الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهو أنه ينبغي أن يشتغل بالقرآن - قدر المستطاع - مباشرة بدون وساطة، ويتلو متنه أكثر ما يمكن، ويستمتع بقراءته، ويتذوق ويتدبر في معانيه، فإذا كان القارئ قد حصَّل من العربية ما يحتاج إليه، وتمكن من فهم القرآن الكريم مباشرة، فعليه بقراءته وفهمه مباشرة، وإلا فليرجع إلى الحواشي والملاحظات التفسيرية المختصرة، ويحاول تلاوة القرآن الكريم، وفهمه وتدبره وتذوقه من دون اعتماد وتعويل دائم على تفسير إنساني ومراجعة كثيرة لكتب التفاسير، ويكتفي بذلك إلى مدةٍ ما من الزمن، ويحمد الله - تعالى - على ما يفتحه عليه من فهم كتابه، وما يوفق إليه من تلاوته، حمدًا كثيرًا (1).
وسائل عملية معينة على الانتفاع بالقرآن:
وبعد أن نقلنا لك - أخي القارئ - بعض تجارب ووصايا المصلحين في كيفية الانتفاع بالقرآن يبقى الحديث عن الوسائل المعينة لتحقيق الوصال بين القلب والقرآن بصورة عملية، ولقد تم ذكر هذه الوسائل بشيء من التفصيل في كتاب «بناء الإيمان من خلال القرآن» ، وكتاب «حقيقة العبودية» ، وغيرهما، ولتمام الفائدة، نذكرها هنا باختصار:
أولاً: الإلحاح على الله عز وجل بأن يفتح قلوبنا لأنوار كتابه، وأن يكرمنا ويعيننا على التدبر والتأثر، ولقد تقدم الحديث عن أهمية الإلحاح على الله في المحور الثاني، ونعيد ذكره هنا باعتبار أن القيام به أمر ضروري قبل الشروع في تلاوة القرآن وذلك لأهميته وفائدته العظيمة في استثارة مشاعر الرغبة في الانتفاع بالقرآن، وتهيئة القلب لاستقباله.
ثانيًا: الإكثار من تلاوة القرآن، وإطالة فترة المكث معه، وعدم قطع القراءة بأي أمر من الأمور -ما أمكن ذلك- حتى لا نخرج من جو القرآن، وسلطان الاستعاذة، خاصة في البداية، ويُفضل أن يكون اللقاء بالقرآن في مكان هادئ -قدر المستطاع- وبعيدًا عن الضوضاء ليساعد المرء على التركيز وعدم شرود الذهن، ولا ننسى الوضوء والسواك قبل القراءة فهي أيضًا من المعينات.
ثالثًا: القراءة من المصحف وبصوت مسموع وبترتيل: فالترتيل له وظيفة كبيرة في الطَّرْق على المشاعر ومن ثمَّ استثارتها وتجاوبها مع الفهم الذي سيولده التدبر، لينشأ بذلك الإيمان حينما يتعانق الفهم مع التأثر.
وهنا تبرز أهمية تعلم أحكام التلاوة حتى تتحقق الفائدة من الترتيل. فلا بد وأن يجتهد كل منا في تعلم أحكام التلاوة والنطق الصحيح للآيات في أسرع وقت حتى يتسنى له الانتفاع بالقرآن.
رابعًا: القراءة الهادئة الحزينة: علينا ونحن نرتل القرآن، أن نُعطي الحروف والغُنَّات والمدود حقها حتى يتيسر لنا معايشة الآيات وتدبرها والتأثر بها، وعلينا كذلك أن نقرأ القرآن بصوت حزين لاستجلاب التأثر.
خامسًا: الفهم الإجمالي للآيات من خلال إعمال العقل في تفهم الخطاب، وهذا يستلزم منا التركيز التام مع القراءة. وليس معنى إعمال العقل في تفهم الخطاب أن نقف عند كل كلمة ونتكلف في معرفة معناها وما وراءها، بل يكفي المعنى الإجمالي الذي تدل عليه الآية حتى يتسنى لنا الاسترسال في القراءة ومن ثمَّ التصاعد التدريجي لحركة المشاعر فتصل إلى التأثر والانفعال في أسرع وقت.
سادسًا: الاجتهاد في التعامل مع القرآن كأنه أنزل عليك، وكأنك المخاطب به، والاجتهاد كذلك في التفاعل مع هذا الخطاب من خلال الرد على الأسئلة التي تتضمنها الآيات، والتأمين عند مواضع الدعاء، .. وهكذا.
(1) المدخل إلى الدراسات القرآنية لأبي الحسن الندوي ص 107.
سابعًا: تكرار وترديد الآية أو الآيات التي حدث معها تجاوب وتأثر قلبي حتى يتسنى للقلب الاستزادة من النور الذي يدخل، والإيمان الذي ينشأ في هذه اللحظات، ويستمر ترديد وتكرار تلك الآية أو الآيات حتى يتوقف التأثر والانفعال، فكما قيل: الآية مثل التمرة كلما مضغتها، استخرجت حلاوتها.
ولا بأس من وجود تفسير مختصر بجوارنا لجلاء شبهة أو معرفة معنى دق علينا فهمه، وإن كان من الأفضل الرجوع إليه بعد انتهاء القراءة حتى لا نخرج من جو القرآن والانفعالات الوجدانية التي نعيش في رحابها إلا إذا ألحت علينا كلمة نريد معرفة معناها في الحال.
فإن داومنا على هذه الوسائل - أخي القارئ - وثابرنا عليها وسرنا بها جنبا إلى جنب مع المحورين السابقين (تقوية الرغبة والإلحاح على الله)، فلنبشر جميعًا بقرب شروق شمس القرآن على قلوبنا لتبدأ معها حياة جديدة تكسوها السكينة والطمأنينة، وروح جديدة وثابة تواقة لفعل الخير، وأهم من هذا كله التجلبب بجلباب العبودية، والرضا بالله ربا، والاكتفاء به، والاستغناء عن الناس.
كل هذا، أخي الحبيب، وغيره من الثمار العظيمة ينتظرنا جميعًا إن نحن أحسَنَّا الإقبال على القرآن وداومنا على ذلك.
فكلما أعطينا للقرآن حقه أعطانا من خيره وكنوزه التي لا نهاية لها، فلو كان البحر مدادًا والأشجار أقلامًا، تكتب ما يحمله كلام الله من معانٍ هادية، لنفد البحر قبل أن تنفد أسرار ومعاني هذا الكلام.
وأعلم -أخي- بأننا إذا أحسنَّا الإقبال على القرآن، وأكثرنا من تلاوته بالليل والنهار، فسنجد - بعون الله - لذة المناجاة، وسنأنس بكلام الله أكثر من أُنسنا بأي شيء آخر، وستأتينا الفتوحات من حيث لا نحتسب.
* * *