الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني
حبل الودّ
حبل الود
خلق الله عز وجل مخلوقات كثيرة، لكنه - سبحانه - قد اختص منها مخلوقًا واحدًا خلقه لنفسه، ونفخ فيه من روحه، وكرمه، وأحسن خلقه، وأسجد لأبيه الملائكة، وأعد له الجنة لتكون دارًا للنعيم الأبدي، وذلك بعد أن يجتاز اختبارًا يسيرًا على الأرض، جوهره هو عبادته - سبحانه - بالغيب.
جاء في الأثر: يا ابن آدم خلقت كل شيء لك، وخلقتك لنفسي، فلا تشتغل بما خلقته لك عما خلقتك له (1).
ومما لا شك فيه أن الله عز وجل يريد لعباده جميعًا الخير، فما من مولود يولد إلا ويريد الله له الفلاح والنجاح في امتحان الدنيا، ومن ثمَّ دخول الجنة والتنعم فيها {وَاللهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 221].
أما من يدخل النار فهو الذي يأبى ويُصر على عدم دخول الجنة، وإلا فماذا تقول عن موقف هؤلاء المشركين من دعوة الإسلام؟! {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32].
ومع هذا الإصرار في طلب العقوبة إلا أن الله عز وجل لم يستجب لطلبهم، ولم يَعْجل بعجلتهم، لأنه سبحانه يريد لهم الخير، لذلك فهو يحلم عليهم، ويصبر على كفرهم وظلمهم لأنفسهم، ويعطيهم الفرصة تلو الفرصة لعلهم ينتبهون قبل فوات الأوان {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} [طه: 129].
عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لما خلق الله الخلق، كتب في كتابه، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي» (2).
ويكفي في تأكيد هذا المعنى ما حدث لأصحاب القرية المذكورة في سورة «يس» الذين شردوا عن الله فأرسل سبحانه لهم رسولين يذكرانهم بحقيقة وجودهم في الدنيا، وضرورة العودة إلى الله قبل فوات الأوان.
فكيف كان استقبال أصحاب القرية لهما؟!
كذبوا الرسولين واستهزؤوا بهما، وسخروا منهما.
فماذا فعل الله عز وجل بهم بعد هذا التكذيب؟!
أرسل إليهم رسولاً ثالثًا .. ففعلوا معه مثل ما فعلوا بأخويه {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ - إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ - قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَاّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَاّ
تَكْذِبُونَ} [يس: 13 - 15].
فجاءهم رجل من بينهم يعرفونه ويعرفهم .. جاءهم من أقصى المدينة ليؤكد لهم صدق الرسل الثلاثة، فقتلوه ليستدعوا بذلك غضب الله وعقوبته، بعد حلمه وصبره العظيم عليهم، وجاء الأمر بعقابهم لأنهم مجرمون لا يريدون الإيمان، ويصرون على ذلك إصرارًا شديدًا رغم كل الآيات البينات التي أرسلها الله لهم، فكانت العقوبة {إِن كَانَتْ إِلَاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} [يس: 29].
وبعد بيان القرآن الوافي لحال هؤلاء المكذبين وكيف أنهم هم الذين استدعوا العقوبة بإجرامهم إلا أننا نفاجأ بالتعقيب الإلهي على نهاية هؤلاء بقوله تعالى: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَاّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [يس: 30].
(1) أورده الحافظ ابن رجب في شرح حديث «إن أغبط أوليائي عندي» - انظر مجموع رسائل الحافظ ابن رجب الحنبلي ص 2/ 749.
(2)
رواه مسلم (6903)، وقال النووي والغلبة هنا: كثرة الرحمة، وشمولها، كما يقال: غلب على فلان الكرم والشجاعة إذا كثرا منه. انظر صحيح مسلم بشرح النووي 17/ 71.