المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌جماع تفسير النصيحة. قال أبو عبد الله: قال بعض أهل العلم: جماع تفسير النصيحة هو عناية القلب للمنصوح له من كان، وهي على وجهين: أحدهما فرض، والآخر نافلة، فالنصيحة المفترضة لله هي شدة العناية من الناصح باتباع محبة الله في أداء ما افترض، ومجانبة ما - تعظيم قدر الصلاة - محمد بن نصر المروزي - جـ ٢

[محمد بن نصر المروزي]

فهرس الكتاب

- ‌مَبْحَثُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ» فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: إِنَّمَا أَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِزَالَةَ اسْمِ الْإِيمَانِ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنَ الْإِسْلَامِ وَلَا يُزِيلُ

- ‌قَوْلُ طَائِفَةٍ ثَانِيَةٍ فِي مُغَايَرَةِ الْإِيمَانِ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى أَيْضًا مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ بِمِثْلِ مَقَالَةِ هَؤُلَاءِ، إِلَّا أَنَّهُمْ سَمَّوْهُ مُسْلِمًا لِخُرُوجِهِ مِنْ مِلَلِ الْكُفْرِ، وَلِإِقْرَارِهِ بِاللَّهِ وَبِمَا قَالَ، وَلَمْ يُسَمُّوهُ مُؤْمِنًا وَزَعَمُوا أَنَّهُ مَعَ تَسْمِيَتِهِمْ إِيَّاهُ بِالْإِسْلَامِ كَافِرٌ لَا كَافِرٌ بِاللَّهِ

- ‌حِكَايَةُ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَهَذِهِ الْحُجَجُ الَّتِي كَتَبْنَاهَا هِيَ دَاخِلَةٌ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَذَلِكَ أَنَّهَا زَعَمَتْ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَتَى كَبِيرَةً فَقَدْ خَرَجَ مِنَ الْإِيمَانِ، وَإِذَا خَرَجَ مِنَ الْإِيمَانِ فَقَدْ خَرَجَ مِنَ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ عِنْدَهُمْ وَاحِدٌ فَهُوَ عِنْدَهُمْ غَيْرُ مُؤْمِنٍ وَلَا مُسْلِمٍ

- ‌حِكَايَةُ قَوْلِ الرَّافِضَةِ فِيهَا وَقَالَتِ الرَّافِضَةُ بِمِثْلِ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ إِلَّا طَائِفَةً مِنْهَا ذَهَبَتْ إِلَى مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَجْمَعَ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ أَحْكَامَ الْمُؤْمِنِينَ جَائِزَةٌ عَلَيْهِمْ مَعَ نَفْيِهِمُ اسْمَ الْإِيمَانِ عَنْهُمْ، وَفِي هَذَا مِنَ التَّنَاقُضِ وَاخْتِلَافِ

- ‌الْأَمْرُ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى وُجُوهٍ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَالْأَمْرُ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قَدْ يَتَّجِهُ عَلَى وُجُوهٍ:

- ‌أَمْرُ الدُّعَاءِ وَنَوْعٌ خَامِسٌ: لَفْظُهُ لَفْظُ الْأَمْرِ وَمَعْنَاهُ مَعْنَى الدُّعَاءِ مِنْ ذَلِكَ دُعَاءُ الْعَبْدِ رَبَّهُ فَيَقُولُ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي، فَهَذَا لَفْظُهُ لَفْظُ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا هُوَ دُعَاءٌ وَمَسْأَلَةٌ

- ‌أَمْرٌ مَعْنَاهُ الْخَبَرُ. وَنَوْعٌ آخَرُ لَفْظُهُ لَفْظُ الْأَمْرِ، وَمَعْنَاهُ الْخَبَرُ مِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: إِنَّمَا هُوَ مَنْ لَمْ يَسْتَحْيِ صَنَعَ مَا شَاءَ عَلَى جِهَةِ الذَّمِّ لِتَرْكِ الْحَيَاءِ، وَلَمْ يُرِدْ

- ‌بَقِيَّةُ الْجَوَابِ عَنِ الْقَائِلِينَ بِمُغَايَرَةِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ اسْمَ مُؤْمِنٍ اسْمَ ثَنَاءٍ وَتَزْكِيَةٍ، وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ثُمَّ أَوْجَبَ النَّارَ عَلَى الْكَبَائِرِ فَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْإِيمَانِ زَائِلٌ عَنْ كُلِّ مَنْ أَتَى كَبِيرَةً، فَإِنَّا نَقُولُ: إِنَّ اسْمَ الْمُؤْمِنِ قَدْ يُطْلَقُ

- ‌أَدِلَّةٌ أُخْرَى عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِنَفْيِ الْإِيمَانِ عَنْ مُرْتَكِبِ الْمَعَاصِي نَفْيُ اسْتِكْمَالِ الْإِيمَانِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَأْوِيلَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ الَّتِي فِيهَا نَفْيُ الْإِيمَانِ عَنْ مَنِ ارْتَكَبَ الْمَعَاصِي الْمَذْكُورَةَ فِيهَا إِلَيْهِ مَا ذَهَبْنَا مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا نَفْيُ اسْتِكْمَالِ الْإِيمَانِ لَا نَفْيَ الْإِيمَانِ كُلِّهِ

- ‌غُلُوُّ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ فِي تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي نَفْيِ الْإِيمَانِ عَمَّنِ ارْتَكَبَ الْكَبِيرَةَ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَقَدْ غَلَتْ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ الَّتِي جَاءَتْ فِي نَفْيِ الْإِيمَانِ عَنْ مَنِ ارْتَكَبَ الْكَبَائِرَ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ مِنْهُمُ الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَالرَّافِضَةُ. فَأَمَّا

