الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالمرض موجود، وأعراضه بادية لكل ذي عينين، والتشخيص واضح، والدواء موجود .. أنزله رب العالمين ليحدث بإذنه شفاءً تامًا لا يغادر سقما، ولكننا لا نريد تناوله على الرغم من معاناتنا الشديدة من المرض ..
لماذا؟!
لأننا باختصار لا نثق في أن القرآن الموجود بين أيدينا، وفي بيوتنا يستطيع أن يحل مشكلاتنا، ويعيد لنا مجدنا.
نعم أخي، إن السبب الأساسي لعدم انتفاعنا بالقرآن هو:
ضعف الثقة والإيمان به كدواء كافٍ شاف وكوسيلة تقويم وتغيير فذة.
أما كيف وصلنا لهذا المستوى من ضعف الإيمان والثقة بالقرآن، فبلا شك أن هذا لم يحدث في يوم وليلة، بل حدث عبر قرون طويلة، بسبب عوامل كثيرة ساهمت مجتمعة أو متفرقة في انزواء القرآن في ركن صغير في نفوسنا، ويمكن إجمال هذه العوامل والأسباب في الآتي:
أولاً: الصورة الموروثة عن القرآن
.
ثانيًا: طول الإلف.
ثالثًا: نسيان الهدف من نزول القرآن.
رابعًا: الانشغال بفروع العلم والتوسع فيها على حساب القرآن.
خامسًا: غياب أثر القرآن.
سادسًا: كيد الشيطان.
سابعًا: مفاهيم وممارسات ساهمت في عدم الانتفاع بالقرآن.
ولنبدأ - بعون الله - الصفحات القادمة في تناول كل سبب من هذه الأسباب بشيء من التفصيل.
* * *
أولاً: الصورة الموروثة عن القرآن
بعد أن ينزل الجنين من بطن أمه، ويبدأ في النمو شيئًا فشيئًا، ثم يدخل مرحلة الإدراك، فإنه يرى أمورًا كثيرة تحدث من حوله .. هذه الأمور تقع في ذاكرته، فإذا ما تكرر بعضها أمامه فإنها تنتقل إلى منطقة اللاشعور في عقله لتشكل معتقدًا لديه (1).
فعلى سبيل المثال: عندما كان يشعر بالعطش كانوا يحضرون له شيئًا كل مرة، فاستقر في يقينه - مع الوقت - أن هذا الشيء هو الذي يدفع عنه العطش، ثم بعد ذلك يعلم اسم هذا الشيء، فيطلبه بتلقائية عند عطشه.
وعندما يجد أبويه يتوقفان عن الكلام عند سماع شيء ما يصل إلى مسامعه عدة مرات في اليوم، فإن ذاكرته تختزن هذه الصورة من الاحترام (للأذان).
وهكذا في سائر الأمور التي يجدها في بيئته الأولى، فكل ما يُقَّدس في بيته، يُقَدسَّ عنده، والعكس صحيح، فهو لا يأبه بالأمور التي لا يهتم بها أهل البيت.
وفي هذا المعنى يقول جودت سعيد:
الأطفال الذين تدفعهم الأرحام إلى الوجود ولا يملكون فكرًا أو كلامًا، أو كتابة، وليس لديهم إلا الاستعداد لأن يكونوا أي شيء تكون عليه بيئتهم، فكل طفل يولد في العالم العربي يصير عربيًا في لسانه وفكره، حين لا يرى غير قومه، والصيني يصير بوذيا، والهندي برهميا، وكذلك كل أطفال أهل الملل والنحل واللغات (2).
وكما قال صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يُهوَّدانه أو يُنصَّرانه، أو يمجِّسانه .. » (3).
(1) أي معلومة يتلقاها الإنسان من خلال سمعه أو بصره فإنها تذهب إلى جزء في العقل وهو العقل المدرك أو الواعي أو الشعور، فإذا قبلها العقل انتقلت إلى الجزء الآخر وهو الغير مدرك أو اللاشعور والذي يشكل منطقة العلم الراسخ، أو اليقين، أو المعتقدات سواء كانت صحيحة أو فاسدة، ولكي يستقر مدلول المعلومة في منطقة اللاشعور لا بد من تكرار مرورها على العقل المدرك مرات ومرات فيمررها إلى اللاشعور حتى تستقر فيه .. مثال: تعلم قيادة السيارة في البداية يكون بالعقل المدرك وبعد تكرار وتكرار تستقر المعلومات في اللاشعور، فيقوم الإنسان بقيادة السيارة بتلقائية دون تفكير، وكذلك تعلم أحكام التجويد في البداية يكون بالعقل المدرك وبعد ذلك بـ (اللاشعور).
(2)
كن كابن آدم لجودت سعيد ص 312.
(3)
متفق عليه.
