد الإسلامية عامة وفي البلاد العربية خاصة.
إننا نجد أنفسنا أمام حقيقة يشهد بها التاريخ، وليس في وسعنا إلا الإعتراف بأن النهضة كان نشرها أعق في اليابان منه في البلاد العربية في أواخر القرن الماضي. وهذا يعني دون ريب أن سير بلاد الشمس المشرقة خلال الحقبة التي
اخترتها للموازنة، كان سيراً يتواءم مع ضرورات الداخل والخارج، أكثر من السير في البلاد العربية، وهذا يعني في التحليل أن المعادلة الشخصية اليابانية، كانت أرجح في كفة التاريخ من المعادلة الشخصية التي كونتها النهضة في البلاد العربية. وهذا يجعلنا نتساءل: لماذا رجحت كفة اليابان في أواخر القرن التاسع عشر إلى هذا الحد؟
إنه يجب علينا، للجواب على مثل هذا السؤال، أن نحدد معنى النهضة هنا، حتى لا نخالف منطق التاريخ في استنتاجاتنا ضمن هذا البحث.
إذا راجعنا تاريخ القرن التاسع عشر وجدنا أن (النهضة) كانت ظاهرة عامة في مختلف البلاد الستعمَرة، وأن أسبابها تتصل بالظروف النفسية والإقتصادية والسياسية الجديدة، التي كونها المستعمر في تلك البلاد، فالنهضة كانت الفعل الذي ردت به الشعوب المستعمرة في تلك الظروف. فلماذا اختلفت النتيجة إذا كانت الأسباب التاريخية واحدة؟
إننا نضع هنا نقطة الاستفهام في صميم الموضوع، لأننا إذا حددنا النهضة بصفتها رد فعل إزاء الإستعمار، فإننا في خطوة ثانية مجبرون على أن نحدد رد الفعل لهذا النوع، من العلة الخاصة التي ربطها الشعب الناهض بالحضارة الغربية.
إننا نجد (الهند) مثلاً تحدد صلتها بالحضارة الغربية في صورة فكرة دينية متعالية، تتجلى في حياة (راما كريسما) وفي حياة تلميذه (كناندا)، الذي قام بجولة إلى أوربا وأميرما في غرة هذا القرن، كأنه يريد أن يشعر الحضارة الغربية المتجبرة، أن روح (الفيدا) أي روح الهند الناهضة لا تخضع ولن تخضع للقوة المادية. وهذا الموقف هو الذي وقفه (غاندي) نفسه في بدء حياته العامة، الذي لا يزال يقفه اليوم بعض تلامذة (كناندا) مثل (أوروبدا) المفكر الهندي المعاصر لنا، فهو موقف على جانب من السلبية كما رآه (طاغور) نفسه، عندما
عبر عن موقف بلاده إزاء الحضارة الغربية، الموقف الذي يمكننا وصفه بموقف الضعيف المتكبر أمام القوي المتجبر. وهذا النوع من الصلة لم يكن لينفع النهضة في الهند، لو لم يأت غاندي الذي عدّل الجانب السلبي فيها بالإضافات الإيجابية، فغير اتجاه النهضة الهندية تغييرا نراه اليوم يتم على يد تلميذه (نهرو). ومن الواضح لمن تتبع سياسة الهند منذ عشر سنوات، أن النهضة الهندية نزلت من السحاب وبدأت تسير سيرا حثيثا للإنسجام مع القانون العام، انسجاما يستحق أحيانا الإعجاب فيما يتصل بضرورات الخارج خاصة، حتى أصبحنا نشعر أن الهند لم يعد يطيب لها الجلوس على مقعد المتفرج، الذي يتتبع الأحداث على شاشة التاريخ معلقا عليها، بل اختارت لنفسها- وليس لديها الكثير من الوسائل- أن تصنع الأحداث العالمية أو تشارك في صنعها بصفة جدية.
ومهما يكن في هذا الاستطراد فإننا نريد أن نقول: إن النهضة الهندية كانت
تحدد نوعاً من الصلة بالحضارة الغربية، فيه ما فيه من نزعة الكبرياء، التي ما برحت فيما أظن تطبع موقف الهند في العالم، ولا تعطينا الموازنة مع النهضة العربية سوى شيء واحد، هو أن الفكر الهندي لما رأى خلال القرن الماضي، أنه لا يستطيع حل مشكلات البقاء، ومشكلات الاتجاه الخاصة بالهند، انفصل عن الأرض وارتفع إلى السحاب مكابراً.
أما النهضة في اليابان خلال الحقبة التي اخترناها للموازنة، فإنها عبرت عن
صلة بالحضارة الغربية من نوع آخر. فإننا لو أخذنا صورة شمسية لمجتمع الياباني كما فعلنا للمجتمع العربي بين سنوات (1868 - 1905)، فسوف نجد فيها من أشياء حضارة الغرب، ما نجده قطعاً في صورة شمسية نلتقطها في الوقت نفسه لمجتعنا نحن، ولكننا لو حللنا الصورتين بالمجهر الدقيق، لوجدنا الصورة الشمسية الخاصة بالنهضة العربية زاخرة بالأشياء الغربية الحديثة، ولا نجد معها سوى أشياء أخرى من مخلفات حضارتنا التي ولت إلى ظلمات التاريخ.
