الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العربية واللغة:
ونريد بالعربية النحو؛ والكلام فيه سابغ الذيل: إذ يتناول تاريخه وأهله ومذاهبهم فيه ومن انفرد منهم ببعض المذاهب ومن شارك، إلى ما يداخل ذلك ويلتحق به؛ وهو فن من التاريخ لا صلة له بما نحن في سبيله الآن، إلا من جهة استتباعه للشعر واللغة، ومن جهة أنه كان مثار الخلاف بين الطائفتين العظيمتين من البصريين والكوفيين، منذ تجاروا الكلام في مسائله؛ وقد تقدم لنا صدر من القول في الجهة الأولى، ونحن نردفه بفصل موجز عن الجهة الثانية؛ ثم نمسك سائر ما يتعلق بهذا النحو إلى موضعه من باب العلوم إن شاء الله.
وأما اللغة فقد أجمعوا على أنه لا معول في روايتها على أهل الكوفة، وأما أهل البصرة فقالوا إن منهم أصحاب الأهواء، إلا أربعة، فإنهم كانوا أصحاب سنة، وهم: أبو عمرو بن العلاء، والخليل بن أحمد، ويونس بن حبيب، والأصمعي؛ وهم يريدون بذلك التثبت والتحري، وتوثيق الرواية والأمانة في النقل والأداء؛ لأن هؤلاء الأربعة كانوا أركان الرواية في اللغة والعربية. ورأيناهم ذكروا أئمة اللغة الذين امتازوا دون سائر الرواة في الإسلام بما حفظوه منها، فقالوا: إن الأصمعي كان يحفظ ثلث اللغة، وكان الخليل بن أحمد يحفظ نصف اللغة1، وكان أبو فيد مؤرج السدوسي "من تلامذة الخليل" يحفظ الثلثين، وكان أبو مالك عمرو بن كركرة الأعرابي يحفظ اللغة كلها؛ قالوا: وكان الغالب عن أبي مالك حفظ الغريب والنوادر "وهي حقيقة المراد باللغة كما شرحناه في موضعه".
وجاءت هذه الرواية من وجه آخر بأن الأصمعي يجيب في ثلث اللغة؛ وأبو عبيدة في نصفها، وأبو زيد الأنصاري في ثلثيها، وأبو مالك الأعرابي فيها كلها؛ وإنما يريدون توسعهم في الرواية والفتيا؛ لأن الأصمعي كان يضيق ولا يجوز إلا أصح اللغات ويلح في دفع ما سواه، وكان شديد التأله: لا يفسر شيئًا من القرآن، ولا شيئًا من اللغة له نظير واشتقاق في القرآن، وكذلك كان يتحرج في الحديث، ثم كان لا يفسر شعرًا يوافق تفسيره شيئًا من القرآن، ولا ينشد من الشعر ما كان فيه ذكر
1 امتاز الخليل عن سائر الرواة في الإسلام بشدة العقل وثقوب الفراسة ودقة الفطنة والاستنباط، فهو مدون اللغة، وواضع العروض، ومستخرج المعمى، ومتمم النحو، حتى قالوا فيه: إنه أذكى العرب وأجمعهم، كما أن ابن المقفع أذكى العجم وأجمعهم، وقد نفس عليه الجاحظ هذه الصفات؛ فذمه في كتاب "الحيوان" بما لا يذم مثل الخليل؛ إذا قال: إنه "غره من نفسه حين أحسن في النحو والعروض، فظن أنه يحسن الكلام وتأليف اللحون، فكتب فيهما كتابين لا يشير بهما ولا يدل عليهما إلا المرة المحترقة، ولا يؤدي إلى مثل ذلك إلا خذلان من الله" وهذا من تعنت الجاحظ.
الأنواء ولا يفسره، لقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا ذكرت النجوم فأمسكوا". ولم يكن ينشد أو يفسر شعرًا يكون فيه هجاء1، ومن ثم فاته أبو عبيدة وأبو زيد، ولما وضع أبو عبيدة كتاب "المجاز في القرآن"2، وقع الأصمعي فيه وعاب عليه تأليف هذا الكتاب، وقال: يفسر القرآن برأيه! فسأل أبو عبيدة عن مجلس الأصمعي في أي يوم هو، ثم قصد إليه وجلس عنده وحادثه، ثم قال له: يا أبا سعيد، ما تقول في الخبز؟ قال: هو الذي تخبزه وتأكله. فقال: فسرت كتاب الله برأيك؛ قال الله تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا} [يوسف: 36] ! فقال له الأصمعي: هذا شيء بان لي فقلته ولم أفسره برأيي. فقال أبو عبيدة: وهذا الذي تعيبه علينا كله شيء بان لنا فقلناه ولم نفسره برأينا.
