المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌رابعا: الانشغال بفروع العلم والتبحر فيها - تحقيق الوصال بين القلب والقرآن

[مجدي الهلالي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌قبل أن تقرأ هذه الصفحات

- ‌الفصل الأولالصخرة أغلقت الغارفهل إلى خروج من سبيل

- ‌فصيلة دم الأمة:

- ‌مشكلتنا إيمانية:

- ‌العمود الفقري للإيمان:

- ‌إنهم صُنعوا ها هنا:

- ‌القرآن مخرجنا:

- ‌أين السنة

- ‌القرآن والأعمال الصالحة الأخرى:

- ‌هل أدرك المسلمون قيمة القرآن

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم يشكونا:

- ‌فما الحل في هذه الإشكالية

- ‌الإيمان بالقرآن هو البداية:

- ‌الفصل الثانيحبل الودّ

- ‌الرحمة الواسعة:

- ‌جحود الإنسان:

- ‌غواية الشيطان:

- ‌طبيعة المعركة:

- ‌أبواب الشيطان

- ‌الرحيم الودود

- ‌لماذا أنزل الله القرآن

- ‌المعرفة وحدها لا تكفى:

- ‌القرآن وإغلاق مداخل الشيطان:

- ‌ابن القيم وتجربته مع القرآن:

- ‌إصلاح الإرادة:

- ‌الفصل الثالثروح القلوب وقوتها

- ‌روح تسرى في القلوب:

- ‌من دخل فيه فهو آمن:

- ‌تأثير يُدرك ولا يمكن وصفه:

- ‌من مظاهر تأثير القرآن:

- ‌خشوع الجبال وتصدعها:

- ‌القشعريرة والسجود:

- ‌أجيبوا داعي الله:

- ‌تأثير القرآن على مشركي مكة:

- ‌الوليد بن المغيرة:

- ‌اعترافات عتبة بن ربيعة:

- ‌السجود الجماعي:

- ‌خوف المشركين من فتنة نسائهم وأولادهم بسماعهم للقرآن:

- ‌القرآن كان السبب الأول لإسلام الأوائل:

- ‌كيف أسلم أسيد بن حضير

- ‌الدليل الدامغ:

- ‌أمة عجيبة:

- ‌الفصل الرابعالرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن

- ‌تأثر الرسول صلى الله عليه وسلم بالقرآن:

- ‌التأثير العملي السريع:

- ‌صفة قراءته:

- ‌الحرص على التلاوة اليومية:

- ‌دعوته صلى الله عليه وسلم للناس بالقرآن:

- ‌صفاء المنبع:

- ‌ترغيبه صلى الله عليه وسلم للصحابة في تعلم القرآن:

- ‌النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن لأصحاب معاني القرآن:

- ‌لا بديل عن التفهم والتدبر

- ‌متابعته صلى الله عليه وسلم لأصحابه:

- ‌الوصية بالقرآن:

- ‌الفصل الخامسالنموذج العمليوالدفعة الأولى لمدرسة القرآن

- ‌الأثر المباشر للقرآن في سلوك الصحابة:

- ‌ألا تحبون أن يغفر الله لكم

- ‌أعرض عن الجاهلين:

- ‌أقرضت ربي حائطي:

- ‌ثابت بن قيس من أهل الجنة:

- ‌سمعًا لربي وطاعة:

- ‌والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت:

- ‌لا حاجة لي في أرضك:

- ‌قرأت البارحة سورة براءة:

- ‌زينوا القرآن بالفعال:

- ‌انشغال الصحابة بالقرآن ومحافظتهم على وردهم اليومي:

- ‌كيف كانوا يحفظون آيات القرآن

- ‌خوف الصحابة على القرآن:

- ‌توجيهات ووصايا الصحابة نحو القرآن:

- ‌تحذيرات الصحابة من رفع القرآن:

- ‌خوف الصحابة من انشغال الناس بغير القرآن:

- ‌منزلة السنة النبوية:

