الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذا أبو طلحة يقرأ سورة (براءة) فأتى على هذه الآية {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ} [التوبة: 41] فقال: أرى ربنا استنفرنا شيوخًا وشبابًا جهزوني يا بني، فقال بنوه: يرحمك الله، قد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، ومع أبي بكر حتى مات، ومع عمر حتى مات، فنحن نغزو عنك، فأبى فركب البحر فمات فلم يجدوا له جزيرة يدفنوه فيها إلا بعد تسعة أيام، فلم يتغير فدفنوه فيها (1).
زينوا القرآن بالفعال:
ولشحذ همم المسلمين قبل القتال كان الصحابة يقرؤون القرآن، ويذكِّرون بعضهم البعض بأخلاق القرآن.
قال هشام بن عروة كان شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم يوم اليمامة: «يا أصحاب سورة البقرة» (2).
وقال أبو حذيفة يشحذ الهمم في ذلك اليوم المشهود: يا أهل القرآن، زينوا القرآن بالفعال.
وكان الصحابة يتواصون بينهم ويقولون: يا أصحاب سورة البقرة، بطل السحر اليوم (3).
ولما أخذ سالم مولى أبي حذيفة الراية بعد مقتل زيد بن الخطاب قال له المهاجرون: أتخشى أن نؤتي من قبلك؟ فقال: (بئس حامل القرآن أنا إذًا)(4).
وفي القادسية وقبل بدء المعركة: صلى سعد بن أبي وقاص بالناس الظهر ثم خطب الناس فوعظهم وحثهم وتلا قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105] وقرأ القرَّاء على الناس: آيات الجهاد وسوره (5).
وبعد انتهاء المعركة وانتصار المسلمين كتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب كتابا يخبره فيه بالفتح، فكان مما فيه: .. وأصيب من المسلمين سعد بن عبيد القاري وفلان وفلان، ورجال من المسلمين لا يعلمهم إلا الله، فإنه بهم عالم .. كانوا يُدووّن بالقرآن إذا جن عليهم الليل كدوي النحل، وهم آساد في النهار لا تشبههم الأسود (6) ..
هذه الأجواء القرآنية جعلتهم يترفعون عن الدنيا وما فيها، وشمخت نفوسهم إلى الرضوان الأكبر لذلك كانوا آسادًا بالنهار لا تشبههم الأسود .. يقول جابر بن عبد الله: والله الذي لا إله إلا هو، ما اطلعنا على أحد من أهل القادسية أنه يريد الدنيا مع الآخرة (7).
انشغال الصحابة بالقرآن ومحافظتهم على وردهم اليومي:
هذه الأمثلة الرائعة لأثر القرآن على سلوك الصحابة ما كانت لتظهر لولا حرص الصحابة على كثرة قراءة القرآن بتفهم وترتيل، فقد كان للواحد منهم حزب يومي من القرآن - قل أو كثر - لا يتكاسل عن القيام به.
فعن الحسن قال: «قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه: لو أن قلوبنا طهرت ما شبعنا من كلام ربنا، وإني لأكره أن يأتي علىَّ يوم لا أنظر في المصحف، وما مات عثمان رضي الله عنه حتى خرَّق مصحفه من كثرة ما كان يديم النظر فيه (8).
وعندما دخل عليه المعتدون ليقتلوه كان المصحف في حجره يقرأ فيه، فمدَّ يده فضُربت، فسال الدم، فقطرت قطرة على قوله تعالى:{فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137](9).
وعن ابن عباس قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا دخل البيت نشر المصحف فقرأ فيه (10).
(1) تفسير ابن كثير 2/ 327.
(2)
فضائل القرآن للمستغفري برقم 713.
(3)
البداية والنهاية لابن كثير 6/ 367.
(4)
المصدر السابق 6/ 381.
(5)
البداية والنهاية 7/ 47.
(6)
المصدر السابق 7/ 50.
(7)
آيات الخشوع / 228، نقلاً عن تاريخ الطبري 2/ 19.
(8)
حياة الصحابة للكاندهلوى 3/ 168.
(9)
صحابة رسول الله وجهودهم في تعليم القرآن الكريم ص179، نقلا عن معرفة الصحابة لأبي نعيم 1/ 254.
(10)
حياة الصحابة 3/ 168.
