الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تمهيد
الفصل الأول: الأدب- تأريخ الكلمة
…
تمهيد:
الفصل الأول: الأدب.
الأدب: تاريخ الكلمة.
تقلبت هذه اللفظة في العربية على ثلاثة أدوار لغوية، تتبع ثلاث حالات من أحوال التاريخ الاجتماعي؛ فهي لم تكن معروفة في الجاهلية وصدر الإسلام إلا بما يؤخذ من معناها النفسي الذي ينطوي فيه وزن الأخلاق وتقويم الطباع والمناسبة بين أجزاء النفس في استوائها على الجملة، وكل ما هو من هذا الباب؛ ومنه الحديث الشريف: $"أدبني ربي فأحسن تأديبي". ولعل ذلك كان توسعًا منهم في أصل مدلول الكلمة الطبيعي، على ما هو معروف من أمرهم في اشتقاق اللغة وانتزاع بعضها من بعض؛ فإنهم يقولون: أدب القوم يأدبهم أدبًا، إذا دعاهم إلى طعام يتخذه. والقوم أهل بادية مقفرة تأكل فيها الشمس حتى ظلها، وتشرب نسيمها وطلها، فإذا هلك فيها الزاد هلك حامله، وإذا لم يدفع عن نفسه بأسلحة فمه فالجوع قاتله؛ ولذلك تمدحوا من أقدم أزمنتهم بالقرى وعدوه من أعظم مفاخرهم؛ لأنه شريعة الطبيعة التي أدبتهم هذا الأدب، بل هو شعرها في أخلاقهم، إذ ارتقى بعد ذلك بارتقاء الشعر حتى تخرقوا فيه، كما يؤثر عن كرمائهم وأجوادهم مما استوعبته كتب المحاضرات.
فلما كان هذا الخلق مظهر الخيم الصالح فيهم، وحقيقة الأدب الطبيعي منهم، وأرقى معاني الإنسانية عندهم؛ لأنه ليس وراء إمساك الحياة على الحي غاية، توسعوا فيه بمقدار ما بلغوا من رقي الآداب، وجعلوه تعريفًا نفسيا كما مر؛ ولا بد أن يكون ذلك بعد أن ارتقوا في اجتماعهم، واشتبكت العلائق بينهم، حتى أخذت الفطرة الطبيعية تمتزج في أكثرهم بما يخالطها من صنعة الاجتماع، وكان ذلك سببًا في انتباههم في هذا الوضع؛ لأن الأدب على اختلاف معانيه إنما هو رد النفس إلى حدود مصطلح عليها اصطلاحًا وراثيا.
ثم لما جاء الإسلام ووضعت أصول الآداب، واجتمعوا على أن الدين أخلاق يتخلق بها، فشت الكلمة، حتى إذا نشأت طبقة المعلمين لعهد الدولة الأموية كما سيجيء، أطلق على بعض هؤلاء لفظ المؤدبين، وكان هذا الإطلاق توسعًا ثانيًا في مدلول "الأدب" لأنه اكتسب معنى علميا إذ صار أثرًا من آثار التعليم.
ثم استفاضت الكلمة وكانت مادة التعليم الأدبي قائمة بالرواية من الخبر والنسب والشعر واللغة
ونحوها، فأطلقت على كل ذلك، ونزلت منزلة الحقائق العرفية بالإصلاح؛ وهذا هو الدور الثالث في تاريخها اللغوي، وهو أصل الدلالة التاريخية فيها.