- ‌لماذا لم تدوَّن السنة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم:

- ‌موقف الصحابة من الحديث بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم:

- ‌تقييد العلم وكتابته:

- ‌من آثار هجر القرآن:

- ‌بناء الإيمان من خلال القرآن:

- ‌إعادة ترتيب الأولويات:

- ‌الفصل السادسلماذا لم ننتفع بالقرآن

- ‌هل اللغة هي السبب

- ‌تفسير لا يعذر أحد بجهالته:

- ‌المرونة في النص القرآني:

- ‌محمد إقبال:

- ‌بديع الزمان النورسي:

- ‌النماذج كثيرة:

- ‌عودة إلى العصر الأول لنزول القرآن:

- ‌ولكن ما السبب إذن

- ‌أولاً: الصورة الموروثة عن القرآن

- ‌ثانيًا: طول الإلف

- ‌ثالثًا: نسيان الهدف الذي من أجله نزل القرآن

- ‌رابعًا: الانشغال بفروع العلم والتبحر فيها

- ‌خامسًا: غياب أثر القرآن

- ‌سادسًا: كيد الشيطان

- ‌سابعًا: مفاهيم وممارسات ساهمت في عدم الانتفاع بالقرآن

- ‌الخوف من تدبر القرآن واللقاء المباشر به:

- ‌تحصيل الأجر والثواب فقط:

- ‌الإسراع في حفظ القرآن:

- ‌قراءة الحافظ:

- ‌حول مفهوم النسيان:

- ‌أمراض القلوب:

- ‌قراءتان للقرآن:

- ‌التعمق في المعنى:

- ‌مدة الختم:

- ‌السماع عندى أفضل

- ‌الفصل السابعكيف يحدث الوصالبين القلب والقرآن

- ‌الإيمان أولاً:

- ‌نقطة البداية الصحيحة:

- ‌أولاً: تقوية الرغبة والدافع للانتفاع الحقيقي بالقرآن

- ‌المحور الثاني: الإلحاح على الله عز وجل

- ‌المحور الثالث: الإكثار من تلاوة القرآن بتفهم وترتيل وصوت حزين

- ‌وسائل عملية معينة على الانتفاع بالقرآن:

- ‌كلمة أخيرة لكل مسلم

- ‌المراجع

الفصل: ‌رابعا: الانشغال بفروع العلم والتبحر فيها

وللشيخ محمد الغزالي رحمه الله كلام دقيق يؤكد هذا المعنى، فيقول في كتاب «كيف نتعامل مع القرآن؟»:«حال المسلمين مع القرآن الكريم تستدعى الدراسة المتعمقة، ذلك أن المسلمين بعد القرون الأولى، انصرف اهتمامهم بكتابهم إلى ناحية التلاوة، وضبط مخارج الحروف، واتقان الغُنن والمُدود، وما إلى ذلك مما يتصل بلفظ القرآن والحفاظ على تواتره كما جاءنا، أداءً وأحكامًا -أقصد أحكام التلاوة- لكنهم بالنسبة لتعاملهم مع كتابهم، صنعوا شيئًا ربما لم تصنعه الأمم الأخرى .. فإن كلمة «قرأت» عندما يسمعها الإنسان العادي أو يقولها، تعني: أن رسالة جاءته أو كتابًا وقع بين يديه فنظر فيه، وفهم المقصود منه .. فمن حيث الدلالة لا أجد فكاكًا بين الفهم والقراءة، أو بين السماع والوعي.

أما الأمة الإسلامية، فلا أدري بأية طريقة فصلت بين التلاوة، وبين التدبر، فأصبح المسلم اليوم يقرأ القرآن لمجرد البركة، كما يقولون، وكأن ترديد الألفاظ دون حس بمعانيها، ووعي لمغازيها، يفيد أو هو المقصود.

وعندما أحاول أن أتبين الموقف في هذا التصرف، أجد أنه مرفوض من الناحية الشرعية، ذلك أن قوله تعالى:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ} [ص: 29] يعني: الوعي والإدراك والتذكر والتدبر .. فأين التدبر؟ وأين التذكر مع تلك التلاوة السطحية التي ليس فيها أي إحساس بالمعنى، أو إدراك للمقصد» (1) ..