- ‌أَدِلَّةٌ أُخْرَى عَلَى ضَلَالَةِ الْخَوَارِجِ وَفَسَادِ مَذْهَبِهِمْ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى ضَلَالَةِ الْخَوَارِجِ سِوَى مَا ذَكَرْنَا مُخَالَفَتَهُمْ لِجَمَاعَةِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، اقْتَتَلَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ الْجَمَلِ، وَيَوْمَ صِفِّينَ، وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ

- ‌فِرَقُ الْمُرْجِئَةِ وَفَسَادُ مَذْهَبِهِمْ. فَفِرْقَةٌ مِنْ أَهْلِ الْجَهْلِ مِنْهُمْ وَالْمُعَانَدَةِ أَنْكَرَتْ هَذِهِ الْأَخْبَارَ وَرَدَّتْهَا، وَذَلِكَ لِقِلَّةِ مَعْرِفَتِهِمْ بِالْآثَارِ، وَجَهْلِهِمْ بِتَأْوِيلِهَا، وَذَلِكَ لِقِلَّةِ اتِّسَاعِهِمْ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمَذَاهِبِهَا، وَاتِّبَاعِهِمْ أَهْوَاءَهُمْ فَلَمَّا لَمْ تُوَافِقْ مَذَاهِبَهُمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ إِنْ أَقَرُّوا بِهَا لَزِمَتْهُمُ الْحُجَّةُ

- ‌عَوْدَةٌ إِلَى الِاحْتِجَاجِ لِمَنْ فَسَّرَ: «الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ» عَلَى اسْتِكْمَالِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَسَائِرِ الْجَوَارِحِ. ثُمَّ نَعُودُ الْآنَ إِلَى مَا كُنَّا فِيهِ مِنَ الِاحْتِجَاجِ لِمَنْ فَسَّرَ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ: «الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ» عَلَى اسْتِكْمَالِ الْإِيمَانِ

- ‌أَدِلَّةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ بِالرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام إِنَّمَا هُوَ بِتَصْدِيقِهِ، وَاتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْحُجَّةُ فِي أَنَّ الْإِيمَانَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا هُوَ بِتَصْدِيقِهِ وَاتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ؟ قِيلَ: كِتَابُ اللَّهِ عز وجل وَسُنَّةُ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم

- ‌بَابٌ فِي شَرْحِ حَدِيثِ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» . قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَهَذَا بَابٌ جَامِعٌ مُخْتَصَرٌ مِنْ نَفْسِ تَفْسِيرِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ شَبِيهٌ بِحَدِيثِ جِبْرِيلَ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ الَّذِي حَكَيْنَاهُ وَهُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا الدِّينُ النَّصِيحَةُ» بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ جَامِعَةٍ، فَلَمَّا قِيلَ: لِمَنْ؟ قَالَ:

- ‌طُرُقُ حَدِيثِ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ»

- ‌جِمَاعُ تَفْسِيرِ النَّصِيحَةِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: جِمَاعُ تَفْسِيرِ النَّصِيحَةِ هُوَ عِنَايَةُ الْقَلْبِ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ مَنْ كَانَ، وَهِيَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا فَرْضٌ، وَالْآخَرُ نَافِلَةٌ، فَالنَّصِيحَةُ الْمُفْتَرَضَةُ لِلَّهِ هِيَ شِدَّةُ الْعِنَايَةِ مِنَ النَّاصِحِ بِاتِّبَاعِ مَحَبَّةِ اللَّهِ فِي أَدَاءِ مَا افْتَرَضَ، وَمُجَانَبَةِ مَا

- ‌بَابُ ذِكْرِ إِكْفَارِ تَارِكِ الصَّلَاةِ

- ‌بَابُ ذِكْرِ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الْمُصَلِّينَ، وَإِبَاحَةِ قَتْلِ مَنْ لَمْ يُصَلِّ

- ‌بَابُ ذِكْرِ الْأَخْبَارِ الَّتِي احْتَجَّتْ بِهِ هَذِهِ الطَّائِفَةُ الَّتِي لَمْ تُكَفِّرْ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ

- ‌مِنْ حُقُوقِ الصَّلَاةِ وَآدَابِهَا قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَمِنْ حُقُوقِ الصَّلَاةِ: الطَّهَارَةُ مِنَ الْأَحْدَاثِ، وَطَهَارَةُ الثِّيَابِ الَّتِي تُصَلَّى فِيهَا، وَطَهَارَةُ الْبِقَاعِ الَّتِي تُصَلَّى عَلَيْهَا، وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى مَوَاقِيتِهَا الَّتِي كَانَ يُحَافِظُ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ رضي الله عنهم

- ‌ذِكْرُ الْأَخْبَارِ الَّتِي جَاءَتْ فِي أَنَّ سِبَابَ مُسْلِمٍ فُسُوقٌ وَقِتَالَهُ كُفْرٌ

الفصل: ‌جماع تفسير النصيحة. قال أبو عبد الله: قال بعض أهل العلم: جماع تفسير النصيحة هو عناية القلب للمنصوح له من كان، وهي على وجهين: أحدهما فرض، والآخر نافلة، فالنصيحة المفترضة لله هي شدة العناية من الناصح باتباع محبة الله في أداء ما افترض، ومجانبة ما

765 -

حَدَّثَنَا هَارُونُ الْبَزَّازُ، ثنا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، ثنا الْمَسْعُودِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّ جَرِيرًا كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ:«إِنِّي بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْإِسْلَامِ، وَأَمْسَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ وَأَشْرَطَ عَلَيَّ النُّصْحَ لِكُلِّ مُسْلِمٍ»