بيد أن الأصمعي امتاز في رواة اللغة بالشعر ومعانيه، وانفرد أبو زيد دون الثلاثة بالنحو وشواهده؛ وهو الذي يعنيه سيبويه إذ قال في كتابه: "وحدثني من أثق بعربيته
…
"3 وفاتهم أبو مالك بالغريب والنوادر؛ أما أبو عبيدة فإنه استبد بهم جميعًا في العلم بأيام العرب وأخبارهم وعلومهم، وكان يقول: ما التقى فرسان في جاهلية ولا إسلام، إلا عرفتهما، وعرفت فارسيها! وقال فيه الجاحظ: ليس في الأرض خارجي ولا إجماعي أعلم بجميع العلوم من أبي عبيدة!
وكان أبو زيد وأبو عبيدة يخالفان الأصمعي ويناويانه كما يناويهما؛ فكلهم كان يطعن على صاحبه بأنه قليل الرواية، وكانت اللغة متنازعة بينهم، فيتفق الصاحبان وينفرد الأصمعي وحده بالخلاف، والكوفيون لا يرون فيهم ولا في الناس أعلم باللغة من الفراء المتوفى سنة 207هـ، وكان من رءوسهم وقالوا فيه: إنه لولاه لما كانت اللغة؛ لأنه حصلها وضبطها، ولولاه لسقطت العربية؛ لأنها كانت تنازع ويدعيها كل من أراد، ويتكلم الناس على مقادير عقولهم وقرائحهم فتذهب.
ثم انتهى علم اللغة في البصريين إلى ابن دريد، وهو خاتمة رواتهم وآخر ثقاتهم، لم تفتح بعده
1 كان الرواة المتورعون يرون الشعر من عمل الشيطان وهو عبث لا ثواب فيه، ولم يكونوا يطلبونه إلا لأنه وسيلة الثواب؛ إذ يتوصل به إلى اللغة والعربية، وهما إنما يرادان للقيام بهما على فهم كتاب الله وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وأول من تحرج في ذلك من الرواة، أبو عمرو بن العلاء؛ فكان إذا دخل رمضان لا ينشد بيتًا حى ينقضي، ولما تقرأ خلف الأحمر وزهد في آخر أيامه، كف عن الشعر فلم يتكلم فيه، وقد بذلوا له مالًا كثيرًا ليتكلم في بيت منه فأبى؛ أما قبل أبي عمرو فكان لا يتأثم من إنشاد الشعر إلا الغلاة في الزهد والنسك، ولقد روى الأصمعي هذا الورع المتحرج أنه قيل لسعيد بن المسيب "من التابعين": ههنا قوم نساك يعيبون إنشاد الشعر؛ فقال: نسكوا نسكًا أعجميا!
2 وضع أبو عبيدة هذا الكتاب حين قدم بغداد على الفضل بن الربيع بعد أن تقدم الفضل إلى إسحاق الموصلي في إقدامه، وكان سبب وضعه أن بعض الكتاب سأله في مجلسه عن قوله تعالى:{طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} وقال: إنما يقع الوعد والإيعاد بما قد عرف مثله، وهذا لم يعرف؛ فقال أبو عبيدة: إنما كلم الله تعالى العرب على قدر كلامهم، أما سمعت قول امرئ القيس:
"ومسنونة زرق كأنياب أغوال"
وهم لم يروا الغول قط، ولكنهم لما كان أمر الغول يهولهم أوعدوا به، ثم انتبه أبو عبيدة إلى مثل هذا في القرآن فلما رجع إلى البصرة عمل كتابه.
3 وكل ما في كتاب سيبويه: وقال الكوفي كذا، فإنما يعني به أبا جعفر الرؤاسي شيخ نحاة الكوفة وأستاذ الكسائي والفراء.