* * *

‌رابعًا: الانشغال بفروع العلم والتبحر فيها

كان صلى الله عليه وسلم يحرص على عدم انشغال الصحابة بغير القرآن حتى يتمكن القرآن في القيام بعمله على أكمل وجه ..

وتوفى الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن ترك جيلاً عظيمًا تفخر به البشرية حتى الآن ..

ولقد كان أبناء هذا الجيل حريصون على تبليغ نفس الرسالة لمن بعدهم، ولقد مر علينا سابقًا الكثير من المواقف التي تؤكد هذا المعنى ..

ولكن بعد أن اتسعت الفتوحات، واختلط المسلمون بالأجناس الأخرى وبما كانوا يحملونه من ثقافات حدث الانبهار بها والتفكير في نقلها وأسلمتها.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الانشغال بتدوين الحديث، وتتبع رجاله استنفذ جهدا عظيمًا من الأجيال التالية لجيل الصحابة.

هذا العمل العظيم الذي قام به هؤلاء العلماء الصالحون كان ضروريًا لحفظ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن كان من الأولى ألا يكون هذا العمل على حساب القرآن، بمعنى أن يسير الاهتمام بالحديث وتدوينه جنبًا إلى جنب مع الاهتمام بالقرآن كمصدر متفرد للهداية والتغيير، ولكن لم يحدث هذا على الوجه المطلوب، وبدأ دور القرآن يتراجع قليلاً في النفوس، ولقد تعالت صيحات من بينهم تنبههم لضرورة التوازن، حتى لا يكون الاهتمام بالحديث على حساب القرآن، ومن ذلك ما قاله الإمام الشعبي لأصحاب الحديث:

يا قوم! إنكم كلما تقدمتم في الحديث تأخرتم في القرآن (2).

وليت الأمر قد اقتصر على الاهتمام بالسنة، فالسنة هي صنو القرآن، وشارحة لما أجمل فيه، والذي يهتم بها اهتمامًا صحيحًا فسيجدها تدعوه دومًا إلى الانتفاع الحقيقي بالقرآن.

وليت الأمر قد اقتصر كذلك على العلوم التي استقاها العلماء من الكتاب والسنة والتي تُعرف الناس بربهم وبالطريق الموصل لبلوغ رضاه وجنته، وبأحكامه التي افترضها عليهم، وبما ينفعهم وبما يضرهم في الدارين.

(1) كيف نتعامل مع القرآن ص27.

(2)

مع القرآن وحملته في حياة السلف الصالح ص 53، نقلا عن نزهة الفضلاء تهذيب سير أعلام النبلاء 3/ 582.

ص: 71

لم يقتصر الأمر على ذلك، بل بدأ التوسع في فروع العلم المختلفة كعلوم الآلة (النحو -البلاغة- الصرف .. ) والتي من المفترض أنها وسائل مُعينة لخدمة العلم الأساسي النافع ألا وهو معرفة الله عز وجل وما يحبه ويرضاه، ومعرفة أحكامه، ومعرفة ما ينفع وما يضر. (1)

كل ذلك كان على حساب الاهتمام بالقرآن.

ومما ساعد على الانجراف في هذا الأمر النسيان التدريجي للهدف من نزول القرآن، وعدم أخذ تحذيرات الصحابة مأخذ الجد، واجتهاد البعض في تأويلها على أنها تعني فقط عدم خلط القرآن بغيره وهو لا يزال غضا طريًا.

النبع لم يعد واحدًا:

إذن فتطور الفكر الإسلامي بهذا الشكل كان له مردود سلبي على الاهتمام بالقرآن، والدليل على ذلك أن المساحة اتسعت بين الجيل الأول والأجيال المتتالية .. وفي هذا المعنى يقول سيد قطب:

كان هناك مقصد من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقصر النبع الذي يستقي منه ذلك الجيل - جيل الصحابة في فترة التكوين الأولى - على كتاب الله وحده، لتخلص نفوسهم له وحده، ويستقيم عودهم على منهجه وحده .. ومن ثم غضب أن رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستقي من نبع آخر.

