الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَبْحَثُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ» فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: إِنَّمَا أَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِزَالَةَ اسْمِ الْإِيمَانِ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنَ الْإِسْلَامِ وَلَا يُزِيلُ
عَنْهُ اسْمَهُ وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَقَالُوا: إِذَا زَنَى فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ ، وَهُوَ مِسْلِمٌ ، وَاحْتَجُّوا لِتَفْرِيقِهِمْ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ بِقَوْلِ اللَّهِ تبارك وتعالى:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] فَقَالُوا الْإِيمَانُ خَاصٌ يَثْبُتُ الِاسْمُ بِهِ بِالْعَمَلِ بِالتَّوْحِيدِ ، وَالْإِسْلَامُ عَامٌّ يَثْبُتُ الِاسْمُ بِهِ بِالتَّوْحِيدِ وَالْخُرُوجُ مِنْ مِلَلِ الْكُفْرِ وَاحْتجُّوا بِحَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ الَّذِي:
560 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أنا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَعْطَى رِجَالًا وَلَمْ يُعْطِ رَجُلًا مِنْهُمْ شَيْئًا فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطَيْتَ فُلَانًا وَفُلَانًا وَلَمْ
⦗ص: 507⦘
تُعْطِ فُلَانًا وَهُوَ مُؤْمِنٌ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " أَوَ مُسْلِمٌ؟ حَتَّى أَعَادَهَا سَعْدٌ ثَلَاثًا وَالنَّبِيُّ يَقُولُ أَوَ مُسْلِمٌ؟ ثُمَّ قَالَ: إِنِّي أُعْطِي رِجَالًا وَأَمْنَعُ آخَرِينَ هُمْ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُمْ مَخَافَةَ أَنْ يُكَبُّوا عَلَى وُجُوهِهِمْ فِي النَّارِ ". قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَنَرَى أَنَّ الْإِسْلَامَ الْكَلِمَةُ وَالْإِيمَانَ الْعَمَلُ
561 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، ثنا مُسَدَّدٌ، ثنا مُعْتَمِرٌ، ثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ
⦗ص: 508⦘
عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، بِهَذِهِ الْقِصَّةِ.
562 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، ثنا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَمِّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ، بِهَذَا الْحَدِيثِ
⦗ص: 509⦘
. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَاحْتَجُّوا بِإِنْكَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَلَى مَنْ شَهِدَ لِنَفْسِهِ بِالْإِيمَانِ فَقَالَ: أَنَا مُؤْمِنٌ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ، وَكَذَلِكَ أَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَجُلُّ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ:«يَخْرُجُ مِنْهُ الْإِيمَانُ فَإِنْ رَجَعَ رَجَعَ إِلَيْهِ» وَبِمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ، وَبِمَا رَوَى الْحَسَنُ وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ:«مُسْلِمٌ وَيَهَابَانِ مُؤْمِنٌ» وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ أَبِي جَعْفَرٍ الَّذِي:
563 -
حَدَّثَنَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنا وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ
⦗ص: 510⦘
، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ» فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ:" هَذَا الْإِسْلَامُ وَدَوَّرَ دَارَةً وَاسِعَةً وَقَالَ: هَذَا الْإِيمَانُ وَدَوَّرَ دَارَةً صَغِيرَةً فِي وَسَطِ الْكَبِيرَةِ قَالَ: وَالْإِيمَانُ مَقْصُورٌ فِي الْإِسْلَامِ فَإِذَا زَنَى أَوْ سَرَقَ خَرَجَ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَلَا يُخْرِجُهُ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا الْكُفْرُ بِاللَّهِ " قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ اللَّهِ تبارك وتعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]
