الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غزوَةُ الخَنَدق:
قَالَ الواقديّ: وهي غزوة الأحزاب، وكانت في ذي القِعْدَة.
قَالُوا: لمّا أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النَّضير ساروا إلى خَيْبَر، وخرج نفرٌ من وجوههم إلى مكة فألَّبُوا قُرَيْشًا ودعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاهدوهم عَلَى قتاله، وواعدوهم لذلك وقتا، ثُمَّ أتوا غَطفانَ وسُلَيْما فدعوهم إلى ذَلِكَ، فوافقوهم.
وتجهَّزَتْ قُرَيْشُ وجمعوا عبيدهم وأتباعهم، فكانوا في أربعة آلاف، وقادوا معهم نحو ثلاثمائة فرس سوى الِإبل، وخرجوا وعليهم أبو سُفيان بن حرب، فوافتهم بنو سُلَيْم بمَرّ الظَّهْران، وهم سبعمائة، وتلقَّتهم بنو أسد يقودهم طلحة بن خُويلد الَأسَدي. وخرجت فِزارة وهم في ألف بعيرٍ يقودهم عُيَيْنَة بن حصْن. وخرجت أَشْجَعُ وهم أربعمائة يقودهم مسعود بن رُخَيْلة، وخرجت بنو مُرَّة وهم أربعمائة يقودهم الحارث بن عَوْف، وقيل: إنّه رجع ببني مُرّة، والأوّل أثبت.
فكان جميع الأحزاب عشرة آلاف، وأَمْرُ الكّل إلى أبي سُفيان.
وكان المسلمون في ثلاثة آلاف. هذا كلام الواقدي.
وأمّا ابن إسحاق فقال: كانت غزوة الخندق في شوّال.
قَالَ: وكان من حديثها أنّ سَلَام بن أبي الحُقَيْق، وحُيَيّ بن أخْطب، وكِنانة بن الرَّبيع، وهوْذَة، في نفرٍ من بني النّضير ونفر من بني وائل، وهم الذين حزَّبوا الأحزابَ عَلَى رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قدِموا مكَةَ فدعوا قريشًا إلى القتال، وقالوا: إنّا نكون معكم حتى نستأصل محمدًا.
فقالت لهم قريش: يا معشر يهود، إنّكم أهلُ كتاب وعِلْمٍ بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد.
أَفَدِيننا خيرٌ أم دينُه؟ قالوا: بل دينكم خيرٌ من دينه وأنتم أولى بالحقّ وفيهم نزل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء: 51] الآيات1.
فلما قالوا ذَلِكَ لقريش سَرَّهم ونشطوا إلى الحرب واستعدُّوا له، ثُمَّ خرج أولئك النّفر اليهود حتى جاءوا غَطفان، فدعوهم فوافقوهم.
فخرجت قريش، وخرجت غَطفان وقائدهم عُيَيْنَة في بني فِزارة، والحارث بن عَوْف المُرِّي في قومه، ومسعود بن رُخَيلة فيمن تابعه من قومه أشْجَع، فلما سَمِعَ بهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم حفر الخندق عَلَى المدينة وعمل فيه بيده، وأبطأ عَنِ المسلمين في عمله رجالٌ منافقون، وعمل المسلمون فيه حتى أحكموه.
وكان في حفْره أحاديث بلغتني، منها: بلغني أنّ جابرًا كان يحدّث أنّهم اشتدّت عليهم كدية2 فشكوها إِلَى رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فدعا بإناء من ماء فَتَفَلَ فيه، ثُمَّ دعا بما شاء الله، ثُمَّ نضح الماء عَلَى الكُدْية حتى عادت كثيبًا3.
وحدّثني سعيد بن ميناء، عَنْ جابر بن عبد الله قَالَ: عملنا مَعَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الخندق، فكانت عندي شُوَيْهة، فقلت: والله لو صنعناها لرَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فأمرتُ امرأتي فطحنتْ لنا شيئًا من شعير، فصنعتْ لنا منه خُبزًا، وذبحت تِلْكَ الشاة فشَوَيْناها، فلما أمسينا وأراد رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الانصراف، وكنّا نعمل فِي الخندق نهارًا فإذا أمسينا رجعنا إلى أهالينا، فقلت: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إنّي قد صنعت كذا وكذا، وأحبّ أن تنصرف معي. وإنّما أريد أن ينصرف معي وحده. فلما قلت له ذَلِكَ، قَالَ:"نعم". ثُمَّ أمر صارخًا فصرخ أنِ انصرفوا مَعَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلى بيت جابر. فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، فأقبل وأقبل النّاس معه، فجلس وأخرجناها إليه، فبرك وسمى،
1 "إسناده حسن": أورده ابن كثير في "تفسيره""2/ 295" وهي طريق جيدة إلى ابن عباس، وإسناده حسن، انظر:"المقبول من أسباب النزول" للدكتور أبي عمر نادي الأزهري "220".
2 الكدية: الصخرة الصلبة.
3 قال الحافظ ابن كثير في "البداية""2/ 517": منقطع.
ثُمَّ أكل، وتواردها النّاس، كلّما فرغ قومٌ قاموا وجاء ناسٌ، حتى صدر أهلُ الخندق عنها1.
وحدّثني سعيد بن ميناء أنّه حُدِّث أنّ ابنة لبشير بن سعد قَالَت: دعتني أمّي عمرةُ بنتُ رَواحة فأعطتني حفنة من تمر في ثوبي، ثُمَّ قَالَتْ: أي بُنَيَّة! اذهبي إلى أبيك وخالك، عبد الله بغدائهما.
