المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الثقافة ألقيت في ندوة خاصة في طرابلس- لبنان يوم الأحد 28 - تأملات

[مالك بن نبي]

الفصل: ‌ ‌الثقافة ألقيت في ندوة خاصة في طرابلس- لبنان يوم الأحد 28

‌الثقافة

ألقيت في ندوة خاصة في طرابلس- لبنان يوم الأحد 28 من حزيران (يونيو) سنة 1959 ثم أعيدت كتابتها فيما بعد

ص: 139

سادتي:

ما هي الثقافة؟

إنني حينما أضع أمام عيني هذا السؤال فإن كثيرا من التجارب التي مرت بي، والذكريات التي سجلتها في حياتي تمر بخاطري. ذلك أن هذه الخواطر الذاتية هي التي تحدد موقفي أمام هذا السؤال. ولعلي في هذا الاعتراف أبدو أمام المستمعين الكرام، وكأنني أقف من المشكلة موقفاً غير موضوعي. ولكنني في الواقع أرى أن موقفي سوف يكون أقل موضوعية، حينما أحدده بأشياء خارجة عن نطاق حياتي وعن مجال تجربتي الشخصية.

لقد خصصت كتاباً لدراسة هذا الموضوع نفسه، ولم تكن المصادفة هي التي جعلتني أهتم بمثل هذا الموضوع، ولكن بعض الظروف التي لا أرى من المبالغة وصفها بأنها مرة هي التي أثارته في نفسي. فلقد كنت قبل أن أكتب عن الثقافة قد كتبت في مواضيع أخرى، منها خاصة كتاب عن (الظاهرة القرآنية) كتبت بهذا العنوان، وتمنيت لو ترجمته إلى العربية لسببين: أولهما أنني وجهته للشباب المسلم المتعرض لبعض الأفكار الهدأمة، وكنت أقدر أنه لن يصل إليه فعلا ما لم يترجم إلى العربية. وثانيهما أنني كنت أريد ذلك من أجل تحصين الكتاب نفسه، لأن بعض الظروف التي لا مجال لشرحها هنا كانت تقتضي مثل هذا التحصين حتى لا يضيع الكتاب بعد موت الكاتب.

فهذان السببان قد جعلاني أبحث عن وسيلة الترجمة في بلاد كل وسائلها، إما

في يد الإستعمار، وإما هي في يد من لا يحسن التصرف فيها.

ولقد بعثني هذا كله، أن أقدم كتابي إلى بعض الشخصيات في العالم العربي الإسلامي، لعله يكون في إحدى هذه الشخصيات من يقوم بإنجاز الترجمة على

ص: 141

نفقته ولحسابه أو لحساب من يهمه الأمر. فأرسلت نسخة من الكتاب مع التفاصيل اللازمة إلى ملك عربي أعلم أنه كان يتقرب إلى الله. وأخرى إلى ملك آخر كان يبدي حبه للكتب والكتاب. وزدت على ذلك أنني سلمت عدداً لا بأس به من النسخ إلى بعض السفارات الإسلامية والعربية في باريس، وانتظرت وطال الانتظار، ومرت أكثر من عشر سنوات، ولكن دون أن يأتيني رد من تلك الأطراف العالية، ولا من تلك السفارات، ودون أن تظهر ترجمة الكتاب في السوق.

فالتجربة هذه قد عشتها بنفسي، عشتها بفكري مرات، لأنني كلما وضعت مشكلة الثقافة أمام عيني عادت تفاصيلها إلى ذهني. وهي في كل مرة تزداد تفاصيلها وضوحا، وأرى فيها جانباً من المشكلة مفيدا لا يسعني طرحه منها مهما يكن من سلبيته.

فهي تعبر عن اختلال واضح في الحياة الثقافية في البلاد الإسلامية العربية، تعبر عن افتقارنا لبعض الشروط الأولية البسيطة، افتقاراً لا يوجد معه في هذا المجتمع شبكة للعلاقات الثقافية اللازمة تحيا فيها الأفكار، كما لا يوجد فيه الدفء الإنساني الذي يشعر به الكاتب، حينما يأتيه على الأقل جواب شكر يشجعه على المثابرة، في حين أن هذين الشرطين أساسيان للحياة الثقافية في أي بلد؛ غير أني لن أهتم في حديثي هنا إلا بتوضيح الشرط الأول الذي يتضمن قيماً اجتماعية، يمكن أن ندرك أهميتها من وجهة فنية، كما يمكن لنا أن نتخذ للدلالة على أهميتها مقاييس من حوادث التاريخ.

