الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وظائف الحفاظ في اللغة:
وقد أخذ أهل اللغة في هذه الوظائف أخذ المحدثين واتبعوا سنتهم فيها لتعلق ما كان في اللغة بما كان في الحديث كما علمت؛ ولأن هذه العلوم كانت سواء في طلبها لقوام الدين والتماسها لفضل الاستبانة
وتلك الوظائف أربع كلها ترجع إلى بث العلم ونشره، وهي:
1-
الإملاء: وهذه هي الوظيفة العليا عند المحدثين واللغويين، وطريقتها واحدة عند الطائفتين: يكتب المستملي أول القائمة: مجلس أملاه شيخنا فلان بجامع كذا1 في يوم كذا
…
ويذكر التاريخ ثم يورد المملى بإسناده كلامًا عن العرب الفصحاء فيه غريب يحتاج إلى التفسير، ثم يفسره ويورد من أشعار العرب وغيرها بأسانيده، ومن الفوائد اللغوية بإسناد وغير إسناد ما يختاره. وقد كان هذا في الصدر الأول فاشيًا كثيرًا لتحقق معنى الرواية به، ثم مات الحفاظ وانقطعت الأسانيد وبطلت أسباب الرواية واعتمد الناس على الدواوين والكتب المصنفة، فانقطع إملاء اللغة واستمر إملاء الحديث لوجود الإسناد فيه وتحقق السماع.
قال السيوطي: ولما شرعت في إملاء الحديث سنة 872هـ وجدته بعد انقطاعه عشرين سنة، من سنة مات الحافظ أبو الفضل ابن حجر2 أردت أن أجدد إملاء اللغة وأحييه بعد دثوره، فأمليت مجلسًا واحدًا فلم أجد له حملة ولا من يرغب فيه فتركته. قال: وآخر من علمته أملى على طريقة اللغويين، أبو القاسم الزجاجي: له أمال كثيرة في مجلد ضخم، وكانت وفاته سنة 239هـ ولم أقف على أمال لأحد بعده. ا. هـ.
هكذا قال في "المزهر"؛ وهو بعيد؛ لأن مجالس الإملاء بقيت آهلة إلى منتصف القرن
1 كان العلم كله مسجديا، وأول من بنى المدارس في الإسلام نظام الملك، وقد أشرنا إلى ذلك في الفصل الأول من الكتاب. ثم بنيت دور خاصة بعلم الحديث وأول من بناها نور الدين صاحب دمشق المتوفى سنة 569هـ، وقد بنى غيرها مدارس كثيرة لأهل المذاهب، ثم حذا حذوه السلطان الصالح بمصر، فهو أول من بنى دار الحديث فيها.
2 ابن حجر هو إمام الحفاظ في زمنه، انتهت إليه الرحلة والرياسة في الحديث، فلم يكن في الدنيا بأسرها من يذكر معه في ذلك، وتوفي سنة 852هـ وأملى أكثر من ألف مجلس؛ وكانت سنة الإملاء في الحديث قد دثرت قبله أيضًا فأحياها حافظ عصره الإمام زين الدين العراقي المتوفى سنة 806هـ وقد ابتدأ الإملاء من سنة 796هـ. وهو أحد الخمسة الرؤساء الذين انفردوا في العالم العربي على رأس المائة الثامنة. وهم: العراقي هذا بالحديث، الشيخ سراج الدين البلقيني يفقه الشافعي، وشمس الدين الغماوي بالنحو والاطلاع على العلوم، ومجد الدين صاحب القاموس، باللغة؛ وسراج الدين بن الملقن بكثرة التصانيف والفقه في الحديث.
وكان آخر من مات من هؤلاء الرؤساء، صاحب القاموس، فإنه توفي سنة 817هـ.
ولم نعلم أحد جدد إملاء الحديث بمصر بعد السيوطي على سنة المتقدمين غير الزبيدي شارح القاموس المتوفى سنة 1205هـ؛ أما إملاء اللغة فلم يبق له وجه بعد أن وضعت فيها المعاجم الواسعة، ولذا لم يشرع فيه أحد ولا يمكن أن يسمى ما يزاول من مثل ذلك إملاء بعد انقطاع الأسانيد. والله أعلم.