ص: 691

‌جِمَاعُ تَفْسِيرِ النَّصِيحَةِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: جِمَاعُ تَفْسِيرِ النَّصِيحَةِ هُوَ عِنَايَةُ الْقَلْبِ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ مَنْ كَانَ، وَهِيَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا فَرْضٌ، وَالْآخَرُ نَافِلَةٌ، فَالنَّصِيحَةُ الْمُفْتَرَضَةُ لِلَّهِ هِيَ شِدَّةُ الْعِنَايَةِ مِنَ النَّاصِحِ بِاتِّبَاعِ مَحَبَّةِ اللَّهِ فِي أَدَاءِ مَا افْتَرَضَ، وَمُجَانَبَةِ مَا

حَرَّمَ، وَأَمَّا النَّصِيحَةُ الَّتِي هِيَ نَافِلَةٌ فَهِيَ إِيثَارُ مَحَبَّتِهِ عَلَى مَحَبَّةِ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ أَنْ يَعْرِضَ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا لِنَفْسِهِ وَالْآخَرُ لِرَبِّهِ فَيَبْدَأُ بِمَا كَانَ لِرَبِّهِ، وَيُؤَخِّرُ مَا كَانَ لِنَفْسِهِ فَهَذِهِ جُمْلَةُ تَفْسِيرِ النَّصِيحَةِ لَهُ، الْفَرْضُ مِنْهُ، وَالنَّافِلَةُ وَكَذَلِكَ تَفْسِيرٌ سَنَذْكُرُ بَعْضَهُ لِيَفْهَمَ بِالتَّفْسِيرِ مَنْ لَا يَفْهَمَ الْجُمْلَةَ فَالْفَرْضُ مِنْهَا مُجَانَبَةُ نَهْيِهِ، وَإِقَامَةُ فَرَضِهِ بِجَمِيعِ جَوَارِحِهِ مَا كَانَ مُطِيعًا لَهُ، فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الْقِيَامِ بِفَرْضِهِ لِآفَةٍ حَلَّتْ بِهِ مِنْ مَرَضٍ أَوْ حَبْسٍ

ص: 691

أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، عَزَمَ عَلَى أَدَاءِ مَا افْتُرِضَ عَلَيْهِ مَتَى زَالَتْ عَنْهُ الْعِلَّةُ الْمَانِعَةُ لَهُ، قَالَ اللَّهُ عز وجل:{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] فَسَمَّاهُمْ مُحْسِنِينَ نَصِيحَتُهُمْ لِلَّهِ بِقُلُوبِهِمْ لَمَّا مُنِعُوا مِنَ الْجِهَادِ بِأَنْفُسِهِمْ، وَقَدْ يَرْفَعُ الْأَعْمَالَ كُلَّهَا عَنِ الْعَبْدِ فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ، وَلَا يَرْفَعُ عَنْهُمُ النُّصْحَ لِلَّهِ لَوْ كَانَ مِنَ الْمَرَضِ بِحَالٍ لَا يُمْكِنُهُ عَمَلٌ بِشَيْءٍ مِنْ جَوَارِحِهِ بِلِسَانٍ وَلَا غَيْرِهِ، غَيْرَ أَنَّ عَقْلَهُ ثَابِتٌ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ النُّصْحَ لِلَّهِ بِقَلْبِهِ وَهُوَ أَنْ يَنْدَمَ عَلَى ذُنُوبِهِ، وَيَنْوِي إِنْ يَصِحَّ أَنْ يَقُومَ بِمَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَيَتَجَنَّبُ مَا نَهَاهُ عَنْهُ، وَإِلَّا كَانَ غَيْرَ نَاصِحٍ لِلَّهِ بِقَلْبِهِ، وَكَذَلِكَ النُّصْحُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ فِيمَا أَوْجَبَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى أَمْرِ رَبِّهِ. وَمِنَ النُّصْحِ الْوَاجِبِ لِلَّهِ أَنْ لَا يَرْضَى بِمَعْصِيَةِ الْعَاصِي، وَيُحِبُّ طَاعَةَ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَأَمَّا النَّصِيحَةُ الَّتِي هِيَ نَافِلَةٌ لَا فَرْضٌ: فَبَذْلُ الْمَحْمُودِ بِإِيثَارِ اللَّهِ عَلَى كُلِّ مَحْبُوبٍ بِالْقَلْبِ، وَسَائِرِ الْجَوَارِحِ حَتَّى لَا يَكُونَ فِي النَّاصِحِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ لِأَنَّ النَّاصِحَ إِذَا اجْتَهَدَ لِمَنْ يَنْصَحُهُ لَمْ يُؤْثِرْ نَفْسَهُ عَلَيْهِ، وَقَامَ بِكُلِّ مَا كَانَ فِي الْقِيَامِ بِهِ سُرُورُهُ، وَمَحَبَّتُهُ فَكَذَلِكَ النَّاصِحُ لِرَبِّهِ، وَمَنْ تَنَفَّلَ لِلَّهِ بِدُونِ الِاجْتِهَادِ فَهُوَ نَاصِحٌ عَلَى قَدْرِ عَمَلِهِ غَيْرُ مُحِقٍّ لِلْنُصْحِ بِالْكَمَالِ

