المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب العاشر في ذكر كلام الصبيبات وجوابهم - تذكره الآباء وتسليه الأبناء = الدراري في ذكر الزراري

[كمال الدين ابن العديم]

الفصل: ‌الباب العاشر في ذكر كلام الصبيبات وجوابهم

‌الباب العاشر في ذكر كلام الصبيبات وجوابهم

مر عمر بن الخطاب رضي الله عنه على صبيان يلعبون فتفرقوا من هيبته ولم يبرح ابن الزبير، فقال له: مالك لم تبرح؟ فقال: ما الطريق ضيقة فأوسعها لك ولا لي ذنب فأخاف. لما ولد للرشيد العباس من واسطة اشمأزت منه نفسه لغلبة السواد عليها، فتنبأ رجل في زمان الرشيد فدعا به، فجعل يذكره بالله وينهاه عن قوله وهو مقيم على دعواه، وأولاد الرشيد مصطفون بين يديه والعباس إذ ذالك لم يجاوز العشر، فلما رأى الرشيد لزوم الرجل ادعاء النبوة، أمر بتجريده وضربه، فلما أخذته السياط جعل يضطرب اضطراباً شديداً، فالتفت إليه العباس فقال: اصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل، فاستطار الرشيد لها فرحاً وقال: ابني والله حقاً، يقول الله تعالى: (بل هم قومٌ خصمون (.

أدخل الركاض وهو ابن أربع سنين إلى الرشيد ليتعجب من فطنته فقال له: ما تحب أن أهب لك؟ قال: جميل رأيك فإني أفوز به في الدنيا والآخرة، فأمر بدنانير ودراهم فصبت بين يديه، فقال له: الأحب إلي أمير المؤمنين وهذا من هذين، وضرب يده إلى الدنانير، فضحك الرشيد وأمر بضمه إلى ولده والإجراء عليه.

ص: 61

قال علي بن محمد: مر فارس بغلام فقال: يا غلام أين العمران؟ قال: اصعد الرابية تشرف عليهم، فصعد فأشرف على مقبرة، فقال: إن الغلام لجاهل أو حكيم، فرجع فقال: سألتك عن العمران فدللتني على مقبرة، فقال: إني رأيت أهل الدنيا ينتقلون إلى تلك ولم أر أحداً انتقل إلى هذه، ولو سألتني عما يواريك ودابتك لدللتك عليه.

قال الإسكندر لابنه يا ابن الحجامة، فقال: أما هي فقد أحسنت التخير وأما أنت فلم تحسن. وقال أعرابي لابنه: اسكت يا ابن الأمة، فقال: هي والله أعذر منك لأنها لم ترضى إلا حراً.

لما ولي يحي بن أكثم القضاء بالبصرة وكان صبياً فاستصغروه

ص: 62

فقال بعضهم: كم سن القاضي أيده الله؟ فقال: سن عتاب بن أسيد لما ولاه رسول الله (.

عاتب أعرابي ابنه وذكره حقه، فقال: يا أبتِ إن عظيم حقك علي لا يبطل صغير حقي عليك.

دخل الرشيد دار وزيره فقال لولد له صغير أيما أحسن دارنا أو داركم؟ قال: دارنا، قال: لم؟ قال: لأنك فيها.

قال المعتصم للفتح بن خاقان وهو صبي: أرأيت يا فتح أحسن من هذا الفص -لفص كان في يده-، قال: نعم يا أمير المؤمنين اليد التي هو فيها أحسن منه.

ص: 63

دخل قوم على عمر بن عبد العزيز فجعل فتى منهم يتكلم. فقال عمر: ليتكلم أكبركم، فقال الفتى: إن قريشاً لتجد فيها من هو أسن منك، قال: تكلم.

