المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌سنة إحدى وعشرين وخمسمائة - تاريخ الإسلام - ط التوفيقية - جـ ٣٦

[شمس الدين الذهبي]

الفصل: ‌سنة إحدى وعشرين وخمسمائة

‌المجلد السادس والثلاثون

‌الطبقة الثالثة والخمسون

‌سنة إحدى وعشرين وخمسمائة

بسم الله الرحمن الرحيم

الطبقة الثالثة والخمسون:

سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمَائَةٍ:

حَرْبُ الْخَلِيفَةِ وَالسُّلْطَانِ فِي بَغْدَادَ:

قد ذكرنا أنّ أهل بغداد كانوا بالجانب الغربي، وعسكر محمود في الجانب الشرقي، وتراموا بالنَّشّاب، ثم إن جماعة من عسكر محمود حاولوا الدّخول إلى دار الخلافة من باب النّوبي، فمنعتهم الخاتون، فجاءوا إلي باب الغربة في رابع المحرَّم، ومعهم جمع من الساسة والرُّعاع، فأخذوا مطارق الحدّادين، وكسروا باب الغربة، ودخلوا إلي التاج فنهبوا دار الخلافة من ناحية الشّطّ، فخرج الجواري حاسرات تلْطُمْن، ودخَلْنَ دار خاتون؛ وضجّ الخلْق، فبلغ الخليفة، فخرج من السرداق، وابن صَدَقة بين يديه، وقدّموا السُّفن دفعةً واحدة، ودخل عسكر الخليفة، وألبسوا الملاحين السّلاح، وكشفوا عنهم. ورمى العيّارون أنفسهم في الماء وعبروا. وصاح المسترشد بالله بنفسه، يا آل بني هاشم. فصَدَق الناس معه القتالَ، وعسكرُ السلطان مشغولون بالنَّهْب، فلما رأوا عسكر الخليفة ذلّوا وولوا الأدْبار، ووقع فيهم السيف، واختفوا في السراديب، فدخل وراءهم البغداديون وأسروا جماعة، وقتلوا جماعة من الأمراء ونهب العامة دور أصحاب السلطان، ودار وزيره، ودار العزيز أبى نصر المستوفي، وأبي البركات الطيب وأُخذ من داره ودائع وغيرها بما قيمته ثلاثمائة ألف. وقُتِلَ من أصحاب السلطان عدةٌ وافرةٌ في الدروب والمضائق.

ثم عبر الخليفة إلى داره في سابع المحرَّم بالجيش، وهم ثلاثين ألف مقاتل بالعوام وأهل البر، وحفروا بالليل خنادق عند أبواب الدروب، ورتب على أبواب المحال من يحفظها.

وبقي القتال أيامًا إلى يوم عاشوراء، انقطع القتال، وترددت الرسل، ومال الخليفة إلى الصُّلح والتحالف، فأذعن السلطان وأحب ذلك، وراجع الطاعة، وأطمأن الناس، وطُمَّت الخنادق. ودخل أصحاب السلطان يقولون: لنا ثلاثة أيام ما أكلنا خبزا، ولولا الصلح لمتنا جوعًا.

فكانوا يسلقون القمح ويأكلونه. فما رؤي سلطانٌ

ص: 3

حاصر فكان هو المحاصَر، إلا هذا.

وظهر منه حلم وافر عن العوام1.

إرسال الخِلَع إلى ابن طراد:

وبعث الخليفة مع علّي بن طِراد إلى سَنْجر خِلعًا وسيفين، وطوقًا ولواءين، ويأمره بإبعاد دُبَيْس من حضرته2.

مقتل وزير سَنجْر:

وجاء الخبر بأن سنجْر قتل من الباطنية اثني عشر ألفًا، فقتلوا وزيره المعين، لأنه كان يحرّض عليهم وعلى استئصالهم. فتجمل رجل منهم، وخدم سائسا لبغال المعين، فلما وجد الفرصة وثب عليه وهو مطمئن فقتله، وقُتِلَ بعده، وكان هذا الوزير ذا دِين ومروءة، وحُسن سيرة3.

مرض السلطان محمود:

ومرض السّلطان محمود في الميدان، وغُشى عليه، ووقع من فرسه، واشتد مرضه.

ثم تماثل فركب، ثم انتكس، وأُرجِف بموته ثمّ خُلع عليه وهو مريض، وأشار عليه الطّبيب بالرواح من بغداد، فرحل يطلب هَمَذَان، وفوّض شِحْنكيَّة بغداد إلي عماد الدين زنكي4.

القبض على المستوفي والوزير:

وبعد أيام جاء الخبر من همذان بأن السلطان قَبض على العزيز المستوفي وصادره وحبسه، وعلى الوزير فصادره فحبسه وكان السبب أنّ الوزير تكلَّم على العزيز، وأن برتقش الزكوي تكلم على الوزير.

وزاره أنوشروان:

ثمّ بعث السلطان إلي أنوشروان بن خالد الملقب بشرف الدين، فاستوزره، فلم

1 المنتظم "10/ 2-4"، العبر "4/ 49"، البداية والنهاية "12/ 197".

2 المنتظم "10/ 5".

3 النجوم الزاهرة "5/ 232"، المنتظم "10/ 5"، دول الإسلام "2/ 45".

