الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرواة: علومهم - أنواعهم
علوم الرواة:
واعلم أن من طريقتنا في هذا الباب أن لا نعد من الرواة كل من اقتنى علمًا من علومهم، أو قبس أدبًا من آدابهم، وإن جاء ذلك على شرط الرواية وأدبها؛ فلو أنا عددنا من أمثال هؤلاء لكان لنا منهم باب واسع "في الترادف التاريخي" يهجن نسق الكتاب ويزري على سبكه، ويتنزل منه منزلة الجملة التي تجمع مترادفات، وكان في كلمة منها أو كلمتين البلاغة كلها؛ فلما كثرت وتقطع بها نسق المعنى ذهب آخرها بفضل أولها ولم يغن أولها عن آخرها شيئًا، إنما نذكر من الرواة الأفراد الذين ذهبوا بمآثر العلوم، وكانوا مشيخة الأجيال، وانقادت لهم أزمة الأسانيد، واتخذ التاريخ منهم أقطاب رحاه؛ وقل من هؤلاء من لا يجمع علوم الرواية كلها أو أكثرها بحسب ما يكون منها في عصره، من النسب، والخبر والشعر، والعربية، واللغة بيد أنهم قد تفاوتوا في مقادير الإحسان من ذلك كله؛ فطائفة غلب عليها النسب، وأخرى ذهبت بمزية الشعر، وثالثة انفردت بعلم الأخبار، وهلم جرا؛ وسنصرف الكلام في هذا الفصل إلى التنظير بين رجال هذه الطبقات على ما أعلمناك من طريقتنا؛ فإن فيها غناء وكفاية.
النسب:
أما رواية النسب فقد كانت عامة في العرب، وكانوا ينسبون حتى الخيل والإبل والكلاب، ما كرم عليهم من هذه الأجناس "كما نسبت طائفة من الإسلاميين الحمام".
والنسب يستتبع رواية أخبار العرب وما فيه شاهد على التاريخ من أشعارها؛ فكان كل أولئك علم النسابين، وقد اجتمع من رؤسائهم في القرن الأول: عبيد بن شرية الجرهمي، وانفرد باتساعه في رواية الأخبار المتقدمة وما يسمونه بالعلم الأول إلى مبدأ الخليفة، عربها وعجمها، وبالحكمة والخطابة والرياسة، وقد ذكرنا أمره مع معاوية في محله، ودغفل بن حنظلة، وأبو الشطاح اللخمي، وقد جمع بينهما معاوية وتناظرا في فنون كثيرة، جاءا في جميعها بالنادر الغريب، حتى صارت مناظرتهما مثلا يضرب لكل ما يجري بين اثنين من الكلام البديع الذي يتدفق بالحكمة والبيان، وكان دغفل أوسع أهل زمانه رواية في أنساب العرب خاصة، وأخبارها وعلومها في الجاهلية، كالأنواء وغيرها؛ وقد تصادر مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه في حديث في النسب، ودغفل يومئذ غلام قد بقل وجهه، فكان أمره مع أبي بكر كما قال:
صادف درء السيل درءًا يدفعه
…
يهيضه حينًا وحينًا يصدعه
ثم النخار بن أوس، وهو دون أصحابه يجري في قص النسب على طريقة الكهان من السجع والتشبيه، لفضل في بيانه وبسطة في لسانه، وكانت له حكمة تزين ذلك؛ دخل على معاوية أول عهده
به فازدراه، وكان عليه عباءة خلقة فقال: يا أمير المؤمنين، إن العباءة لا تكلمك، وإنما يكلمك من فيها!
ويجري في هذه الطريقة عبد الله بن عبد الحجر، وهو ممن وفدوا على معاوية أيضًا.
وهؤلاء ومن كان في طبقتهم: كزيد بن الكيس النمري، وابن لسان الحمرة، وصحارى العبدي، والمختار العدوي، وصبح الطائي، وميجور بن غيلان الضبي، هم رؤساء النسابين، وإليهم تنتهي الرواية، وكان علمهم مقصور على الجاهلية، وطرف من الإسلام.
وامتاز في أواخر هذه الطبقة، صعصعة بن صوحان، وكانت الرواية عند بعد الإسلام في أخبار العرب خاصة، وكان ابن عباس على سعة حفظه كثيرًا ما يسائله ويذاكره، وقد لقبه بباقر علم العرب.
واشتهر من قريش أربعة بأنهم رواة الناس للأشعار وعلماؤهم بالأنساب والأخبار، وكل ما كان قرشيا فهو عند العرب طبقة متميزة. والأربعة هم: مخرمة بن نوفل بن وهب بن عبد مناف، وأبو الجهم بن حذيفة، وحويطب بن عبد العزي، وعقيل بن أبي طالب.
وكانت قريش في الجاهلية دون غيرها من العرب تعاقب شعراءها القليلين إذا هجا بعضهم بعضًا؛ أما النسابون فكانوا يحمقون منهم من يروي المثالب ويقع في أعراض الناس؛ لأن ذلك هو الهجاء المنثور؛ وهم يريدون بهذا الإزراء أن يسقطوا شأن الرواية إذا شاعت له قالة السوء، حتى تخرج قبيلته مما يلحق بها انتسابه إليها واكتسابه على نفسه، أو تذهب الأحدوثة عنه بصدق الأحاديث منه اتقاء للذم بالذم، وقد كان عقيل واحد الأربعة في ذكر مثالب الناس، فعادوه لذلك وقالوا فيه وحمقوه، وسمعت ذلك منهم دهماء الناس فألف فيه بعض أعدائه الأحاديث وقرنوه فيها إلى الحمقى والمغمورين، فجعلوه بجانب أخيه علي بن أبي طالب، كعتبة بن أبي سفيان بجانب أخيه معاوية، ومعاوية بن مروان بجانب أخيه عبد الملك؛ وإنما كان عقيل رجلًا قد كف بصره، وله بعد لسانه ونسبه وأدبه وجوابه، فلما فضل نظراءه بهذه الخصال، صار لسانه بها أطول، وصار هو بذلك أجرأ وأشد صولة.
تلك هي الطبقة الأولى وما امتازت به، أما الطبقة الثانية فهي التي أخذت على هؤلاء، ونشأت منتصف القرن الأول، وكان أهلها مبدأ الرواية في الإسلام، وهم يتناولون أخبار العرب وأنسابهم وما حدث في الإسلام إلى العهد الذي هم فيه، ويضمون إلى ذلك أنساب الصحابة وطبقاتهم، وأشهرهم في أخبار العرب: قتادة بن دعامة السدوسي المتوفى سنة 117هـ، والشعبي نديم عبد الملك بن مروان، وهو مفنن يمتاز عن سائر الرواة بذلك، حتى كانوا في القرن الثاني يلقبون من يجمع بين الفقه والحديث والشعر وأيام الناس والأنساب ونحوها "بشعبي زمانه"؛ وممن أطلقوا عليه هذا اللقب، القاسم بن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود الصحابي الجليل، وكان على قضاء الكوفة1،
1 ونقل الجاحظ أن عبد الله بن شبرمة كان فقيهًا عالمًا قاضيًا، وكان راوية شاعرًا، وكان خطيبًا ناسبًا، وكان حاضر الجواب مفوهًا، ثم قال: وكان لاجتماع هذه الخصال فيه يشبه بالشعبي.