فانطلقتُ بِهَا فمررت برَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وأنا ألتمس أبي وخالي، فقال:"ما هذا معك"؟ قلت: تمر بَعَثَتْ به أمي إلى أبي وخالي، قَالَ:"هاتيه". فَصَبَبْتُهُ في كَفَّيْ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فما ملأتهما ثُمَّ أمر بثوبٍ فُبِسط، ثُمَّ دحا بالتمر عليه فتبدّد فوق الثوب، ثُمَّ قَالَ لِإنسان عنده:"اصرخ في أهل الخندق أنْ هلموا إلى الغداء". فاجتمعوا فجعلوا يأكلون مِنْهُ وجعل يزيد، حَتَّى صَدَرَ أهلُ الخندق عنه وإنه لَيَسْقُط من أطراف الثوب2.
وحدّثني من لا أَتّهم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ كان يَقْولُ حين فُتِحَت هذه الأمصار في زمان عُمَر وعثمان وما بعده: افتحوا ما بدا لكم، والذي نفس أبي هُريرة بيده، ما افتتحتم من مدينةٍ ولا تفتحونها إلى يوم القيامة إلّا وقد أعطى الله محمدًا مفاتيحها قبل ذَلِكَ.
قال: وحدثت عن سلمان الفارسيّ قَالَ: ضربت في ناحيةٍ من الخندق فغلُظَتْ عليّ، ورَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قريبٌ منّي، فلما رآني أضرب نزل وأخذ المِعْوَلَ فضرب به ضربة فلمعتْ تحت المِعْوَل بَرْقَةٌ، ثُمَّ ضرب أخرى فلمعت تحته أخرى، ثُمَّ ضرب الثالثة فلمعت أخرى. قلت: بأبي أنت وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذَا؟ قَالَ: "أوَ قد رأيتَ"؟ قلت: نعم. قَالَ: "أمّا الأولى، فإنّ الله فتح عليّ بِهَا اليمن، وأمّا الثانية، فإنّ الله فتح عليّ بِهَا الشامَ والمغرب، وأمّا الثالثة، فإنّ الله فتح عليّ بِهَا المشرق"3.
قَالَ ابن إسحاق: ولما فرغ النّبيّ صلى الله عليه وسلم من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع السُّيول من رُومة بين الجُرْف وزَغَابة في عشرة آلاف من أحابيشهم ومَن تبعهم من
1 "إسناده صحيح": أخرجه البخاري "4101-4102" بنحوه.
2 قال الحافظ ابن كثير في "البداية""2/ 519": فيه انقطاع.
3 "صحيح": أخرجه النسائي "6/ 43-44"، وقال الشيخ الألباني في "صحيح سنن النسائي": صحيح.
بني كنانة وأهل تهامة وغطفان، فنزلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد بذنب نقمي1 إلى جانب أُحُد. وخرج رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سَلْع في ثلاثة آلاف، فعسكروا هنالك، والخندق بينه وبين القوم. فذهب حُيَيّ بنُ أخطب إلى كعب بن أسد القُرظي صاحب عهد بني قريظة وعقدهم، وقد كان وادع رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى قومه، فلما سَمِعَ كعبُ بحُيَيّ أغلق دونه الحصْنَ فأبى أن يفتح له، فناداه: يا كعب افتحْ لي.
قَالَ: إنّك امرؤٌ مشئوم، وإني قد عاهدت محمدًا فلست بناقض ما بيني وبينه، ولم أر منه إلّا وفاء وصدقًا. قال: ويلك افتح لي أكلمك. قَالَ: ما أنا بفاعل. قَالَ: والله إنْ أغلقت دوني إلّا عَنْ جُشَيْشَتك2 أن آكل معك منها. فأحْفَظَه ففتح له فقال: ويحك يا كعب، جئتك بعزّ الدّهر وببحر طام، جئتك بقريش عَلَى قادتها وسَادتها حَتَّى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من رومة، وبغطفان عَلَى قادتها وسادتها فأنزلتهم بذَنَب نَقَمَى إلى جانب أُحُد، قد عاهدوني وعاقدوني عَلَى أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمدًا ومن معه. قَالَ له كعب: جئتني والله بذُلّ الدَّهْر وبجهام3 قد هراق ماءه برعد وَبرْقٍ لَيْسَ فيه شيء، يا حُيَيّ فَدَعْنِي وما أنا عليه فإنّي لم أر من محمدٍ إلّا صدْقًا ووفاءً. فلم يزل حُيَيّ بكعب حتى سمح له بأنْ أعطاه عهدًا لئن رجعتْ قريش وغَطفان ولم يصيبوا محمدًا أنْ أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك.
فنقض كعب عهده وبرئ ممّا كان بينه وبين النّبيّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ4.
ولما انتهى الخبر إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعث سعد بن مُعاذ، وسعد بن عُبَادة سيّدَ الأنصار، ومعهما عبد الله بن رَوَاحة وخَوّات بن جُبَيْر رضي الله عنهم فقال:"انطلقوا حتى تنظروا أحَقٌ ما بلغنا عَنْ هَؤُلاءِ؟ فإنْ كان حقًا فالحنوا لي لحنًا أعرفه، ولا تَفُتُّوا في أعضاد النّاس، وإن كانوا عَلَى الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للنّاس". فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم عَلَى أخبث ما بلغهم، فشاتمهم سعد بن معاذ وشاتموه، وكان
1 ذنب نقمي: موضع من أعراض المدينة قريب من أحد، كان لآل أبي طالب. معجم البلدان "5/ 300".
2 الجشيشة: طعام من حنطة تطبخ من لحم أو تمر.
3 جهام: سحاب لا ماء فيه.