وقال ابن خلدون في حد الأدب: "هذا العلم لا موضوع له ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها، وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته، وهي الإجادة في فني المنظوم والمنثور على أساليب العرب ومناحيهم، فيجمعون لذلك من كلام العرب ما عساه تحصل به الملكة، من شعر عالي الطبقة، وسجع متساو في الإجادة، ومسائل من اللغة والنحو مبثوثة أثناء ذلك متفرقة يستقري منها الناظر في الغالب معظم قوانين العربية، مع ذكر بعض من أيام العرب ليفهم به ما يقع في أشعارهم منها، وكذلك ذكر المهم من الأنساب الشهيرة، والأخبار العامة. والمقصود بذلك كله أن لا يخفى على الناظر فيه شيء من كلام العرب وأساليبهم ومناحي بلاغتهم إذا تصفحه
…
ثم إنهم إذا أرادوا حد هذا الفن قالوا: الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها والأخذ من كل علم بطرف. ا. هـ.
فهذا كما ترى ثبت لما قررناه؛ لأن كل ما عدوه من موضوع الأدب إنما هو مادة الرواية، وعلى ذلك يستحيل أن يكون معنى الأدب الاصطلاحي جاهليا، ولا أن يكون من مصطلحات القرن الأول؛ لأن الكلمة لم تجئ في شيء من شعر المخضرمين ولا المحدثين، وقد كانوا أهلها ومورثيها من بعدهم لو أنها اتصلت بهم أو كانت منهم بسبب. والعجب أنك تجد لهم القوافي الطويلة على الباء وقد استوعبوا فيها الألفاظ، إلا مادة الأدب ومشتقاتها، مع أنه ليس أخف منها عند المتأخرين ولا أعذب ولا أطرب ولا أعجب، والسبب في ذلك ما ذكرناه وما نذكره.
بلى، قد روى صاحب "العقد الفريد" في باب الأدب من كتابه كلمة أسندها لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما وهي قوله:"كفاك من علم الدين "أن تعلم"1 ما لا يسع جهله، وكفاك من علم الأدب أن تروي الشاهد والمثل"، ومقتضى ذلك أن "علم الأدب" كان بالغًا من الإتساع في عهد ابن عباس حتى صار أقل ما لا يسع جهله منه رواية الشاهد والمثل للقرآن والعربية، وهو نهاية الغرابة والشذوذ؛ لأن ابن عباس توفي فيما بين سنة 68 و74هـ، على اختلاف أقوال المؤرخين، ولم يكن يومئذ بالتحقيق ما يصح أن يسمى علم الأدب.
وقد تناقل المتأخرون هذه الرواية عن العقد الفريد دون أن ينتبهوا لما فيها من فساد الدلالة التاريخية، ولكن الصحيح أن الكلمة لمحمد بن علي بن عبد الله بن عباس، كما أسندها إليه الجاحظ في كتاب البيان. ومحمد هذا هو أصل الدولة العباسية؛ لأنه أبو السفاح أول الخلفاء العباسيين، وتوفي سنة 125 وقيل 126هـ، ومما يرجح فساد تلك النسبة إلى ابن عباس، قول عمرو بن دينار فيه: ما رأيت مجلسًا كان أجمع لكل خير من مجلس ابن عباس: الحلال والحرام والعربية والأنساب والشعر. ولو كان لفظ الأدب معروفًا يومئذ لاجتزأ به وطوى فيه الثلاث؛ فالكلمة إذن من موضوعات القرن الثاني، أي: بعد أن بلغت الدولة الأموية مبلغها من المجد العربي.
1 سقطت هذه الكلمة من نسخ العقد الفريد.
أما في القرن الأول فقد كانوا يسمون ما يقرب من ذلك بـ"علم العرب" كما ذكره المسعودي في "مروج الذهب" إذ نقل عن المدائني حديثًا تصادر عليه ابن عباس وصعصعة بن صوحان، وفيه أن ابن عباس بعد أن سأل الرجل عن قومه وعن الفارس فيهم ونحو ذلك مما يتعلق بالأيام والمقامات قال: أنت يابن صوحان باقر علم العرب1. وما كان الأدب الاصطلاحي بأكثر من هذا العلم يومئذ.
