الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجلد الرابع والثلاثون
الطبقة الخمسون
أحداث سنة إحدى وتسعين وأربعمائة
…
بسم الله الرحمن الرحيم
الطبقة الخمسون:
أحداث سنة إحدى وتسعين وأربعمائة:
ابتداء دولة الإفرنج:
قَالَ ابن الأثير: ابتداء دولة الإفرنج، لعنهم اللَّه، في سنة ثمان وسبعين فملكوا طُلَيْطُلَة وغيرها من الأندلس، ثمّ قصدوا صقلية في سنة أربع وثمانون فملكوها، وأخذوا بعض أطراف إفريقية.
بدء حملات الإفرنج إلى بلاد الشام:
وخرجوا في سنة تسعين إلى بلاد الشّام، فجمع ملكهم بردويل جَمْعًا كثيرًا، وبعث إلى الملك رُجَار صاحب صِقِلّية يَقُولُ: أَنَا واصل إليك وسائرٌ من عندك إلى إفريقية أفتحها، وأكون مجاورًا لك، فاستشار رُجَار أكابر دولته، فقالوا: هذا جيّد لنا وله، وتصبح البلاد بلاد النّصرانيّة، فضرط1 ضرطةً وقال: وحقّ ديني هذا خيرٌ من كلامهم.
قَالُوا: ولِمَ ذلك؟
قال: إذا وصل احتاج إلى كلْفة كبيرة ومراكب وعساكر من عندي فإن فتحوا إفريقية كانت له ويأخذون أكثر مُغَلّ بلادي، وإن لم يفتحوا رجعوا إلى بلادي وتأذَّيْت. ويقول تميم يعني ابن بادريس: غدرت ونقضت العهد ونحنُ إنْ وجدنا قوة أخذنا إفريقية. ثمّ أحضر الرَّسُول، إذا عزمتم عَلَى حرب المسلمين فالأفضل فتح بيت المقدس، تخلّصونه من أيديهم، ويكون لكم الفخر، وأمّا إفريقيّة فبيني وبين صاحبها عُهُود وأَيْمان. فتركوه وقصدوا الشّام.
وقيل: إنّ صاحب مصر لمّا رأى قوّة السَّلْجُوقيّة واستيلائهم عَلَى الشام ودخول أَتْسِز إلى القاهرة وحصارها، كاتب الإفرنج يدعوهم إلى المجيء إلى الشام ليملكوه.
1 ضرط: ضرطًا، وضُراطًا: أخرج ريحًا من إسته مع صوت.
فهو ضروط، وضرَّاط، والضراط: الريح الخارجة من الإست مع الصوت. المعجم الوجيز "ص/ 380".
عبور الإفرنج خليج القسطنطينية إلى أنطاكية:
وقيل: إنهم عبروا خليج القسطنطينية وقدموا إلى بلاد قليج أرسلان بْن سلمان بْن قُتُلْمش السَّلْجوقيّ، فالتقاهم، فهزموه في رجب سنة تسعين. واجتازوا ببلاد ليون الأرمني فَسَلكوها. وخرجوا إلى أنطاكية فحاصروها، فخاف ياغي سِيان من النَّصارى الذين هُمْ رعيته، فأخرج المسلمين خاصّة لعمل الخندق أيضًا، فعملوا فيه إلى العصر، ومنعهم من الدخول، وأغلق الأبواب، وأَمِن غائلة النّصارى. وحاصرته الإفرنج تسعة أشهر، وهلك أكثر الإفرنج قتلًا وموتًا بالوباء وظهر من شجاعة ياغي سيان وحزْمه ورأيه ما لم يُشاهد من غيره، وحفظ بيوت رعية النّصارى بما فيها. ثمّ إنّ الإفرنج راسلوا الزّرّاد أحد المقدَّمين، وكان متسلّمًا برجًا من الوادي، فبذلوا لَهُ مالًا، فعامد عَلَى المسلمين يطلعوا إلى أن تكاملوا خمسمائة، فضربوا البوق وقت السَّحَر، ففتح ياغي سيان الباب، وهرب في ثلاثين فارسًا، ثمّ هرب نائبه قي جماعة.
استباحة الإفرنج أنطاكية:
واستُبيحت أنطاكية فإنا لله وإنا إِلَيْهِ راجعون، وذلك في جُمَادَى الأولى من سنة إحدى وتسعين. وأُسْقِط في يد يغيسيان صاحبها، وأكل يديه ندمًا حيث لم يعد ويقاتل عَنْ حُرَمه حتّى يقتل. فلشدة ما لحقه سقط مغشيا عَلَيْهِ، وأراد أصحابه أنّ يُرْكِبُوه، فلم يكن فيه حَيْلٌ يتماسك بِهِ، بل قد خارت قوّته فتركوه ونجوا. فاجتاز بِهِ أَرمنيّ حطّاب، فرآه بآخر رَمَق، فقطع رأسه وحمله إلى الإفرنج.
رواية سبط ابن الجوزي:
وقال صاحب "المرآة": وكثر النّفير عَلَى الإفرنج، وبعث السّلطان بَرْكِيارُوق إلى العساكر يأمرهم بالميسر إلى عميد الدّولة للجهاد. وتجهّز سيف الدّولة فمنعه ابن مُزْيَد. فجاءت الأخبار إلى بغداد بأنّ أنطاكية أُخذت، وأنّ الإفرنج صاروا إلى المعرة،
وكانوا في ألف ألف إنسان، فنصبوا عليهم السّلالم، ودخلوها، وقتلوا منها مائة ألف إنسان، وسبوا مثل ذلك، وفعلوا بكفر طاب كذلك. قلت: دافع أهل المَعَرّة عَنْهَا وقاتلوا قتال موت حتى خذلوا، فقتل بها عشرون ألف، فهذا أصحّ.