(في المهد وهو ينظر إلى مناغاة أمة وسلوكها معه، ومع من حولها من الكبار والصغار، فكله أذن وعين تصب في (لا وعيه) مفاهيم الحضارة التي احتاجت إلى آلاف السنين، خلال سنتين أو ثلاث.
إنه يبدأ بالتمييز بين الأصوات الغاضبة والأصوات الحانية، وبين الوجوه المقطبة الغاضبة، والوجوه الباسمة المطمئنة الراضية.
من هنا يتعلم الأشياء المقدسة التي نغضب من أجلها إذا انتهكت، والأشياء والمفاهيم المدنسة التي نغضب، ونرفع أصواتنا، ونقطب وجوهنا منها.
لهذا فإن الطفل حين يبدأ في الحبو، والإمساك بالأشياء، واللعب بها، ينظر إلى وجوهنا ليطمئن إلى أن سلوكه يُقابل بعلامات الرضا على وجوهنا، وهكذا يفهم القيم العميقة التي تحكم سلوكنا قبل أن يتكلم، وقبل أن يعرف الكلمات ومعانيها، فتبدو هذه القيم عميقة في شخصيته وكأنها ولدت معه، لأنها تغرس فيه عمليا.
يحدث هذا لدى الطفل في السنوات التي تسبق ذهابه إلى المدرسة، وقبل أن يتعلم الكلام، وهذا ما يحكم سلوكه العميق في حياته القادمة، ويصعب عليه أن يخرج على ما تعلمه وغُرس فيه في سنوات عمره الأولى، لأنه تغلغل في اللاشعور (1).
وماذا عن الصورة الموروثة عن القرآن؟!
فإن كانت أغلب المفاهيم والقيم - سواء كانت صحيحة أم خاطئة - تغرس في يقين الطفل في سنوات عمره الأولى، فماذا يتكون لديه من مفاهيم حول القرآن؟!
هو في البداية لا يعرف القرآن لكنه يرى شيئًا موضوعًا في مكان ما بالمنزل، تمر الأيام والأيام ولا يقترب منه أحد، وإذا ما حدث وأمسك به أحد أبويه فإنه يُقبله، وينظر فيه قليلا ثم يتركه في مكانه.
يجد أمه تقوم بتشغيل المذياع فيخرج منه صوت له نغمة ليست كسائر النغمات التي يسمعها، ثم يجد أمه تترك مكان المذياع الذي ينبعث منه الصوت وتذهب لمكان آخر .. أو تتحدث مع والده، أو في الهاتف، أو تقرأ في مجلة .. كل هذا في وجود الصوت المنبعث من المذياع!!.
يرى والده ووالدته يشاهدان التلفاز باهتمام، فإذا ما جاء الصوت الذي تعود على سماعه مع أمه وبنفس النغمة، يجد أبويه وقد ذهب اهتمامهما فأغلقا الجهاز، أو تركاه يبث الصوت دون أن يستمع إليه أحد.
يسير مع أبويه فيجد أناسًا يجلسون في مكان كبير، ويسمع نفس الصوت، ويجد الناس -في الغالب- يتحدثون فيما بينهم، ولا يعبأون بما يسمعون ..
يركب مع والده السيارة، فيجده قد أدار زرًا فيها، وانبعث نفس الصوت، ثم يجد أباه يتحدث مع أمه في وجود الصوت الذي تعود على سماعه دون أن يهتم به أحد ..
فماذا تظن أن يرسخ في يقين هذا الطفل - الذي ما هو إلا أنا وأنت - عن القرآن؟!
هل سيرث من أبويه ومن البيئة المحيطة أهمية القرآن، وأنه للقلب كالروح للجسد، أم سيرث التقديس الشكلي له، وعدم الاهتمام بفهم خطابه؟!
وعندما يكبر الأولاد ويكونون في سن المدرسة، فإن بعض الآباء يأخذ بأيديهم إلى مراكز تعليم القرآن، فيزداد الأمر رسوخًا لديه بأن المطلوب مع القرآن هو: ألفاظ تقرأ أو تحفظ بلا وعي ولا إدراك ..
الصورة الذهنية:
يقول عمر عبيد حسنة:
إن الصورة التي طبعت في أذهاننا، في مراحل الطفولة للقرآن أنه لا يُستدعي للحضور إلا في حالات الاحتضار والنزع والوفاة، أو عند زيارة المقابر، أو نلجأ لقراءته عند أصحاب الأمراض المستعصية، وهي قراءات لا تتجاوز الشفاة (2).
ويقول الإمام محمد عبده رحمه الله:
معرفتنا بالقرآن كمعرفتنا بالله تعالى أول ما يُلقن الوليد عندنا من معرفة الله تعالى هو اسم (الله) تبارك وتعالى، يتعلمه بالأيمان الكاذبة، والصادقة:(والله لقد فعلت كذا وكذا، والله ما فعلت كذا).
(1) كن كابن آدم ص 313، 314.
(2)
كيف نتعامل مع القرآن ص 17.