وبعد أن عرفت حدود الأدب في القرن الثاني واشتهرت الكلمة، بقيت لفظة "الأدباء" خاصة بالمؤدبين، لا تطلق على الكتاب والشعراء، واستمرت لقبًا على أولئك إلى منتصف القرن الثالث، ومن ذلك كان منشأ الكلمة المشهورة "حرفة الأدب" وأول من قالها الخليل بن أحمد صاحب العروض المتوفى سنة 175هـ، وذلك قوله كما جاء في "المضاف والمنسوب" للثعالبي:"حرفة الأدب آفة الأدباء"؛ لأنهم كانوا يتكسبون بالتعليم ولا يؤدبون إلا ابتغاء المنالة، وذلك حقيقة معنى الحرفة على إطلاقها2.
فلما فشت أسباب التكسب بين الشعراء في القرن الثالث، وبطلت العصبية التي كانت تجعل للشعر معنى سياسيا فاتخذوه حرفة يكدحون بها، وجعلوه مما يتدرع به إلى أسباب العيش، جائزة خليفة أو منادمة أمير أو ما دون ذلك من الأسباب أيها كان انتقل إليهم لقب الأدباء، للمناسبة بين الفئتين في الحرفة، ولم يلبثوا أن استأثروا به لتوسعهم في تلك الأسباب.
ثم جاء ابن بسام الشاعر المتوفى سنة 303هـ فجعل "الحرفة" نبزًا، وأخرجها عن وضعها اللغوي إلى معنى مجازي غلب على حقيقتها واستبد بها فأرسلها مثلًا. وذلك فيما رثى به عبد الله بن المعتز حين قتل في سنة 296هـ ودفن في خربة بإزاء داره بعد جلال الإمارة وعزة الملك إذ يقول:
لله درك من ميت بمضيعة
…
ناهيك في العلم والآداب والحسب
ما فيه لو ولا ليت فتنقصه
…
لكنما أدركته "حرفة الأدب"
وهذا هو أصل الكلمة التي تعاورها الأدباء، واعتبرها الشعراء ميراثًا دهريا إلى اليوم، وإنما يتناولها ابن بسام من لغة العامة، وطبعها على شيء من عبث أخلاقه التي بلغت من هجاء الأمراء والوزراء وذوي المكانة من الناس إلى هجاء أبيه وإخوته وسائر أهل بيته حتى سنها طريقة، فيقال لمن يقفو أثره في عبث اللسان:"إنه يجري في طريق ابن بسام".
ثم صارت الآداب من يومئذ تطلق أيضًا على فنون المنادمة وأصولها، وأحسب ذلك جاءها من
1 الباقر: المتبحر في العلم، وبه سمي محمد بن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم لتبحره.
2 يقال: أحرف الرجل إحرافًا، إذا نما ماله وكثر، والاسم الحرفة من هذا المعنى. قال قطرب: والحرفة عند الناس: الفقر وقلة الكسب، وليست من كلام العرب، إنما تقولها العامة.
طريق الغناء؛ إذ كانت تطلق عليه في القرن الثالث؛ لأنه بلغ الغاية من إحكامه وجردت فيه الكتب، وأفردت له الدواوين من مختارات الشعر، كما سنفصله في موضعه، وكانوا يعتبرون معرفة النغم وعلل الأغاني من أرقى الآداب، وفيها وضع عبيد الله بن طاهر من ندماء الخليفة المعتضد بالله المتوفى 289هـ كتابه "الآداب الرفيعة"1. لذلك قال ابن خلدون: إن الغناء في الصدر الأول كان من أجزاء هذا الفن "الأدب" وكان الكتاب والفضلاء من الخواص في الدولة العباسية يأخذون أنفسهم به حرصًا على تحصيل أساليب الشعر وفنونه.