وقيل لنافع: ما كان يصنع ابن عمر رضي الله عنهما في منزله؟ قال: لا تطيقونه: الوضوء لكل صلاة، والمصحف بينهما (1).
وعن خيثمة قال: دخلت على عبد الله بن عمرو وهو يقرأ في المصحف فقلت له، فقال: هذا حزبي الذي أقرأ به الليلة (2).
وكان الحسن بن على يقرأ ورده من أول الليل، وحسينا كان يقرأه من آخر الليل (3).
وقالت عائشة: إني لأقرأ حزبي، أو قالت: سُبعي، وأنا جالسة على فراشي أو سريري (4).
وكان أبو موسى يقول: إني لأستحي أن أنظر كل يوم في عهد ربي عز وجل مرة (5).
وذات يوم قام عبد الرحمن بن عبد القارئ بزيارة عمر بن الخطاب في داره، فتركه عمر وحيدا لمدة طويلة، ثم أذن له بالدخول عليه، وقال له معللا ما فعل: إني كنت في قضاء وردي (6).
لقد كانت هناك مساحة معتبرة للقرآن في يومهم، لدرجة أن بعضهم كان يختمه في ثلاثة أيام والبعض في سبع، والبعض في عشر، مع التدبر والترتيل والتجاوب مع الآيات كما مر علينا، والذي ساعدهم على المداومة على ذلك هو استشعارهم لقيمة القرآن من ناحية، ولتحذيرات الرسول صلى الله عليه وسلم المتكررة لهم بعدم الانشغال بغيره من ناحية أخرى .. لذلك كان القرآن يصحبهم في كل وقت، حتى في المعارك لم يتركوا قراءة القرآن كما مر علينا في معركة القادسية ..
والذي كان يسير في طرقات المدينة ليلا فلن تخطئ أذناه آيات القرآن وهي تنساب من كل بيت، فالجميع يقرأ ويترنم ويبكي، ويستشعر حلاوة الإيمان، ولذة الوصال، فيدفعه ذلك إلى مزيد من القراءة بتدبر وترتيل .. يستوي في ذلك الرجال والنساء، ولقد مر علينا قوله صلى الله عليه وسلم:«إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل، وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار» (7).
وكان صلى الله عليه وسلم يسير فمر على امرأة تقرأ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} فقام يستمع ويقول: «نعم قد جاءني» (8).
لقد كان القرآن هو محور حياتهم، ومادة حياة قلوبهم .. يحرصون على تحصيلها أكثر من حرصهم على تحصيل الطعام والشراب والراحة، ولم لا وهم يدركون بأن الحياة الحقيقية هي حياة القلب .. انظر إليهم بعد دخولهم مكة فاتحين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أيام حافلة بالمجهود العظيم والسفر الطويل .. أليس من الطبيعي أن يخلدوا للراحة في الليل بعد انتهاء مهمتهم؟! ولكنهم لم يفعلوا ذلك بل ظلوا حول الكعبة يصلون ويقرأون القرآن ويركعون ويسجدون ويتضرعون إلى الله يحمدونه ويشكرونه على عظيم فضله.
جاءت هند بنت عتبة زوجها أبي سفيان بن حرب صبيحة فتح مكة، فقالت له: أريد أن أبايع محمدًا.
قال أبو سفيان: قد رأيتك تكفرين. قالت أي والله، والله ما رأيت الله تعالى عُبد حق عبادته في هذا المسجد قبل الليلة، والله إن باتوا إلا مصلين قيامًا وركوعًا وسجودًا (9).
فلا عجب إذن - أخي القارئ- أن تظهر هذه النماذج الفريدة، وبهذه الأعداد الكبيرة، فالمدرسة واحدة، والمنهج واحد، والنبع صافٍ فياض لا ينضب.
(1) حياة الصحابة 3/ 168.
(2)
فضائل القرآن للمستغفري 1/ 421
(3)
المصدر السابق 1/ 421.
(4)
المصدر السابق 1/ 422.
(5)
التذكار في أفضل الأذكار للقرطبي /184.
(6)
فضائل القرآن لأبي عبيد/ 185.
(7)
سبق تخريجه.
(8)
أورده ابن كثير في تفسيره 4/ 456.
(9)
رهبان الليل لسيد العفاني 1/ 310.