ص: 692

وَأَمَّا النَّصِيحَةُ لِكِتَابِ اللَّهِ فَشِدَّةُ حُبِّهِ وَتَعْظِيمُ قَدْرِهِ إِذْ هُوَ كَلَامُ الْخَالِقِ، وَشِدَّةُ الرَّغْبَةِ فِي فَهْمِهِ، ثُمَّ شِدَّةُ الْعِنَايَةِ فِي تَدَبُّرِهِ، وَالْوُقُوفِ عِنْدَ تِلَاوَتِهِ لِطَلَبِ مَعَانِي مَا أَحَبَّ مَوْلَاهُ أَنْ يَفْهَمَهُ عَنْهُ وَيَقُومُ لَهُ بِهِ بَعْدَ مَا يَفْهَمُهُ، وَكَذَلِكَ النَّاصِحُ مِنَ الْقَلْبِ يَتَفَهَّمُ وَصِيَّةَ مَنْ يَنْصَحُهُ وَإِنْ وَرَدَ عَلَيْهِ كِتَابٌ مِنْهُ عَنَى بِفَهْمِهِ لَيَقُومَ عَلَيْهِ بِمَا كَتَبَ بِهِ فِيهِ إِلَيْهِ، فَكَذَلِكَ النَّاصِحُ لِكِتَابِ اللَّهِ يَعْنِي يَفْهَمُهُ لَيَقُومَ لِلَّهِ بِمَا أَمَرَ بِهِ كَمَا يُحِبُّ وَيَرْضَى، ثُمَّ يَنْشُرُ مَا فَهِمَ مِنَ الْعِبَادِ وَيُدِيمُ دِرَاسَتَهُ بِالْمَحَبَّةِ لَهُ، وَالتَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِهِ وَالتَّأَدُّبِ بِآدَابِهِ. وَأَمَّا النَّصِيحَةُ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِي حَيَاتِهِ فَبَذْلُ الْمَجْهُودِ فِي طَاعَتِهِ، وَنُصْرَتِهِ، وَمُعَاوَنَتِهِ، وَبَذْلُ الْمَالِ إِذَا أَرَادَهُ، وَالْمُسَارَعَةُ إِلَى مَحَبَّتِهِ، وَأَمَّا بَعْدَ وَفَاتِهِ فَالْعِنَايَةُ بِطَلَبِ سُنَّتِهِ، وَالْبَحْثِ عَنْ أَخْلَاقِهِ وَآدَابِهِ، وَتَعْظِيمِ أَمْرِهِ وَلُزُومِ الْقِيَامِ بِهِ، وَشِدَّةِ الْغَضَبِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ مَنْ يَدِينُ بِخِلَافِ سُنَّتِهِ، وَالْغَضَبِ عَلَى مَنْ ضَيَّعَهَا لِأَثَرَةِ دُنْيَا، وَإِنْ كَانَ مُتَدَيِّنًا بِهَا، وَحُبِّ مَنْ كَانَ مِنْهُ بِسَبِيلٍ مِنْ قَرَابَةٍ أَوْ صِهْرٍ أَوْ هِجْرَةٍ أَوْ نُصْرَةٍ أَوْ صُحْبَةِ سَاعَةٍ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالتَّشَبُّهِ بِهِ فِي زِيِّهِ وَلِبَاسِهِ. وَأَمَّا النَّصِيحَةُ لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَحُبُّ طَاعَتِهِمْ وَرُشْدِهِمْ، وَعَدْلِهِمْ، وَحُبُّ اجْتِمَاعِ الْأُمَّةِ كُلِّهِمْ وَكَرَاهِيَةُ افْتِرَاقِ الْأُمَّةِ

ص: 693

عَلَيْهِمْ، وَالتَّدَيُّنُ بِطَاعَتِهِمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَالْبُغْضُ لِمَنْ رَأَى الْخُرُوجَ عَلَيْهِمْ وَحُبُّ إِعْزَازِهِمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ. وَأَمَّا النَّصِيحَةُ لِلْمُسْلِمِينَ: فَأَنْ يُحِبَّ لَهُمْ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، وَيَكْرَهُ لَهُمْ مَا يَكْرَهُ لِنَفْسِهِ، وَيُشْفِقُ عَلَيْهِمْ وَيَرْحَمُ صَغِيرَهُمْ، وَيُوَقِّرُ كَبِيرَهُمْ، وَيَحْزَنُ لِحُزْنِهِمْ، وَيَفْرَحُ لِفَرَحِهِمْ، وَإِنْ ضَرَّهُ ذَلِكَ فِي دُنْيَاهُ كَرُخْصِ أَسْعَارِهِمْ، وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ رِبْحُ مَا يَبِيعُ مِنْ تِجَارَتِهِ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ مَا يَضُرُّهُمْ عَامَّةً وَيُحِبُّ صَلَاحَهُمْ، وَأُلْفَتَهُمْ، وَدَوَامَ النِّعَمِ عَلَيْهِمْ، وَنَصْرَهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَدَفْعَ كُلِّ أَذًى وَمَكْرُوهٍ عَنْهُمْ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ رحمه الله: فَهَذِهِ مَقَالَةُ مَنْ ذَهَبَ مِنْ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ لِجِبْرِيلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا: «الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ» الْإِيمَانَ الْكَامِلَ. قَالَ: وَقَوْلُهُ: «فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ فَقَدْ آمَنْتَ» يُرِيدُ اسْتَكْمَلْتَ الْإِيمَانَ الْمُفْتَرَضَ كُلَّهُ، قَالُوا: وَذَلِكَ لَا تَكُونُ إِلَّا بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ، وَاجْتِنَابِ الْمَحَارِمِ وَاحْتَجُّوا بِالْأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَالْحُجَجِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا، قَالُوا: وَالْإِسْلَامُ هُوَ الْخِصَالُ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ، وَجَعَلُوا الْإِيمَانَ دَرَجَةً فَوْقَ الْإِسْلَامِ. وَقَالَتْ جَمَاعَةٌ أُخْرَى مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ: إِنَّ مُرَادَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ» كَمَالُ الْإِيمَانِ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ الدُّخُولَ فِي

