الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يصححون1؛ ولا يكون التصحيح إلا بلقاء العلماء والرواة والمتقدمين في صناعتهم المتقنين لما حفظوه والإسناد إليهم؛ وقد هجا بعض الشعراء أبا حاتم السجستاني المتوفى سنة 250هـ وهو واحد عصره في فنه، فلم يزد على أن قال في عيبه والزراية عليه:
إذا أسند القوم أخبارهم
…
فإسناده الصحف والهاجس
وأورد العسكري في موضع من كتابه "التصحيف" شرح البيت لابن مقبل، فنبه قبل إيراده على أنه كتبه من كتب لبعض العلماء، قال:"ولا أضمن عهدته؛ لأني لا أعتد إلا بما أخذته رواية من أفواه الرجال أو قرأته عليهم".
فلما كان القرن الخامس وابتدأت الرواية تعفو وتجود بأنفاس أهلها، بعد أن تميزت العلوم ووضعت فيها الكتب الكثيرة، ودونت روايات الصدور المتقدمين -ضعف أمر الإسناد شيئا غير قليل، ولكن بقيت فيه بقية يتماسك بها، حتى إن أبا محمد الأعرابي المعروف بالأسود العلامة النسابة الذي تصدر في القرن الخامس للرد على العلماء والأخذ على القدماء كان لا يستطيع أن يروي بغير إسناد؛ فكان يسند إلى رجل مجهول يسميه "محمد بن أحمد أبا النداء" وكان أبو يعلى بن الهبارية الشاعر يعيره بذلك ويقول: من أبو النداء في العالم؟ لا شيخ مشهور ولا ذو علم منشور2!
1 أحصى العسكري المتوفى سنة 382هـ في كتابه "التصحيف والتحريف" ما وهم فيه جلة العلماء وأفراد الرواة من البصريين والكوفيين، وكتابه أجمع ما وضع في هذا الباب، وقد طبعت منه قطعة في مصر.
2 قال ياقوت "عن أبي محمد الأعرابي": كان علامة نسابة عارفًا بأيام العرب وأشعارها وأحوالها.... وكان لا يقنعه أن يرد على أهل العلم ردا جميلًا، إنما يجعله من باب السخرية التهكم وضرب الأمثال
…
وقال: رأيت في بعض تصانيفه، وقد قرئ عليه سنة 428هـ.
والعجيب أن ياقوتًا ترجم أبا النداء المجهول وقال: واسع العلم راجح المعرفة باللغة وأخبار العرب وأشعارها..... ثم صرح أنه استدل على ذلك برواية الأسود عنه في كل كتبه.... مع أنه لا يعرف له شيخًا ولا تلميذًا غير الأسود هذا!
إسناد الكتب:
ومن يومئذ صار أمر الإسناد مقصورًا على تلقي الكتب العلمية وروايتها بالسند عن مؤلفيها؛ لأن العلم كان قد نضج وكملت فنونه، ثم كان لسان العرب قد اختبل وكان أمرهم قد اختل، فلم تعد الرواية عنهم تجدي شيئا، وذلك ما سميناه آنفًا بالأسانيد العلمية. وكان سماع الكتب وروايتها عن مؤلفيها معروفًا من أول عهد التأليف، ولكنه لم يكن مما يتباهى به إلا منذ بدأت الرواية تضعف في القرن الرابع، وحين كثرت الكتب، فكان الصولي الأديب المتوفى سنة 335هـ يتباهى عظيمًا بكتبه وهي مصفوفة وجلودها مختلفة الألوان، ويقول: هذه الكتب كلها سماع! وقد هجي بذلك؛ لأن الناس لم يكونوا قد ساروا هذه السنة بعد1.
1 المحدثون يشترطون مع سماع الكتب مقابلة ما يكتبه المحدث بأصل شيخه الذي كتب عنه، أو بأصل أصل شيخه المقابل به، بشرط أن يكون الأصل الثاني قوبل على الأول، أو بفرع مقابل بأصل السماع، وليس من هذا شيء في الأدب.