4 "السيرة النبوية" لابن هشام "3/ 136". ط. المكتبة التوفيقية.
فيه حدة، فقال له ابن عُبَادة: دع عنك مُشاتمتهم فما بيننا وبينهم أربى من المُشاتمة. ثُمَّ رجعوا إلى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم فسلموا عليه وقالوا: عضل والقارة. أي: كغدر عضل والقارة بأصحاب الرّجيع خُبيب وأصحابه.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُ أكبر! أبشروا يا معشر المسلمين". فعظم عند ذَلِكَ الخوف1.
قَالَ الله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا} [الأحزاب: 10-11] الآيات.
وتكلّم المنافقون حتى قَالَ مُعَتّب بن قُشَيْر أحدُ بني عَمْرو بن عَوْف: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوزَ كِسْرى وقيصر وأحدُنا اليوم لا يأمن عَلَى نفسه أن يذهب إلى الغائط. فأقام رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وأقام عليه المشركون بضْعًا وعشرين ليلة لم يكن بينهم حرب إلّا الرَّمْيُ بالنَّبل والحصار.
ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بعث إلى عُيَيْنَة بن حصْن وإلى الحارث بن عَوْف، فأعطاهما ثُلُثَ ثمار المدينة عَلَى أن يرجعا بمن معهما، فجرى بينه وبينهما الصُّلح، حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصّلح، إلّا المراوضة في ذَلِكَ.
فلما أنْ أراد رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ يفعل، بعث إلى السَّعْدين فاستشارهما فقالا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أمرًا تحبّه فنصنعه، أم شيئًا أمرك الله به لا بُدَّ لنا منه، أم شيئًا تصنعه لنا؟ قَالَ:"بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذَلِكَ إلّا لأنّي رأيت العربَ قد رمتكم عَنْ قَوسٍ واحدة، فأردت أنْ أكسر عنكم من شوكتهم". فقال سعد بن مُعاذ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قد كنّا نحن وهؤلاء القوم عَلَى الشرّك ولا يطعمون أن يأكلوا منّا تمرة إلّا قِرًى2 أو بيعًا، أَفَحِين أكرمنا الله بالِإسلام وأَعَزَّنَا بك نعطيهم أموالنا؟ ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلّا السَّيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم. قَالَ:"فأنتَ وذاك". فأخذ سعد الصحيفة فمحاها، ثم قال: ليجهدوا علينا3.
1 "نفس المرجع والصفحة".
2 إلا قرى؛ يعني: إلا ضيافة.
3 مرسل.
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم والأحزاب، فلم يكن بينهم قتالٌ إلّا فوارس من قريش، منهم عَمْرو بن عبد وُدّ، وعِكْرِمة بن أبي جهل، وهُبَيْرَة بن أبي وهب، وضِرار بن الخطّاب، تلبَّسوا للقتال ثُمَّ خرجوا عَلَى خيلهم، حتى مرُّوا بمنازل بني كنانة، فقالوا: تهيَّئوا للقتال يا بني كِنانة فستعلمون من الفُرسان اليوم، ثُمَّ أقبلوا تُعْنِق بهم خيلهم حتى وقفوا عَلَى الخندق، فلما رأوه قالوا: والله إنّ هذه لمكِيدةٌ ما كانت العربُ تكِيدها. فتيمَّموا مكانًا من الخندق ضيّقًا فضربوا خيلهم، فاقتحمت منه فجالت بهم في السَّبخة بين الخندق وسَلع.
وخرج عليّ رضي الله عنه في نفرٍ من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة، فأقبلت الفرسان تعنق نحوهم، وكان عَمْرو بن عبد وُدّ قد قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة فلم يشهد يوم أُحُد، فلما كان يوم الخندق خرج معلما ليرى مكانه، فلما وقف هو وخيلُه قَالَ: من يبارزني؟ فبرز له عليّ رضي الله عنه فقال له عليّ: يا عَمْرو إنّك كنت عاهدتَ الله لا يدعوك رجلٌ من قريشٍ إلى إحدى خلّتين إلّا أخذتها منه. قَالَ له: أجل. قَالَ له: فإنّي أدعوك إلى الله ورسوله وإلى الِإسلام. قَالَ: لا حاجة لي بذلك. قَالَ: فإنّي أدعوك إلى النزال. قال له: لم يابن أخي! فَوَالله ما أحبّ أن أقتلك. قَالَ عليّ رضي الله عنه: لكّني والله أحبّ أن أقتلك. فحمي عَمْرو واقتحم عَنْ فرسه فعقره وضرب وجهه، ثُمَّ أقبل عَلَى عليّ فتنازلا وتجاولا، فقتله عليّ.
وخرجتْ خيلُهم منهزمة حتى اقتحمت من الخندق. وألقى عِكْرِمة يومئذٍ رُمْحه وانهزم1. وقال عليّ رضي الله عنه في ذَلِكَ:
نَصَرَ الحجارةَ من سفاهةِ رأيهِ
…
ونَصَرتُ دينَ محمّدٍ بضرابِ
نازلتُهُ فتركتُهُ مُتَجدّلًا
…
كالجذْع بين دَكَادكٍ وروابي
لا تَحْسَبَنَّ الله خاذلٌ دينَهُ
…
ونبيَّه يا معشر الأحزابِ
وحدّثني أبو ليلى عبد الله بن سهل، أنّ عائشة رضي الله عنها كانت في حصن بني حارثة يوم الخندق، وكانت أمّ سعد بن مُعاذ معها في الحصن، فمرّ سعد وعليه درعٌ مُقَلَّصَة قد خرجت منها ذراعهُ كلّها، وفي يده حربة يرفل بِهَا ويقول:
لَبّثْ قليلًا يَشْهَدِ الهَيْجا حمل
…
لا بأسَ بالموت إذا حان الأجل
1 أخرجه البيهقي في "دلائل النبوة""4/ 436-439"، وأورده ابن كثير في "البداية""4/ 105".