أما لو حللنا الصورة الشمسية الخاصة بنهضة، ليابان، فإننا نجد فيها أيضا مع الأشياء الغربية الحديثة أشياء عتيقة من مخلفات حضارة (الميكادو، والساموراي)، وإننا سوف نجد فيها إلى جانب عالم زاخر بالأشياء، عالما آخر زاخراً بالأفكار الجديدة: الأفكار التي نبعت من عبقرية اليابان لما اصطدم بواقع القرن التاسع عشر. وهذه الملاحظة جديرة بالتأمل، لأنها تكشف لنا عن الفارق العظيم، بين الصلة التي ربطها اليابان بالحضارة الغربية وبين صلتنا بها. إن اليابان وقف من الحضارة الغربية موقف التلميذ، ووقفنا منها موقف الزبون. إنه استورد منها الأفكار خاصة ونحن استوردنا منها الأشياء خاصة
…
إنه كان خلال- سنوات (1868 - 1905) ينشئ حضارة، وكنا نشتري بضاعة حضارة، وكان البون بيننا شاسعاً والخلاف جوهرياً، يؤدي حتما إلى ترجيح كفة اليابان كما بينا في الموازنة التي عقدناها لسنة 1905.
إن هذه النظرة إلى الماضي أفادتنا شيئين: إن حركة النهضة العربية كانت تسير على بطء، ثم إنها لم تكن تتجه نحو إنشاء حضارة، أو على الأقل إنها لم تنظم اتجاهها نحو الحضارة.
ومن الطبيعي إذن أن نفترض فيها أولاً وجود عوامل تعطيل نفسية، أثرت
في سيرها خلال الحقبة التي جعلناها عن قصد موضوع البحث. وثانياً وجود عوامل أخرى فكرية أثرت في اتجاهها تأثيراً سلبياً.
والمشكلة في صورتها الجديدة إذن هي أن نتساءل: هل زال مفعول هذه العوامل المعوقة للنهضة العربية أم لا؟ ومن الواضح أننا لا نملك في أيدينا شيئا يتيح لنا الجواب عن هذا السؤال جواباً يقنعنا، لأنه يتطلب دراسة موضوعية لم نقم بها ولا نعلم أن أحداً قام بها. إنه بلغنا أن القضية دخلت أخيراً إلى المختبر لتدرس، وأن لجنة تأسست بالقاهرة لدراسة هذا الجانب النفساني في إطار التخطيطات القائمة اليوم. ولكننا قبل أن تصلنا نتيجة هذه الدراسة الموضوعية،
نجد أنفسنا مضطرين إلى تقدير نظري، وهو أن عوامل التعطيل التي نتحدث عنها، لا يزال بعضها عالقاً بعالم النفس عندنا، في صورة رواسب خلفها في نفوسنا عهد الكساد، الذي أشرنا إليه بعنوان كتاب المستشرق (كرتييه)، ولا أشعر أن هذا التقدير النظري يخرج من نطاق الواقع، إذا أخذنا باعتبارنا أننا لم نقم إلى الآن في العالم الإسلامي عامة والعالم العربي خاصة، بما يسميه علماء النفس عملية تصفية للرواسب التي نتحدث عنها. وفيما يخص هذا الحديث فإنني أقنع بالحديث عن هذا الجانب المرضي في النهضة العربية، تاركا جانب العلاج إلى من يقوم بهذا الأمر مباشرة في إطار التخطيطات، مع اعتقادي أنه يتصل بقضية (الثقافة) والتوجيهات الثقافية في البلاد العربية، على شرط أن نعطي لكلمة ثقافة معناها الصحيح، لتقوم أولا بالدور الخلاق للإنسان العربي الجديد، الذي يتواءم مع ضرورات النهضة في الخارج وفي الداخل.
هذا من جانب الاعتبارات التي تمس ضعف النهضة من حيث النفس. وأما الاعتبارات التي تمس ضعفها من حيث الفكر، فإننا أيضاً مضطرون إلى التقديرات النظرية حتى تأتينا نتائج الدراسات الموضوعية للقضية، فإننا نقدر جملة أن الضعف الذي نشاهده في اتجاه النهضة العربية، من الجانب الفكري خلال الفترة التاريخية، التي اخترناها للموازنة أي فترة (1868 - 1905) إنما يرجع إلى أسباب منطقية معينة لا نتصور أنها تخرج عنها. ويمكن أن نرتب هذه الأسباب كما يأتي:
1 -
عدم تشخيص غاية النهضة تشخيصا واضحا.
2 -
عدم تشخيص المشكلات الاجماعية تشخيصاً صحيحاً.
3 -
عدم تحديد الوسائل تحديدا يناسب الغاية المنشودة والإمكانيات.
إننا نكون بهذا الترتيب قد صغنا ثلاث مشكلات تكون الحلقة الجديدة لهذا الحديث:
1 -
فأما بالنسبة للسبب الأول- وبقدر صحة الملاحظة- فالضعف يتصل بقانون الحركة عامة. إن كل حركة تفقد غايتها، أعني أن غايتها لم تتحدد بوضوح، فإن شأنها التيه في السبيل والتبذير في الوسائل والخطأ في الهدف، وبالتالي فإنها حركة تخضع لقانون المصادفة، أي أنها لا تأتي بنتيجة في اتجاه معين وفي وقت معين. هذا من وجهة نظرية بحتة أي بالنسبة لكل نوع من الحركة. ولكن النهضة العربية والنهضة عامة (باعتبارها حدثاً يحدث في تاريخ أمة في ظروف معينة مثل النهضات المعاصرة لنهضتنا في آسيا كما ذكرنا، أو مثل نهضة أوربا في منتصف القرن الخامس عشر) هي حركة من نوع خاص تحدد غايتها طبقاً لنوعيتها: هل الحضارة هي تلك الغاية، وبالتالي هل هي غاية كل سير في التاريخ؟ سواء أكان عن طريق التحديد والتوجيه والتوقيت أم عن طريق الصدفة؟.