وقد ألف كشاجم الشاعر الرقيق الذي كان طباخ سيف الدولة بن حمدان كتابه "أدب النديم" أودعه ما لا يستغني عن شريف، ولا يجوز أن يخل به ظريف؛ وهو مطبوع مشهور. وعلى هذه الجهة قال أبو القاسم إسماعيل بن أحمد الشجري من شعراء القرن الرابع أيضًا، وقد جمع "حرف" الآداب:
إن شئت تعلم في الآداب منزلتي
…
وأنني قد عداني العز والنعم
فالطرف والسيف والأوهاق تشهد لي
…
والعود والنرد والشطرنج والقلم2
وكل ذلك إنما كان في تاريخ البلدين، أما الأعراب فلم يجر عليهم حكم الأدب، ولم يتناولوا الكلمة على إصطلاحها، وإنما اتخذ بعضهم لقب الأديب يتمدح به على جهة ما ينشأ عنه من معاني الرقة الحضرية التي تقابل في طباعهم الجفاء ولوثة الأعرابية، كقول بعضهم، أنشده الجاحظ:
وإني على ما كان من عنجهيتي
…
ولوثة أعرابيتي لأديب3
ولم ينتصف القرن الرابع حتى كان لفظ "الأدباء" قد زال عن العلماء جملة، وانفرد بمزيته الشعراء والكتاب في الشهرة المستفيضة، لاستقلال العلوم يومئذ وتخصص الطبقات بها، على ما كان من ضعف الرواية ونضوب مادتها حتى قالوا:"ختم تاريخ الأدباء بثعلب والمبرد". وكانت وفاة المبرد سنة 258هـ، وثعلب سنة 291هـ؛ فيكون ختام تاريخ الأدباء "أي: المعلمين" في أواخر القرن الثالث، ومن يومئذ أخذ الأدب يتميز عن علم العربية، بعد أن كانوا يعدون "الأدباء" أصحاب النحو والشعر، وإن كان ذلك بقي موضوع علم الأدب؛ ومن هذا أنه لما وضع علي بن الحسين المعروف بالباخرزي4 كتابه "دمية القصر" الذي جعله ذيلًا على "اليتيمة" للثعالبي، عقد فيه فصلًا "لأئمة الأدب" قال في أوله: "هؤلاء قوم ليس لهم في دواوين الشعر رسم، ولا في قوانين الشعراء اسم" ثم ترجم طائفة من علماء اللغة: كأبي الحسين بن فارس صاحب "فقه اللغة"، وابن جني النحوي، وأسد
1 تصلح هذه الكلمة أن تكون تعريبًا لما ترجمه المتأخرون "بالفنون الجميلة" Beaux arts وعبيد الله هذا كان نادرة في الغناء، قال صاحب الأغاني: إنه توصل إلى ما عجز عنه الأوائل من جمع النغم كلها في صوت واحد تتبعه هو وأتى به.
2 الطرف: الكريم من الخيل، والأوهاق: جمع وهق، قال الليث: هو الحبل المغار يرمي في أنشوطه فتؤخذ به الدابة والإنسان، وغرض الشاعر أن يجمع حرف الكدية التي ينال بها، وسيأتي تفصيل ذلك في بحث الشعر.
3 العنجهية: الحمق والجهل، واللوثة: الهيج والحمق أيضًا، والمراد بكل ذلك جفاء الأخلاق.
4 نسبة إلى باخرز: ناحية من نواحي نيسابور، وقتل علي هذا في بعض مجالس الأنس 467.
العامري، والجوهري صاحب "الصحاح"، وتلميذه أبي صالح الوراق1، فدل صنيعه على أن الشعراء، يومئذ كانوا هم المستبدين بلقب الأدباء، ولا يزالون على ذلك إلى اليوم وإلى ما شاء الله؛ لأن معنى الأدب قد استحجر فعاد لغويا كأنه كذلك في أصل الوضع، من جهة الدلالة به على الشعراء والكتاب.