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد صنع جيل خالص القلب، خالص العقل، خالص التصور، خالص الشعور، خالص التكوين من أي مؤثر آخر غير المنهج الإلهي الذي يتضمنه القرآن الكريم.

ذلك الجيل استقى إذن من ذلك النبع وحده، فكان له في التاريخ ذلك الشأن الفريد.

ثم ما الذي حدث، اختلطت الينابيع! صبت في النبع الذي استقت منه الأجيال التالية فلسفة الإغريق ومنطقهم وأساطير الفرس وتصوراتهم، وإسرائيليات اليهود، ولاهوت النصارى، وغير ذلك من رواسب الحضارات والثقافات.

واختلط هذا كله بتفسير القرآن الكريم، وعلم الكلام، كما اختلط بالفقه والأصول أيضًا.

وتخرج على ذلك النبع المشوب سائر الأجيال بعد ذلك الجيل، فلم يتكرر ذلك الجيل أبدًا.

وما من شك أن اختلاط النبع الأول كان عاملاً أساسيًا من عوامل الاختلاف البيَّن بين الأجيال كلها، وذلك الجيل المتميز الفريد (2).

ليست دعوة لترك العلوم الأخرى:

وليس المقصد من هذا الكلام هو الدعوة لترك العلوم الأخرى، والتراث الضخم الذي خلفته تلك الأجيال في شتى فروع الثقافة، والذي أفاد البشرية كلها، والذي استطاعت أوروبا أن تستثمره خير استثمار في بناء نهضتها الحديثة.

ليس هذا هو المقصد يقينًا.

بل المقصد من طرح هذا الموضوع دراسة الأسباب والعوامل التي أدت إلى انزواء دور القرآن في أذهاننا إلى هذا الحد الذي أصبحت فيه الصورة الذهنية المستدعاه عند الحديث عنه هي كيفية استكمال حفظه؟ .. كيفية التبرك به وتحصيل الأجر والثواب من خلاله؟!

(1) يقول ابن رجب في رسالة (فضل علم السلف على الخلف): أما ما أُحدث بعد الصحابة من العلوم التي توسع فيها أهلها وسموها علومًا، وظنوا أن من لم يكن بها عالما فهو جاهل أو ضال، فكلها بدعة، وهي من محدثات الأمور المنهي عنها، فمن ذلك ما أحدثه المعتزلة من الكلام في القدر وضرب الأمثال لله، وقد ورد النهي عن الخوض في القدر .. ومن ذلك ما أحدثه المعتزلة ومن حذا حذوهم من الكلام في ذات الله وصفاته بأدلة العقول، وهو أشد خطرًا من الكلام في القدر، لأن الكلام في القدر كلام في أفعاله تعالى وهذا الكلام في ذاته وصفاته تعالى.

وبعد أن عدَّد ابن رجب صورًا كثيرة للعلوم المحدثة الغير نافعة قال: وكل ذلك محدث لا أصل له، وصار ذلك علمهم حتى شغلهم ذلك عن العلم النافع. (انظر: فضل علم السلف على الخلف من ص 24 - 33).

(2)

معالم في الطريق ص 13، 14.

ص: 72

والمقصد كذلك من طرح هذا الموضوع هو الدعوة لإعادة ترتيب الأولويات، ووضع الانتفاع الحقيقي بالقرآن على رأس قائمة الرعاية والاهتمام، ثم تأتي السُّنَّة بعده، ثم سائر العلوم الأخرى التي تخدم الإنسان وتنفعه في الدارين.

غيرة على القرآن .. ولكن!!

