الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يكتبه العلماء قديمًا لأنفسهم أو لمريديهم؛ فإن بعضهم كانوا يكتبون ما يحدثون في صحيفة ويعطونها للمريدين فيحدثون منها، ولذلك يقال مثلًا: إن فلانًا ثقة وبعض روايته صحيفة. ومن هنا نشأت لفظة الصحفي كما سيأتيك.
على أن العلماء في أواخر القرن الأول كانوا يكتبون عن العرب ما يصيبونه من الشعر والخبر ونحوهما، ولكنهم لا يدون مثل هذا تأليفًا؛ وقد ذكروا أن كتب أبي عمرو بن العلاء "70-159هـ على الأكثر في التاريخين" التي كتبها عن العرب الفصحاء، قد ملأت بيتًا إلى قريب من السقف1؛ مع ذلك فلم يذكروا له تصنيفًا واحدًا.
ونظن أن أول من كتب عن العرب هو الحافظ الزهري الذي دون الحديث؛ فقد نقل الجاحظ في "البيان" عن أبي زياد قال: كنا لا نكتب إلا سنة، وكان الزهري يكتب كل شيء، فلما احتيج إليه عرف أنه أوعى الناس.
تاريخ الإسناد في الأدب:
قد علمت كيف كان بدء الإسناد في الحديث وما أمر الحاجة التي بعثت عليه وكيف انتهى إلى التدوين، أما تأريخ اتصال ذلك بالأدب فقد دللناك على أن العرب إنما جرت في إسلامها من أمر الشعر والخبر والنسب ونحوها على مثل عاداتها في جاهليتها، فلا جرم أنهم كانوا ينسبون أكثر ما يتناقلونه إلا أن النسبة غير الإسناد فيما اصطلح عليه الرواة؛ لأن الإسناد لا يراد به إلا شهادة الزمن على اتصال النسب العلمي بين راوي الشيء وصاحب الشيء المروي، حتى يثبت العلم بذلك على وجه من الصحة، كالدعوى التي تتلقى بثبتها من البينة، وهذا لا يستقيم إلا إذا صارت الرواية صناعة علمية، ولم يكن في العرب شيء من ذلك بالتحقيق، إلا بعد قيام دولة بني مروان حين اتخذوا المؤدبين لأولادهم؛ وذلك هو العهد الذي تسلسل فيه إسناد الحديث أيضًا لتشعب طرقه كما أومأنا إليه من قبل.
وأول إسناد عرف في الأدب كمان علميا بحتا، وذلك إسناد نصر بن عاصم الليثي إلى أبي الأسود الدؤلي في كتابه الذي وضعه في العربية وأشرنا إليه، ثم كان العلماء يروون المغازي، وهذه لا بد فيها من الإسناد وإن كان قصيرًا لقرب التابعين من عهدها الذي حدثت فيه ثم لما خيف على لسان العرب من الفساد ومست الحاجة إلى الكتابة عن العرب لصيانة اللغة والاستعانة على فهم القرآن والحديث وتجريد القياس في العربية وما إلى ذلك -نشأت الطبقة التي ابتدأ الإسناد في الأدب إلى رجالها:
1 قالوا إن أبا عمرو تنسك في آخر أيامه فأحرق هذه الكتب، وكان ذلك دأب طائفة من العلماء: يتورعون أن يأخذ الناس عنهم ما عدوه من سيئات أنفسهم فيسندوه إليهم، وقد يكون فيه الباطل والموضوع والمنكر وما لا يعرفه إلا صاحبه؛ ومنهم من كان يغسل كتبه؛ لأنها جلود، وأغرب ما وقفنا عليه أن حافظ أهل الكوفة ومحدثها محمد بن العلاء بن كريب المتوفى سنة 243هـ "أي: بعد أن نضجت العلوم" أوصى أن تدفن كتبه معه فدفنت.... فإن لم يكن هذا هو الحب الميت فلا ندري ماذا يكون، وقد ظهر لمحمد هذا بالكوفة 300 ألف حديث، قالوا: وكان ثقة مجمعًا عليه.
كحماد الراوية، وأبي عمرو بن العلاء، وغيرهما، وصارت الرواية علمية محضة، وبهذا تحقق معنى الإسناد في الاصطلاح، وكان ذلك بدء تاريخه في الأدب.