ص: 694

الْإِيمَانِ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ مِنْ مِلَلِ الْكُفْرِ وَيَلْزَمُ مَنْ أَتَى بِهِ اسْمُ الْإِيمَانِ، وَحُكْمُهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِكْمَالٍ مِنْهُ لِلْإِيمَانِ كُلِّهِ، وَهُوَ التَّصْدِيقُ الَّذِي عَنْهُ يَكُونُ سَائِرُ الْأَعْمَالِ، فَقَالُوا: قَالَ اللَّهُ: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] وَقَالَ: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] وَقَالَ: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] قَالُوا: فَالْإِسْلَامُ الَّذِي رَضِيَهُ اللَّهُ هُوَ الْإِيمَانُ، وَالْإِيمَانُ هُوَ الْإِسْلَامُ بِقَوْلِهِ:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] فَلَوْ كَانَ الْإِيمَانُ غَيْرَ الْإِسْلَامِ لَكَانَ مَنْ دَانَ اللَّهُ بِالْإِيمَانِ غَيْرَ مَقْبُولٍ مِنْهُ. قَالُوا: وَالْإِيمَانُ فِي اللُّغَةِ هُوَ التَّصْدِيقُ، وَالْإِسْلَامُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْخُضُوعُ، فَأَصْلُ الْإِيمَانِ هُوَ التَّصْدِيقُ بِاللَّهِ، وَمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِهِ وَإِيَّاهُ أَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ:«الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ» وَعَنْهُ يَكُونُ الْخُضُوعُ لِلَّهِ لِأَنَّهُ إِذَا صَدَّقَ بِاللَّهِ خَضَعَ لَهُ، وَإِذَا خَضَعَ أَطَاعَ فَالْخُضُوعُ عَنِ التَّصْدِيقِ، وَهُوَ أَصْلُ الْإِسْلَامِ وَمَعْنَى التَّصْدِيقِ هُوَ الْمَعْرِفَةُ بِاللَّهِ، وَالِاعْتِرَافُ لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ بِوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَوَاجِبِ حَقِّهِ، وَتَحْقِيقِ مَا صَدَّقَ بِهِ مِنَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَالتَّحْقِيقُ فِي اللُّغَةِ تَصْدِيقُ الْأَصْلِ فَمِنَ التَّصْدِيقِ بِاللَّهِ يَكُونُ الْخُضُوعُ لِلَّهِ وَعَنِ الْخُضُوعِ تَكُونُ الطَّاعَاتُ، فَأَوَّلُ مَا يَكُونُ عَنْ خُضُوعِ الْقَلْبِ

ص: 695

لِلَّهِ الَّذِي أَوْجَبَهُ التَّصْدِيقُ مِنْ عَمَلِ الْجَوَارِحِ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ لِأَنَّهُ لَمَّا صَدَّقَ بِأَنَّ اللَّهَ رَبَّهُ خَضَعَ لِذَلِكَ الْعُبُودِيَّةِ مُخْلِصًا، ثُمَّ ابْتَدَأَ الْخُضُوعُ بِاللِّسَانِ، فَأَقَرَّ بِالْعُبُودِيَّةِ مُخْلِصًا كَمَا قَالَ اللَّهُ عز وجل لِإِبْرَاهِيمَ:{أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ} [البقرة: 131] أَيْ أَخْلَصْتُ بِالْخُضُوعِ لَكَ. قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا وَصَفَ اللَّهُ عَنْ إِبْلِيسَ بِقَوْلِهِ: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ} [الأعراف: 12]، وَقَوْلِهِ {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] فَأَخْبَرَ أَنَّهُ قَدْ عَرَفَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ خَلَقَهُ، وَلَمْ يَخْضَعْ لِأَمْرِهِ فَيَسْجُدَ لِآدَمَ كَمَا أَمَرَهُ فَلَمْ يَنْفَعْهُ مَعْرِفَتُهُ إِذْ زَايَلَهُ الْخُضُوعُ، وَلَمْ تَكُنْ مَعْرِفَتُهُ إِيمَانًا إِذْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا خُضُوعٌ بِالطَّاعَةِ فَسَلَبَهُ اللَّهُ اسْمَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ إِذْ لَمْ يَخْضَعْ لَهُ فَيُطِيعُهُ بِالسُّجُودِ فَأَبَى وَعَانَدَ، وَلَوْ عَرَفَ اللَّهَ بِالْمَعْرِفَةِ الَّتِي هِيَ إِيمَانٌ لَخَضَعَ لِجَلَالِهِ، وَانْقَادَ لِطَاعَتِهِ، وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا شَهَادَةُ اللَّهِ عَلَى قُلُوبِ بَعْضِ الْيَهُودِ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ فَلَا أَحَدٌ أَصْدَقُ شَهَادَةً عَلَى مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ اللَّهِ إِذْ يَقُولُ لِنَبِيِّهِ:{فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89] وَقَالَ: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146] وَقَالَ: {لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146] فَشَهِدَ عَلَى قُلُوبِهِمْ بِأَنَّهَا