عندما انشغلت الأمة بالعلوم الأخرى وتوسع العلماء في فروع العلم، اشتدت غيرة بعض الصالحين على القرآن ففعلوا أمورًا عجيبة ظنًا منهم أنهم بذلك يُرغِّبون المسلمين في الانكباب مرة أخرى على القرآن، فجاءت للأسف بنتيجة عكسية.

ومن أبرز هذه الأمور هي: وضع أحاديث في فضائل القرآن، وفضائل سوره ليس لها أي أصل.

ذكر الإمام الزركشي في كتابه (البرهان في علوم القرآن): أنه قيل لنوح بن أبي مريم: من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة؟!

فقال: إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي محمد بن إسحاق، فوضعت هذه الأحاديث حسبة (1).

يقول د. مصطفى السباعي رحمه الله إن من أسباب وضع الأحاديث: الجهل بالدين مع الرغبة في الخير.

وهو صنيع كثير من الزهاد والعباد والصالحين. فقد كانوا يحتسبون وضعهم للأحاديث في الترغيب والترهيب، ظنًا منهم أنهم يتقربون إلى الله، ويخدمون دين الإسلام؛ ويحببون الناس في العبادات والطاعات، ولما أنكر العلماء عليهم ذلك وذكَّروهم بقوله صلى الله عليه وسلم:«من كذب علىَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار» (2).

قالوا: نحن نكذب له صلى الله عليه وسلم لا عليه. وهذا كله من الجهل بالدين وغلبة الهوى والغفلة، ومن أمثلة ما وضعوه في هذا السبيل حديث فضائل القرآن سورة سورة، فقد اعترف بوضعه نوح بن أبي مريم، واعتذر لذلك بأنه رأى الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة، ومغازي ابن إسحاق (3).

في كم يُختم القرآن؟!

ومن الأخبار التي دُست كذلك لتحفيز الناس لكثرة قراءة القرآن تلك التي تتناول هَدْى بعض السلف في ختم القرآن ..

فمن المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُجز لأحد من الصحابة أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاث.

فهذا عبد الله بن عمرو يقول: جمعت القرآن فقرأت به في كل ليلة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي:«اقرأ به في كل شهر» فقلت: أي رسول الله، دعني أستمتع من قوتي وشبابي، قال:«اقرأ به في كل عشرين» ، قلت: أي رسول الله، دعني أستمتع من قوتي وشبابي، فقال:«اقرأ به في كل عشر» ، قلت: يا رسول الله، دعني أستمتع من قوتي وشبابي، قال:«اقرأ به في كل سبع» ، قلت: أي رسول الله دعني أستمتع من قوتي وشبابي، فأبى» (4).

وفي رواية: «لا يفقهه من يقرؤه في أقل من ثلاث» (5). فالأمر واضح، فالعقل والقلب لا يتحملان استيعاب القرآن كله - فهما وتجاوبا - في أقل من ثلاث، على الغالب.

يقول أبو الطيب محمد شمس الحق آبادي في تعليقه على هذا الحديث: وهذا نص صريح في أنه لا يختم القرآن في أقل من ثلاث (6).

وعن ابن مسعود قال: اقرأوا القرآن في سبع ولا تقرأوه في أقل من ثلاث (7).

وكان معاذ بن جبل يكره أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاث (8).

(1) البرهان في علوم القرآن للزركشي ص 290.

(2)

متفق عليه.

(3)

السنة ومكانتها في التشريع ص 87.

(4)

رواه النسائي في فضائل القرآن، وأحمد في مسنده (199) وابن ماجه (1346).

(5)

أخرجه الإمام أحمد، وأورده الألباني في السلسلة الصحيحة ح (1513).

(6)

عون المعبود 4/ 187.

(7)

أخرجه سعيد بن منصور بإسناد صحيح.

(8)

فضائل القرآن لأبي عبيد ص 179.

ص: 73

وفي يوم من الأيام قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة» ، فشق ذلك عليهم، وقالوا: أينا يطيق ذلك يا رسول الله؟! فقال: «الله الواحد الصمد ثلث القرآن» (سورة الإخلاص)(1).