ومن ثم صاروا يطلقون لفظ "الصُّحُفي" على من يأخذ من الكتب بنفسه دون أن يتلقاها بإسناد معروف إلى مؤلفيها، حتى إنهم لما عابوا الحسن بن أحمد النحوي "في أواخر القرن الخامس" وكان يحسن كتاب سيبويه في النحو، قالوا: إنما كان في فهم الكتاب صُحُفيا.
وكان موفق الدين النحوي المتوفى سنة 858هـ آية عصره في النحو، ولم يكن أخذه عن إمام، إنما كان يحل مشكله بنفسه، ويراجع في غامضه صادق حِسّه، فلما جرت المناظرة بينه وبين عمر بن الشحنة النحوي المشهور وظهر فيها موفق الدين هذا، لم يكن لابن الشحنة قرار إلا أن قال له: أنت صحفي! يعيبه بذلك، فسافر موفق الدين من إربل إلى بغداد ولحق بها مكي بن ريان، فقرأ عليه أصول ابن السراج وكثيرًا من كتاب سيبويه، ولم يفعل ذلك حاجة به إلى إفهام، وإنما أراد أن ينتمي على عاداتهم إلى إمام1.
ومن كان ثقة مسندًا للكتب وفاته إسناد كتاب مما يعده الناس من الأمهات والأصول، عدوه متساهلًا في الرواية، وقد نقل ياقوت أن علي بن جعفر المعروف بابن القطاع الصقلي "من صقلية" إمام وقته بمصر في علم العربية وفنون الأدب المتوفى سنة 515هـ؛ لما قدم إلى مصر سأله نقاد المصريين عن كتاب الصحاح، فذكر أنه لم يصل إليهم، قال: ولذلك نسبوه إلى التساهل في الرواية، ثم لما رأى اشتغالهم به ركب لهم إسنادًا وأخذه الناس عنه مقلدين له2. ولهذا قلما كان يظهر كتاب لإمام في فنه إلا سارع الناس إلى قراءته عليه، ورحلوا إليه في ذلك بغية الانتماء وتحقيق الإسناد؛ وقد ذكروا أن بعضهم كان يقرأ المقامات على الحريري "توفي سنة 516هـ" فوصل إلى قوله:
يا أهل ذا المغني وقيتم شرا
…
ولا لقيتم ما بقيتم ضرا
قد رفع الليل الذي اكفهرا
…
إلى ذراكم شعثًا مغبرا
فقرأها "سغبًا معترا" ففكر الحريري ساعة ثم قال: "والله لقد أجدت التصحيف، فرب شعث مغبر غير سغب، والسغب المعتر موضع الحاجة، ولولا أني كتبت بخطي إلى هذا اليوم على سبعمائة نسخة قرئت علي لغيرته كذلك! ".
ولا يزال إسناد كتب الحديث وبعض كتب العربية معروفًا عند كبار العلماء إلى اليوم.
1 كان موفق الدين مفتتنًا في العلوم، ولكنه كان الآية الكبرى في العربية، وقالوا إنه لما رحل إلى بغداد أخذ معه جملة لينفقها على النحو، فلم يجد من يرضيه علمه فأنفقها على تعلم الضرب بالعود
…
وكان مكي الذي انتمى إليه يراجعه في المسائل المشكلة يرجع إلى رأيه في أجوبة ما يورد عليه.
2 أول من أدخل كتب اللغة والنحو إلى مصر ورواها بأسانيدها هو الوليد بن محمد التميمي النحوي المشهور بولاد، وأصله من البصرة، ولكنه نشأ بمصر، ثم رحل وأخذ عن المهلبي تلميذ الخليل بن أحمد وغيره، وروى كتب اللغة والنحو، ولم يكن بمصر قبله شيء منها، وتوفي سنة 263هـ، وسنذكر في تاريخ الأدب الأندلسي أول من أدخل كتب الأدب إليها.