إن عصر النهضة في أوربا يزخر ببعض المظاهر ذات الدلالة في الموضوع.

فالمطبعة مثلا حينما استوطنت البلاد الأوربية على يد (غوتنبرغ) أحدثت فيها مشاريع مطبعية هأمة. أسهمت في صورة مباشرة في تعميم العلم ونشر الأفكار، ومن بين تلك المشاريع مشروع طبع (كتاب العهد القديم).

ص: 142

فقد قامت بطبعه مطبعة يشرف عليها في مدينة (أنفرس) ببلجيكا مستوطن فرنسي، تخصص في الطباعة العلمية المتقنة. ولقد كانت هذه المحاولة تهدف إلى نشر الكتاب المقدس باللغات القديمة، التي كتبتها ونطقت بها الأجيال في صدر المسيحية: مثل الآرامية والسريانية واليونانية واللاتينية. ومن الطبيعي أن مثل هذا المشروع يعتمد على مشاركة علماء هذه اللغات في تنفيذه. وهكذا اشترك فعلاً علماء من روما ومدريد ولندن وباريس وبرلين حتى أنجزوا العمل.

فلو أننا رسمنا خريطة نحدد فيها بلاد العلماء المشتركين في هذا المشروع،

فإننا نرى مدينة (أنفرس) من خلال إنجاز المشروع قد أصبحت وكأنها مركز هاتفي، تصل إليه من مختلف البلاد الأوربية خطوط تمثل شبكة الاتصالات الهاتفية، وصورة العلاقات هذه التي ربطها مشروع نشر ما يسمى طبعة اللغات من كتاب (العهد القديم)، هي في الواقع صورة لشبكة الثقافة في عصر النهضة مرسومة على الخريطة.

على أننا لو تساءلنا اليوم: هل تغيرت هذه الصورة في القرن العشرين،

نرى أن الجواب سوف يكون بالنفي. ودليلنا على ذلك أننا لو وضعنا مكان طبعة كتاب العهد القديم إنتاجاً فكرياً آخر كجهاز الراديو مثلاً، فإننا لا نرى على الخريطة شيئاً يختلف كثيرا في خريطة العلاقات التي أنتجت جهاز الراديو، عن صورة العلاقات التي أنتجت طبعة اللغات للعهد القديم. فهي الخريطة نفسها تمثل شبكة العلاقات الثقافية في البلاد الاوربية.

وهكذا فإنني حينما أقيس الآن تجربتي الشخصية بهذا القياس الذي استعرته

من الحضارة الغربية، فإنني أرى فيها ما يشير إلى أن شبكة العلاقات الثقافية لم تتكون بعد في المجتمع الإسلامي.

وإن محاولتي البسيطة في ترجمة أحد كتبي لا تدل على فقدان هذا الشرط

ص: 143

الأساسي للحياة الثقافية فحسب، ولكنها تدل أيضا على أنه ليس هناك لدى الشخصيات التي حاولتُ الاتصال بها أي اهتمام بالموضوع. هذا هو معنى تجريبي في حقل الثقافة، ومن هنا كان اقترانها بالسؤال الذي صدرت به الحديث أمراً ضرورياً.

ولكن هذا الجانب السلبي ليس بالجانب الوحيد الذي يجعلني أقف أمام القضية موقفا خاصاً. بل هناك أشياء أخرى تستدعيها ذاكرتي، كلما حاولت الخوض في مشكلة الثقافة. هناك صورة أخرى تعبر أيضاً عن جانب سلبي، وهي صورة أخذت هذه المرة من الحياة العأمة. فإن ذاكرتي إذ تمتد في هذا الحقل إلى أكثر من ربع قرن، فإنها بذلك تتضمن تجربة لا بأس بها. فلقد شاهدت خلال بعض المواقف السياسية في الجزائر جيلاً من السياسيين، يقفون من قضية مهمة بالنسبة للشعب الجزائري، وهي قضية الأمية، يقفون منها موقفاً جديرا بالملاحظة. فقد كتب هؤلاء السياسيون المقالات الطويلة لشرح هذا المرض الاجتماعي الخطير، موضحين نتائجه المنكرة في حياة الفرد، بما يضربون من الامثال المدعمة بالأرقام. وهم في هذا كله يهاجمون الإستعمار في خطب ملتهبة بالحماسة متقدة بالوطنية، لأنه يُجرم في حق الشعب الجزائري، إذ يتركه إلى جهله. وهكذا يستمرون في خطبهم ومقالاتهم حتى تنقطع أنفاسهم عن الكلام، ولا يبقى تحت أيديهم ورق يكتبون عليه.