1 وكذلك ألف الفرزدقي القيرواني المتوفى سنة 479هـ في تراجم اللغويين والنحاة كتابًا سماه "شجرة الذهب في معرفة أئمة الأدب"، دع عنك كتب طبقات "الأدباء" في تراجم القوم، وهي مشهورة.
المؤدبون:
وقد أشرنا إلى المؤدبين فيما سبق، ونحن ذاكرون طائفة منهم تتبعنا أسماءهم فيما بين أيدينا من كتب الأدب والتاريخ؛ لأنهم كانوا مادة هذه الكلمة، وإنما قيل لهم المؤدبون تمييزًا لهم من المعلمين الذي اختصوا بإقراء صبيان العامة في الكتاتيب، فإن هؤلاء لم يكن يطلق على أحدهم إلا لقب المعلم، وقد جعلوهم مثلًا في الحمق حتى قالوا:"الحمق في الحاكة والمعلمين والغزالين" ثم جعلوا الحاكة والغزالين أقل وأسقط من أن يقال لهم حمقى؛ لأن الأحمق هو الذي يتكلم بالصواب الجيد ثم يجيء بخطأ فاحش، وليس عند هؤلاء صواب جيد في مقال ولا فعال، فبقي الحمق في عرفهم خاصا بالمعلمين.
أما المؤدبون فهم الذين ارتفعوا عن تعليم أولاد العامة إلى تعليم أولاد الخاصة أو أولاد الملوك المرشحين للخلافة، وأخذهم بفنون الآداب: كالخبر والشعر والعربية ونحوها، ولذا كانوا يسمونها "علوم المؤدبين".
قال الجاحظ: مر رجل من قريش بفتى من ولد عتاب بن أسيد وهو يقرأ كتاب سيبويه، فقال: أف لكم! علم المؤدبين وهمة المحتاجين1.
على أن المؤدبين كانوا عندهم على ضربين: أصحاب العلوم، وأصحاب البيان وكانوا يخصون هؤلاء بالأثرة، قال ابن عتاب:"يكون الرجل نحويا عروضيا، وقسامًا فرضيًا2، وحسن الكتابة جيد الحساب، حافظًا للقرآن راوية للشعر، وهو يرضى أن يعلم أولادنا بستين درهمًا، ولو أن رجلًا كان حسن البيان حسن التخريج للمعاني ليس عنده غير ذلك لم يرض بألف درهم". ومن ثم اختص مشاهير العلماء والرواة بتأديب أولاد الخلفاء والأمراء.
فمن المؤدبين أبو معبد الجهني، وعامر الشعبي، كانا يعلمان أولاد عبد الملك بن مروان، وهما أقدم المؤدبين فيما وقفنا عليه3؛ ويزيد بن مساحق، أدب الوليد بن عبد الملك أيضا؛ وعبد الصمد بن الأعلى، أدب الوليد بن عبد العزيز؛ والجعد بن درهم، كان يعلم مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية؛ والشرقي بن القطامي، كان يؤدب المهدي بن المنصور؛ وأبو سعيد المؤدب، كان يؤدب موسى الهادي؛ ومحمد بن المستنير المعروف بقطرب، كان يؤدب المهدي؛ وأبو عبيدة كان يؤدب الرشيد؛ والأحمر النحوي كان يعلم الأمين، ثم أدبه الكسائي؛ وفي "طبقات الأدباء" أن الكسائي كان يؤدب
1 وكانوا يقولون: لا ينبغي للقرشي أن يستغرق في شيء من العلم إلا علم الأخبار أما غير ذلك فالنتف والشذور.
2 عالمًا بالمواريث.
3 وأقدم من عرف من المعلمين قبل ظهور لقب المؤدب، أبو الأسود الدؤلي: كان تجتمع له الناس فيعلمهم النحو تعليمًا.