إن الجواب على هذا السؤال يستوجب أولاً اعتبار التاريخ لا بصفته مجرد تسلسل حوادث على شاشة الزمن، بل بوصفه عملية اجتماعية محددة الأسباب والنتائج، ومرتبطة بمصير الإنسان تقدر حظه أو تلقيم في الحضيض.
ويأتي إذن السؤال في هذه الصورة: في أي ظروف يحقق التاريخ حظ الفرد، ويرفع شأنه في بلده ويعزز مكانه في العالم؟
إننا لو وزعنا بعض الأرقام على خريطة العالم، لوجدنا الجواب للسؤال المطروح في صورة جغرافية ذات دلالة. فلنأخذ مثلاً قائمة متوسط الدخل السنوي للفرد في العالم، فإن أرقامها تتراوح من 1850 دولاراً في الولايات المتحدة إلى 38 دولاراً في جمهورية ليبريا. وإذا اعتبرنا في هذه القائمة أن متوسط الدخل السنوي في اليابان 200 دولار هو الرقم الوسط في العالم، لا بوصفه عدداً ولكن بوصفه منحى إقتصادياً، ثم وزعنا أرقام القائمة على الخريطة، فإننا سوف نرى أنها تصور لنا رقعتين جغرافيتين، تتمتع إحداهما بمتوسط دخل سنوي فردي فوق
200 دولار، والأخرى يقع الدخل الفردي فيها دون هذا الرقم. ومن الطبيعي أن نقول إن الفرد الذي يولد في الرقعة الأولى، يحصل بمجرد ولادته على حظ أكبر في الحياة من نظيره الذي يولد في الرقعة الأخرى. ولو لاحظنا بعد هذا أن الرقعة الأولى هي بالضبط رقعة الحضارة الغربية وامتدادها الجغرافي التاريخي شرقاً وغرباً، أي امتدادها من أقصى الغرب من سان فرانسيسكو مثلاً إلى طوكيو في الشرق، ولاحظنا في الوقت نفسه أن الرقعة الأخرى هي بالضبط رقعة الشعوب التي تعيش من طنجة إلى جاكرتا، في حالة نسميها ما قبل الحضارة، وربطنا القضية بالجغرافية من ناحية وبالتاريخ من ناحية أخرى، فإن هذه الاعتبارات تُملي الجواب على السؤال المطروح .. أي أن الشروط التي تحقق للإنسان حظه في الحياة هي عامة شروط حضارة، وأن مصيره مقيد بها يُرزق غداً إنما تحققت، ويحرم إن اختلت أو انهدمت.
ولو اتخذنا قائمة أخرى ووزعنا أيضاً أرقامها على الخريطة، لوجدنا الظاهرة نفسها في صورة قارتين: قارة يسودها الرخاء لأن حضارتها تتكفل بحياة الفرد، وتقدم له جميع الضمانات الاجتماعية، وقارة يسودها الحرمان لأن الحياة الاجتماعية فيها في مرحلة دون الحضارة. فلو وزعنا مثلاً أرقام قائمة استهلاك الكهرباء أو الفحم الحجري فإننا سوف نصل للنتيجة نفسها.
وعلى سبيل المثال فقط نذكر أرقام استهلاك الفحم في العالم للفرد:
8 أطنان للفرد في الولايات المتحدة الأمريكية.
4 أطنان للفرد في السويد 2،5 من الأطنان للفرد في فرنسا
1 طن للفرد في إيطاليا
110 كيلو للفرد في الهند أي لبلاد واقعة في محور طنجة- جاكرتا.
وإذا رجعنا الآن إلى قضية النهضة العربية في ضوء هذه الاعتبارات، فإننا
نرى أنه من الضروري أن تحدد غاية سيرها بوصفها محركة في التاريخ، ثم أن تتخذ، بصفتها عملية اجتماعية، الحضارة غاية لها. وبقدر ما يصح هذا التشخيص في ضوء الاعتبارات الاجتماعية والتاريخية كما سبق، نكون قد تداركنا جانباً من عوامل التعطيل الذي كشفته لنا الموازنة مع نهضة اليابان.
2 -
هذا بالنسبة للسبب الأول، وأما بالنسبة للسبب الثاني أي بالنسبة لتشخيص المشكلات، فإن الضعف يتسرب في تقدير مشكلات النهضة من حيث ضرورات الداخل وضرورات الخارج تقديراً سليما، لأننا كنا نفكر حتى عهد قريب، وإلى حد ما، لازلنا نفكر، لا حسب طبيعة الأشياء، ولكن حسب عادات فكرية توجه فكرنا مبدئياً في اتجاه معين، سواء أكان هذا الاتجاه صالحاً يناسب فعلا ما تقتضي المشكلات من الحلول أم لا يناسب. هذه العادات الفكرية تعمل مفعولها أحياناً في صورة البديهيات التي تطبق دون أي تحفظ، والبديهيات في التاريخ كثيراً ما قامت بدور سلبي كعوامل تعطيل مثل بديهية: الأرض مسطحة، فإنها عطلت إلى حد ما سير التاريخ وحالت دون اكتشاف أمريكا قروناً طويلة حتى عهد كولومبو، بينما كان العلم القديم نفسه ينشد كروية الأرض كما يشهد بذلك كتاب (بطليموس) .. إن أجيالاً كثيرة من البحارة لم تكتشف أمريكا، لأنها لم تكن تواجه مشكلة المواصلات البعيدة بفكرها بل بعاداتها الفكرية. وهذه العادات تؤثر فعلاً في سرعة التطور، لأنها تجعلنا نعد المشكلات طبقاً لبديهيات لا يدل شيء على أهميتها، بدل أن نفكر فيها حقيقة، وكثيراً ما نغتر بالصورة بدلاً من أن يكشف عن المرض نفسه، ومن الواضح أن علاجاً يتجه في حالة معينة إلى الحمى، عوضاً عن الاهتمام بسببها، قد يؤدي إلى زيادة المرض، وأحياناً إلى موت المريض نفسه، إذا ما فات وقت التدارك.