فقالت له أُمُّهُ: الحق أي بُنَيّ فقد أخرت. قالت عائشة: فقلت لَهَا: يا أمّ سعد لوددت أنّ درع سعِد كانت أسبغ مما هي1. فرمي سعد بسهم قطع منه الأكْحَل2 رماه ابن العَرِقة، فلما أصابه قَالَ: خُذها منّي وأنا ابن العرقة. فقال له سَعْد: عرَّق الله وجهكَ في النّار، اللهُمّ إنْ كنت أبقيت من حرب قريش شيئًا فأبقني لَهَا فإنّه لا قوم أحبّ إليّ أن أجاهدهم فيك من قوم آذوا رسولكَ وكذَّبوه وأخرجوه، الّلهُمّ إنْ كنت وضعتَ الحربَ بيننا وبينهم فاجعله لي شهادة ولا تُمِتْني حتى تقرّ عيني من بني قريظة3.
وكانت صفية بنتُ عبد المطّلب في فارع4 -حصن حسّان بن ثابت- وكان معها فيه مع النّساء والولْدان. قَالَتْ: فمرّ بنا يهودي فجعل يطيف بالحصْن، وقد حاربت بنو قُرَيظة ونقضت وليس بيننا وبينهم أحدٌ يدفع عنّا، والنّبيّ صلى الله عليه وسلم والمسلمون في نُحور عدوّهم لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إلينا. فقلت: يا حسّان إنّ هذا اليهوديّ كما ترى يطيف بالحصن، وإني والله ما آمنُه أن يدل عَلَى عورتنا من وَراءنا من يهود، وقد شُغِل عنّا رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ، فانزِلْ إليه فاقُتْله. قَالَ: يغفر لك الله يا ابنةَ عبد المطّلب، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا. فلما قَالَ لي ذَلِكَ ولم أر عنده شيئًا، احتجزت5 ثُمَّ أخذت عمودًا ونزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته. فلما فرغتُ رجعت إلى الحصن فقلت: يا حسّان انزل إليه فاسلبه، فإنّه لم يمنعني من سلبه إلّا أنّه رجل. قال: ما لي بسلبه من حاجة6.
1 أسبغ: أكمل.
2 الأكحل: عرق في وسط الذراع.
3 رجاله ثقات: أورده ابن هشام في "السيرة""3/ 139" ط. المكتبة التوفيقية، وأخرجه أحمد بنحوه بأطول مما هنا.
4 فارع: أطم من آطام المدينة، وقيل: حصن بالمدينة.
5 احتجزت: شدت إزارًا على وسطها.
6 قال الحافظ ابن حجر في "الفتح""6/ 285": إسناده قوي، والحديث أخرجه الحاكم في "المستدرك""4/ 51"، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي بقوله: عروة لم يدرك صفية. إذن فالحديث منقطع فهو ضعيف. وقال السهيلي في "الروض الأنف""3/ 281": "محمل هذا الحديث عند الناس أن حسانًا كان جبانًا! وقد دفع هذا بعض العلماء وأنكره لأن الحديث منقطع الإسناد، ولو صح فلعل حسان أن يكون معتلًا في ذلك اليوم بعلة منعته من شهود القتال". ا. هـ.
وأقام رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ فيما وصف الله من الخوف والشدة لتظاهر عدّوهم عليهم وإتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم.
وروى نحوه يونس بن بُكَيْر، عَنْ هشام بن عُرْوَة، عَنْ أبيه.
ثُمَّ إنّ نُعَيْم بن مسعود الغَطفاني أتى رَسُول الله فأسلم، وقال: إنّ قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت يا رسول الله! قَالَ: "إنّما أنت فينا رجلٌ واحد فاخذل عنّا ما استطعت فإنّ الحرب خُدْعة".
فأتى قريظة -وكان نديمًا لهم في الجاهلية- فقال لهم: قد عرفتم وُدّي إيّاكم. قالوا صدقتَ. قَالَ: إنّ قريشًا وغَطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكُم به أموالكم وأولادكم ونساؤكم، لا تقدرون عَلَى أنْ تتحوّلوا منه إلى غيره، وإنّ قريشًا وغَطفان قد جاءوا لحرب محمدٍ وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدُهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فليسوا كأنتم، فإن رأوا نهزة أصابوها، وإنْ كان غير ذَلِكَ لحقوا ببلادهم وخلّوا بينكم وبين الرجل ببلدكم، فلا طاقة لكم به إنْ خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رَهنًا من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم عَلَى أن يقاتلوا معكم محمدًا حتى تناجزوه. فقالوا: لقد أشرت بالرأي.
ثم خرج حتى أتى قريشًا فقال لأبي سُفيان ومَن معه: قد عرفتم وُدّي لكم وفراقي محمدًا، وإنّه قد بلغني أمرٌ قد رأيت عليّ حقًا أن أُبلِّغكموه نصحًا لكم فاكتموه عليّ. قالوا: نفعل. قال: تعلمون أنّ معشر يهود قد ندموا عَلَى ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وأرسلوا إليه أنّا قد ندِمنا عَلَى ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين، قريش وغطفان، رجالا من أشرافهم، فنعطيكهُم فتضرب أعناقهم، ثُمَّ نكون معك عَلَى من بقي منهم حتى تستأصلهم. فأرسل إليهم:"نعم". فإنْ بعثت إليكم يهود يلتمسون رهنًا منكم من رجالكم فلا تفعلوا.