وتمر الأعوام تلو الأعوام، والمشكلة لا تجد في مجهوداتهم حلها، وإنما تستفحل

في التعقيد، ذلك أنهم لم يدخلوا إلى المشكلة من طريق حلها.

ولقد استطاعت الحرب العالمية الثانية، أن تعطينا مثلاً للموازنة مما يوضح خطأ موقفنا السلبي أمام القضية. فقد كان من أول نتائج هذه الحرب، أنها قد غيرت الوضع السياسي بالنسبة ليهود الجزائر، على أثر سقوط المجهورية الثالثة

ص: 144

سنة1940م، وقيام حكومة فرنسية تساير طواعيةً أو كرهاً الموقف الذي حدده هتلر إزاء اليهود.

فقد أصدرت هذه الحكومة قوانين استثنائية قاسية في تنظيم التعليم في مختلف مراحله بالنسبة للطائفة اليهودية. وهكذا شعرت هذه الطائفة بأن أطفالها قد أصبحوا مهددين بالأمية، غير أنها لم تكتب مقالة واحدة تستنكر هذا الإجراء، ولم يلق واحد منها محاضرة عن هذا الأمر .. وإنما اجتمعت النخبة فيها ودرست المشكلة لكي تحدد موقفها منها، ولقد حددت فعلاً موقفها، بأن يتطوع كل ذي علم بقدر ما عنده من العلم، فيقوم بحصته من التعليم الابتدائي أو الثانوي أو العالي. وهكذا أصبح كل بيت من بيوت المتعلمين مدرسة في ساعات معينة. ولما وضعت الحرب أوزارها وأسفرت عن نتيجتها المعلومة، وارتفعت القوانين الاستثنائية التي صاغتها حكومة المارشال (بيتان) ضد الأطفال اليهود، ارتفعت دون أن تحقق أغراضها في المجتمع اليهودي، لأنه عرف كيف يتحصن ضدها.

هذه هي الصورة الثانية التي تمر بخاطري حينما أضع مشكلة الثقافة نصب عيني. فإن هذه الصورة توضح لي أي فرق بين موقف النخبة العربية الجزائرية، وموقف النخبة اليهودية من قضية واحدة يتمثل فيها خطر الأمية.

ولا نستطيع في حال من الأحوال أن نعزو الاختلاف في الموقفين إلى شروط مادية، فإن القوانين في هذه الحقبة كانت قاسية على كلا الجانبين. كما أننا لا نستطيع أن نرجعه إلى مجرد قضية علم وتعليم، لأنه ليس لنا أن نفترض مثلاً أن الطبيب أو الصيدلي أو المحامي اليهودي، علمه أغزر من علم زميله العربي الجزائري، فبرامج التعليم والكتب التي درسا عليها واحدة، وأحياناً كان أساتذهما موحدين. فالاختلاف في موقفهما الاجتماعي إزاء مشكلة معينة لا يمكن أن يعزى إلى شيء من ذلك في قليل أو كثير.

وإذن إلى أي شيء نرده؟

ص: 145

إننا في الواقع أمام حالتين تتصف إحداهما- طبقا للظروف التي تحيط بها كما ذكرنا- باللافعالية وتتصف الأخرى بالفعالية. وجوابنا على هذا السؤال إذن يمس بالضرورة قضية هأمة في حياة أي مجتمع، أعني بالضبط قضية الفعالية.

فالصورة الأولى التي ذكرتها تدلنا على أن المجتمع الإسلامي يفقد شبكة الاتصالات الثقافية. فالشخصيات التي يمكنها المساهمة ماديا في القيام بمشروع كهذا لا تشعر بأهيته، بل إنها لتقدم قضية شراء سيارة كاديلاك على مشروع ثقافي.