إن كثيراً من المشكلات تعرض لنا، فلا نتعرض لها بفكرنا ولكن بعاداتنا الفكرية. وقد يكون نصيبنا من النجاح قليلاً دون أن نشعر بذلك أحياناً لأننا
نفقد وسائل الرقابة، وليست بين أيدينا المقاييس لتقدير النتيجة تقديراً صحيحا. قد نكون مثلاً مهتمين بقضية (الأمية) وهي تمس في الصميم قضية النهضة بوصفها عملية اجتماعية تتضمن الطاقات الفكرية مع الطاقات الأخرى، ومن الطبيعي أن نفكر في الجهل بوصفه مشكلة أساسية لا بد من حلها، ولكننا في الواقع قلما نفكر فيها تفكيرا جذرياً. فكثيراً ما نؤتي المشكلة الحلول التي اعتدناها في عاداتنا الفكرية، مع بعض الطقوس الاجتماعية التي لا تخلو من الرياء، فنقرر طبقاً لعاداتنا أن (العلم) هو العلاج النافع، ونميل أيضاً إلى هذا النوع هن العلاج بمقتضى الطقوس الاجتماعية القائمة في البلاد، بينما النتيجة أحيانا دون ما نريد، وأحياناً خلاف ما نريد، عندما نرى النتيجة في إحدى صورتيها: إما في صورة العالم الذي لا ينفع المجتع إلا قليلا، أو في صورة العالم الذي يضر المجتمع أحيانا بعلمه، لأن أساسه الخلقي لم يتكون، ولم نفكر في تكوينه مقتنعين بشكلية الأشياء دون اهتمام جدي بحقيقتها، وبصلتها بضرورات الداخل وضرورات الخارج .. وربما تزيد الحالة سوءاً، حين تتدخل الطقوس الاجتماعية في تشخيص المشاكل، فإن العلم يصبح إذن صنفاً من الرياء، وسبباً للتنافس بين الأسر البشرية، فيفقد بهذا كل فعاليته الاجتماعية، لأننا لم نفكر فيه على أساس اجتماعي نفسي وإنما على أساس مدرسي وجامعي .. فنكيف التعليم ليكون عملية تهدف أساساً إلى إضافة المعلومات بعضها إلى بعض، لا ليكون عملية تصفية نفسية في مستوى الفرد وفي مستوى المجتمع، أي بوصفه صياغة للإنسان صياغة جديدة، تتواءم مع ضرورات الداخل وضرورات الخارج، أي مع القانون العام الذي يفرض في الداخل سرعة السير وفي الخارج وحدة المصير، ولا نشعر بالخطأ في المنهاج القائم على مبدأ إضافة المعلومات، أو إذا سمح لي بهذا التعبير- تكديس المعلومات- لأننا لا نقدر تطورنا بالمقياس الذي يصوغه السير العام في العالم، وإنما نقدره بمقياس نسبي تصوغه ظروفنا الخاصة.
فحين يدخل العالم في عهد القمر الصناعي، ندخل نحن في عهد الكاديلاك، ونشعر أننا حققنا خطوة لا بأس بها في التقدم، لأننا كنا في عهد الحمار في بعض البلاد العربية. إنني لم أذكر هذا المثل للشعور بحاجتنا إلى القمر الصناعي والصاروخ الموجه، وإنما ذكرته لتوضيح الموقف، بل أشعر أن حاجتنا الأساسية في عالم النفس أكثر منها في عالم الأشياء. إن حاجتنا الأولى هي الإنسان الجديد .. الإنسان المتحضر .. الإنسان الذي يعود إلى التاريخ الذي خرجت منه حضارتنا منذ عهد بعيد. وصياغة هذا الجهاز الدقيق الذي يسمى الإنسان، لا تتم بمجرد إضافة جديدة إلى معلوماته القديمة لأنه سيبقى هو قديماً في عاداته الفكرية وفي مواقفه أمام المشكلات الاجتماعية، وفي فعاليته إزاءها، وخاصة في لافعاليته التي نجد أكثرها عندما تفاجئنا الظروف أحياناً ببعض الفضائح أو ببعض المآسي، مثل غرق السفينة (دندرة) في النيل، أو عندما نحلل صورة شمسية تكشف لنا موطن الضعف في المجتمع، كما كشفت لنا الصورة التي أتاحت لنا موازنة النهضة في اليابان مع النهضة في البلاد الإسلامية عموماً والعربية خصوصا، كما سبق.
