الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الخامس في ذكر النجياء من الأولاد
قال رسول الله (: "من سعادة الرجل أن يشبه أباه".
وقال بعض الحكماء: الحياء في الصبي خيرٌ من الخوف: لأن الحياء يدل على العقل والخوف يدل على الجبن. قال ابن عباسٍ رحمه الله: عرامة الصبي زيادة في عقله. وقالت ماوية بنت النعمان بن كعب لزوجها لؤي بن غالب: أي أولادك أحب إليك؟ قال: الذي لا يرد بسطة يده بخل ولا يلوي لسانه عي ولا يغير طبعه سفه، يعني
كعب بن لؤي سئل أعرابي من بني عبس عن أولاده فقال: ابن قد كهل وابن قد رفل وابن قد نسل وابن قد مثل وابن قد فضل.
سئلت أعرابية عن ابنها فقالت: أنفع من غيث وأشجع من ليث: يحمي العشيرة ويبيح الذخيرة ويحسن السريرة.
وقد تبين نجابة الصبي باختياراته لمعالي الأمور، فإن الصبيان قد يجتمعون للعب فيقول عالي الهمة: من يكون معي، ويقول القاصر الهمة: مع من أكون! قال أحمد بن النضر الهلالي: سمعت أبي يقول: كنت في مجلس سفيان ابن عيينة فنظروا إلى صبي دخل المسجد فتهاونوا به لصغر سنه فقال سفيان: كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم، ثم قال: يا نضر لو رأيتني ولي عشر سنين طولي خمسة أشبار، ووجهي كالدينار، وأنا كشعلة نار، ثيابي صغار، وأكمامي قصار، وذيلي بمقدار، ونعلي كآذان الفار، أختلف إلى علماء الأمصار، مثل
الزهري وعمرو بن دينار، أجلس بينهم كالمسمار، محبرتي كالجوزة، ومقلمتي كالموزة، وقلمي كاللوزة، فإذا دخلت المجلس قالوا أوسعوا للشيخ الصغير، ثم تبسم ابن عيينة وضحك.
وعن الكسائي أنه دخل على الرشيد فأمر بإحضار الأمين
والمأمون، قال: فلم ألبث أن أقبلا ككوكبي أفق يزينهما هديهما ووقاهما، قد غضا أبصارهما وقاربا خطوهما حتى وقفا على مجلسه فسلما عليه بالخلافة ودعوا له بأحسن الدعاء، فاستدناهما فأجلس محمداً عن يمينه وعبد الله عن شماله، ثم أمرني أن ألقي عليهما أبواباً من النحو، فما سألتهما عن شيء إلا أحسنا الجواب عنه، فسره سروراً استبنته فيه، وقال لي: كيف تراهما؟ فقلت:
أرى قمري أفق وفرعي بشامة
…
يزينهما عرق كريم ومحتد
سليلي أمير المؤمنين وحائزي
…
مواريث ما أبقى النبي محمد
يسدان أنفاق النفاق بشيمة
…
يؤيدها حزم وغضبٌ مهند
ثم قلت: ما رأيت أعز الله أمير المؤمنين أحداً من أبناء الخلافة ومعدن الرسالة وأغصان هذه الشجرة الزكية أذرب منهما ألسناً ولا
أحسن ألفاظاً ولا أشد اقتداراً على تأدية ما حفظا ورويا منهما، أسأل الله أن يزيد بهما الإسلام تأييداً وعزاً ويدخل بهما على أهل الشرك ذلاً وقمعاً، وأمن الرشيد على دعائي ثم ضمهما إليه وجمع عليهما يديه فلم يبسطهما حتى رأيت الدموع تنحدر على صدره.
أقام المنصور ذات يوم ابنه صالحاً فتكلم بكلام بليغ وفي المجلس المهدي وهو ولي عهده، فأشار المنصور إلى الحاضرين بأن يصف أحد كلامه، فكلهم كره ذلك بسبب المهدي، فابتدر شبيب بن شبة وقال: والله يا أمير المؤمنين ما رأيت كاليوم أبين بياناً ولا أجرى لساناً ولا أرطب جناناً ولا أبل ريقاً ولا أحسن طريقاً ولا أغمض عروقاً،
وحق لمن كان أمير المؤمنين أباه والمهدي أخاه أن يكون كذلك كما قال زهير:
هو الجواد فإن يلحق بشأوهما
…
على تكاليفه فمثله لحقا
أو يسبقاه على ما كان من مهل
…
فمثل ما قدما من صالح سبقا
ومن أحسن ما رصع به تاج النجباء، ووسط به عقد الأبناء، ولد مولانا السلطان الملك العزيز الذي ملأ عينه قرة، وقلبه مسرة، والتهم بمعالي الأمور قبل الفطام، فلعب بالرمح ورمى بالسهام، فمخايل النجابة من أعطافه لائحة، ودلائل السعادة عليه غادية ورائحة، وكيف لا يكون كذلك ومولانا السلطان كافلة ومربية،
والمولى الملك الصالح أخوه ابن أبيه، وهو كما قيل:
من يكن أنجب في الناس بنوه
…
فسليل المجد من أنت أبوه
بالبنين ابن تجلى وجهه
…
عن سرور ضحكت فيه الوجوه