أما الصورة الثانية فإنها تكشف لنا عن ضعف الطبقة المثقفة نفسها في البلاد العربية والإسلامية أو في بعضها على الأقل. وإن هذا ليعني إذا قسنا بالقياس الذي نجده في مواقف طبقة مثقفة أخرى مثل يهود الجزائر، أن التعليم والعلم شيء والثقافة شيء آخر. فنحن نرى أن الطبيب الجزائري يتساوى مع زميله اليهودي أو يفوقه أحياناً فيما يتصل بالجانب المهني. ولكن الطبيب اليهودي يقف أمام مشكلة اجتماعية معينة غير الموقف الذي يقفه منها الأول. وهذا يعني بالتالي أنهما يتساويان في العلم ويختلفان في الثقافة.

وأرجو ألا يتبادر إلى أذهان المستمعين أنني- بعدما تحدثت عن أهمية شبكة الصلات الثقافية في مجتمع معين وعن فعالية الفرد فيه- إنما أضع القضية في سؤالين أو أكثر. فأنا حينما ذكرت هذه الأمثلة ذكرتها شاهداً فقط يوضح الموضوع، فأنا لم أذكرها لأدرس قضايا جزئية.

فالقضية واحدة لأن الكائن الإحتماعي كأي كائن حي يكون تلقائيا وسائله وأفعاله.

فالثقافة إذا ما تكونت في مجتمع نشأت فيه تلقائيا شبكة الصلات الثقافية، وتحددت فيه فعالية الفرد.

وإذن فالسؤال الذي نضعه أمام أعيننا واحد: ماهي الثقافة التي تنشئ

ص: 146

الصلات الثقافية في المجتمع وتخلق الفرد الفعال؟ وبهذه الصيغة الجديدة للسؤال الذي صدرت به الحديث أدخل إلى الموضوع.

لاشك أننا لاحظنا في أثناء الحديث أن الثقافة ليست مجرد علم يتعلمه الإنسان في المدارس ويطالعه في الكتب، فإن الصورة الثانية التي أوردناها أظهرت اختلافاً في السلوك لا في المعرفة .. والملاحظة تفرض علينا هنا أن نقدر هذا السلوك بوصفه نتيجة للوسط الذي تتكون فيه شخصية الفرد، ومن الطبيعي أن الوسط اليهودي في الجزائر يختلف عن الوسط العربي في هذا البلد، يختلف عنه بعاداته وأذواقه وأوضاعه النفسية والخلقية الخاصة به. ونحن إذا عددنا هذه العوامل هي التي تؤثر في تكوين الشخصية، لأنها تكون الجو العام الذي يحدد دوافع الفرد وانفعالاته، وصلاته بالناس والأشياء، فإننا نكون بهذا عرفنا الثقافة على أنها ذلك الجو المتكون من عادات وتقاليد وأذواق. وإذا نحن قد حللنا شيئاً ما هذه الكلمات فإننا- مع اعتبارنا لكل ما يطبع الشخصية في ظاهرها وباطنها- نقول بالتالي: إن الثقافة هي الجو المشتمل على أشياء ظاهرة، مثل الأوزان والألحان والحركات وعلى أشياء باطنة كالأذواق والعادات والتقاليد. بمعنى أنها الجو العام الذي يطبع أسلوب الحياة في مجتمع معين وسلوك الفرد فيه بطابع خاص، يختلف عن الطابع الذي نجده في حياة مجتمع آخر.

هذا هو معنى الثقافة، غير أن تحديدنا لها على هذه الصورة يجعلها في صورة غير مركبة. أعني في صورة لا تعطي أي فكرة عن تطبيقها في حين أن الغرض من الجهد الذي نبذله في موضوع كهذا، ليس هو مجرد المعرفة لمفهوم من الفاهيم ولكن من أجل تحقيقه في مجتمعنا. وإذن فلا بد لنا من أن نصنف عناصر الثقافة الذي ذكرناها من عادات، وتقاليد، وأذواق الخ .. تصنيفاً ينتهي إلى تطبيقه، كما يجب أن تنتهي كل عملية تحليلية ضرورية لفهم الأشياء، إلى عملية تركيبية ضرورية لتحقيق هذه الأشياء.