وإذن فإن قضية اجتماعية مهما كانت ظروفها لا تعالج بالبديهيات التي ترى العلاج النافع في وضع النقيض أمام كل داء. فقد كان من حكم الطب القديم أن الحرارة مثلاً دواؤها الرطوبة، ولا بأس بهذه الحكمة ما لم تكن قيداً يقيد التفكير وعادة تحجّر الفكر. فلو استسلم الطب لحكة كهذه مع رشدها وصلاحيتها في بعض الظروف، لما وجد (باستور) طريقاً لاكتشاف العلاج النافع لداء الكلب مثلاً، لأن هذا الطريق المبتكر كان في اتجاه يخالف تماماً حكمة النقيض، إذ نرى (باستور) يعالج الداء بالداء نفسه. فيجب إذن أن نحترز، قدر الإمكان في معالجة المشكلات الاجتماعية، من الطريقة التي تتخذ لكل داء نقيضه دواء، فنضع مثلاً العلم أمام الجهل دون قيد أو شرط، ونجد أنفسنا أحياناً وبالتالي أمام عالم نفعي غير نافع، يعيش على جسم المجتمع مثل النبات الطفيلي على الأشجار.
فقضية الجهل لا تعالج إذن بمجرد وضع البرامج التعليمية، والتعليم لا ينفع بمجرد إضافة معلومات، بل يجب أن يكون أولاً عملية تصفية نفسية .. وتعديل معادلة شخصية زيفتها عهود الكساد. وبكلمة واحدة أن يكون التعليم بناء الشخصية الجديدة في المجتمع العربي المتجدد، طبقاً لضرورات النهضة في الداخل والخارج. وهذا يعني ألا توضع برامج التعليم لما يسمى (العلم)، ولكن طبقاً لشيء أعم بكثير هو: الثقافة. أي أن توضع برامج تتصل بعالم النفس والدوافع الأساسية ثم بعالم العقل والمفهومات، وبعالم الأشياء والحاجات.
3 -
وأما من وجهة المشكلة الثالثة التي ذكرناها في الترتيب السالف، أي تحديد الوسائل، فإن تحليلنا للصورة الشمسية قد كشف لنا عن جانب سلبي في النهضة العربية، يتصل بضعف منطقي فيها، باعتبارها حركة تاريخية لم تعرف بالضبط أو لم تحدد غايتها. ولكن لابد أن نضيف بجانب هذا ضعفاً آخر متفشيا فيها باعتبارها عملية اجتماعية، لم تعرف بالضبط أو لم تحدد وسائلها. فإننا لو تتبعنا سيرها خلال فترة معينة، كما فعلنا، فسوف نجد فيها- على الرغم من كل الضعف في تحديد غايتها- اتجاها نحو حضارة، مهما يكن في هذا الاتجاه من الغموض: ولكننا إذا حللنا مرة أخرى الصورة الشمسية المذكورة، فإنها ستكشف لنا أن النهضة العربية كانت تحاول تحقيق غايتها، بالأشياء التي تستوردها من الحضارة الغربية. فالخطأ يتصل هذه المرة بقضية الوسائل؛ والسؤال: هل يصح أن تكون الأشياء التي نستوردها من الخارج وسائل لتشييد حضارة معينة، أومنتوجاً حضارياً بصفة مطلقة؟ فأما من حيث إنه منتوج حضارة معينة، فإنه قد يتفق مع مصلحة البلاد التي استوردته، أو لا يتفق معها أحياناً من الجانب الإقتصادي، وأحياناً من الجانب النفساني أيضاً. فاستيراد (الويسكي) مثلاً قلما يتفق مع مصلحة بلاد إسلامية عامة وبلاد عربية خاصة، وكذا استيراد سيارات الكاديلاك غالباً واستيراد فرو السيدات في البلاد التي تشرق عليها شمس المناطق الحارة.
هنا نلمس جانباً من الضعف المنطقي لا نكاد نختلف فيه، لأنه واضح تمام الوضوح، وهو يتصل بقضية نفسية وخلقية. ولكن هناك جانباً آخر يتعلق بسلوك المجتمع نفسه وموقفه، أمام الشيء المستورد باعتباره منتوجا حضارياً بصفة مطلقة، فلا بأس طبعا أن نستورد من الأشياء ما نسد به حاجاتنا الأساسية مؤقتاً، ولا بأس أن نستورد الطب والطبيب والمطبعة والأستاذ ومعلوماته، والصيدلي وأدواته والمهندس وآلاته، مادمنا نحن لا ننتج هذا كله. وإنما على شرط ألا تكوّن عندنا بعض العادات الفكرية، فتقلب ضمنا دون أن نشعر منطق الاجتماع، أن تكون عندنا بعض العقد النفسية فتربط اتجاهاتنا ودوافعنا بالشيء والشيئية.
فإننا إذا صغنا جملة مثل هذه: " إن المنتوج لا يكوّن المنتج بل المنتج هو الذي يكوِّن المنتوج "- فلن نختلف في مضمونها لأننا صغناها صياغة عامة واضحة، لا يختلف فيها اثنان، وسوف نتفق لا شك على أن هذه القاعدة المنطقية صحيحة دوماً، وعليه فلنتخذها مقياساً عاماً في الموضوع.
إننا حين حللنا الصورة الشمسية التي استخدمناها خلال حدينا، وجدنا في النهضة العربية بين سنوات (1868 - 1905)(عالم أشياء) جديداً، لم يعرفه آباؤنا في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر مثلاً، ووجدنا الأشياء في اليابان نفسه استوردها كما استوردناها نحن من الحضارة الغربية، ولكن كشف لنا التاريخ أن تلك الأشياء لم تؤد في نهضتنا الدور الذي أدته في نهضة اليابان.