564 -
فَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أنا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، قَالَ: أَتَيْتُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيَّ فَقُلْتُ: إِنَّ رَجُلًا خَاصَمَنِي يُقَالُ لَهُ: سَعِيدٌ الْعَنَزِيُّ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: لَيْسَ بِالْعَنْزِيِّ وَلَكِنَّهُ زُبَيْدِيُّ، قَوْلُهُ:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] فَقَالُوا: هُوَ الِاسْتِسْلَامُ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: لَا هُوَ الْإِسْلَامُ "
565 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: لَا، هُوَ الْإِسْلَامُ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «أَسْلَمَ النَّاسُ وَآمَنَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ»
566 -
حَدَّثَنَا بِذَلِكَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أنا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ مِشْرَحِ بْنِ هَاعَانَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«أَسْلَمَ النَّاسُ وَآمَنَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ»
567 -
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مَنْصُورٍ، ثنا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، ثنا مُؤَمَّلٌ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ هِشَامًا، يَقُولُ: كَانَ الْحَسَنُ وَمُحَمَّدٌ يَقُولَانِ: مُسْلِمٌ، وَيَهَابَانِ مُؤْمِنٌ "
568 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، ثنا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، ثنا أَبُو سَلَمَةَ الْحَرَّانِيُّ، قَالَ: قَالَ مَالِكٌ، وَشَرِيكٌ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ:«الْإِيمَانُ الْمَعْرِفَةُ، وَالْإِقْرَارُ، وَالْعَمَلُ إِلَّا أَنَّ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ يَجْعَلُ الْإِيمَانَ خَاصًّا وَالْإِسْلَامَ عَامًّا» قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: قَالُوا: فَلَنَا فِي هَؤُلَاءِ أُسْوَةٌ، وَبِهِمْ قُدْوَةٌ مَعَ مَا يُثْبِتُ ذَلِكَ مِنَ النَّظَرِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ اسْمَ الْمُؤْمِنِ اسْمَ ثَنَاءٍ وَتَزْكِيَةٍ وَمِدْحَةٍ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ فَقَالَ:{وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَّامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} [الأحزاب: 44] وَقَالَ: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس: 2] وَقَالَ: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الحديد: 12] الْآيَةَ، وَقَالَ:{يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [التحريم: 8]
⦗ص: 513⦘
وَقَالَ: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257] وَقَالَ: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [التوبة: 72] قَالَ: ثُمَّ أَوْجَبَ اللَّهُ النَّارَ عَلَى الْكَبَائِرِ فَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْإِيمَانِ زَائِلٌ عَنْ مَنْ أَتَى كَبِيرَةً، قَالُوا: وَلَمْ نَجِدِ اللَّهَ أَوْجَبَ الْجَنَّةَ بِاسْمِ الْإِسْلَامِ فَثَبَتَ أَنَّ اسْمَ الْإِسْلَامِ لَهُ ثَابِتٌ عَلَى حَالِهِ، وَاسْمَ الْإِيمَانِ زَائِلٌ عَنْهُ. فَإِنْ قِيلَ لَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ هَذَا: لَيْسَ الْإِيمَانُ ضِدَّ الْكُفْرِ. قَالُوا: الْكُفْرُ ضِدٌّ لِأَصْلِ الْإِيمَانِ لِأَنَّ لِلْإِيمَانِ أَصْلًا وَفَرْعًا، فَلَا يَثْبُتُ الْكُفْرُ حَتَّى يَزُولَ أَصْلُ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْكُفْرِ. فَإِنْ قِيلَ لَهُمْ: فَالَّذِي زَعَمْتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَزَالَ عَنْهُ اسْمَ الْإِيمَانِ، هَلْ فِيهِ مِنَ الْإِيمَانِ شَيْءٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ أَصْلُهُ ثَابِتٌ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَفَرَ، أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ أَنْكَرَ عَلَى الَّذِي شَهِدَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ، ثُمَّ قَالَ: لَكِنَّا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، يُخْبِرُكَ أَنَّهُ قَدْ آمَنَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ قَدْ صَدَّقَ، وَأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ اسْمَ الْمُؤْمِنِ إِذْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُقَصِّرٌ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ هَذَا الِاسْمَ عِنْدَهُ إِلَّا مَنْ أَدَّى مَا وَجَبَ، وَانْتَهَى عَمَّا حُرِّمَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُوجِبَاتِ لِلنَّارِ الَّتِي هِيَ الْكَبَائِرُ. قَالُوا: فَلَمَّا أَبَانَ اللَّهُ أَنَّ هَذَا الِاسْمَ يَسْتَحِقُّهُ مَنْ قَدِ اسْتَحَقَّ
⦗ص: 514⦘
الْجَنَّةَ، وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْجَبَ الْجَنَّةَ عَلَيْهِ، وَعَلِمْنَا أَنَّا قَدْ آمَنَّا وَصَدَّقْنَا لِأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنَ التَّكْذِيبِ إِلَّا بِالتَّصْدِيقِ وَلَسْنَا بِشَاكِّينَ وَلَا مُكَذِّبِينَ وَعَلِمْنَا أَنَّا لَهُ عَاصُونَ مُسْتَوْجِبُونَ لِلْعَذَابِ وَهُوَ ضِدُّ الثَّوَابِ الَّذِي حَكَمَ اللَّهُ بِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى اسْمِ الْإِيمَانِ، عَلِمْنَا أَنَّا قَدْ آمَنَّا وَأَمْسَكْنَا عَنِ الِاسْمِ الَّذِي أَثْبَتَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْحُكْمَ بِالْجَنَّةِ وَهُوَ مِنَ اللَّهِ اسْمُ ثَنَاءٍ وَتَزْكِيَةٍ، وَقَدْ نَهَانَا اللَّهُ أَنْ نُزَكِّيَ أَنْفُسَنَا، وَأَمَرَنَا بِالْخَوْفِ عَلَى أَنْفُسِنَا، وَأَوْجَبَ لَنَا الْعَذَابَ بِعِصْيَانِنَا، فَعَلِمْنَا أَنَّا لَسْنَا بِمُسْتَحِقِّينَ بِأَنْ نَتَسَمَّى مُؤْمِنِينَ إِذْ أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى اسْمِ الْإِيمَانِ الثَّنَاءَ، وَالتَّزْكِيَةَ، وَالرَّحْمَةَ، وَالرَّأْفَةَ، وَالْمَغْفِرَةَ، وَالْجَنَّةَ، وَأَوْجَبَ عَلَى الْكَبَائِرِ النَّارَ، وَهَذَانِ حُكْمَانِ يَتَضَادَّانِ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ أَمْسَكْتُمْ عَنِ اسْمِ الْإِيمَانِ أَنْ تُسَمَّوْا بِهِ، وَأَنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ أَصْلَ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِكُمْ وَهُوَ التَّصْدِيقُ بِأَنَّ اللَّهَ حَقٌّ، وَمَا قَالَهُ صِدْقٌ؟ . قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَجَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ سَمَّوُا الْأَشْيَاءَ بِمَا غَلَبَ عَلَيْهَا مِنَ الْأَسْمَاءِ فَسَمَّوُا الزَّانِيَ فَاسِقًا، وَالْقَاذِفَ فَاسِقًا، وَشَارِبَ الْخَمْرِ فَاسِقًا، وَلَمْ يُسَمُّوا وَاحِدًا مِنْ هَؤُلَاءِ مُتَّقِيًا وَلَا وَرِعًا، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ فِيهِ أَصْلَ التُّقَى وَالْوَرَعِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَتَّقِي أَنْ يَكْفُرَ أَوْ يُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا، وَكَذَلِكَ يَتَّقِي اللَّهَ أَنْ يَتْرُكَ الْغُسْلَ مِنَ الْجَنَابَةِ أَوِ الصَّلَاةِ، وَيَتَّقِي أَنْ يَأْتِيَ أُمَّهُ فَهُوَ فِي
⦗ص: 515⦘
جَمِيعِ ذَلِكَ مُتَّقٍ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْمُخَالِفِينَ وَالْمُوَافِقِينَ أَنَّهُمْ لَا يُسَمُّونَهُ مُتَّقِيًا وَلَا وَرِعًا إِذَا كَانَ يَأْتِي بِالْفُجُورِ، فَلَمَّا أَجْمَعُوا أَنَّ أَصْلَ التُّقَى وَالْوَرَعِ ثَابِتٌ فِيهِ، وَأَنَّهُ قَدْ يَزِيدُ فِيهِ فُرُوعًا بَعْدَ الْأَصْلِ كَتَوَرُّعِهِ عَنْ إِتْيَانِ الْمَحَارِمِ ثُمَّ لَا يُسَمُّونَهُ مُتَّقِيًا وَلَا وَرِعًا مَعَ إِتْيَانِهِ بَعْضَ الْكَبَائِرِ، وَسَمُّوهُ فَاسِقًا وَفَاجِرًا مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّهُ قَدْ أَتَى بَعْضَ التُّقَى وَالْوَرَعِ، فَمَنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ اسْمَ التُّقَى اسْمَ ثَنَاءٍ وَتَزْكِيَةٍ، وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْمَغْفِرَةَ وَالْجَنَّةَ. قَالُوا: فَكَذَلِكَ لَا نُسَمِّيهِ مُؤْمِنًا، وَنُسَمِّيهِ فَاسِقًا زَانِيًا، وَإِنْ كَانَ أُصِّلَ فِي قَلْبِهِ اسْمُ الْإِيمَانِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ اسْمٌ أَثْنَى اللَّهُ بِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَزَكَّاهُمْ بِهِ فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ، فَمِنْ ثَمَّ قُلْنَا: مُسْلِمٌ، وَلَمْ نَقُلْ: مُؤْمِنٌ. قَالُوا: وَلَوْ كَانَ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْمُوَحِّدِينَ يَسْتَحِقُّ أَنْ لَا يَكُونَ فِي قَلْبِهِ إِيمَانٌ وَلَا إِسْلَامٌ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ لَكَانَ أَحَقُّ النَّاسِ بِذَلِكَ أَهْلَ النَّارِ الَّذِينَ دَخَلُوهَا، فَلَمَّا وَجَدْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُخْبِرُ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ:«أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ» ثَبَتَ أَنَّ شَرَّ الْمُسْلِمِينَ فِي قَلْبِهِ
⦗ص: 516⦘
إِيمَانٌ، وَلَمَّا وَجَدْنَا الْأُمَّةَ يُحْكَمُ عَلَيْهِمْ بِالْأَحْكَامِ الَّتِي أَلْزَمَهَا اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُكَفِّرُونَهُمْ، وَلَا يَشْهَدُونَ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ ثَبَتَ أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ إِذْ أَجْمَعُوا أَنْ يُمْضُوا عَلَيْهِمْ أَحْكَامَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ أَنْ يُسَمَّوْا مُؤْمِنِينَ، إِذْ كَانَ الْإِسْلَامُ ثَبْتًا لِلْمِلَّةِ الَّتِي يَخْرُجُ بِهَا الْمُسْلِمُ مِنْ جَمِيعِ الْمِلَلِ فَتَزُولُ عَنْهُ أَسْمَاءُ الْمِلَلِ إِلَّا اسْمَ الْإِسْلَامِ وَتَثْبُتُ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ، وَتَزُولُ عَنْهُ أَحْكَامُ جَمِيعِ الْمِلَلِ. فَإنْ قَالَ لَهُمْ قَائِلٌ: لِمَ لَمْ تَقُولُوا: كَافِرُونَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، تُرِيدُونَ بِهِ كَمَالَ الْكُفْرِ، كَمَا قُلْتُمْ: مُؤْمِنِينَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تُرِيدُونَ بِهِ كَمَالَ الْإِيمَانِ؟ . قَالُوا: لِأَنَّ الْكَافِرَ مُنْكِرٌ لِلْحَقِّ، وَالْمُؤْمِنَ أَصْلُ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ لَا أَوَّلَ لَهُ وَلَا آخِرَ فَيَنْتَظِرُ بِهِ الْحَقَائِقَ. وَالْإِيمَانُ أَصْلُهُ التَّصْدِيقُ، وَالْإِقْرَارُ يَنْتَظِرُ بِهِ حَقَائِقَ الْأَدَاءِ لِمَا أَقَرَّ وَالتَّحْقِيقُ لِمَا صَدَّقَ، وَمَثَلُ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا حَقٌّ لِرَجُلٍ فَسَأَلَ أَحَدُهُمَا حَقَّهُ فَقَالَ: لَيْسَ لَكَ عِنْدِي حَقٌّ فَأَنْكَرَ وَجَحَدَ فَلَمْ تَبْقَ لَهُ مَنْزِلَةٌ يُحَقِّقُ بِهَا مَا قَالَ إِذْ جَحَدَ وأَنْكَرَ وَسَأَلَ الْآخَرَ حَقَّهُ، فَقَالَ: نَعَمْ، لَكَ عَلَيَّ كَذَا وَكَذَا، فَلَيْسَ إِقْرَارُهُ بِالَّذِي
⦗ص: 517⦘
يَصِلُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ حَقُّهُ دُونَ أَنْ يُوَفِّيَهُ، وَهُوَ مُنْتَظِرٌ لَهُ أَنْ يُحَقِّقَ مَا قَالَ إِلَّا بِأَدَائِهِ، وَيَصْدُقُ إِقْرَارُهُ بِالْوَفَاءِ، وَلَوْ أَقَرَّ ثُمَّ لَمْ يُؤَدِّ حَقَّهُ كَانَ كَمَنْ جَحَدَهُ فِي الْمَعْنَى، إِذَا اسْتَوَيَا فِي التَّرْكِ لِلْأَدَاءِ فَتَحْقِيقُ مَا قَالَ أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَيْهِ حَقَّهُ، فَإِنْ أَدَّى جُزْءًا مِنْهُ حَقَّقَ بَعْضَ مَا قَالَ وَوَفَى بِبَعْضِ مَا أَقَرَّ بِهِ، وَكُلَّمَا أَدَّى جُزْءًا ازْدَادَ تَحْقِيقًا لِمَا أَقَرَّ بِهِ، وَعَلَى الْمُؤْمِنِ الْأَدَاءُ أَبَدًا لِمَا أَقَرَّ بِهِ حَتَّى يَمُوتَ فَمِنْ ثَمَّ قُلْنَا مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَلَمْ يَقُلْ: كَافِرٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