الخامس، وقد أملى كثيرون بعد الزجاجي، وأورد السيوطي نفسه في "بغية الوعاة" في ترجمة الأديب محمد بن أبي الفرج الصقلي المعروف بالذكي "427-516هـ" وكان قيمًا باللغة وفنون الأدب، قال: إنه ورد إلى بغداد وخراسان وجال في تلك البلاد حتى وصل إلى الهند.... وحضر مرة "مجلس إملاء" محمد بن منصور السمعاني فأملى المجلس، فأخذ عليه الذكي أشياء، وقال: ليس كما تقول، بل هو كذا؛ فقال السمعاني: اكتبوا كما قال فهو أعرف به، فغيروا تلك الكلمة وكتبوا كما قال الذكي؛ فبعد ساعة قال: يا سيدي أنا سهوت والصواب ما أمليت؛ فقال: غيروه واجعلوه كما كان. فلما فرغ من الإملاء وقام الذكي، قال السمعاني: ظن المغربي أني أنازعه في الكلام حتى يبسط لسانه في كما بسطه في غيري، فسكت حتى عرف الحق ورجع إليه!
ولكن يمكن أن يقال إن خاتمة أهل الإملاء على طريقة المتقدمين هو إمام العربية في عصره أبو السعادات ابن الشجري المتوفى سنة 542هـ، وله كتاب "الأمالي" في فنون الأدب يقع في أربعة وثمانين مجلسًا.
2-
الإفتاء في اللغة: أي الإجابة عما يسأل عنه اللغوي، وهي وظيفة أدبية لا مجال فيها للتاريخ، وإنما ألبسوها هذا التعبير؛ لأنها تناظر وظيفة من وظائف المحدثين والفقهاء؛ ومن أدب المفتي في اللغة أن يقصد التحري والإبانة والإفادة، والوقوف عندما يعلم والإقرار بما لا يعلم، وأن لا يحدث برأيه من غير سماع، وأن يصير في الشيء الذي لا يعرفه إلى من يعرفه غير مستنكف، وأن لا يصر على غلطه إذا أخطأ في شيء ثم بان له الصواب من بعد؛ فإن الرجوع عن الخطأ خروج إلى الصواب، وقد وصفوا الذي يصر على خطئه ولا يرجع عنه بأن "كذاب ملعون". ومتى سئل عن شيء من الدقائق التي مات أكثر أهلها فلا بأس أن يسكت عن الجواب إعزازًا للعلم وإظهارًا للفضيلة. قالوا: وإذا فسر غريبًا وقع في القرآن أو في الحديث فليتثبت كل التثبت وليتقص كل الاستقصاء؛ فإنهما هو علم لا يراد للمناقشة والشهوة ولا يبتغي به عرض الدنيا.
وليس يخفى أن تلك الآداب هي جملة الأخلاق العلمية وجماع الفضائل الأدبية، ولا تكون إلا في العالم الذي يطلب علمه لفضيلته وكرمه، وقد أخذ بها أفاضل المحدثين وأماثل الرواة، وبها محص هذا العلم العربي ونما وطرح الله في ألسنة أهله البركة، وله سبحانه الحمد والمنة.
3 و 4- الرواية، والتعليم: والمراد بهما أن يتعلم ويعلم، فيخلص النية في طلب العمل والتماسه ولا يبتغي من تعليمه المنالة والكسب، وإنما يصد إلى نشره وإحيائه، فيلزم جانب الصدق ولا يفتأ يتحرى لنفسه وينصح لغيره، وإذا كبر ونسى ولم يجد له عزمًا وخاف التخليط أمسك عن الرواية ليتحقق إخلاصه1؛ وقد نقلوا أن الرياشي رأى أبا زيد الأنصاري وقد قارب من سنه المائة فاختل
1 هذا إذا نسي الرواية أكثر علمه، أما إن نسي خبرًا أو بعض أخبار فلا. ومن أرقى آداب الرواية أن الحافظ ربما نسي الخبر فيذكره به أحد من رواه عنه من تلامذته أو غيرهم فإذا صح عنده وعرف أن هذا الخبر من روايته، رواة ثانية ولكن لا عن شويخه بل عمن ذكره به وإن كان تلميذه، إقرارًا بالحق وقيامًا بما اصطلحوا عليه مما سموه شكر العلم، فيقول الشيخ عند رواية ذلك الخبر: حدثني فلان "يعني تلميذه" عني، وحدثني فلان "يعني شيخه الذي روى عنه في الأصل" إلى آخر السند، وذلك شروط عند أهل الحديث، وقد صنفوا كتبًا فيه سموها "رواية الأصاغر".