فنستنتج من هذا أن الأشياء لا تؤدي مفعولها الاجتماعي تلقائياً، ولا تؤثر وحدها في صياغة العملية الاجتماعية، وإنما تؤثر بقدر ما يضاف إلى مفعولها من دوافع نفسية وتوجيهات فكرية معينة، فالشعب الياباني كان يريد بالأشياء التي استوردها خلال العهد الميجي، وسائل يواجه بها بناء حضارة: والبناء لا يتم بالأشياء مهما كانت صلاحيتها وثمنها، وإنما يتم بالدوافع التي تحرك تلك الأشياء،
والفكرة التي تربطها في العملية الاجماعية .. وعندما لا يكون في هذه العملية سوى الأشياء وحدها، فالنتيجة تصبح في حكم الصدف لا في حكم التقدير. وهذا ما وقع في نهضتنا العربية خلال النصف الأول من هذا القرن، فكنا كأننا نحاول بناء حضارة بمنتوجاتها. ومثل هذه العملية تتناقض بكل وضوح مع القاعدة المنطقية البسيطة، التي صغناها لتوضيح هذا الجانب مع التحفظ بنسبية الأشياء وطبيعتها، على أن القاعدة المنطقية في الرياضيات مثلاً تفصل بين الخطأ والصواب بمقدار الشعرة، أي المقدار الذي يسميه أهل الفن (الابسلون) .. أما القاعدة المنطقية في الاجتماع فإنها تفصل بين الخطأ بمقدار الشبر. وهذا الشبر يفصل في الحقيقة موضوع حديثنا بين خطئين: أي بين الإفراط والتفريط؛ وللنوعين من الخطأ كليهما معنى اجتماعي يفيد توضيحه هنا. فأما التفريط فهو ترك العملية الاجتماعية لقانون المصادفة مطلقاً، أي ترك العنان للأشياء تفعل ما تريد بتصرفها الاعمى. وهذا التصرف يقلب أولاً الوضع المنطقي الطبيعي معبراً عن عملية، تقوم على مبدأ تكوين المنتج من منتوجات، أي في مصطلح موضوعنا تكوين الحضارة ابتداء من المنتوجات الحضارية، فإن العملية صريحة المخالفة للمنطق البسيط من الجهة النظرية، ولكنها تخالف أيضاً ما يسمى المنطق العملي لأنها قائمة على استحالة مزدوجة: تنتج الاستحالة الأولى من عجزنا عجزا مسبقاً عن وضع قائمة للأشياء أو المنتجات الحضارية التي نحتاج لاستيرادها، لأن إحصاء عددها يفوق ما نتصور من الصعوبة، بمجرد عملية إحصائية، فضلاً عن أن عملية كهذه لا تنتهي لأن عدد الأشياء الحضارية يتزايد كل يوم، فالمحاولة إذن ضرب من العبث في هذا الوجه أولاً، ثم هي مستحيلة من وجه آخر.
فلو قدرنا أننا انتهينا بنجاح من عملية الإحصاء- وإنني أكرر عبث مثل
هذا الفرض- فسوف نجد أنفسنا أمام استحالة أخرى، تتصل بتمويل المشروع، لأن الميزانية التي يقتضيها تنفيذه تفوق إمكانيات أي مجتمع ناشئ، وتصعب حتى
على مجتمع متقدم مزوّد بالخبرة، كما نرى ذلك خلال (تجربة ألمانيا) بعد الحرب العالمية الثانية، التي حطم جهاز إنتاجها تحطيهاً كاملاً شاملا، من مصنع الإبرة إلى مصنع الصاروخ الذي كان يشرف عليه (برون) على شواطن بحر البلطيق.
واليوم- أي بعد عشر سنوات فقط- استرجعت ألمانيا عالم أشيائها بالجملة، بل زادت فيه آخر المنتوجات الصناعية، ولكن لم يفكر من أشرف في ألمانيا على عملية البعث الجديد في استيراد هذه الأشياء، لأن العملية مستحيلة من وجهة تصورها الفكري، ومن جهة تمويلها، ولو عززنا مشروع مارشال بالمليارات من الدولار.
ولكن أثر خطأ التفريط لا ينتهي عند هذه الاستحالة الفكرية والمادية، بل يتعدى إلى الجانب النفسي، لأن الشيء يفرض على الإنسان سيطرة خفية، تتجلى في حاجتنا إليه أو في إعجابنا به، وقلما تتجاوز سلطة الشيء حدود الإعجاب الفني عند من صنعه، لأن روح الصانع تشعر دوماً بعزتها أمام المصنوع، أما عند من يستورد الشيء فإن الوضع ينعكس: فإما أن يفقد الشيء تماماً فعاليته الاجتماعية لأننا لا نقدر قيمته، مثل جهاز ألكتروني دقيق يقع مصادفة في أيدي قوم بدائيين في أواسط إفريقيا، وإما أن يجد الشيء عندنا كل تقدير، ولكن يتجاوز تقديرنا له حدود الإعجاب الفني إلى إعجاب صوفي، فتطغى علينا سيطرة الشيء سيطرة يقترب معها من التقديس اللاشعوري، لأن الصلة النفسية بيننا وبينه ليست صلة الصانع بالمصنوع. وهكذا تتكون في المجتمع نزعة يمكن أن تؤدي في نهاية الأمر إلى ظهور حضارة شيئية، أي حضارة يطغى فيها الشيء على الإنسان. وربما تنتهي هذه النزعة تدريجياً إلى نزعة مادية بحتة. فهذا هو الجانب الخفي من حيث التفريط في عملية إنشاء حضارة ابتداء من منتوجاتها وأشيائها.
