الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سنة تسع وعشرين وخمسمائة:
إخراج مسعود من بغداد:
قد ذكرنا أنّ الخليفة قال لمسعود: أرحل عنّا. وأنه بعث إليه بالخلع والتاج، ثم نفذ إلى الجاوليّ شِحْنَة بغداد، مصانِعًا له على الخروج، وأمره إن هو دافع أن يرمي خيمته. ثمّ أحسَّ منه أنّه قد باطَنَ الأتراك، واطّلع منه على سوء نِية، فأخرج أمير المؤمنين سُرَادقه، وخَرَج أرباب الدّولة، فجاء الخبر بموت طُغْرُل، فرحل مسعود جريدةً، وتلاحَقَتْه العساكر، فوصل هَمَذَان، واختلف عليه الجيش، وانفرد عنه قُزُل، وسُنْقُر، وجماعة، فجهز لحربهم، وفرّق شملهم، فجاء منهم إلى بغداد جماعة، وأخبروا سوء نيته، منهم البازدار، وقُزُل، وسُنْقُر1.
القبض على أنوشروان:
وسار أنوشروان بأهله إلى خُراسان لوزارة السّلطان مسعود، فأُخِذ في الطّريق.
استرجاع زنكيّ المعرَّة:
وفيها افتتح الأتابك زنكيّ بن آقْسُنْقُر المَعَرَّة، فأخذها من الفرنج. وكان لها في أيديهم سبعٌ وثلاثون سنة، وردّ أملاكهم، وكُثر الدّعاء له2.
طاعة ابن زنكيّ للخليفة:
وفيها قدِم الموصلَ ابن زنكيّ من عند والده بمفاتيح المَوصل مُذْعِنًا بالطّاعة والعُبوديَّة للخليفة، فخرج الموكب لتلقّيه، وأكرم مورده. ونزل وقَبل العَتَبَة.
موت رسول دُبَيْس:
وجاء رسول دُبَيْس يقول: أنا الخاطئ المُقِرّ بذنْبه.
فمات رسوله، فذهب هو إلى مسعود.
كتاب ابن الأنباريّ:
وجاء السّديد بن الأنباري من عند السّلطان سنْجر، ومعه كتابه يقول فيه: أنا العبد المملوك.
ثم توارت الأخبار بعزم مسعود على بغداد، وجمع وحشد، فبعث الخليفة إلى بكبة نائب البصرة، فوعدَ بالمجيء.
ووصل إلى حُلوان دُبَيْس وهو سائس عسكر مسعود، فجهّز الخليفة ألفيْ فارس تقدّمه، وبعث إلى أتابك زنكيّ، وكان مُنازِلًا دمشق3.
1 العبر "4/ 75"، المنتظم "10/ 41"، الكامل في التاريخ "11/ 19، 24، 25".
2 العبر "4/ 75"، زبدة الحلب "2/ 259".
3 المنتظم "10/ 42".
انفصال الأمراء عن جيش مسعود:
وبعث سَنْجَر إلى مسعود أن هؤلاء الأمراء، وهم البازدار وابن برسُق، وقُزُل، وبرتقش، ما يتركونك تنال غَرَضًا لأنّهم عليك، وهم الّذين أفسدوا أمر أخيك طُغْرُل، فابعث إليَّ برءوسهم. فأطْلَعهم على الكتاب، فقبّلوا الأرض وقالوا: الآن علمنا أنّك صافٍ لنا، فابعث دُبَيْسًا في المقدّمة. ثمّ اجتمعوا وقالوا: ما وراء هذا خير، والرأي أن نمضي إلى أمير المؤمنين، فإن له في رقابنا عهدًا. وكتبوا إليه: إنا قد انفصلنا عن مسعود، ونحن في بلاد برسُق، ونحن معك، وإلّا فاخطب لبعض أولاد السّلاطين، ونفّذه نكون في خدمته. فأجابهم: كونوا على ما أنتم عليه، فإني سائر إليكم. وتهيأ للخروج، فلما سمع مسعود ساق لكبسهم، فانهزموا نحو العراق، فنهب أموالهم.
وجاءت الأخبار، فهيّأ لهم الخليفة الإقامات والأموال1.
مهاجمة مقدّمة جيش الخليفة:
وخرج عسكر بغداد والخليفة، وانزعج البلد.