ثُمَّ خرج فأتى غَطفان فقال: يا معشر غَطفان أنتم أصلي وعشيرتي وأحبّ النّاس إليّ، ولا أراكم تتّهموني. قالوا: صدقت، ما أنت عندنا بمُتَّهم. قَالَ: فاكتموا عنّي. قالوا: نفعل. ثُمَّ قَالَ لهم مثل ما قَالَ لقريش، وحذّرهم ما حذّرهم.
فلما كانت ليلة السبت من شوّال، وكان من صُنعِ الله لرسوله أنه أرسل
أبو سفيان ورءوس غَطفان، إلى بني قُريظة، عِكْرِمَة بنَ أبي جهل في نفرٍ من قريش وغَطفان، فقالوا: إنّا لسنا بدار مقام، قد هلك الخُفّ والحافر، فاغْدُوا للقتال حتى نناجز محمدًا. فأرسلوا إليهم أنّ اليوم يوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئًا، وقد كان بعضُنا أحدث فيه حَدَثًا فأصابه ما لم يخفَ عليكم، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمدًا حتى تعطونا رُهُنًا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نُناجز محمدًا، فإنّا نخشى إنْ ضرَّستكم الحربُ أن تنشمروا إلى بلادكم وتتركونا والرجل في بلادنا، ولا طاقة لنا بذلك.
فلما رجعت إليهم الرُسلُ بما قَالَتْ بنو قُرَيْظة قَالَتْ قريش وغَطفان: والله لقد حدّثكم نعيم بن مسعود بحقّ. فأرسلوا إلى بني قُريظة: إنّا والله ما ندفع إليكم رجلا من رجالنا، فإنْ كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا.
فقالت بنو قُرَيظة حين انتهت إليهم الرُّسلُ بهذا: إنّ الذي ذكر لكم نُعَيْم لَحَقّ، ما يريد القوم إلّا أن يقاتلوا، فإنْ رأوا فرصة انتهزوها، وإنْ كان غير ذَلِكَ انشَمَرْوا إلى بلادهم. فأرسلوا إلى قريش وغَطفان: إنّا والله لا نقاتل معكم حتى تعطُونا رُهُنًا. فأَبَوا عليهم. وخذل الله بينهم.
فلما انتهى ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، دعا حُذَيْفة بنَ اليَمان فبعثه ليلًا لينظر ما فعل القوم.
قَالَ: فحدّثني يزيد بن أبي زياد، عن محمد بن كعب القُرَظي: قَالَ رجل من أهل الكوفة لحُذَيْفَة: يا أبا عبد الله، رأيتم رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وصحِبْتُموه؟ قَالَ: نعم يابن أخي. قَالَ: فكيف كنتم تصنعون؟ قَالَ: والله لقد كنّا نجهد. فقال: والله لو أدركناه ما تركناه يمشي عَلَى الأرض ولَحَمَلناه عَلَى أعناقنا. فقال: يابن أخي والله لقد رأيتنا مَعَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بالخندق، وصلّى هَوِيًّا1 من الليل، ثُمَّ التفت إلينا فقال:"مَن رجلٌ يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثُمَّ يرجع -يشرُطُ لَهُ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الرَّجعة- أَسأَل الله أن يكون رفيقي في الجنّة". فما قام أحدٌ من شدّة الخوف وشدّة الجوع والبرد. فلما لم يقم أحدٌ دعاني فلم يكن لي من القيام بُدٌّ حين دعاني، فقال:"يا حذيقة اذهب فادخل في القوم، فانظر ماذا يفعلون ولا تحدث شيئًا حتى تأتينا".
1 الهوي من الليل: القطعة منه.
فذهبتُ فدخلتُ في القوم، والرّيح وجنودُ الله تفعل بهم ما تفعل، لا تقر لهم قِدْرًا ولا نارًا ولا بناء. فقام أبو سُفيان فقال: يا معشر قريش، إنّكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكُراع والخُفّ، وأخلفتنا بنو قُريظة وَبَلَغَنَا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدّة الريح ما ترون، ما تطمئنّ لنا قِدْر ولا تقوم لنا نار ولا يستمسك لنا بناءٌ، فارتحلوا فإنّي مُرْتحل. ثُمَّ قام إلى جَمَله وهو معقول فجلس عليه ثم ضربه فوثب به عَلَى ثلاث، فَوَالله ما أطلق عقاله إلّا وهو قائم. ولولا عهدُ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"أن لا تحدث شيئًا حتى تأتيني". وإن شئتُ لقتلتُه بسهم.
قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصليّ في مرطٍ1 لبعض نسائه مراجل -وهو ضربٌ "من وشي اليمن"2 فسّره ابن هشام- فلما رآني أدخلني إلى رِجليه وطرح عليّ طَرَفَ المِرْط، ثُمَّ ركع وسجد وإنّي لَفِيه فلما سلّم أخبرتُه الخبر.
وسمعتْ غَطفان بما فعلت قُريش فانشمروا راجعين إلى بلادهم.
قَالَ الله تعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب: 25] .
وهذا كلُّه من رواية البكّائيّ عَنْ محمد بن إسحاق.
وقال يونس بن بكير، عن هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، أنّ رجلًا قَالَ لحُذَيْفة: صَحِبْتُم رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وأدركتموه، فذكر الحديث نحو حديث محمد بن كعب، وفي آخره: فجعلت أُخُبر رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ أبي سُفيان، فجعل يضحك حتى جعلتُ أنظر إلى أنيابه.
