المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أحداث سنة خمسمائة: - تاريخ الإسلام - ط التوفيقية - جـ ٣٤

[شمس الدين الذهبي]

الفصل: ‌أحداث سنة خمسمائة:

الأغنياء، وجلا الفُقراء، وظهر من ابن عمّار ثَباتٌ، وشجاعة عظيمة، ورأيٌ، وحزْم. وكانت طرابُلُس من أعظم بلاد الإسلام وأكثرها تجمُّلًا وثروة، فباع أهلُها من الحُلي والآلات الفاخرة ما لا يوصف بأقلّ ثمن، ولا أحد يغيثهم، ولا يكشف عَنْهُمْ. وامتلأت الشّام من الإفرنج1.

1 انظر: النجوم الزاهرة "5/ 190-192"، شذرات الذهب "3/ 407، 413"، صحيح التوثيق "7/ 525".

ص: 41

‌أحداث سنة خمسمائة:

وفاة يوسف بْن تاشفين:

فيها: تُوُفّي أمير المغرب والأندلس يوسف بْن تاشَفِين.

سلطنة عليّ بْن يوسف بْن تاشَفِين:

وولي المُلْك بعده ابنه عليُّ بْنُ يوسف. وكان قد بعث فيما تقدم تقدمة جليلة، ورسلًا إلى المستظهر بالله، يلتمس أن يولى السلطة، وأن يُقَلَّدَ ما بيده من البلاد، فكتب لَهُ تقليدًا، ولقب أمير المسلمين، وبعث لَهُ خِلَع السّلطنة، ففرح بذلك، وسُرَّ فُقهاء المغرب بذلك. وهو الّذي أنشأ مدينة مَرّاكُش.

مقتل فخر المُلْك ابن نظام المُلْك:

ويوم عاشوراء قتل فخر الملك علي بن نظام المُلْك. وثب عَلَيْهِ واحدٌ من الإسماعيلية في زيّ متظلّم، فناوله قَصَّةً، ثمّ ضربه بسكِّينٍ فقتله. وعاش ستًّا وستّين سنة. ونقل "ابن الأثير" أَنَّهُ كَانَ أكبر أولاد النّظّام، وأنّه وَزَرَ للسّلطان بَركيَارُوق، ثمّ انفصل عَنْهُ، وقصد نَيْسابور، فأقام عند السّلطان سَنْجَر، ووَزَر لَهُ. فأصبح يوم عاشوراء صائمًا، فقال لأصحابه: رأيت اللّيلة الحُسين بْن عليّ رضي الله عنهما وهو يَقُولُ: عجّل إلينا، ولْيكُنْ إفطارُك عندنا. وقد اشتغل فكري، ولا محيد عَنْ قضاء اللَّه وقدره. فقالوا: يكفيك اللَّه، والصّواب، أنْ لا تخرج اليومَ واللّيلة. فأقام يومَه كلّه يُصلّي ويقرأ، وتصدّق بشيءٍ كثير، ثمّ خرج وقت العصر يريد دار النّساء، فسمع صياح

ص: 41

مُتَظَلِّم، شديد الحُرْقة، وهو يَقُولُ: ذهب المسلمون، فلم يبق من يكشف كُرْبةً، ولا يأخذ بيد ملْهوف. فطلبه رحمةً لَهُ، وإذا بيده قَصّة، وذكر الحكاية.

القبض عَلَى الوزير سعْد الملك وصلبه:

وفيها قبض السلطان محمد علي وزيره سعد الملك أبي المحاسن، وصلبه عَلَى باب إصبهان، وصلب أربعةً من أصحابه نُسِبوا أنّهم باطنيّة. وأمّا الوزير فَاتهم بالخيانة، وكانت وزارته سنتين وتسعة أشهر. وكان عَلَى ديوان الاستيفاء في أيّام وزارة مؤيّد المُلْك ابن نظام المُلْك، ثمّ خدم السّلطان محمد وقام معه، فاستوزره. ثمّ نَكَبَه1 وصَلَبَه.

وزارة قِوام المُلْك:

ثمّ استوزر قِوام الملك أبا ناصر أحمد بن نظام المُلْك.

انتزاع قلعة إصبهان من الباطنيّة وقتل صاحبها:

وفيها انتزع السّلطان محمد قلعة إصبهان من الباطنيّة، وقتل صاحبها أحمد بْن عَبْد المُلْك بْن غطّاس وكانت الباطنيّة بأصبهان قد ألبسوه تاجًا، وجمعوا له الأموال، وقدموه؛ لأن أباه عَبْد المُلْك كَانَ من علمائهم لَهُ أدب وبلاغة، وحُسْن خَطّ، وسُرعة جواب، مَعَ عِفّةٍ ونزاهة، وطلع ابنه أحمد هذا جاهلًا. قِيلَ لابن الصّبّاح صاحب ألَمُوت: لماذا تعظم ابن غطّاس عَلَى جَهْله؟ قَالَ: لمكان أَبِيهِ، فإنه كَانَ أستاذي. وكان ابن غطاس قد استفحل أمرُه، واشتد بأسُه، وقطعت أصحابُه الطَّرُقَ، وقتلوا النّاس.