4 المنتظم "10/ 4، 5"، ذيل تاريخ دمشق "218"، العبر "4/ 99".

ص: 4

يكن له ما يتجهَّز به حتى بعث له الوزير جلال الدين من عند الخليفة الخِيَم والخيل، فرحل إلي أصبهان في أول رمضان في السنة. أقام في الوزارة عشرة أشهر، واستعفى وعاد إلي بغداد1.

تفويض بهروز ببغداد والحلَّة:

وفي رمضان وصل مجاهد الدّين بهروز إلي بغداد، وقد فوض إليه السلطان بغداد والحِلَّة2.

تفويض زنكي الموصل:

وفوّض إلى زنكي الموصل، فسار إليها.

وفاة مسعود بن آقْسُنْقُر:

ومات عزّ الدّين مسعود بن آقْسُنْقُر البُرْسُقيّ في هذه السّنة. وكان قد وصل إلى الموصل بعد قتل والده، واتفق موتُه بالرَّحْبَة، فإنه سار إليها.

وكان بطلًا شجاعًا، عالي الهمَّة. ردّ إليه السُلطان جميع إقطاع والده، وطمع في التّغلُّب على الشّام، فسار بعساكره، فبدأ بالرَّحْبَة، فحاصرها، ومرض مرضًا حادًّا، فتسلم القلعة، ومات بعد ساعة، وبقي مطروحًا على بساط، وتفرق جيشه، ونهب بعضُهم بعضًا، فأراد غلمانه أن يُقيموا ولده، فأشار الوزير أنوشروان بالأتابك زنكي لحاجة الناس إلى من يقوم بإزاء الفرنج، لعنهم الله3.

سؤال الإسفرائيني عن حديث:

وَفِيهَا سُئِلَ أبو الفتح الإسفرائيني فِي مَجْلِسِهِ بِبَغْدَادَ عَنِ الْحَدِيثِ: "لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا ثَلَاثَ كَذِبَاتٍ". فَقَالَ: لَمْ يَصِحَّ4.

1 المنتظم "10/ 5"، الكامل في التاريخ "10/ 642".

2 المنتظم "10/ 5"، الكامل في التاريخ "10/ 647".

3 الكامل في التاريخ "10/ 643، 644"، تاريخ مختصر الدول "203"، نهاية الأرب "27/ 77".

4 المنتظم "10/ 6".

ص: 5

خبر الإسفرائيني:

أبو الفتح الإسفرائيني، رضوان الله عليه من كبار أهل السُّنَّة ومن ذوي الكرامات الظاهرة. وما نسب إليه من الاستخفاف بالقرآن كذِب وزُور هو وغيره من الأشاعرة يصرحون بتكفير من استخفّ بالمصاحف وشيخنا الذّهبيّ غيرّ عادته بهم، وأذن برأيهم، والحديث في الصّحيح.

وقال يومًا على المنبر: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أصبحت؟ فقال: "أعمى بين العُمْيان، ضالًّا بين الضّالّين".

فاستحضره الوزير، فأقرّ، وأخذ يتأول تأولات فاسدة، فقال الوزير للفُقهاء: ما تقولون؟ فقال ابن سلمان مدرّس النّظاميَّة: لو قال هذا الشّافعي ما قبِلْنا منه، ويجب على هذا أن يجدد إيمانه وتوبته. فمُنع من الجلوس بعد أن استقرّ أنّه يجلس، ويشدّ الزّنّار، ثم يقطعه ويتوب، ثم يرحل. فنصره قومٍ من الأكابر يميلون إلى اعتقاده، وكان أشعريًا. فأعادوه إلى الجلوس، وكان يتكلَّم بما يُسقِط حُرْمة المُصْحَف من قلوب العوامّ، فافتتن به خلْق، وزادت الفِتن بِبغداد. وتعرَّض أصحابه بمسجد ابن جردة فرجموه، ورُجم معهم أبو الفتوح. وكان إذا ركب يلبس الحديد ومعه السيوف مُسَلَّلَة، ثم اجتاز بسوق الثُّلاثاء، فرُجم ورُميت عليه الميتات، ومع هذا يقول: ليس هذا الّذي نتلوه كلام الله، إنما هو عبارة ومجاز.

ولما مات ابن فاعوس انقلبت بغداد، وغُلَّقت الأسواق، وكان عوامّ الحنابلة يصيحون على عادتهم: هذا يوم سُنّيّ حنبلي لَا أشعريّ ولا قُشيَريّ ويصرخون بأبي الفتوح هذا. فمنعه المسترشد بالله من الجلوس، وأمره أن يخرج من بغداد.

وكان ابن صَدَقة يميل إلى السُّنَّة، فنصرهم.

ثم ظهر عند إنسان كرّاس قد اشتراها، فيها مكتوب القرآن، وقد كُتِب بين الأسطر بالأحمر أشعار على وزن أواخر الآيات. ففُتَّش على كاتبها، فإذا هو مؤدب، فكبس بيته، فإذا هو كراريس كذلك، فحُمل إلى الديوان، وسُئل عن ذلك، فأقرّ، وكان من أصحاب أبي الفتوح، فنُودي عليه على حمار، وشُهر، وهمّت العامَّة بإحراقه. ثم أذن لأبي الفتوح، فجلس1.

1 المنتظم "10/ 6".

ص: 6