وقال موسى بن عُقْبة، عَنِ ابن شهاب، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قاتل يوم بدر في رمضان سنة اثنتين، ثُمَّ قاتل يوم أُحُد في شوّال سنة ثلاث، ثُمَّ قاتل يوم الخندق -وهو يوم الأحزاب وبني قُرَيْظة- في شوّال سنة أربع، وكذا قَالَ عُرْوة في حديث ابن لَهِيعة عَنْ أبي الأسود عنه. كذا قالا: سنة أربع، وقالا في قصّة الخندق إنها كانت بعد أحد بسنتين.
1 المرط: كساء من خز أو صوف أو كتان يؤتزر به وتتلفع به المرأة، "المعجم الوجيز""579".
2 الوشي: وشى فلان الثوب "يشيه" وشيًا: نمنمه ونقشه وحسنه. "المعجم الوجيز""670".
وقال قَتَادة من رواية شَيْبان عنه: كان يومُ الأحزاب بعد أُحُد بسنتين، فهذا هو المقطوع به.
وقول موسى وعُرْوة: إنّها في سنة أربعٍ وَهَمٌ بين، ويُشْبُهُه قول عُبَيْد اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَر:"عرضني رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُد، وَأَنَا ابنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، فَلَمْ يُجِزْني، فلما كان يوم الخندق عُرِضتُ عليه وأنا ابن خمس عشرة فأجازني". فيُحْمَل قولُه عَلَى أنّه كان قد شرع في أربع عشرة، وأنه يوم الخندق كان قد استكمل خمس عشرة سنة، وزاد عليها بعد تِلْكَ الزيادة. والعرب تفعل هذا في مددها وتواريخها وأعمارها كثيرًا، فتارة يعتدّون بالكسر ويعدُّونه سنة، وتارة يُسقِطونه. وذهب بعض العلماء إلى ظاهر هذا الحديث وعضَّدوه بقول موسى بن عُقْبة:"وغزوة الأحزاب في شوّال سنة أربع" وذلك مخالفٌ لقول الجماعة، ولما اعترف به موسى وعُرْوة من أنّ بين أُحُد والخندق سنتين والله أعلم.
وقال أبو إسحاق الفزاري، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَدَاةٍ بَارِدَةٍ إِلَى الْخَنْدَقِ، وَالْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ بِأَيْدِيهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَبِيدٌ: فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنَ الْجُوعِ وَالنَّصَبِ قَالَ:
اللَّهُمَّ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الآخِرَهْ
…
فَاغْفِرْ لِلأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ
فَقَالُوا مُجِيبِينَ لَهُ:
نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا
…
عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. وَلِمُسْلِمٍ نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ1.
وَقَالَ عَبْدُ الْوَارِثِ: ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ نَحْوَهُ، وَزَادَ قَالَ: وَيُؤْتُونَ بِمِلْءِ حِفْنَتَيْنِ شَعِيرًا يُصْنَعُ لَهُمْ بِإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ وَهِيَ بَشِعَةٌ فِي الْحَلْقِ، فَتُوضَعُ بَيْنَ يَدَيِ الْقَوْمِ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ2.
وَقَالَ شُعْبَةُ وَغَيْرُهُ: أَبُو إِسْحَاقَ، سَمِعَ الْبَرَاءَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْقُلُ مَعَنَا التُّرَابَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ، وَقَدْ وَارَى التُّرَابُ بياض بطنه وهو يقول:
1 أخرجه البخاري "5/ 45" في كتاب المغازي، ومسلم "1788" كتاب الجهاد والسير.
2 أخرجه البخاري "5/ 45" كتاب "المغازي".
اللهم لولا أنت ما اهتدينا
…
ولا تصدقنا وَلَا صَلَّيْنَا
فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا
…
وَثَبِّتِ الْأَقْدَامَ إن لاقينا
إن الألي قد بغوا علين
…
وَإِنْ أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا
رَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ1.
وَعِنْدَهُ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: وَيَمُدُّ بِهَا صَوْتَهُ.
وَقَالَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنَ الْمَخْزُومِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ: كُنَّا يَوْمَ الْخَنْدَقِ نَحْفِرُ الْخَنْدَقَ فَعَرَضَتْ فِيهِ كُدْيةٌ -وَهِيَ الْجَبَلُ- فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ كُدْيَةً قَدْ عَرَضَتْ فَقَالَ: "رُشُّوا عَلَيْهَا". ثُمَّ قَامَ فَأَتَاهَا وَبَطْنُهُ مَعْصُوبٌ بِحَجَرٍ مِنَ الْجُوعِ، فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ أَوِ الْمِسْحَاةَ فَسَمَّى ثَلاثًا ثُمَّ ضَرَبَ فَعَادَتْ كَثِيبًا أَهْيَلَ فَقُلْتُ لَهُ: ائْذَنْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَى الْمَنْزِلِ، فَفَعَلَ، فَقُلْتُ لِلْمَرْأَةِ: هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ؟ وَذَكَرَ نَحْوَ مَا سُقْنَاهُ مِنْ مَغَازِي ابْنِ إِسْحَاقَ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ2.