ص: 147

والحقيقة الأولى التي تبادر إلى أذهاننا هي أن الثقافة لا تستطيع أن تكون أسلوب الحياة في مجتمع معين كما ذكرنا، إلا إذا اشتملت على عنصر يجعل كل فرد مرتبطاً بهذا الأسلوب، فلا يحدث فيه نشوزاً بسلوكه الخاص. ونحن إذا دقتقنا النظر في هذا العنصر، فإننا نرى أنه لابد أن يكون خلقياً. فإذا قررنا وجود هذا العنصر بوصفه ضرورة منطقية اجتماعية، فإننا نكون بهذا قد وضعنا فصلاً هاماً من فصول الثقافة، وحققنا شرطاً أساسياً من شروطها وهو: المبدأ الأخلاقي.

ولو أننا اتخذنا الآن هذا المبدأ مقياساً يوضح لنا بعض الظواهر الاجتماعية، التي تعترضنا أحياناً في صورة ألغاز لا ندرك معناها، فسوف نجد مثلاً أن العلاقات الشخصية لا تقوم في أي مجتمع على غير أساس أخلاقي. ولا كانت شبكة الصلات الثقافية عبارة عن تعبير عن العلاقات الشخصية في مستوى معين، فإن هذه الشبكة لا يمكنها أن تتكون دون مبدأ أخلاقي. وهذا الجانب من القضية قد أصبح واضحاً الآن، فإن شبكة الصلات الثقافية تختل حتما في بلد ما، إذا اختل فيه المبدأ الأخلاقي، وإن هذه الحقيقة هي وحدها التي تفسر فشل التجربة التي ذكرتها في الصورة الأولى. وهي أيضاً تفسر لنا كيف أن فعالية المجتمعات تزيد أو تنقص بقدر ما يزيد فيها تأثير المبدأ الأخلاقي أو ينقص. فإن مواقفها إزاء المشكلات محددة بذلك المبدأ الذي يكون الشرط الأساسي لأفعالها، تحديداً ينظم فيها علاقات الأشخاص تنظيماً يناسب المصلحة العأمة، وليس ثمة أساس آخر يقوم بهذه المهمة.

فالمبدأ الأخلاقي يقوم بالضبط ببناء عالم الأشخاص، الذي لا يتصور بدونه عالم الأشياء، ولا عالم المفاهيم. ومن هنا كانت أهميته الكبرى في تحديد الثقافة في مجتمع ما. وفي توضيح الخلاف الجوهري بين الثقافة التي تتضمن بوصفها شرطاً أولياً تحديد الصلات بين الأفراد وبين العلم الذي لا يهتم إلا بالصلات الخاصة بالمفاهيم

ص: 148

والأشياء. فالرجل العالم قد يكون عنده إلمام بالمشكلة كفكرة، غير أنه لا يجد في نفسه الدوافع التي تجعله يتصورها عملاً. في حين أن الرجل المثقف يرى نفسه مدفوعاً بالمبدأ الأخلاقي الذي يكون أساس ثقافته إلى عمليتين: عملية هي مجرد علم، وعملية أخرى فيها تنفيذ وعمل. وبهذا يتضح لنا الخلاف الجوهري الذي يفسر لنا الصورة التي أوردتها شاهداً في صدر هذا الحديث (1).

غير أن المبدأ الأخلاقي في الثقافة لا يحدد الصلات داخل عالم الأشخاص فقط فيغذي فيه نزعته الإنسانية، بل نراه يبعث بإشعاعه إلى الخارج لتشمل نزعته الإنسانية أحياناً عالم الحيوان الذي يعيش مع الإنسان. فنجد في المجتمع المثقف شعراً رقيقا يعبر عن عواطف الإنسان إزاء رفيقه غير الناطق، كما نجد فناً يحاول أن يترجم بالنحت أو بالريشة عن عواطف الحيوان، كما يحدث في أحيان أخرى مبالغات في هذا الاتجاه حينما نرى مطاعم للكلاب وحمامات ومقابر. وهذه المبالغات تعبر في الواقع عن انحراف يحدث في المبدأ الأخلاقي لسبب سوف نحلله فيما بعد.

على أن الصلات الاجتماعية لا يحددها المبدأ الأخلاقي فقط بل إن الذوق الفطري يجعلها في صورة معينة. تتدخل فيها الاعتبارات الشكلية. ونحن نجد في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة أثر هذه الاعتبارات. فإن النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن ينقل حقيقة إلى من حوله، فنراه يعبر عنها أحياناً بصورة تتفق مع ما يتطلبه الذوق.