ولكن هنا، إلى الجانب الآخر جانب الإفراط كما ذكرنا. وهذا الخطأ
يكشف عنه تاريخ الحضارات التي سبقتها، فالحضارة المسيحية مثلاً لم تنشأ في أنبوبة مغلقة، أعني أنها لم تكوّن كل عناصرها من نفسها، في بادئ أمرها خاصة، فإن أحدث اختراعاتها من القمر الصناعي إلى الصاروخ الموجه، قائم على تطور علمي لا يمكن أن نتصوره، لولا علم الجبر أو علم المثلثات أو الحساب العشري، الذي يقوم على استخدام الصفر رقماً أساسياً .. فلولا هذه المقدمات العلمية التي هيأتها الحضارة الإسلامية للحضارة المسيحية، لما استطاعت هذه أن تغزو الفضاء اليوم. ولكن الحضارة المسيحية لم تستورد من البلاد العربية البضاعة العالمية فحسب، بل كانت تستورد معها أيضاً بعض الأشياء من منتوجاتها خاصة في بادئ أمرها.
كما أن الحضارة الإسلامية أيضاً كانت تتغذى وتتفاعل بثقافة اليونان وأشياء
من الهند بحكم التاريخ، لأنه لا يمكن لحضارة أن تنشأ في أنبوبة مغلقة لا يأتيها شيء من الخارج.
فالصواب إذن في الشبر الذي يفصل بين الإفراط والتفريط، وتحديده يتوقف على عملية تحليل للحضارة نفسها، باعتبارها مركباً لا يتكون في أصله من أشياء ومنتوجات حضارية، بل من أصول تفرضها طبيعة المنتوجات وشروط تطور الإنتاج.
فلنسلك هنا مسلك الكيميائي، الذي يريد أن يصنع مركب الماء مثلاً فإنه يأخذ منه مقداراً كافياً لإجراء عملية التحليل. فالمقدار الكافي بوصفه عينةٌ من الحضارة هو مانسميه المنتوج الحضاري، فأي شيء ينتجه المجتمع هو منتوج حضارة سواء أأنتجه بوسائل الإنتاج العادية أم أنتجه بالتفكير البحث، فكل مفهوم من عالم المفهومات وكل شيء من عالم الأشياء، وكل شخص من عالم الأشخاص باعتباره معادلة شخصية أنتجتها ظروف التاريخ وشروط التطور، كل عينة بين هذه العينات هي منتوج حضارة .. أي أن هذه العينات كلها- مع اختلاف
صورها وأشكالها وطبائعها- تكون من حيث تركيبها الاجتماعي نوعاً واحداً، هو نوع المنتوجات الحضارية، فلا غرابة إذن عندما أقول: إن القلم الذي يكتب هذه الكلمات مثلاً، والشخص الذي يكتبها، والكلمات نفسها والورقة التي تكتب عليها كلها من نوع واحد، من حيث تركيبها الاجتماعي. ولكنني إذا ماحللت القلم بوصفه عينة، والصفحة التي يكتب فيها، فإنني سأجد في العينتين كلتيهما ثلاثة عناصر مركبة:
الإنسان- التراب- الوقت
وهكذا تكون النتيجة دوماً كما استمرت عملية التحليل من عينة إلى أخرى،
من منتوج حضاري إلى آخر.
يمكن إذن أن نعبر عن كل منتوج حضاري بهذه المعادلة الأساسية:
منتوج حضاري = إنسان + تراب + وقت
ويجب الآن أن أكتب هذه المعادلة لكل منتوج من منتوجات الحضارة من الإبرة إلى ما بعدها، وإلى ما بعد الصاروخ، حتى أكوّن جدولاً كاملاً من المعادلات، الواحدة تحت الأخرى في هذا الترتيب مثلاً:
منتوج حضاري أول = إنسان + تراب + وقت
منتوج حضاري ثان = إنسان + تراب + وقت
إلخ ......... = ..........
منتوج حضاري أخير = إنسان + تراب + وقت
وحين أنتهي من ترتيب المعادلات بهذه الصورة، يمكن أن أجمعها عمودياً
على الطريقة المستخدمة في الجبر، وأنتهي حينئذ إلى هذه النتيجة الشاملة: جموع منتجات حضارية = جموع إنسان + جموع تراب + جموع وقت.
ولكن جمع منتوجات حضارية هو الحضارة نفسها في صورة غير مركبة، وجمع إنسان هو الإنسان نوعاً، وجمع تراب هو التراب نوعاً، وجمع وقت هو الوقت نوعاً. وبالتالي يمكن أن أكتب النتيجة التحليلية في صورتها النهائية:
حضارة = إنسان + تراب + وقت
ومن هذه المعادلة النهائية يمكن أن نستنتج استنتاجات نظرية مختلفة تدل
أولاً على أن الحضارة ليست، أساساً، تكديس منتوجات حضارية بل هي بناء مركب اجتماعي يشمل ثلاثة عناصر فقط، مهما كانت درجة تعقيدها كحضارة القرن العشرين. ثم إنها تزيل عن موضوع بناء هذا المركب الشبهات التي تعلق به من حيث الإمكانيات، إذ نرى أن هذه الإمكانيات بالنسبة لأي شعب محفوظة في رصيد الطبيعة، لا في رصيد البنك، يعني أن إمكانيات الشعوب تتساوى في أصلها.