الرشيد أيضًا. واليزيدي النحوي، كان يؤدب المأمون؛ والفراء كان يؤدب ولدى المأمون، وقيل إنه نهض يومًا لبعض حوائجه فابتدرا إلى نعله ليقدماها له، فتنازعا أيهما يقدمها، ثم اصطلحا على أن يقدم كل منهما واحدة، ورفع ذلك إلى المأمون فاستدعاه، فلما دخل عليه قال له: من أعز الناس؟ قال: لا أعرف أحدًا أعز من أمير المؤمنين! فقال المأمون: بل من إذا نهض تقاتل على تقديم نعليه وليا عهد المسلمين حتى يرضى كل واحد منهما أن يقدم له فردًا! فقال: يا أمير المؤمنين، لقد أردت منعهما عن ذلك ولكن خشيت أن أدفعهما عن مكرمة سبقا إليها، أو أكسر نفسيهما عن شريفة حرصا عليها إلخ.
وكان المفضل الضبي يؤدب الواثق؛ وألزم المتوكل يعقوب بن السكيت، المتوفى سنة 244هـ تأديب ابنه المعتز، قالوا: فلما جلس عنده قال له: يا بني، بأي شيء يحب الأمير أن يبدأ من العلوم؟ قال: بالانصراف. ثم اختار المتوكل لتأديب المعتزل وأخيه المنتصر أبا جعفر بن ناصح، وأبا جعفر بن قادم، ومن ذلك العهد بدأ لقب المؤدب ينزل عن رتبته، إذ كانت العجمة قد فشت وضعفت النزعة العربية في الدولة، فجاء تاريخ الأدباء -كما قيل- بثعلب والمبرد الذين تخرج عليهما عبد الله بن المعتز، أما مؤدبه فكان أبا جعفر بن عمران الكوفي.
وقد ضربنا صفحًا عن أدباء المعلمين ممن دارسوا أولاد الخاصة والأمراء؛ لأن فيما قدمناه كفاية على برهان ما ذهبنا إليه.
علوم الأدب وكتبه:
كان الأدب -كما أسلفنا- مجموع علوم المؤدبين، فلا جرم حدوه كما رأيت فيما نقلناه عن ابن خلدون، وهو حد يطابق أمرهم كل المطابقة، فلما أرادوا تعيين هذه العلوم، نظروا في غرض الأدب فجعلوا له غرضين: أحدهما يقال لها لغرض الأدنى، والثاني الغرض الأعلى، فالأول أن يحصل للمتأدب بالنظر في الأدب والتمهر فيه قوة يقدر بها على النظم والنثر، والغرض الأعلى أن يحصل للمتأدب قوة على فهم كتاب الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وصحابته، ويعلم كيف تبنى الألفاظ الواردة في القرآن والحديث بعضها على بعض حتى تستنبط منها الأحكام وتفرع الفروع وتنتج النتائج وتقرن القرائن على ما تقتضيه معاني كلام العرب ومجازاتها.
قال البطليوسي -وهو الذي ننقل عنه هذه الكلمات من "شرح أدب الكاتب": والشعر عند العلماء أدنى مراتب الأدب، ثم نظروا في تعيين العلوم التي تفضي إلى هذه المقاصد، فاختلفوا فيها، ولكنها في الجملة كانت علوم العربية، ولم يعينها أحد إلى أواخر القرن الخامس. فلما أنشئت المدرسة النظامية ببغداد، أنشأها نظام الملك -وزير ملك شاه السلجوقي- المتوفى سنة 485هـ، اختير لتدريس الأدب فيها أبو زكرياء الخطيب التبريزي المتوفى سنة 502هـ وهو من أئمة اللغة والنحو، ثم درسه بعده علي بن أبي زيد الفصيحي، وكان نحويا، ثم عزل "لتهمة التشيع" بأبي منصور الجواليقي، وتعاقب هؤلاء المدرسين جعل للأدب موضعًا معينًا كان لا يزال مقررًا عند العلماء إلى آخر القرن السادس، على ما ذكره ابن الأنباري المتوفى سنة 577هـ في "طبقاته" فإنه لما ترجم هشام بن محمد بن السائب الكلبي قال: "إنه كان عالمًا بالنسب، وهو أحد علوم الأدب؛ فلذلك ذكرناه في جملة الأدباء، فإن علوم الأدب ثمانية: النحو واللغة والتصريف والعروض والقوافي وصنعة الشعر وأخبار العرب، وأنسابهم
…
" ثم قال: "وألحقنا بالعلوم الثمانية علمين وضعناهما وهما: علم الجدل في النحو وعلم أصول النحو"1.