والإعتبارات الأخيرة هذه تعبر عن الأساس الثاني الذي تقوم عليه الثقافة، أعني ذوق الجمال الذي يطبع الصلات الاجتماعية بطابع خاص. فهو يضفي على

(1) نستطيع أن ندرك معنى فعالية المبدأ الأخلاقي في المجتمع حيث يدفع إلى تحقيق الأشياء من الآية التي يصف الله بها المؤمنين فيقرل: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [الموًمنون 62/ 23].

ص: 149

الأشياء الصورة التي تتفق مع الحساسية والذوق العام ألواناً وأشكالا. فإذا كان المبدأ الأخلاقي يقرر الاتجاه العام للمجتمع بتحديد الدوافع والغايات، فإن ذوق الجمال هو الذي يصوغ صورته. وهنا وجه آخر للفرق بين العلم والثقافة: فإن الأول تنتهي عمليته عند إنشاء الأشياء وفهمها، بينما الثانية تستمر في تجميل الأشياء وتحسينها. ومن هذه الناحية يعد ذوق الجمال من أهم العناصر الديناميكية في الثقافة، لأنه يحرك الهمم إلى ما هو أبعد من مجرد المصلحة، وهو في الوقت نفسه يحقق شرطاً من أهم شروط الفعالية، لأنه يضيف إلى الواقع الأخلاقي عند الفرد دوافع إيجابية أخرى، من شأنها أحياناً أن تعدل من بعض الدوافع السلبية، التي ربما يخلقها المبدأ الأخلاقي الجاف في سلوك الفرد، حينما يصطدم هذا السلوك الصادر عن مبدأ أخلاقي مجرد من الحساسية الإنسانية مع الذوق العام، كما تدلنا على ذلك بعض الأحاديث التي لا تعبر عن حقيقة الأشياء فقط، ولكن تعبر عنها في صورة مقبولة أيضا.

ونحن أيضاً نرى خلال مشاهداتنا اليومية أن كل نوع من النشاط يقوم على أساس الحركة. والتاريخ نفسه ليس إلا قائمة إحصائية لعدد معين من الحركات والأفكار، ولذلك فإنه من البديهي أن المجتمع الذي يسجل يومياً أكبر عدد ممكن من الحركات والأفكار، يكون لنفسه محصولاً اجتماعياً أكبر، فالفرد الذي يسير عشر خطوات، ويحرك يده عشر مرات، يقدم للمجتمع من الثمرات أكثر مما يقدمه فرد يسير خطوة واحدة ويحرك يده مرة واحدة. والاعتبارات البديهية هذه هي التي أدت إلى تحديد فكرة تبلور فيما يخص الإنتاج الصناعي، وإنها لتؤدي- في مستوى آخر- إلى تحديد مبدأ يخص الإنتاج الاجتماعي وهو مبدأ المنطق العملي.

وعندما نضيف هذا المبدأ الثالث إلى مفهوم الثقافة، فإننا نكون به شرطا هاماً من شروط الفعالية في الفرد وفي المجتمع. ولا بد لنا أن نلاحظ أن تطبيقه، يتضمن فكرة الوقت والوسائل البداغوجية لبث هذه الفكرة في سلوك الفرد وفي

ص: 150

أسلوب الحياة في المجتمع. ولا شك في أن هذا المبدأ سيزيد في وضوح الخلاف البعيد بين الثقافة والعلم، وبالتالي بين الفرد المثقف ومجرد العالم والمتعلم.

على أننا حتى هذه النقطة من حديثنا لم نشر إلا إشارة عابرة إلى عالم الأشياء، بينما نحن لا نتصور حياة الإنسان دون جانبها المادي. كما لا نتصور شيئاً لا يصدر عن فكرة معينة تتصل بطبيعتها بعالم المفاهيم. وإن هذا ليفرض علينا أن نحدد عنصراً رابعاً في الثقافة.

فالمبدأ الأخلاقي وذوق المجال والمنطق العملي لا تكون وحدها شيئا من الأشياء إن لم تكن في أيدينا وسائل معينة لتكوينه، والعلم هو الذي يعطينا تلك الوسائل. فالعلم أو الصناعة- حسب تعبير ابن خلدون- يكون عنصراً هاماً في الثقافة لا يتم بدونه تركيبها ومعناها، فهو إذن عنصرها الرابع.