فإجابة الصحابة تدل على استصعابهم قراءة ثلث القرآن في ليلة، لأنهم يعلمون حقوق القراءة.

إن جملة الأحاديث الصحيحة التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم في مسألة الحد الأدنى لختم القرآن تؤكد على أنه صلى الله عليه وسلم لم يُرخِّص لأحد ختمه في أقل من ثلاثة أيام.

فإن قلت بأن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يقرأ القرآن في ركعة. لجاءك الجواب بأن هذا الأثر قد ضعَّفه الترمذي، وأقر الألباني ذلك التضعيف فقال: ولقد أحسن الإمام الترمذي برواية هذا الخبر والذي بعده (خبر عثمان بن عفان، وخبر سعيد بن جبير) بصيغة التضعيف، لأن الركعة مهما طالت لا يمكن أن يقرأ فيها القرآن الكريم كاملا، فضلا عما في ذلك من مخالفته لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركوع والسجود والقيام، وحاشا لسيدنا عثمان أن يفعل مثل ذلك (2).

وقال الشيخ عبد القادر الأرناؤوط: أقول: هذا هو الصواب الموافق للسنة (3).

وقد يحُمل خبر عثمان بن عفان رضي الله عنه وأمثاله كما يقول ابن كثير: إما على أنه ما بلغهم في ذلك حديث مما تقدم، أو أنهم كانوا يفقهون ويتفكرون فيما يقرأونه مع هذه السرعة والله سبحانه وتعالى أعلم (4).

فإذا ما نظرنا إلى كتب فضائل القرآن نجد في أغلبها أخبارًا عجيبة عن بعض السلف بأن فلانًا كان يختم في رمضان ستين ختمة، وآخر كان يختم ختمة فيما بين الظهر والعصر، ويختم ختمة أخرى فيما بين المغرب والعشاء، وآخر كان يختم بالنهار أربع ختمات، وبالليل أربع ختمات (5).

وأكثر من هذا وأكثر، ومن لا يصدق هذا الكلام فعليه بالنظر في كتب فضائل القرآن ليتأكد بنفسه. فهل هذا كلام يُعقل؟!

هل يمكن لأحد أن يختم القرآن بين صلاتي المغرب والعشاء؟!

إن متوسط المسافة الزمنية بين انتهاء صلاة المغرب حتى صلاة العشاء تقرب من ساعة من الزمن، أي أنه كان يقرأ كل جزء من القرآن في دقيقتين!!!

هذه الأخبار وغيرها، مهما قيل في صحتها أو عدم صحتها، فهي أولاً: تخالف الهدى النبوي، ثانيًا: تصطدم مع قوله تعالى: {لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29]: ثالثًا: لا يمكن تصديقها مهما ادعى البعض وجود بركة في الوقت عندهم (6) .. ولعل السبب وراء تناقل هذه الآثار -دون التثبت من صحتها- هو استثارة همم المسلمين في الانكباب على القراءة، والانشغال بها.

وللأسف جاءت هذه الأخبار بنتيجة عكسية، وازداد الحرص على القراءة لمجرد القراءة، وخمدت الدعوة لتفهم القرآن وتدبره والتأثر به، وقد ظهر هذا الحرص بصورة واضحة في شهر رمضان، وجميعنا يعرف ما يحدث في هذا الشهر من تسارع وتنافس بين الناس في عدد الختمات، دون أي التفات إلى تدبر أو تأثر.

* * *

(1) رواه البخاري ومسلم.

(2)

ضعيف الترمذي للألباني ص (357).

(3)

هجر القرآن ص 67.

(4)

فضائل القرآن لابن كثير ص 65.

(5)

انظر فضائل القرآن لابن كثير، والتبيان للنوي، وفضائل القرآن لأبي عبيد لتجد الكثير من هذه الأخبار.

(6)

وهل لم يكن عند الصحابة بركة في الوقت حين شق عليهم قراءة ثلث القرآن في ليلة؟!!.

ص: 74