وبعث مسعود خمسة آلاف ليكسبوا مقدّمة الخليفة، فبيّتوهم وأخذوا خيلهم وأموالهم، فأقبلوا عُراة، ودخلوا بغداد في حالٍ رديئة. فأطلق لهم ما أصلح أمرهم.
وجاء الأمراء الكبار الأربعة في دجلة فأكرموا وخُلِع عليهم، وأُطلق لهم ثمانون ألف دينار، ووُعدوا بإعادة ما مضى لهم2.
قطع الخطبة لمسعود:
وقُطعت خطبة مسعود وخُطِب لسَنْجَر، وداود.
استمالة مسعود الأطراف إليه:
ثمّ برز الخليفة، وسار في سبعة آلاف فارس، وكان مسعود بهمذان في ألفٍ وخمسمائة فارس؛ ثم أفسد نيّات الأطراف بالمكاتبة، واستمالهم حتّى صار في نحو
1 المنتظم "10/ 43"، الكامل في التاريخ "11/ 24، 25"، الإنباء في تاريخ الخلفاء "221".
2 المنتظم "10/ 44"، الكامل في التاريخ "11/ 25".
خمسة عشر ألف فارس، وتسلَّل إليه ألفا فارس من عسكر المسترشد. ونفّذ زنكيّ إلى الخليفة نجدةً، فلم يلحق1.
أسر المسترشد:
ووقع المصافّ في عاشر رمضان، فلمّا التقى الْجَمْعان هرب جميع العسكر الّذين كانوا مع المسترشد، وكان على ميمنته قزل، والبازدار، ونور الدّولة الشحنة، فحملوا على عسكر مسعود، فهزموهم ثلاثة فراسخ ثمّ عادوا فرأوا المَيْسَرَة قد غدرت، فأخذ كلّ واحدٍ منهم طريقًا وأُسِر المسترشد وحاشيته، وأُخِذ ما معه، وكان معه خزائن عظيمة، فكانت صناديق الذَّهب على سبعين بغلا أربعة آلاف ألف دينار، وكان الثّقْل على خمسة آلاف جَمَل، وخزانة السبق أربعمائة بغْل.
ونادى مسعود: المال لكم، والدَّمُ لي، فمن قُتِلَ أَقَدْتُه. ولم يُقتل بين الصَّفَّيْن سوى خمسة أنْفُس غَلَطًا.
ونادى: من أقام من أصحاب الخليفة قُتِلَ. فهرب النّاس، وأخذتهم التُّرْكُمان، ووصلوا بغداد وقد تشقَّقت أرجُلُهم، وبقي الخليفة في الأسر2.
كتاب الخليفة إلى أستاذ الدار:
وبعث بالوزير ابن طِراد وقاضي القُضاة الزَّيْنبيّ، وبجماعةٍ إلى قلعة، وبعث شِحْنة بغداد ومعه كتاب من الخليفة إلى أستاذ الدّار، أمره مسعود بكتابته، فيه: ليعتمد الحسين بن جَهِير مُراعاة الرّعيَّة وحمايتهم، فقد ظهر من الولد غياث الدّنيا والدّين، أمتع الله به في الخدمة ما صدقت به الظُّنُون. فلْيجتمع وكاتب الزّمام وكاتب المخزن إلى إخراج العمّال إلى النّواحي، فقد ندب من الجانب الغياثيّ هذا الشِّحْنة لذلك، ولْيَهْتمّ بكِسوَة الكعبة، فنحن في إثر هذا المكتوب3.
1 المنتظم "10/ 44، 45"، الكامل في التاريخ "11/ 25"، مرآة الجنان "3/ 255".
2 المنتظم "10/ 43-48"، الكامل في التاريخ "11/ 24-26"، سير أعلام النبلاء "19/ 565-568".
3 المنتظم "10/ 45، 46".