ثم ظهرت الطبقة التي أخذت عن هؤلاء، وكانوا جميعًا إنما يطلبون رواية الأدب للقيام به على تفسير ما يشبه من غريب القرآن والحديث، حتى لا تجد فيهم ألبتة من لا رواية له في الحديث كثرت أو قلت، والمحدثون يرون أنه ليس براو عندهم من لم يرو من اللغة1؛ لأن موضوع الحديث أقوال النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أفصح العرب، ولذا لا يمكن أن يقيموا آراءهم في غريب الأثر ومشتبه الحديث إلا لما يحتجون به من الشعر وكلام العرب، مرويا بسنده أو مأخوذًا عمن يسنده؛ انتفاء مما عسى أن يرموا به من الوضع والصنعة، وتابعهم الفقهاء بعد ذلك، فجعلوا المهارة في الشريعة والحذق بالفقه والبراعة في الفتيا مفتقرة إلى الأصلين: الكتاب والسنة، وأقسام العربية، حتى إن الشافعي رحمه الله قال إنه طلب اللغة والأدب عشرين سنة لا يريد بذلك إلا الاستعانة على الفقه.
وقد رأت تلك الطبقة التي أشرنا إليها أن ما بعث على الإسناد في الحديث قد تحقق في الأدب، من افتعال اللغة والتزيد في الأخبار والصنعة في الشعر، وأرادوا أن يطرد علمهم من ينبوع واحد، فجعلوا الصنفين سواء في الرواية وأوجبوا الإسناد فيهما جميعًا.
ولم يكن الإسناد واجبًا قبل ذلك على نحو ما هو في الحديث، وأنت تعتبر هذا بأن كل أسانيد الأدباء على اختلاف عصورهم إنما تنتهي إلى الطبقة الأولى فحسب، كأبي عمرو بن العلاء، وحماد الراوية، وغيرهما ممن تصدروا للرواية وكانوا ظهور هذه الصناعة في السماع والتدوين، ولا تكاد تجد رواية واحدة يتصل سندها إلى الجاهلية في شيء من الشعر والخبر، وإنما يكتفون بالنسبة إلى أولئك؛ لأنهم في أول تاريخ الرواية؛ ولأنهم جميعًا يزعمون أنهم أخذوا أكثر ما يروونه عن قوم أدركوا عرب الجاهلية أو نقلوا عمن أدركهم2. ولم يكن من سبيل إلى رد ما تناقلوه عن الجاهلية؛ لأنه كان كل ما في أيدي الرواة.
1 ورواة الأدب هم الذين جعلوا غريب الحديث علمًا وخصوه بالتدوين، وأول من فعل ذلك منهم أبو عبيدة معمر بن المثنى المتوفى سنة 211هـ وقد ناهز المائة؛ فإنه جمع من ألفاظ غريب الحديث والأثر كتابًا صغيرًا ذا أوراق معدودة، لبقية من المعرفة كانت في الناس يومئذ؛ ولأنه مبتدئ مثالًا جديدًا؛ ثم جمع النضر بن شميل المتوفى سنة 204هـ كتابًا أكبر من ذاك شرح فيه وبسط، ثم الأصمعي المتوفى سنة 213هـ، ثم قطرب المتوفى سنة 206هـ، ثم وضع أبو عبيدة القاسم بن سلام المتوفى سنة 224هـ كتابه الذي قرر به هذا الفن، جمعه في أربعين سنة وكان خلاصة عمره؛ لأنه تتبع الأحاديث وآثار الصحابة والتابعين فجمع منها ما احتاج إلى بيانه بطرق أسانيدها وحفظ رواتها، ثم تعقبه ابن قتيبة المتوفى سنة 276هـ فتتبع ما أغفله في كتاب ذي مجلدات عدة؛ وتتابع أهل اللغة بعد ذلك على التصنيف في هذا الفن مما لا محل لبسطه في هذا الموضع.
2 رأينا في كثير من الكتب أن أبا عمرو بن العلاء روى عامة أخباره عن أعراب قد أدركوا الجاهلية؛ وذلك خطأ ركبه النساخ، والصواب أنه روى عن أعراب قد أدركوا أعراب الجاهلية؛ لأن أبا عمرو ولد سنة 70هـ وتوفي سنة 159هـ على الأكثر في التاريخين، وكان لا يأخذ إلا عن العرب؛ قال الأصمعي: جلست إليه عشر حجج ما سمعته يحتج ببيت إسلامي.