دخل الحسين بن الفضل على بعض الخلفاء وعنده كثير من أهل العلم، فأحب أن يتكلم فزبره، وقال: أصبي يتكلم في هذا المقام، فقال: إن كنت صبياً فلست أصغر من هدهد سليمان ولا أنت أكبر من سليمان حين قال له: أحطت بما لم تحط به، ثم قال: ألا ترى أن الله فهم الحكم سليمان ولو كان الأمر بالكبر لكان داود أولى.

عربد صبي هاشمي على قوم فأراد عمه أن يسوءه، فقال: يا عم قد أسأت بهم وليس معي عقلي فلا تسيء بي ومعك عقلك.

قال رجل لابنه: يا ابن الزانية، فقال: الزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك.

ص: 64

ضرط ابن لعبد الملك بن مروان في حجره، فقال له: قم إلى الكنيف، قال: هو ذا أنا فيه يا أبي.

قال عبد الرحمن بن حسان بن ثابت لأبيه وهو طفل: لسعني طائر كأنه ملتف في بردي حبرة (يعني الزنبور) فقال حسان: قد قال ابني شعراً ورب الكعبة.

كان سليمان بن وهب يكتب فدخل عليه أبوه، فقال: يا بني

ص: 65

إن علي بن يحي وعدني بالأمس أن يحضر عندي اليوم فاكتب وذكره، فكتب بديهة:

يا من فدت أنفسنا نفسه

موعدنا بالأمس لا تنسه

قال الفراء أنشدني صبي من الأعراب أرجوزة، فقلت: لمن هي؟ فقال: لي، فزبرته، فأدخل رأسه في فروته ثم قال:

إني وإن كنت صغير السن

وكان في العين نبوعني

فإن شيطاني أمير الجن

يذهب بي في الشعر كل فن

ص: 66

عن علي بن الجهم قال: وجد علي أبي فأمر المعلم أن يحصرني، فكتبت إلى أمي:

أمي جعلت فداك من أم

أشكو إليك فظاظة الجهم

قد سرح الصبيان كلهم

وبقيت محصوراً بلا جرم

كان لمحمد بن بشير الشاعر ابن حسيمٌ بعثه في حاجة فأبطأ وعاد ولم يقضها، فنظر اليه ثم قال:

عقله عقل طائر

وهو في خلقة الجمل

فأجابه

شبهٌ منك نالني

ليس لي عنه منتقل

وفد سعيد بن عبد الرحمن بن ثابت وهو صبي وضيء الوجه على

ص: 67

هشام، فسلمه إلى معلم الوليد بن يزيد وهو عبد الصمد بن عبد الأعلى، فطمع فيه، فدخل على هشام وهو يقول:

إنه والله لولا أنت لم

ينج مني سالماً عبد الصمد

قال: ولم؟ قال:

إنه قد رام مني خطة

لم يرمها قبله مني أحد

قال: وما ذاك؟ قال:

رام جهلاً بي وجهلاً بأبي

يولج العصفور في خيس الأسد

ص: 68

فصرفه هشام عن التعليم، فقال فيه الوليد:

لقد قرفوا أبا وهب بأمر

كبير بل يزيد على الكبير

وأشهد أنهم كذبوا عليه

شهادة عالم بهم خبير

كان لعبد الله بن سالم ابنان فأدبهما بفنون الآداب، يسمي أحدهما ربيعة والآخر سفيان، وكانا مع حداثة سنهما آداب أهل زمانهما، فتفاخرا عنده ذات يوم في غرائب الكلام، فأحب أبوهما أن يظهر ذلك لقومه، فقال لهما: إن شئتما بلوتكما في كلمات أسألكما عنها، قالا: فإنا قد شئنا، فجلس لهما في ملأ من قومه، ثم دعا ربيعة وأخرج سفيان، فقال: أخبرني يا ربيعة عما أسألك عنه، قال: سلني عما بدا لك، قال: أخبرني عن المجد، قال: ابتناء المكارم وحمل المغارم، فقال: فأخبرني عن الشرف، قال: كف الأذى وبذل الندى، قال: فأخبرني عن الدعة، قال: إيتاء اليسير والمن بالحقير، قال: فما المروءة؟ قال: شرف النفس مع تعاهد الصنيعة، قال: فما الكلفة؟ قال: التماس ما لا يعينك

