المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أحداث سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة: - تاريخ الإسلام - ط التوفيقية - جـ ٣٤

[شمس الدين الذهبي]

الفصل: ‌أحداث سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة:

‌أحداث سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة:

مقتل أُنَرْ عامل بَركيَارُوق:

لمّا سار السلطان بَركيَارُوق إلى خُراسان، استعمل أُنَرْ عَلَى فارس وبلادها، وكان قد تغلب عليها خوارج الأعراب، واغتضدوا بصاحب كرْمان ابن قاروت، فالتقاهم أُنَرْ، فهزموه وجاءَ مَفْلُولًا. ثمّ ولي إمارة العراق، يعني قبل بَركيَارُوق، فأخذ يكاتب الأمراء المجاورين لَهُ، وعسكر بأصبهان، ثم سار إلى إقطاعه بأذربيجان، وقد عاد، وانتشرت دعوة الباطنية بأصبهان، فانتدب لقتالهم، وحاصر قلعةً لهم بأرض أصبهان. واتصل به مؤيد الملك ابن نظام الملك، وجرت له الأمور. ثمّ كاتب غياث الدين محمد بْن ملكشاه، وهو إذ ذاك بكنجة، ثمّ سار إلى الرّيّ في نحو عشر آلاف، وهَمَّ بالخروج على بركياروق، فوثب عليه ثلاثة فقتلوه في رمضان بعد الإفطار. فوقعت الصيحة ونهبت خزائنه، تفرق جَمْعُه، ثمّ نقل إلى إصبهان، فدفن في داره.

استيلاء الإفرنج عَلَى بيت المقدس:

وفيها أحدق الإفرنج ببيت المقدس. لما كَسَرَت الإفرنج خذلهم اللَّه، المسلمين عَلَى أنطاكية في العام الماضي قووا وطغوا، وكان تاج الدّولة تتش قد استولى عَلَى فلسطين وغيرها، وانتزع البلاد من نُوّاب بني عُبَيْد، فأقطع الأمير سُقْمان بْن أُرْتُق التُّرْكيّ بيتَ المقدس، فرتبه وحصّنه، فسار الأفضل بْن بدر أمير الجيوش، فحاصر الأمير سُقْمان وأخاه إيلغازي، ونصبوا عَلَى القدس نيفًا وأربعين منجنيقًا، فهدموا في سوره. ودام الحصار نيفًا1 وأربعين يومًا، وأخذوه بالأمان في شَعْبان سنة تسع وثمانين. وأنعم الأفضل عَلَى سُقْمان وأخيه، وأجزل لهم الصِّلات. فسار سُقْمان واستولى عَلَى الرُّها، وذهب أخوه إلى العراق. ووُلّي عَلَى القدس افتخار الدّولة، فدام فيه إلى هذا الوقت. وسارت الجيوش النصرانية من حمص،

1 نيف: هو الزائد على غيره، وهو من واحدٍ إلى ثلاثة، كما في المعجم الوجيز "ص/ 640".

ص: 7

ونازلت عكّا أيّامًا، ثمّ ترحّلوا وأتوا القدس، فحاصروه شهرًا ونصف، ودخلوا من الجانب الشمالي ضحوة نهار الجمعة لسبعٍ بقين من شَعْبان، واستباحوه، فإنا لله وإنا إِلَيْهِ راجعون. واحتمى جماعة ببرج دَاوُد، ونزلوا بعد ثلاثٍ بالأمان، وذهبوا إلى عَسْقَلان.

رواية ابن الأثير عَنْ دخول الإفرنج بيت المقدس:

قَالَ ابن الأثير: قتلت الإفرنج بالمسجد الأقصى ما يزيد عَلَى سبعين ألفًا، منهم جماعة من العلماء والعبّاد والزُّهّاد، وممّا أخذوا أربعين قِنْديلًا من الفضّة، وزن القنديل ثلاثة آلاف وستمائة درهم. وأخذوا تنُّورًا1 من فضة، وزنه أربعون رِطْلًا بالشّاميّ، وغنموا ما لا يُحْصَى.

وورد المستنفرون من الشام إلى ببغداد صحبة القاضي أَبِي سعْد الهَرَوِيّ، فأوردوا في الديوان كلامًا أبكى العيون وجرح القلوب. وبعث الخليفة رُسُلًا، فساروا إلى حلوان، فبلغهم قتل مجد الملك الباسلانيّ، فردّوا من غير بلوغ أربٍ، ولا قضاء حاجة، واختلف السلاطين، وتمكنت الإفرنج من الشام.

وللأَبِيوَرْدِيّ:

مزجنا دماء بالدموع السواجم

فلم يبق منا عرضة للمراحم

وشر سلاح المرء دمع يفيضه

إذا الحرب شبت نارها بالصوارم

فإيها بني الإسلام، إنّ وراءكم

وقائع يلحقن الذرى بالمناسم

أتهويمةٌ في ظل أمنٍ وغبطةٍ

وعيش كنوار الخميلة ناعم

وكيف تنام العين ملء جفونها

عَلَى هفوات أيقظت كلّ نائم؟

وإخوانكم بالشام يضحي مقيلهم

ظهور المذاكي أو بطون القشاعم

تسومهم الروم الهوان وأنتم

تجرون ذيل الخفض فعل المسالم

فكم من دماءٍ قد أبيحت، ومن دمي

توارى حياءً حسنها بالمعاصم

بحيث السيوف البيض محمرة الظبا

وسمر العوالي داميات اللهاذم

1 التنور: الفرن.