ص: 696

عَارِفَةٌ عَالِمَةٌ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ أَكَفَرْتُمْ مَعَ ذَلِكَ، وَلَمْ يُوجِبْ لَهُمُ اسْمَ الْإِيمَانِ بِمَعْرِفَتِهِمْ، وَعِلْمِهِمْ بِالْحَقِّ إِذْ لَمْ يُقَارِنْ مَعْرِفَتَهُمُ التَّصْدِيقُ، وَالْخُضُوعُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ بِالتَّصْدِيقِ لَهُ وَالطَّاعَةِ لِأَنَّ مَنْ صَدَّقَ خَضَعَ قَلْبُهُ وَمَنْ خَضَعَ قَلْبُهُ أَقَرَّ وَصَدَّقَ بِلِسَانِهِ وَأَطَاعَ بِجَوَارِحِهِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْإِسْلَامِ هُوَ الْخُضُوعُ فِي اللُّغَةِ قَوْلُ اللَّهِ تبارك وتعالى:{وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 83] أَيْ خَضَعَ لَهُ فَالْمُؤْمِنُ خَضَعَ بِالطَّوْعِ وَالتَّدَيُّنِ، وَالْكَافِرُ خَضَعَ بِالِاضْطِرَارِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ الْخُضُوعُ لِلَّهِ إِيمَانًا إِلَّا أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْإِسْلَامِ هُوَ الْخُضُوعُ وَعَلَى ذَلِكَ أُضِيفَتِ الْأَعْمَالُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ سَأَلَهُ جِبْرِيلُ مَا الْإِيمَانُ؟ فَقَالَ:«أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ» يَعْنِي أَنْ تُصَدِّقَ، وَقَالَ: مَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: «شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» فَأَخْبَرَ أَنَّ الْإِسْلَامَ خُضُوعٌ بِالْإِقْرَارِ لِلْإِخْلَاصِ لِلَّهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَالْوَحْدَانِيَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ خُضُوعِ الْقَلْبِ بِالتَّصْدِيقِ فَكُلُّ خُضُوعٍ عَنْ خُضُوعِ الْقَلْبِ فَهُوَ إِسْلَامٌ، وَكُلُّ خُضُوعٍ مِنَ الْقَلْبِ فَهُوَ مِنَ الْإِيمَانِ لِأَنَّ التَّصْدِيقَ كُلَّمَا ازْدَادَ صَاحِبُهُ تَصْدِيقًا، وَيَقِينًا، وَبَصِيرَةً ازْدَادَ إِجْلَالًا لِلَّهِ وَهَيْبَةً فَإِذَا ازْدَادَ إِجْلَالًا وَهَيْبَةً ازْدَادَ خُضُوعًا وَطُمَأْنِينَةَ قَلْبٍ إِلَى

ص: 697

كُلِّ مَا قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى حَتَّى كَأَنْ لَمْ يُعَايِنْهُ، أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالَ اللَّهُ عز وجل لِإِبْرَاهِيمَ:{أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] فَأَخْبَرَ أَنَّهُ قَدْ صَدَّقَ وَأَرَادَ أَنْ يَزْدَادَ تَصْدِيقًا وَبَصِيرَةً وَيَقِينًا لِيَزْدَادَ قَلْبُهُ طُمَأْنِينَةً، فَلَمَّا عَايَنَ ذَلِكَ ازْدَادَ يَقِينًا وَطُمَأْنِينَةً مِنْ غَيْرِ شَكٍّ كَانَ مِنْهُ بِأَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْمَوْتَى، وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ» .

ص: 698

766 -

حَدَّثَنَا بِذَلِكَ، عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ، أنا هُشَيْمٌ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ.» قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْقِيَامَةِ فَصَدَّقُوا، وَلَمْ يَشُكُّوا فَإِذَا عَايَنُوهَا كَانُوا بِهَا أَعْظَمَ إِيمَانًا وَيَقِينًا، وَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُهُمُ الشَّكُّ فِي دُنْيَاهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ

⦗ص: 699⦘

وَلَكِنْ لَمَّا عَايَنُوا الْأَمْرَ عَظُمَ فِي قُلُوبِهِمْ أَكْثَرَ مِمَّا كَانُوا يُصَدِّقُونَ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ حَتَّى ذَهِلَتْ عُقُولُ الرُّسُلِ فَمَنْ دُونَهُمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَمَوْجُودٌ فِي فِطَرِنَا يَأْتِينَا الصَّادِقُ بِالْخَبَرِ بِأَنَّ حَبِيبَ أَحَدِنَا قَدْ مَاتَ فَنُصَدِّقُهُ وَنَسْتَثِيرُ مِنْهُ الْحُزْنَ ثُمَّ نُتَابِعُ الْأَخْبَارَ عَلَيْهِ، فَكُلُّ مَا أَخْبَرَهُ مُخْبِرٌ ازْدَادَ يَقِينًا وَتَصْدِيقًا مِنْ غَيْرِ شَكٍّ مِنْهُ فِي الْخَبَرِ الْأَوَّلِ فَإِذَا عَايَنَهُ امْتَلَأَ قَلْبُهُ يَقِينًا بِأَنَّهُ قَدْ مَاتَ، ثُمَّ أَثَارَ مِنْ قَلْبِهِ مِنَ الْحُزْنِ مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلُ حَتَّى كَأَنَّهُ كَانَ شَاكًّا فِي خَبَرِ الْمُخْبِرِينَ، فَكَذَلِكَ يَزْدَادُ الْعَبْدُ بَصِيرَةً وَيَقِينًا وَتَصْدِيقًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ دَخَلَ فِي أَصْلِ تَصْدِيقِهِ شَكٌّ، وَعَنْ ذَلِكَ يَكُونُ الْإِجْلَالُ وَالْهَيْبَةُ، وَعَنِ الْإِجْلَالِ وَالْهَيْبَةِ يَزْدَادُ خُضُوعًا بِالطَّاعَةِ، وَمُسَارَعَةً إِلَى رِضَا طَلَبِ رِضَا الْمَوْلَى