ثورة أهل بغداد:
وحضر يد الفِطْر، فنفر أهل بغداد ووثبوا، ووثبوا على الخطيب، وكسروا المنبر والشّبّاك، ومنعوه من الخطْبة، وَحَثَوْا في الأسواق على رءوسهم التُّراب يبكون ويضجّون، وخرج النّساء حاسراتٍ يندُبن الخليفة في الطُّرُق وتحت التّاج، وهمّوا برجْم الشِّحْنة، وهاشوا عليهم، فاقتتل أجناده والعوامّ، فقتِل من العوامّ مائة وثلاثة وخمسون نفْسًا، وهرب أبو الكَرَم الوالي، وحاجب الباب إلى دار خاتون، ورمى أعوان الشحنة الأبواب الحديد التي عَلَى السور، ونقبوا فِيهِ فتحات، وأشرفت بغداد على النَّهْب، فنادى الشِّحْنة: لَا ينزل أحدٌ في دار أحد، ولا يؤخذ لأحدٍ شيء، والسّلطان جاي بين يدي الخليفة، وعلى كتفه الغاشية. فسكن النّاس. وطلب السّلطان من الخليفة "نظر الخادم" فنفّذ أطلقه، وسار بالخليفة إلى داود، إلى مَرَاغة1.
زلزلة بغداد:
وقال ابن الجوزيّ: وزلزلت بغداد مِرارًا كثيرة، ودامت كلّ يومٍ خمس أو ست مرّات إلى ليلة الثّلاثاء، فلم تزل الأرض تَمِيد من نصف اللّيل إلى الفجر، والنّاس يستغيثون2.
تفاقم الأمر ببغداد:
وتصّرف عمّال السّلطان في بغداد، وعوّقوا قرى وليّ العهد، وختموا على غلّاتها، فافْتَكّ ذلك منهم بستّمائة دينار، فأطلقوها.
وتفاقم الأمر، وانقطع خبر العسكر، واستسلم النّاس3.
رسالة سَنْجَر إلى مسعود بطاعة الخليفة:
ثمّ أرسل سَنْجَر إلى ابن أخيه مسعود يقول: ساعة وقوف الولد غياث الدّنيا والدّين على هذا المكتوب يدخل على أمير المؤمنين ويُقبّل الأرض بين يديه، وتسأله
1 المنتظم "10/ 43-46"، الكامل في التاريخ "11/ 26"، العبر "4/ 77".
2 المنتظم "10/ 46"، الكامل في التاريخ "11/ 34"، البداية والنهاية "12/ 208".
3 المنتظم "10/ 46"، التاريخ الباهر "52".
العفْو والصَّفح، وتتنصّل غاية التّنصُّل، فقد ظهرت عندنا من الآيات السّماويَّة والأرضية ما لَا طاقة لنا بسماع مثلها، فضلًا عن المشاهدة من العواصف والبُرُوق والزلازل، ودوام ذلك عشرين يومًا، وتشويش العساكر وانقلاب البلدان، ولقد خِفْت على نفسي من جانب الله وظهور آياته، وامتناع الناس من الصّلوات في الجوامع، ومنْع الخُطَباء ما لَا طاقة لي بحمله، فالله الله بتلافي أمرك، وتعيد أمير المؤمنين إلى مقّر عزّه، وتسلِّم إليه دُبَيْسًا ليحكم فيه، وتحمل الغاشية بين يديه أنت وجميع الأمراء، كما جرت عادتنا وعادة آبائنا.
فنفّذ مسعود بهذه المكاتبة مع الوزير، ونظر، فدخلا على الخليفة، واستأذنا لمسعود، فدخل وقبّل الأرض، ووقف يسأل العفو، فقال: قد عُفِي عن ذنْبك، فاسكن وَطِبْ نفْسًا1.
شفاعة مسعود بدُبَيْس:
ثمّ عامله مسعود بما أمره به عمّه، وسأل من الخليفة أن يُشَفَّعه في دُبَيْس، فأجابه، فأحضروه مكتوفا بين أربعة أمراء، ومع واحد سيف مجذوب، وكَفَن منشور، وأُلقي بين يدي السّرير، وقال مسعود: يا أمير المؤمنين هذا السّبب الموجب لِما تمّ، فإذا زال السّبب زال الخلاف، ومهما تأمر نفعل به. وهو يبكي ويتضرَّع ويقول: العفو عند المقدرة، وأنا أقَلّ وأَذَلّ.
فعفي عنه وقال: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} [يوسف: 92] فخلّوه، وقبّل يد أمير المؤمنين وأَمرَّها على وجهه، وقال: بقرابتك من رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلّا ما عفوت عنّي، وتركتني أعيش في الدّنيا، فإنّ الخوف منك قد برّح بي2.
نقضْ سور بغداد:
وأمّا بكبة شِحْنة بغداد، فإنّه أمر بنقْض السُّور ببغداد، فنُقِض مواضع كثيرة.