وَقَالَ هَوْذَةُ بْنُ خَلِيفَةَ: ثنا عَوْفٌ الأَعْرَابِيُّ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ أُسَتَاذٍ الزَّهْرَانِيِّ، حَدَّثَنِي الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ حِينَ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ، عَرَضَ لَنَا فِي بَعْضِ الْخَنْدَقِ صَخْرَةٌ عَظِيمَةٌ شَدِيدَةٌ لا تَأْخُذُ فِيهَا الْمَعَاوِلُ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا رَآهَا أَخَذَ الْمِعْوَلَ وَقَالَ:"بِسْمِ اللَّهِ". وَضَرَبَ ضَرْبَةً فَكَسَرَ ثُلُثَهَا. فَقَالَ: "اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ، وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ". ثُمَّ ضَرَبَ الثَّانِيَةَ وَقَطَعَ ثُلُثًا آخَرَ فَقَالَ: "اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيَح فَارِسَ، وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْصِرُ قَصْرَ الْمَدَائِنِ الأَبْيَضَ". ثُمَّ ضَرَبَ الثَّالِثَةَ فَقَطَعَ بَقِيَّةَ الْحَجَرِ فَقَالَ: "اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ، وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ مِنْ مَكَانِي السَّاعَةَ"3.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: ثَنَا ابْنُ الْمُنْكَدِرِ، سَمِعْتُ جَابِرًا يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْأَحْزَابِ: "من يأتينا بخبر القوم"؟ فقال الزبير: أنا.
1 أخرجه البخاري في "المغازي""5/ 47-48"، والأبيات لعبد الله بن رواحة ديوانه 106 وتنسب لعامر بن الأكوع.
2 أخرجه البخاري في "المغازي""5/ 45-46".
3 تقدم قبل قليل.
فقال: "إن لكل نبي حواريًّا وحواريي الزُّبَيْرُ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ1.
وَقالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيُّ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عن ابن عباس:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9] قَالَ: كَانَ ذَلِكَ يَوْمَ أَبِي سُفْيَانَ؛ يَوْمَ الأَحْزَابِ.
{وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} [الأحزاب: 13] ، قَالَ هُمْ بنو حارثة، قالوا: بيوتنا مخلية نخشى عَلَيْهَا السَّرْقُ.
قَوْلُهُ: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ} [الأحزاب: 22] الآية، قَالَ: لأَنَّ اللَّهَ قَالَ لَهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة: 214] ، فَلَمَّا مَسَّهُمُ الْبَلاءُ حَيْثُ رَابَطُوا الأَحْزَابَ فِي الْخَنْدَقِ، تَأَوَّلَ الْمُؤْمِنُونَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَزِدْهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ: أنا حَجَّاجٌ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُتِلَ يَوْمَ الأَحْزَابِ، فَبَعَثَ الْمُشْرِكُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ ابعث إِلَيْنَا بِجَسَدِهِ وَنُعطِيَهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، فَقَالَ:"لا خَيْرَ فِي جَسَدِهِ وَلا فِي ثَمَنِهِ".
وقال الأصمعيّ: ثنا عبد الرحمن بن أبي الزّناد قَالَ: ضرب الزُّبَيْرُ بن العوّام يوم الخَنْدَق عثمانَ بنَ عبد الله بن المغيرة بالسيف عَلَى مِغْفَرِه فَقَدَّه إلى القُرْبُوس2، فقالوا: مَا أجْوَدَ سيفك، فغضب، يريد إنّ العمل ليده لا لسيفه.
قَالَ شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ قَاعِدًا عَلَى فُرْضَةٍ مِنْ فُرَضِ الْخَنْدَقِ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:"شَغَلُونَا عَنْ صَلَاةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، مَلَأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا، أَوْ بُطُونَهُمْ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ3.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ عُمَرَ جَاءَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ بَعْدَ مَا غَرُبَتِ الشَّمْسُ جَعَلَ يَسُبُّ كفَّارَ قُرَيْشٍ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كِدْتُ أَنْ أُصَلِّيَ
1 أخرجه البخاري في كتاب "المغازي""5/ 49".
2 القربوس: الجزء المرتفع المقوس من السرج. وهما قربوسان. "المعجم الوجيز""495".
3 أخرجه مسلم "628" كتاب المساجد ومواضع الصلاة.
حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ أَنْ تَغْرُبَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَأَنَا وَاللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا بَعْدُ". فَنَزَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ أَحْسَبُهُ قَالَ إِلَى بُطْحَانَ، فَتَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ وَتَوَضَّأْنَا، فَصَلَّى الْعَصْرَ بَعْدَ مَا غَرُبَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ1.
وَقَالَ جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، فَقَالَ رَجُلٌ: لَوْ أَدْرَكْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَقَاتَلْتُ مَعَهُ وَأَبْلَيْتُ. فَقَالَ: أَنْتَ كُنْتَ تَفْعَلُ ذَاكَ، لَقَدْ رَأَيْتَنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْأَحْزَابِ فِي لَيْلَةٍ ذَاتِ رِيحٍ شَدِيدَةٍ وَقَرٍّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"أَلَا رَجُلٌ يَأْتِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ يَكُونُ مَعِي يَوْمَ الْقَيْامَةِ"؟ فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ، ثُمَّ الثَّانِيَةَ، ثُمَّ الثَّالِثَةَ مِثْلَهُ. ثُمَّ قَالَ:"يَا حُذَيْفَةُ قُمْ فَائْتِنَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ". فَلَمْ أَجِدْ بُدًّا إِذْ دَعَانِي بِاسْمِي أَنْ أَقُومَ. فَقَالَ: "ائْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ وَلَا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ". قَالَ: فَمَضَيْتُ كَأَنَّمَا أَمْشِي فِي حَمَّامٍ حَتَّى أَتَيْتُهُمْ، فَإِذَا أَبُو سُفْيَانَ يُصْلِي ظَهْرَهُ بِالنَّارِ. فَوَضَعْتُ سَهْمِي فِي كَبِدِ قَوْسِي وَأَرَدْتُ أَنْ أَرْمِيَهُ، ثُمَّ ذَكَرْتُ قول رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"لَا تَذْعَرْهُمْ عَلِيَّ". وَلَوْ رَمَيْتُهُ لَأصَبْتُهُ. قَالَ: فَرَجَعْتُ كَأَنَّمَا أَمْشِي فِي حَمَّامٍ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَلْبَسَنِي مِنْ فَضْلِ عَبَاءَةٍ كَانَتْ عَلَيْهِ يُصَلِّي فِيهَا، فَلَمْ أَزَلْ نَائِمًا حَتَّى الصُّبْحِ، فَلَمَّا أَنْ أَصْبَحْتُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"قُمْ يَا نَوْمَانُ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ2.
وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: ثنا يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي الْمُخْتَارِ، عَنْ بِلالٍ الْعَبْسِيِّ، عَنْ حُذَيْفَةَ: أَنَّ النَّاسَ تَفَرَّقُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الأَحْزَابِ، فَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ إِلا اثْنَا عَشَرَ رَجُلا فَأَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا جَاثٍ مِنَ الْبَرْدِ فَقَالَ:"انْطَلِقْ إِلَى عَسْكَرِ الأَحْزَابِ". فَقُلْتُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا قُمْتُ إِلَيْكَ مِنَ الْبَرْدِ إِلا حَيَاءً مِنْكَ.
قَالَ: "فَانْطَلِقْ يَابْنَ الْيَمَانِ فَلا بَأْسَ عَلَيْكَ مِن حَرٍّ وَلا بَرْدٍ حَتَّى تَرْجِعَ إِلَيَّ". فَانْطَلَقْتُ إِلَى عَسْكَرِهِمْ، فَوَجَدْتُ أَبَا سُفْيَانَ يُوقِدُ النَّارَ فِي عُصْبَةٍ حَوْلَهُ، قَدْ تَفَرَّقَ الأَحْزَابُ عَنْهُ، حَتَّى إِذَا جَلَسْتُ فِيهِمْ، حَسَّ أَبُو سُفْيَانَ أَنَّهُ دَخَلَ فِيهِمْ مَنْ غَيْرُهُمْ، فَقَالَ: يَأْخُذُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بيد جليسه.
1 أخرجه البخاري في "صحيحه""5/ 48-49" كتاب "المغازي"، ومسلم في "صحيحه""629" كتاب المساجد ومواضع الصلاة.
2 أخرجه مسلم "1788" كتاب "الجهاد والسير".
قَالَ: فَضَرَبْتُ بِيَدِي عَلَى الَّذِي عَنْ يَمِينِي فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، ثُمَّ ضَرَبْتُ بِيَدِي إِلَى الَّذِي عَنْ يَسَارِي فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، فَكُنْتُ فِيهِمْ هُنَيَّةً، ثُمَّ قُمْتُ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَأَوْمَأَ إِلَيَّ بِيَدِهِ أَنْ ادْنُ، فَدَنَوْتُ، ثُمَّ أَوْمَأَ إِلَيَّ فَدَنَوْتُ، حَتَّى أَسْبَلَ عَلَيَّ مِنَ الثَّوْبِ الَّذِي عَلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ:"مَا الْخَبَرُ"؟ قُلْتُ: تَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، فَلَمْ يَبْقَ إِلا فِي عُصْبَةٍ يُوقِدُ النَّارَ، قَدْ صَبَّ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْبَرْدِ مِثْلَ الَّذِي صَبَّ عَلَيْنَا، وَلَكِنَّا نَرْجُو مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُو.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ الْحَنَفِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ ابْنِ أخَيِ حُذَيْفَةَ قَالَ: ذَكَرَ حُذَيْفَةُ مَشَاهِدَهُمْ، فَقَالَ جُلَسَاؤُهُ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا شَهِدْنَا ذَلِكَ لَفَعَلْنَا وَفَعَلْنَا. فَقَالَ حُذَيْفَةُ: لا تَمَنَّوْا ذَلِكَ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنَا لَيْلَةَ الأَحْزَابِ. وَسَاقَ الْحَدِيثَ مُطَوَّلا.
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ: ثَنَا ابْنُ أَبِي أَوْفَى قَالَ: دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْأَحْزَابِ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ مُنَزِّلَ الْكِتَابِ سَرِيعَ الْحِسَابِ اهْزِمِ الْأَحْزَابَ، اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ1.
وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ:"لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، أَعَزَّ جُنْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَغَلَبَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ فَلَا شَيْءَ بَعْدَهُ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ2.
وَقَالَ إِسْرَائِيلُ وَغَيْرُهُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حين أَجْلَى عَنْهُ الْأَحْزَابَ: "الْآنَ نَغْزُوهُمْ وَلَا يَغْزُونَا؛ نَسِيرُ إِلَيْهِمْ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ3.
وَقَالَ خَارِجَةُ بْنُ مُصْعَبٍ، عَنِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابن عباس:{عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً} ، قَالَ: تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ، فَصَارَتْ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، وَصَارَ مُعَاوِيَةُ خَالَ الْمُؤْمِنِينَ. كَذَا رَوَى الْكَلْبِيُّ وَهُوَ مَتْرُوكٌ.
وَمَذْهَبُ الْعُلَمَاءِ فِي أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ هَذَا حُكْمٌ مُخْتَصٌّ بِهِنَّ وَلا يتعدى التحريم إلى بناتهن ولا إخوانهن ولا أخواتهن.
1 أخرجه البخاري في "المغازي""5/ 49"، ومسلم في "الجهاد والسير""1742".
2 أخرجه البخاري في "المغازي""5/ 49"، ومسلم في "الذكر والدعاء""2724".
3 أخرجه البخاري في "المغازي""5/ 48".