ص: 698

767 -

حَدَّثَنَا يُونُسُ، أنا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: وَأَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بُزُرْجٍ، سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي إِلَّا ضَعْفَ الْيَقِينِ»

ص: 699

768 -

قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: وَأَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَشِيطٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: " مِنَ الْيَقِينِ يَقِينٌ تَجِدُهُ شَدِيدًا صَلْبًا لَا يُغَيِّرُهُ شَيْءٌ وَلَا يَشْرَكُهُ الشَّيْطَانُ، وَمِنَ الْيَقِينِ يَقِينٌ تَجِدُ فِيهِ ضَعْفًا قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَقَدْ جَامَعَتْنَا فِي هَذَا الْمُرْجِئَةُ كُلُّهَا عَلَى أَنَّ الْإِقْرَارَ بِاللِّسَانِ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَّا فِرْقَةً مِنَ الْجَهْمِيَّةِ كَفَرَتْ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الْمُرْجِئَةِ بِزَعْمِهِمْ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْمَعْرِفَةُ فَقَطْ بَعْدَ شَهَادَةِ اللَّهِ عَلَى قُلُوبِ مَنْ سَمَّاهُمْ كَافِرِينَ بِأَنَّهُمْ عَارِفُونَ فَضَادُّوا خَبَرَ اللَّهِ، وَسَمَّوُا الْجَاحِدَ بِلِسَانِهِ الْعَارِفَ بِقَلْبِهِ مُؤْمِنًا، وَأَقَرَّتِ الْمُرْجِئَةُ إِلَّا هَذِهِ الْفِرْقَةَ أَنَّ الْإِقْرَارَ مِنَ الْإِيمَانِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْهُ عَمَلُ الْقَلْبِ، وَقَدْ تَتَابَعَتِ الْأَخْبَارُ عَنِ اللَّهِ عز وجل وَعَنْ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ سَمَّى الْإِقْرَارَ بِاللِّسَانِ إِسْلَامًا كَمَا قَالَ اللَّهُ عز وجل:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] فَجَعَلَ شَهَادَتَهُمْ دِينَ الْإِسْلَامِ، وَقَالَ لِإِبْرَاهِيمَ:{أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 131] وَقَالَ يَعْقُوبُ لِبَنِيهِ: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132]

⦗ص: 701⦘

يَعْنِي مُخْلِصِينَ لِلَّهِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ خُضُوعًا لَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَقَالَ جِبْرِيلُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: «شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» وَلَا يَمْتَنِعُ جَمِيعُ الْأُمَّةِ أَنْ يَقُولُوا لِلْكَافِرِ إِذَا أَقَرَّ بِلِسَانِهِ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ قَدْ أَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ وَقَبْلَ أَنْ يَصُومَ فَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا كَانَ بُدُوُّ إِسْلَامِهِ الشَّهَادَتَيْنِ، وَلَا تَدَافُعَ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي أَنْ يُسَمُّوا كُلَّ مَنْ شَهِدَ بِذَلِكَ مُسْلِمًا فِي وَقْتِهِ ذَلِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ وَقْتُ صَلَاةٍ وَلَا صَوْمٍ فَلمَا أَقَرَّتِ الْمُرْجِئَةُ بِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِاللِّسَانِ هُوَ إِيمَانٌ يَكْمُلُ بِهِ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ وَلَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِ ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى لَنَا وَالرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَوَّلُ الْإِسْلَامِ ثَبَتَ أَنَّ جَمِيعَ الْإِسْلَامِ مِنَ الْإِيمَانِ، فَإِنْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنَ الْإِسْلَامِ لَيْسَ مِنَ الْإِيمَانِ فَالْإِقْرَارُ الَّذِي هُوَ أَوَّلُ الْإِسْلَامِ لَيْسَ مِنَ الْإِيمَانِ فَبِإِيجَابِهِمْ أَنَّ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ بِجَارِحَةِ اللِّسَانِ هُوَ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا كُلَّمَا بَقَى مِنَ الْإِسْلَامِ مِنَ الْإِيمَانِ بَعْدَ مَا سَمَّى اللَّهُ عز وجل وَالرَّسُولُ الْإِقْرَارَ بِاللِّسَانِ إِيمَانًا، ثُمَّ شَهِدَتِ الْمُرْجِئَةُ أَنَّ الْإِقْرَارَ الَّذِي سَمَّاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِسْلَامًا هُوَ إِيمَانٌ فَمَا بَالُ سَائِرِ الْإِسْلَامِ