وقال: عمرتموه بفرح، فانقضوه لذلك.
1 المنتظم "10/ 47"، الكواكب الدرية "100"، أخبار الدول "2/ 169، 170".
2 المنتظم "10/ 48".
وضربت لهم الدبادب، وردوا الباب الحديد الّذي أُخِذ من جامع المنصُور إلى مكانه1.
قتل الباطنيَّة الخليفة المسترشد:
وقدِم رسولٌ ومعه عسكر يستحثّ مسعود أمر جهة عمّه على إعادة الخليفة إلى بغداد، فجاء في العسكر سبعة عشر من الباطنيَّة، فذُكر أنّ مسعودًا ما علم بهم، فالله أعلم، فركب السّلطان والعساكر لتلقي الرسول، فهجمت الباطنيَّة على الخليفة، ففتكوا به رحمه الله، وقتلوا معه جماعة من أصحابه، فعلم العسكر، فأحاطوا بالسُّرادق فخرج الباطنيَّة وقد فرغوا من شُغلهم، فقُتِلَوا. وجلس السّلطان للعزاء، ووقع النّحيب والبكاء؛ وذلك على باب مَرَاغة، وبها دُفن.
وجاء الخبر، فطلب الرّاشد النّاس طول الليل فبايعوه ببغداد، فلمّا أصبح شاع قتْله، فأغلق البلد، ووقع البكاء والنّحيب، وخرج النّاس حُفاةً مُخَرَّقي الثّياب، والنّساء منشّرات الشُّعور يلْطِمْن، ويقُلْن فيه المراثي على عادتهنّ، لانّ المسترشد كان محبَّبًا فيهم بمرة، لما فيه من الشّجاعة والعدل والرَّفْق بهم2.
فمن مراثي النّساء فيه:
يا صاحب القضيب ونور الخاتم
…
صار الحريم بعد قتلك رائم
اهتزّت الدّنيا ومَن عليها
…
بعد النّبيّ ومن ولي عليها
قد صاحت البومة على السُّرادق
…
يا سيّدي ذا كان في السّوابق
تُرَى تراك العينُ في حريمك
…
والطَّرحة السّواد على كريمك
وَعُمِلَ العزاء في الديوان ثلاثة أيام، تولى ذلك ناصح الدّولة ابن جَهير، وأبو الرّضا صاحب الدّيوان.
بيعة الراشد بالخلافة:
ثمّ شرعوا في الهناء، وكتب السلطان إلى الشحنة بكبة أن يبايع للراشد.
1 المنتظم "10/ 48، 49".
2 الكامل في التاريخ "11/ 27"، المنتظم "10/ 49"، سير أعلام النبلاء "19/ 561، 573"، البداية والنهاية "12/ 208".
وجلس الراشد في الشباك في الدار المثمنة المقتدرية، وبايعه الشحنة من خارج الشّبّاك، وذلك في السابع والعشرين من ذي القعدة. وظهر للنّاس؛ وكان أبيض جسيمًا بحمرةٍ مستحسَنَة. وكان يومئذٍ بين يديه أولاده وإخوته، ونادى بإقامة العدل وردّ بعض المظالم1.
ظهور التشيّع أيام الغدير:
وفي أيّام الغدير ظهر التَّشيُّع، ومضى خلقٌ إلى زيارة مشهد عليّ ومشهد الحسين.
منازلة زنكيّ دمشق:
وفيها نازل زنكيّ دمشق، وحاصرها أشدّ حصار، فقام بأمر البلدان أتمّ قيام، وأحبّه النّاس، فجاء زنكيّ رسول المسترشد بالله يأمره بالرحيل2.
مسير سَنْجَر إلى غزنة وهرب ملكها:
وفي ذي القعدة سار السّلطان سَنْجَر بالجيوش إلى غَزْنَة فأشرف عليها، وهرب منه ملكها، فأمّنه ونهاه عن ظُلْم الرّعيَّة، وأعاده إلى مملكته، وهو بهرام شاه. ورجع السّلطان فوصل بلْخ في شوّال من سنة ثلاثين3.
1 المنتظم "10/ 50"، الكامل في التاريخ "11/ 28"، المختصر في أخبار البشر "3/ 10".
2 الكامل في التاريخ "11/ 21، 22"، المختصر في أخبار البشر "3/ 9"، الكواكب الدرية "103".
3 الكامل في التاريخ "11/ 28-30".