رواية ابن القلانسي:
وقال أبو يَعْلَى بْن قلانسيّ: وأمّا أنطاكيّة فقُتِل بها وسُبِي بها من الرجال والنّساء والأطفال ما لم يدركه حصر. وهرب إلى القلعة تقديرُ ثلاثة آلاف تحصنوا. قَالَ أبو يَعْلَى: وبعد ذَلِكَ أخذوا المَعَرّة في ذي الحجّة.
رواية ابن الأثير:
قَالَ ابن الأثير: ولمّا سمع قوام الدولة كبر بوقا صاحب المَوْصِل بذلك، جمع الجيوش وسار إلى الشّام، ونزل بمرج دابق فاجتمعت معه عساكر الشام، تُركها وعَرَبُها سوى جُنْد حلب. فاجتمع معه دقاق وطغتكين أتابك، وجناح الدّولة صاحب حمص، وأرسلان صاحب سُنْجار، وسليمان بْن أُرْتُق وغيرهم، فعظمت المصيبة عَلَى الإفرنج، وكانوا في وهْن وقَحْط. وسارت الجيوش فنازلتهم. ولكن أساء السّيرةَ كبربوقا في المسلمين، وأغضب الأمراء وتحامق، فأضمروا لَهُ الشّرّ، وأقامت الإفرنج في أنطاكيّة بعد أنّ ملكوها ثلاثة عشر يومًا، وليس لهم ما يأكلونه، وأكل ضعفاؤهم الميتة وورق الشجر، فبذلوا البلد بشرط الأمان، فلم يعطهم كبربوقا.
حربة المسيح عليه السلام المزعومة:
وكان بردويل، وصنجيل وكندفري، والقمص صاحب الرُّها وبَيْمُنْت صاحب أنطاكيّة، ومعهم راهب يراجعون إلَيْهِ، فقال: إنّ المسيح كانت لَهُ حَرْبَةٌ مدفونة بأنطاكية، فإن وجدتموها نُصِرْتُم، ودفن حرْبةً في مكانٍ عفّاه، وأمرهم بالصَّوم والتّوبة ثلاثة أيام، ثم أدخلهم في مكان، أمر بحفْره، فإذا بالحَرْبة، فبشّرهم بالظَّفَر وخرجوا للقاء، وعملوا مصافًا، فولّى بعض العساكر حرب كبربوقا، لِما في قلبهم منه، وما كَانَ ذا وقت ذا، فاشتغل بعضهم ببعض، ومالت عليهم الإفرنج فهزمتم، وهربوا من غير أن يقاتلوا، فظنت الإفرنج أنها مكيدة، إذا لم يجر قتال يوجب الهزيمة. وثبت
جماعة من المجاهدين، وقاتلوا خشية، فحطمتهم الإفرنج، واستشهد يومئذ ألوف، وغنمت الإفرنج من المسلمين معظم ثقلهم ودوختهم.
دخول الإفرنج المَعَرّة:
ثمّ ساروا إلى المَعَرّة فحاصروها أيامًا، ثمّ دخل المسلمين فشل هلع، وظنوا أنهم إذا تحصنوا بالدُّور الكبار امتنعوا بها، فنزلوا من السور إلى الدور، فرآهم طائفة أخرى، ففعلوا كفعلهم، فخلا مكانهم من السُّور، فصعدت الإفرنج عَلَى السّلالم، ووضعوا فيهم السيف ثلاثة أيّام، وقتلوا ما يزيد عَلَى مائة ألف، وملكوا جميع ما فيها.
محاصرة الإفرنج عرقة:
وساروا إلى عرقة، فحصروها أربعة أشهر، ونقّبوا أماكن، ثمّ صالحهم عليها صاحب شيزر ابن منقذ.
منازلة الإفرنج حمص:
فساروا ونازلوا حمص، ثمّ صالحهم جناح الدولة عَلَى طريق عكا.
شغب الْجُنْد عَلَى السلطان بَركيَارُوق:
وفيها شغب الْجُنْد عَلَى السلطان بَركيَارُوق وقالوا: لا نسكت لك حتّى تسلّم لنا مجد المُلْك القُمّيّ المستوفي -وكان قد أساء السّيرة، وضيّق الأرزاق-. فقال: واللَّه لا أمكنهم منك. وعزم إلى إخفائه، فقيل لَهُ: متي خرج عنك قتلوه، ولكن اشفع فيه. فبعثه وقال للأمراء: السلطان يشفع إليكم فيه فثاروا بِهِ وقتلوه. ثمّ جاءوا وقبلوا الأرض من بين يدي بَركيَارُوق، فسكت.
خروج بيت المقدس من يد ابن أُرْتُق:
وقال أبو يَعْلَى: وسار أمير الجيوش أحمد حتّى نازل بيت المقدس وحاصره، وأخذه من سقمان بن أرتق1.
1 انظر: الكامل "10/ 272-275"، البداية والنهاية "12/ 148-155"، النجوم الزاهرة "5/ 153-162"، تاريخ الخلفاء "ص/ 676"، صحيح التوثيق "7/ 522".