رواية ابن الأثير عَنْ قتل ابن غطاس:

قَالَ ابن الأثير: قتلوا خلقًا كثيرًا لا يمكن إحصاؤهم، وجعلة لهم عَلَى القُرى والأملاك ضرائب يأخذونها، ليكفوا أَذَاهم عَنْهَا. فتعذَّر بذلك انتفاعُ النّاس بأملاكهم، والدّولة بالضّياع. وتمشّى لهم الأمر بالخُلْف الواقع. فلمّا صفا الوقت لمحمد لم يكن همّه سِواهم. فبدأ بقلعة إصبهان، لتسلُّطها عَلَى سرير ملكه، فحاصرهم بنفسه، وصعد الجبل الذي يقابل القلعة، ونصب له التخت.

1 نكبهُ: أصابه بنكبةٍ، والنكبة: المصيبة، المعجم الوجيز "ص/ 633".

ص: 42

واجتمع من إصبهان وأعمالها لقتالهم الأُممُ العظيمة، فأحاطوا بجبل القلعة، ودَوْرُهُ أربعةُ فَرَاسخ، إلى أنّ تعذّر عليهم القُوت، وذلّوا، فكتبوا فُتْيا: ما يَقُولُ السادة الفُقَهاء في قوم يؤمنون باللَّه وكُتُبه ورُسُلِه واليوم الآخر، وإنّما يخالفون في الْإِمَام، هَلْ يجوز للسّلطان مهادنتهم ومُوادعتهم، وأن يقبل طاعتهم؟ فأجاب الفُقهاء بالجواز، وتوقّف بعض الفُقَهاء. فجُمعوا للمناظرة، فقال أبو الحَسَن عليّ بْن عَبْد الرحمن السّمنجانيّ: يجب قتالهم، ولا ينفعهم اللَّفْظ بالشّهادتين، فإنّهم يقال لهم: أَخْبِرُونا عَنْ إمامكم إذا أباح لكم ما حذّره الشّارع أيقبلون منهم؟ فإنّهم يقولون: نعم، وحينئذ تُباح دماؤهم بالإجماع. وطالت المناظرة في ذَلِكَ. ثمّ بعثوا يطلبون من السّلطان من يناظرهم، وعيّنوا أشخاصًا، منهم شيخ الحنفيّة القاضي أبو العلا صاعد بْن يحيى قاضي إصبهان، فصعدوا إليهم، وناظروهم، وعادوا كما صعدوا. وإنّما كَانَ قصدهم التَّعَلُّل، فلجّ السّلطان حينئذٍ في حصرهم. فأذعنوا1 بتسليم القلعة على أن يعطوا قلعة خالنجان، وهي عَلَى مرحلةٍ من إصبهان.

وقالوا: إنا نخاف عَلَى أرواحنا من العامّة، ولا بُدّ من مكانٍ نأوي إِلَيْهِ. فأُشير عَلَى السّلطان بإجابتهم، فسألوا أنّ يؤخّرهم إلى يوم النَّوْرُوز، ثمّ يتحوّلون. فأجابهم إلى ذَلِكَ. هذا، وقصْدُهُم المطاولة إنتظارًا لفتقٍ يَنْفَتِق، أو حادث يتجدّد. ورتّب لهم الوزير سعْد المُلْك راتبًا كلّ يوم. ثمّ بعثوا مَن وثب عَلَى أميرِ كَانَ جدّ في قتالهم، فجُرِح وسَلِم، فحينئذٍ خرّب السّلطان قلعة خالنجان، وجدّد الحصار عليهم. فطلبوا أنّ ينزل بعضهم، ويرسل السّلطان معهم من يحميهم إلى قلعة الناظر بأَرَّجَان، وهي لهم، وإلى قلعة طَبَس، وأن يقيم باقيهم في ضرس القلعة إلى أنّ يصل إليهم من يخبرهم بوصول أصحابهم، فأجابهم إلى ذَلِكَ، وذهبوا، ورجع من أخبر الباقين بوصول أولئك إلى القلعتين. فلم يسلّم ابن غطاس النّاس الذين احتموا فيه، ورأى السّلطان منه الغدر والرجوع عما تقرر، فزحف الناس عليه عامة، في ثاني ذي القعدة. وكان قد قل عنده من يمنع أو يقاتل، وظهر منه بأسٌ شديد، وشجاعة عظيمة، وكان قد استأمن إلى السّلطان إنسانٌ من أعيانهم فقال: أَنَا أدلكم عَلَى عورة لهم، فأتى بهم إلى جانب السّنّ لا يُرام فقال: اصعدوا من ههنا. فقيل: إنّهم قد ضبطوا هذا المكان وشحنوه بالرجال.