نطقت عن فضله آلاؤه
…
قبل أن ينطق بالحكمة فوه
نير طالعه مطلعه
…
في سماء الملك والبدر أخوه
إنما أملا كنا أفلا كنا
…
ومصابيح الدجى من ولدوه
قال المفضل بن زيد: نزلت على بنو تغلب في بعض السنين وكنت مشغوفاً بأخبار العرب أحب أن أسمعها وأجمعها، فإني لفي بعض أحياء العرب غذ أنا بامرأة واقفة في فناء خبائها وهي آخذة بيد غلام قلما رأيت شبيهه في حسنه وجماله، له ذؤابتان مضفورتان كالسبح المنظوم وهي تعاتبه بلسان رطب وكلام عذب يقبله السمع ويترشقه القلب وأكثر ما أسمع من كلامها يا بني وأي بني، وهو يتبسم في وجهها قد غلب عليه الحياء والخجل كأنه جارية بكر لا يحير جواباً، فاستحسنت ما رأيت وأستحليت ما سمعت، فدنوت فسلمت
فرد علي السلام، ووقفت أنظر إليهما، فقالت: يا حضري ما حاجتك؟ قلت: الاستكثار مما أسمع منك والاستمتاع من حسن هذا الغلام، فتبسمت المرأة وقالت: يا حضري إن شئت أن أسوق إليك من خبره ما هو أحسن من منظره، قلت: هات، قالت: حملته تسعة أشهر حملاً خفيفاً خفياً والعيش كدر والرزق عسر، حتى إذا شاء الله أن أضعه وضعته خلقاً سوياً، فوربك ما هو إلا أن صار ثالث أبويه حتى رزق الله فأفضل، وأعطى فأجزل، ثم أرضعته حولين كاملين حتى إذا استتم الرضاعة نقلته من خرق المهد إلى فراش أبويه فربي بينهما كأنه شبل أبواه يقيانه برد الشتاء وحر الهجير، حتى إذا تمت له خمس سنين أسلمته إلى المؤدب فحفظ القرآن فتلاه، وعلمه الشعر فرواه، ورغب في مفاخر قومه وطلب مآثر آبائه وأجداده، فلما بلغ الحلم حملته على عتاق الخيل فتمرس وتفرس ولبس السلاح ومشى بين بيوت الحي وأصغى إلى صوت الصارخ وأنا عليه وجلة، أحرسه من العيون أن تصيبه، ومن الألسن أن تعيبه، إلى أن نزلنا منهلاً من المناهل وشاء الله أن أصابته وعكة شغلته، فركب فتيان الحي لطلب ثأر لهم حتى لم يبق في الحي أحد غيره ونحن آمنون، فوربك ما هو إلا أن أدبر الليل وأسفر الصبح حتى طلعت علينا غرر الجياد ثوارا غير زوار، فما كان إلا هنيهة حتى حازوا الأموال من دون أهلها وهو
يسألني عن الصوت وأنا أستر عليه الخبر إشفاقاً وحذراً عليه، إلى أن علت الأصوات وبرزت المخبآت، فثار كما يثور الأسد المغضب، فأمر بإسراج فرسه وصب عليه سلاحه وأخذ رمحه وركب حتى لحق حماة القوم ونحن ننظر إليه، فطعن فارساً فرماه وانحاز متميزاً، وانصرفت إليه وجوه الفرسان فرأوا غلاماً صغيراً فحملوا عليه، وأقبل يؤم البيوت ونحن ندعوا له، حتى إذا ما دهموه عطف عليهم فطعن أدناهم منه فقطره ومرق كما يمرق السهم من الرمية، وقال: خلوا عن المال، فوالله لا رجعت إلا به أو لأهلكن دونه، فتداعت إليه الفرسان، وتمايل إليه الأقران، فرجعوا وقد نصبوا له الأسنة، وقلصوا له الأعنة، وجعلنا من وراء ظهره، وجعل يهدر كما يهدر الفحل، ولا يحمل على ناحية إلا طحنها ولا يقصد فارساً إلا قتله، وكل ذات رحم منا باسطة يدها إلى الله تعالى بالدعاء له إشفاقاً عليه ووجداً به، إلى أن كشفهم عن المال وقد أشرفت أوائل خيل الحي، فكبر الناس وولى القوم منهزمين، فوالله ما رأينا يوماً كان أقبح صباحاً ولا أحسن رواحاً من ذلك اليوم، ولقد سمعته ينشد أبياتاً بعد منصرفه من الحرب وهي:
تأملن فعلي هل رأيتن مثله
…
إذا حشرجت نفس الكمي بعد الكرب
وضاقت عليه الأرض حتى كأنه
…
من الخوف مسلوب العزيمة والقلب
ألم أعط كلاً حقه ونصيبه
…
من السمهلاي اللدن والصارم العضب
أنا ابن أبي هند بن قيس بن خالد
…
سليل المعالي والمكارم والحرب
أبي لي أن أعطى الظلامة مرهف
…
رقيق وطرف مجفر الجوف والجنب
وعزم صحيح لو ضربت بحده
…
شماريخ رضوى لانحططن إلى الترب
فإن لم أقاتل دونكن وأحتمي
…
لكن وأحميكن بالطعن والضرب
وأبذل نفساً دونكن عزيزة
…
علي لأطراف القنا وظبا القضب
فما صدق اللاتي سعين إلى أبي
…
يهنينه بالفارس البطل الندب