ص: 69

وتعجيل ما لا يؤتيك؟ قال: فما الحلم؟ قال: كظم الغيظ وملك الغضب، قال: فما الجهل؟ قال: سرعة الوثوب على الجواب، قال: فما العقل؟ قال: حفظ القلب ما استرعى وفهمه ما أوعى، قال: فما الحزم؟ قال: انتظار الفرصة وتعجل ما أمكن، قال: فما العجز؟ قال: التعجل قبل الاستمكان والتأني بعد الفرصة، قال: فما الشجاعة؟ قال: صدق النفس ومتاركة الدخاس، قال: فما الجبن؟ قال: طيرة الروع وضيق البوع وسرعة الفشل، قال: فما السماحة؟ قال: حب السائل وبذل النائل، قال: فما الشح؟ قال: من يرى القليل إسرافاً والكثير إتلافاً، قال: فما الظرف؟ قال: حسن المحاورة وسرعة المجاوبة، قال: فما الصلف؟ قال: عظم النفس مع قلة المقدرة، قال: صدقت لا عدمتك، ثم دعا سفيان فقال: أخبرني ما الفهم؟ قال: لسان سؤول وقلب عقول، قال: فما الغنى؟ قال: قلة التمني والرضا بما يكفي، قال: فما

ص: 70

الكيس؟ قال: تدبير المعيشة مع طلب الآخرة، قال: فما السؤدد؟ قال: اصطناع العشيرة وحمل المؤونة، قال: فما السناء؟ قال: حسن الأدب ورعاية الحسب، قال: فما اللؤم؟ قال: إحراز النفس وإسلام العرس، قال: فما الخرق؟ قال: مماراة الأمراء ومعاداة الوزراء، قال: فما الدناءة؟ قال: الجلوس على الخسف والرضا بالهون، قال: فما المجد؟ قال: عز السلف وقدوم الشرف، قال: فما الأروم؟ قال: الأصل الصميم والبيت القديم، قال: فما الفقر؟ قال: شره النفس وشدة القنوط، فقال: أبوهما أحسنتما جميعاً وقلتما الصواب.

ص: 71

لما ردت حليمة السعدية النبي (إلى مكة، فنظر إليه عبد المطلب وقد نما نمو الهلال وهو يتكلم بفصاحة، فقال: جمال قريش وفصاحة سعد وحلاوة يثرب.

سأل حكيم غلاماً معه سراج، من أين تجيء النار بعدما تنطفئ؟ فقال: إن أخبرتني إلى أين تذهب أخبرتك من أين تجيء.

قحطت البادية في أيام هشام، فقدمت عليه العرب، فهابوا أن يتكلموا وفيهم درواس بن حبيب وهو إذ ذاك صبي له ذؤابة وعليه شملتان، فوقعت عليه عين هشام فقال لحاجبه: ما يشاء أحد يدخل علي إلا دخل حتى الصبيان، فوثب درواس حتى وقف بين يديه مطراً أي مدلاً، فقال: يا أمير المؤمنين إن للكلام نشراً وطياً وإنه لا يعرف ما في طيه إلا بنشره فإن أذنت لي أن أنشره نشرته،

ص: 72

قال: انشر لا أبا لك -وقد أعجبه كلامه مع حداثة سنه- فقال: إنه أصابتنا سنون ثلاث، سنة أذابت الشحم، وسنة أكلت اللحم، وسنة أنقت العظم، وفي أيديكم فضول أموال فإن كانت لله ففرقوها على عباده، وإن كانت لهم فعلام تحبسونها عنهم، وإن كانت لكم فتصدقوا بها عليهم فإن الله يجزي المتصدقين، فقال هشام: ما ترك لنا الغلام في واحدة من الثلاث عذراً، فأمر للبوادي بمائة ألف دينار وله بمائة ألف درهم، فقال: ارددها يا أمير المؤمنين إلى جائزة العرب فإني أخاف أن تعجز عن بلوغ كفايتهم، فقال: أمالك حاجة؟ فقال: ما لي حاجة في خاصة نفسي دون عامة المسلمين، فخرج وهو من أنبل القوم.