ص: 8

يكاد لهن المستجن بطيبةٍ

ينادي بأعلى الصوت: يا آل هاشم

أرى أُمتي لا يشرعون إلى العدى

رماحهم، والدين واهي الدعائم

ويجتنبون النار خوفًا من الردى

ولا يحسبون العار ضربة لازم

أترضى صناديد الأعاريب بالأذى

وتغضي على ذلِّ كماة الأعاجم

فليتهم لم يردوا حمية

عن الدين ضنوا غيرة بالمحارم

رواية سبط ابن الجوزي:

قَالَ أَبُو المظفّر سبط ابن الْجَوْزيّ: سارت الإفرنج ومقدمهم كُنْدفْري في ألف ألف، بينهم خمسمائة ألف مقاتل، عملوا برجين من خشب مُطلين عَلَى السور، فأحرق المسلمون البرج الّذي كَانَ بباب صهيون، وقتلوا من فيه، وأمّا الآخر فزحفوا بِهِ حتى ألصقوه بالسور وحكموا بِهِ عَلَى البلد وكشفوا من كَانَ بإزائهم، ورموا بالمجانيق والسّهام رمية رجلٍ واحدٍ، فانهزم المسلمون من السور. قلت: هذه مجازفة بينة، بل قَالَ ابن منقذ: إنّ جزءًا كَانَ بخيل، وإن قومًا وقفوا عَلَى سورها بأمر الوالي في مضيق لا يكاد يعبر منه إلّا واحدٌ بعد واحد.

قَالَ: فكان عدد خيلهم ستة آلاف ومائة فارس، والرجالة ثمانية وأربعون ألفًا. ولم تزل دار الإسلام منذ فتحها عُمَر -رضى الله عنه. وكان الأفضل لما بلغه نزولهم عَلَى القدس تجهز وسار من مصر في عشرين ألف، فوصل إلى عسقلان ثاني يوم الفتح، ولم يعلم. وراسل الإفرنج.

قَالَ ابن الأثير: فأعادوا الرَّسُول بالجواب، ولم يعلم المصريون بشيء فبادلوا السلاح بالخيل، وأعجلتهم الإفرنج فهزموهم، وقتلوا منهم من قُتِل، وغنموا خيامهم بما فيها. ودخل الأفضل عسقلان، وتمزق أصحابه. فحاصرته الإفرنج بعسقلان، فبذل لهم ذهبًا كثيرًا، فردوا إلى القدس. قال أبو يعلى بن القلانسيّ: قتلوا بالقدس خلقًا كثيرًا وجمعوا اليهود في الكنيسة وأحرقوها عليهم، وهدموا المساجد.

ابتداء دولة محمد بْن ملكشاه:

وفيها ابتداء دولة محمد بن ملكشاه. لمّا مات أبوه ببغداد سار مَعَ أخيه محمود والخاتون تركان إلى إصبهان، ثمّ إنّ أخاه بَركيَارُوق أقطعه كنجة، وجعل لَهُ أتابكًا،

ص: 9

فلما قوي محمد قتل أتابك قتلغ تكين، واستولى عَلَى مملكة أرّان، وطلع شهمًا شجاعًا مهيبًا، قطع خطبة أخيه، واستوزره مؤيد الملك عَبْد اللَّه بن نظام المُلْك. فإنه التجأ إِلَيْهِ بعد قتل مخدومه أُنَرْ. واتفق قتل مجد الملك الباسلاني، واستيحاش1 العسكر من بَركيَارُوق، ففارقوه وقدموا عَلَى محمد، وكثر عسكره فطلب الرّيّ، وعرّج أخوه إلى إصبهان، فعصوا عَلَيْهِ، ولم يفتحوا لَهُ، فسار إلى خوزستان. وأما محمد فاستولى عَلَى الرّيّ وبها زبيدة والدة السلطان بَركيَارُوق، فسجنها مؤيد الملك الوزير، وصادرها وأمر بخنقها. ولكن أظفر اللَّه بَركيَارُوق بالمؤيد فقتله.

الخطبة للسلطان محمد:

وسار سعْد الدولة كوهرائين من بغداد إلى خدمة السلطان محمد، فخلع عَلَيْهِ وردّه إلى بغداد نائبًا لَهُ، وأقيمت الخطبة ببغداد، ولقب "غياث الدنيا والدين" في آخر السنة.

الغلاء والوباء بخراسان:

وفيها، وفي العام الماضي، كَانَ بخراسان الغلاء المفرط2، والوباء، حتى عجزوا عن الدفن، وعظم البلاء.

نقل المُصْحَف العُثْمانيّ من طبرية إلى جامع دمشق:

وفيها نقل الأتابك طغتكين من طبرية المُصْحَف العُثْمانيّ خوفًا عَلَيْهِ إلى دمشق، وخرج النّاس لتلقيه، فأقره في خزانةٍ بمقصورة الجامع3.

1 استيحاش: خوف.

2 المفرط: الشديد.

3 انظر: النجوم الزاهرة "5/ 162-165".

ص: 10