وهكذا يتم تحديد الثقافة بطريقة لا ينبغي لنا فيها أن نفكر في عنصرآخر.

وأية إضافة على هذه العناصر الأربعة سوف تكون من فضول الحديث ولا حاجة بنا إليها. فالمبادئ الأربعة التي قررناها كفيلة بجمع شروط الفعالية، التي- كما بينا- هي الشيء الذي نريده من وراء كلمة (ثقافة)، ذلك أننا لو حللنا عملا ما على أنه كائن مركب ومشتمل على دوافع نفسية، فإننا نرى أن هذه الدوافع يبعثها المبدأ الأخلاقي في النفس، بعثاً لا يمكن معه أن يتصور هذا العمل بدونها عملا إرادياً. وهذا العمل يأتي بصورة معينة يحددها ذوق المجال، وبهذا يتم جزء من فعاليته؛ كما أن هذا العمل سنجده يؤدي للمصلحة الاجتماعية بقدر ما فيه من المنطق العملي الذي يحدد سعة إنجازه، وبه تمام جزء فعاليته الآخر. وهو أخيراً يطلب تطبيق أصول نظرية ووسائل مادية يقدمها العلم. وهل بعد تحديد دوافع العمل وصورته وسعة إنجازه ووسائله شيء يبقى دون أن يستكمل العمل صورته التأمة؟

لاشك أنه من الفضول تحديد العمل بشيء أكثر من هذا. وكل فضول في

ص: 151

تحديد أي شيء من الأشياء فإنه لا يزيد ذرة في وضوح معناه، بل لعله يخلق التباسا وبلبلة. فيجب علينا إذن أن نقول: إن الثقافة تشكل على أربعة فصول: فصل أخلاق، وفصل جمال، وفصل منطق عملي، وفصل علم.

على أننا لو تأملنا أخيراً في الموضوع، لوجدنا أن الترتيب بين هذه العناصر يختلف باختلاف الدوافع التي تدفع إلى العمل، وليس باختلاف الأصول النظرية والوسائل الفنية. وهذا يعني أن ذاتية الثقافة في نوعها تقوم على تقديم أو تأخير مبدأين اثنين منها: هما مبدأ الأخلاق ومبدأ الجمال. فالأولوية التي يمثلها أحد المبدأين في تركيب الثقافة يحدد ذاتيتها، كما يتحدد به اتجاه عام للحضارة التي تستند إلى تلك الثقافة. فلو حللنا على ضوء هذه الإعتبارات الإتجاه العام للحضارة المعاصرة، لعلمنا

أن دوافعها تصدر عن ذوق الجمال أكثر مما تصدر عن المبدأ الأخلاقي. وهذا يعني تقديماً وتأخيراً بين مبدأين أي ترتيبا ضمنيا لفصول الثقافة. ولعل هذا الترتب الذي حدد نوع الحضارة الغربية، يعود إلى عصر النهضة في أوربا. فمن المعلوم أن ذلك العهد قد نصب الجمال مثلا أعلى في أفق الثقافة الغربية. وهذا ما لاحظه تولستوي في كتابه (ما هو الفن) الذي يرى فيه أن فكرة الجمال بدأت تحتل المكان الأول في عصر النهضة، وأنها أستولت نهائيا على الشعور الغربي حوالي منتصف القرن الثامن عشر، عند ظهور دراسات (وينجهمان) التي تشير إلى أن المبدأ الأخلاقي قد اضمحل في الفن وسلم مكانه للجمال.

وإن هذه الإعتبارات لتدعونا إلى كثير من التأمل، في الوقت الذي بدأت فيه البلاد العربية الإسلامية تحدد نوع ثقافتها، في محيط من علاقاتها الثقافية مع البلاد المتحضرة بالحضارة العصرية. فإن التصرف الحكيم ينبغي ألا يفوتنا في مثل هذه الفترة، وذلك حتى لا يكون في البلاد حمامات للكلاب وفيها بعض الناس يموتون جوعاً، كما هو حاصل الآن في المجتمعات التي يستولي الجمال فيها على شعور القوم ويسيطر على ثقافتهم.

ص: 152