1 أذعنوا: خضعوا، واستسلموا.

ص: 43

فقال: إنّ الّذي ترون أسلحة وكُزاغنْدات1 قد جعلوها كهيئة الرجال، وذلك لقلتهم. وكان جُمَيْع من بقي ثمانين رجلًا. فصعد النّاس من هناك، وملكوا الموضع، وقتلوا أكثر الباطنيّة، فاختلط جماعة منهم عَلَى من دخل فسلموا، وأُسِر ابن غطاس، فشهر بأذربيجان، وسُلِخ، فتجلّد حتّى مات، وَحُشِيَ جِلْدُهُ تبْنًا وقتل ولدُه، وبُعث برأسيهما إلى بغداد. وألْقَتْ زوجته نفسها من رأس القلعة فهلكت. وضرب محمد القلعة.

وكان والده السّلطان جلال الدولة هُوَ الّذي بناها. يقال: إنّه غرم عَلَى بنائها ألفي ألف دينار ومائتي ألف دينار، فاحتال عليها ابن غطاس حتى ملكها، وأقام بها اثنتي عشرة سنة.

عزل الوزير ابن جهير:

وفي صَفَر عُزِل الوزير أبو القاسم عليّ بْن جهير، كان قد وزر للخليفة ثلاثة أعوام وخمسة أشهر. فهرب إلى دار سيف الدولة صدقة بْن مُزْيَد ببغداد ملتجئًا إليها، وكانت ملجأ لكلّ ملهوف. فأرسل إِلَيْهِ صدقة من أحضره إلى الحلة، وأمر الخليفة بأن تُخَرَّب داره.

وزارة أبي المعالي بن المطلب:

ثم تقررت الوزارة في أول السنة إحدى وخمسمائة لأبي المعالى هبة اللَّه بْن المطّلب

غرق قلج أرسلان:

وفيها غرق قِلِج أرسلان بْن سليمان بْن قُتُلْمش صاحب قونية، سقط في الخابور فغرق. ووجد بعد أيّام منتفخًا، والحمد لله عَلَى العافية.

استنجاد طُغْتِكِين وابن عمّار بالسلطان السَّلْجوقيّ:

وتتابعت كُتُب أتابك طُغْتِكِين وفخر الملك ابن عمار ملك الشّام، وإلى السّلطان غياث الدين محمد بْن ملكشاه، بعظيم ما حلّ بالشّام وأهله من الإفرنج،

1 كزغندات: أشياء في هيئة الأشخاص من الأقسمة ونحوها.

ص: 44

ويستصرخون بِهِ، ويستنجدون بِهِ لِيُدركهم، فندب جيشًا عليهم جاولي سقاوة، وكاتب صَدَقَةَ بْن مَزْيَد، وصاحب المَوْصِل وغيرهما لينهضوا إلى حرب الكُفّار. فثقُل ذَلِكَ عَلَى المكاتبين ونكلوا عَن الجهاد، وأقبلوا عَلَى حظوظ الأنفس، فلا قوة إلّا باللَّه.

استظهار الروم عَلَى الإفرنج:

وكان ابن قُتُلْمش نَفَذَ بعض جيشه لإنجاد صاحب قسطنطينيّة عَلَى بَيْمُنْد وإفرنج الشام، فلمّا التقى الْجَمْعان استظهر الرّوم وكسروا الإفرنج شرّ كسْرَة، أتت عَلَى أكثرهم بالقتل والأسْر. وفصل الأتراك جُنْد ابن قُتُلْمش بعد أنّ خلع عليهم طاغية الروم وأكرمهم. انتهت الوقائع ولله الحمد والمنّة. ويتلوها طبقات المتوفين في هذه السنتين إن شاء الله تعالى، وبه أستعين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين. وكان الفراغ من هذا الكتاب يوم الثلاثاء الساعة الثالثة ونصف من شهر ربيع الثاني من شهور سنة الخامسة والثلاثين بعد الثلاثمائة وألف من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، وأزكى التحية. والله أعلم1.

1 انظر: الكامل "10/ 417، 418"، والبداية والنهاية "12/ 165، 166"، والنجوم الزاهرة "5/ 189-192"، صحيح التوثيق "7/ 525".

ص: 45