ولكن المعادلة التي كتبناها في صورتها الأخيرة لا تتفق مع واقع التاريخ دون قيد أو شرط، لأن العملية لا تنتج تلقائياً كلما اجتمع الإنسان والتراب والوقت. إذ نرى في تاريخ الشعب الواحد فترات خالية من الحضارة، لأن الشعب لم يدخل في عملية التحضير، بل خرج منها في ظروف معينة، يقع فيها الأفول.
إن المعادلة التي انتهينا إليها ليست صحيحة إلا بشروط بينها التاريخ، لأنه
هو مختبر التجارب والعمليات الاجتماعية.
إننا عندما سلكنا في التحليل مسلك الكيميائي الذي يحلل عينة من الماء، وجدنا في جهاز التحليل كمية من غاز الهيدروجين وكمية من غاز الاوكسجين، ولكن عندما نحاول الرجوع من هذين العنصرين إلى الأصل نجد أنفسنا أمام استحالة، تدل على أن العملية صحيحة في التحليل وربما غير صحيحة في
التركيب. ولكن الكيميائي يرفع من ذهنه هذا الشك، لأنه متمسك بمبدأ عام، يقضي بأن المركب يتركب حتماً من العناصر التي ينتهي فيها تحليله، فيدرك بداهة أن الاستحالة التي وقف عندها هي صورية لا تمس بجوهر المركب. فالماء يساوي هيدروجين وأوكسجين سواء من حيث التحليل أو من حيث التركيب .. ولكن يجب اتباع طريق خاص في التركيب، وفعلاً لا يلبث الكيميائي أن يكتشف أن عملية تركيب الماء، تخضع لقانون المركب الذي يتدخل فيها في صورة شرارة كهربائية مثلا.
وهكذا يجب أن نلتفت نحن إلى مختبر التاريخ ليدلنا على المركب الذي يتدخل في تركيب العناصر الثلاثة: الرجل، التراب، الوقت، كيما يكون بها حضارة. ولا أريد هنا إطالة الكلام على تأثير الدين بصفته عاملاً مركباً للحضارة، فمن يدرس تاريخ الحضارة الغربية (تويني) أو (ماسيس) يرى أثر الفكرة المسيحية في تركيبها، وكذلك من يدرس الحضارة الإسلامية يرى في تركيبها أثر الشرارة التي نزلت من السماء على غار حراء .. وكذلك يرى من يدرس الحضارة البوذية أثر فكرة (كوتاما) بوصفها ديناً، في تركيبها.
ولكن حسب الاعتبارات الاجتماعية التي تنتج ما انتهى إليه التحليل، يتبين
أن المعادلة العامة التي وصلنا إليها تدل على أن مشكلة الحضارة لا تحل باستيراد منتوجات حضارية موجودة- مع الاحتفاظ بالصواب بين الإفراط والتفريط كما بينا- ولكنها تستوجب حل ثلاث مشكلات جزئية:
1 -
مشكلة الإنسان وتحديد الشروط لانسجامه مع سير التاريخ.
2 -
مشكلة التراب وشروط استغلاله في العملية الاجتماعية.
3 -
مشكلة الوقت وبث معناه في روح المجتمع ونفسية الفرد.
إنه يمكننا الآن في ضوء هذه الاعتبارات النظرية أن نقدر تقديراً سليما وضع النهضة العربية، من حيث غايتها ووسائلها وطبيعة مشاكلها.
إننا نعرف الآن أن المشررعات المخططة القائمة اليوم في الجمهورية العربية المتحدة، تهدف أساسا إلى تركيب حضارة وإلى تسريع السير نحو هذا الهدف، وإن وسائلها للوصول إليه هي الإنسان والتراب والوقت.
ونعلم أنها حين تأتي بالحلول المناسبة للمشكلات التي تتصل بهذه العناصر الثلاثة، تكون قد حققت شروط الانسجام مع سير التاريخ بالنسبة إلى ضرورات الداخل وضرورات الخارج. وتكون بذلك قررت مصير كل عربي وأسهمت إسهاما جديا في تقرير مصير الإنسانية.
إن النهضة العربية بلا شك دخلت في طور جديد منذ ثورة 23 تموز (يوليو) سنة 1952، ولا شك أن المشروعات التي وضعت للتنفيذ ستحقق طفرة استثنائية في تاريخ الأمة العربية. ولكنني أريد لو يسمح لي الوقت قبل كلمة الختام، أن أعبر عن وجهة نظري في ترتيب الصعوبات حسب درجتها وأهميتها، فإنني أرى أن توضع (مشكلة الإنسان) في الرتبة الأولى لأنه هو الذي يوجه الأشياء ويصنع الحضارة.
وختاماً أكرر شكري للذين أتاحوا لي فرصة الحديث معكم، وفي مقدمتهم حضرة السيد مدير الجامعة والسادة عمداء الكليات وهيئة التدريس.
وإنني لأرجو أن يجد الشباب العربي في رحاب هذه الجامعة خير مصنع، يصنع في عقله عدة الحضارة، وفي نفسه الاستعداد لبناء الحضارة العربية بناءها الجديد والسلام.
26/ 7/ 1959
***