إلا إن الزمخشري المتوفى سنة 538هـ. أراد أن يجعل للأدب حدا علميا من الحدود -الجامعة المانعة- على طريقة المتكلمين، فعرف علوم الأدب بأنها علوم يحترز بها عن الخلل في كلام العرب لفظًا وكتابة، وجعلها اثني عشر، منها أصول لأنها العمدة في ذلك الاحتراز، وهي: اللغة، والصرف، والاشتقاق، والنحو، والمعاني، والبيان، والبديع "وجعلوه ذيلًا لعلمي المعاني والبياثن داخلًا تحتهما" والعروض، والقوافي.
ومنها فروع، وهي: الخط -أي: الإملاء- وقرض الشعر، والإنشاء، والمحاضرات، ومنه التواريخ.
1 لذلك تفصيل سيأتي في موضعه عند الكلام على النحو.
وهذا التقسيم هو المعروف عند العلماء إلى اليوم.
وقال صاحب "نفح الطيب": "إن علم الأدب في الأندلس كان مقصورًا على ما يحفظ من التاريخ والنظم والنثر ومستظرفات الحكايات، قال: وهو أنبل علم عندهم، ومن لا يكون فيه أدب من علمائهم فهو عقل مستثقل".
أما كتب الأدب فهي على الحقيقة كتب العلوم التي مرت، بيد أن أهل اللغة كانوا ينتحلون لفظة الأدب في تسمية كتبهم الخاصة بأوضاع اللغة وشواهدها؛ لأن اللغة أصل المادة، فمن ذلك: ديوان الأدب، وكتاب ديوان العرب وميدان الأدب، وروض الآداب، ومفتاح الأدب، وسر الأدب، ومقدمة الأدب، وعنوان الأدب، وكلها في اللغة، ذكر صاحب "كشف الظنون" وغيره، وبعضها موجود، كديوان الأدب للفارابي، ومقدمة الأدب للزمخشري، ومن هذا القبيل "أدب الكاتب" لابن قتيبة ولابن دريد ولابن النحاس وغيرهم.
أما الكتب التي هي من شرط الأدب فكثيرة، وأصولها كما قال ابن خلدون: أربعة دواوين، وهي:"أدب الكاتب" لابن قتيبة، وكتاب "الكامل" للمبرد، وكتاب "البيان والتبيين" للجاحظ، وكتاب "النوادر" لأبي على القالي البغدادي1 وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفرغ عنها.
وإنما عدت هذه الأربعة أصولًا؛ لأنها تدور على فنون الرواية. وقد وضعت كتب كثيرة، وأشهرها كتاب "العقد الفريد" لابن عبد ربه الأندلسي، وكتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصبهاني، وهو الكتاب الذي استوعب فيه أخبار العرب وأنسابهم وأشعارهم وأيامهم ودولهم، فكان أفضل ما يتأدب به في العربية، وكثرت كذلك كتب الأمالي والتذاكر، وأعظمها "أمالي" ابن الشجري، وتذكرة الصلاح الصفدي، وللكلام في ذلك موضع نتولى فيه بسطه، وتوفيه قسطه إن شاء الله.
1 كل هذه الكتب مطبوع مشهور، وقد شرحت كلها شروحًا مختلفة، ما عدا البيان والتبيين؛ ولولا التفادي من الملل لأتينا على تاريخ كل كتاب منها.