قال رجل: مررت بغلمة من الأعراب يتماقلون في غدير، فقلت: أيكم يصف لي الغيث وأعطيه درهماً، فخرجوا إلي، وقالوا: كلنا نصف -وهم ثلاثة- فقلت صفوا فأيكم ارتضيت صفته أعطيته الدرهم، فقال أحدهم: عن لنا عارض قصراً تسوقه

ص: 73

الصبا وتحدوه الجنوب يحبو حبو المعتنك، حتى إذا ازلأمت صدوره، وانثلجت خصوره، ورجع هديره، وأصعق زئيره، واستقل نشاصه، وتلائم خصاصه، وارتعج ارتعاصه، وأوفدت سقابه، وامتدت أطنابه، تدارك ودقه، وتألق برقه، وحفزت تواليه، واسفحت عزاليه، فغادر الثرى عمداً، والعزاز ثئداً، والحث عقداً،

ص: 74

والضحاضح متواصية، والشعاب متداعية.

وقال الآخر تراءت المخايل من الأقطار، تحن حنين العشار، وتترامى بشهب النار، قواعدها متلاحكة، وبواسقها متضاحكة، وأرجاؤها متقاذفة، وأعجازها مترادفة، وأرجاؤها متراصفة، فواصلت الغرب بالشرق، والوبل بالودق، سحا دراكاً، متتابعاً لكاكاً، فضحضحت الجفاجف، وانهرت الصفاصف، وحوضت الأصالف، ثم أقلعت محسبة محمودة الآثار، موموقة الحبار.

ص: 75

وقال الثالث -والله ما خلته بلغ خمساً- فقال: هلم الدرهم أصف لك، فقلت: لا أو تقول كما قالا، فقال: والله لأبذنهما وصفاً، ولأفوقنهما رصفاً، قلت: هات لله أبوك، فقال: الحاضر بين الياس والإيلاس، قد غمرهم الإشفاق رهبة الإملاق، وقد حقبت الأنواء، ورفرف البلاء، واستولى القنوط على القلوب، وكثر الاستغفار من الذنوب، ارتاح ربك لعباده فأنشأ سحابا مسجهراً كنهوراً معنونكاً محلولكاً، ثم استقل واحزأل، فصار كالسماء دون السماء، كالأرض المدحوة في لوح الهواء، فأحسب السهول، وأتاق الهجول، وأحيا الرجاء وأمات

ص: 76

الضراء، وذلك من قضاء رب العالمين، قال: فملأ -والله- اليفع الثلاثة صدري فأعطيت كل واحد منهم درهماً وكتبت كلامهم.

قال الهيثم بن صالح لابنه: يا بني إذا أقللت من الكلام أكثرت من الصواب، وإذا أكثرت من الكلام أقللت من الصواب، قال: يا أبتِ فإن أنا أكثرت وأكثرت -يعني كلاماً وصواباً- قال: يا بني ما رأيت موعوظاً أحق بأن يكون واعظاً منك.

قال الرشيد يوماً لأبي عيسى ولده وهو صبي، وكان من أجمل أهل زمانه: ليت جمالك لعبد الله -يعني المأمون- قال: على أن حظه منك لي، فعجب من جوابه وضمه إليه.

قرع قوم على الجاحظ الباب، فخرج صبي له فسألوه ما يصنع؟ فقال هو ذا يكذب على الله، قيل كيف؟ قال: نظر في المرآة فقال الحمد لله الذي خلقني فأحسن صورتي.

ص: 77