⦗ص: 702⦘

لَا يَكُونُ مِنَ الْإِيمَانِ فَهُوَ فِي الْأَخْبَارِ مِنَ الْإِيمَانِ، وَفِي اللُّغَةِ وَالْمَعْقُولِ كَذَلِكَ إِذْ هُوَ خُضُوعٌ بِالْإِخْلَاصِ إِلَّا أَنَّ لَهُ أَصْلًا وَفَرْعًا، فَأَصْلُهُ الْإِقْرَارُ بِالْقَلْبِ عَنِ الْمَعْرِفَةِ وَهُوَ الْخُضُوعُ لِلَّهِ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَالْخُضُوعُ لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَكَذَلِكَ خُضُوعُ اللِّسَانِ بِالْإِقْرَارِ بِالْإِلَهِيَّةِ بِالْإِخْلَاصِ لَهُ مِنَ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ أَنَّهُ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ، ثُمَّ فُرُوعُ هَذَيْنِ الْخُضُوعُ لَهُ بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ كُلِّهَا أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«الْإِسْلَامُ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ» وَمَا عَدَا مِنَ الْفَرَائِضِ فَلِمَ جَعَلَتِ الْمُرْجِئَةُ الشَّهَادَةَ إِيمَانًا وَلَمْ تَجْعَلْ جَمِيعَ مَا جَعَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِسْلَامًا إِيمَانًا؟، وَكَيْفَ جَعَلَتْ بَعْضَ مَا سَمَّاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِسْلَامًا إِيمَانًا، وَلَمْ تَجْعَلْ جَمِيعَهُ إِيمَانًا، وَتَبْدَأُ بِأَصْلِهِ وَتُتْبِعُهُ بِفُرُوعِهِ، وَتَجْعَلُهُ كُلُّهُ إِيمَانًا؟ . قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: زَعَمَ بَعْضُ الْمُرْجِئَةِ أَنَّا إِذَا قُلْنَا: إِنَّ الْإِيمَانَ اسْمٌ لِجَمِيعِ الطَّاعَاتِ لَزِمَنَا أَنْ نُكَفِّرَ الْعَاصِي عِنْدَ أَوَّلِ مَعْصِيَةٍ يَفْعَلُهَا لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ إِنَّمَا يُسَمَّى إِيمَانًا لِاجْتِمَاعِ مَعَانِي، فَمَتَى مَا نَقَصَ مِنْ تِلْكَ الْمَعَانِي مِثْقَالُ خَرْدَلَةٍ زَالَ عَنْهُ الِاسْمُ، وَضَرَبُوا لِذَلِكَ مَثَلًا، فَقَالُوا: وَمَثَلُ ذَلِكَ مَثَلُ قَوْلِ الْقَائِلِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، فَإِذَا نَقَصَ

⦗ص: 703⦘

دَانِقٌ لَمْ تُسَمَّ عَشْرَةً إِلَّا عَلَى النُّقْصَانِ فَإِنْ نَقَصَ دِرْهَمٌ لَمْ تُسَمَّ عَشَرَةً أَبَدًا. فَقِيلَ لَهُمْ إِنَّكُمْ ضَرَبْتُمُ الْمَثَلَ عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ وَقَدْ غَلَطْتُمْ عَلَيْنَا، وَلَمْ تَفْهَمُوا مَعْنَانَا، وَذَلِكَ أَنَّا نَقُولُ إِنَّ الْإِيمَانَ أَصْلٌ مَنْ نَقَصَ مِنْهُ مِثَالُ ذَرَّةٍ زَالَ عَنْهُ اسْمُ الْإِيمَانِ، وَمَنْ لَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ لَمْ يَزُلْ عَنْهُ اسْمُ الْإِيمَانِ، وَلَكِنَّهُ يَزْدَادُ بَعْدَهُ إِيمَانًا إِلَى إِيمَانِهِ، فَإِنْ نَقَصَتِ الزِّيَادَةُ الَّتِي بَعْدَ الْأَصْلِ لَمْ يَنْقُصِ الْأَصْلُ الَّذِي هُوَ إِقْرَارٌ بِأَنَّ اللَّهَ حَقٌّ وَمَا قَالَهُ صِدْقٌ لِأَنَّ النَّقْصَ مِنْ ذَلِكَ شَكٌّ فِي اللَّهِ أَحَقٌّ هُوَ أَمْ لَا، وَفِي قَوْلِهِ أَصِدْقٌ هُوَ أَمْ كَذِبٌ؟ وَنَقْصٌ مِنْ فُرُوعِهِ وَذَلِكَ كَنَخْلَةٍ قَائِمَةٍ ذَاتِ أَغْصَانٍ وَوَرَقٍ فَكُلَّمَا قُطِعَ مِنْهَا غُصْنٌ لَمْ يَزُلْ عَنْهَا اسْمُ الشَّجَرَةِ وَكَانَتْ دُونَ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْكَمَالِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقَلِبَ اسْمُهَا إِلَّا أَنَّهَا شَجَرَةٌ نَاقِصَةٌ مِنْ أَغْصَانِهَا وَغَيْرِهَا مِنَ النَّخْلِ مِنْ أَشْكَالِهَا أَكْمَلُ مِنْهَا لِتَمَامِهَا بِسَعَفِهَا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عز وجل:{مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم: 24] الْآيَةَ، فَجَعَلَهَا مَثَلًا لَكَلِمَةِ الْإِيمَانِ، وَجَعَلَ لَهَا أَصْلًا وَفَرْعًا وَثَمَرًا تُؤْتِيهِ، فَسَأَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ عَنْ مَعْنَى هَذَا الْمَثَلِ مِنَ اللَّهِ عز وجل فَوَقَعُوا فِي شَجَرِ الْبَوَادِي، قَالَ ابْنُ عُمَرَ

⦗ص: 704⦘

: فَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ فَاسْتَحْيَيْتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«هِيَ النَّخْلَةُ»

ص: 700

769 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى، أنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا فَإِنَّهَا مَثَلٌ لِلْمُسْلِمِ فَحَدِّثُونِي مَا هِيَ؟» فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ فَاسْتَحْيَيْتُ، ثُمَّ قَالُوا: حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «هِيَ النَّخْلَةُ»

ص: 704

770 -

حَدَّثَنَا أَبُو قُدَامَةَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، ثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَخْبِرُونِي عَنْ شَجَرَةٍ هِيَ مَثَلُ الْمُسْلِمِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا لَا يَتَحَاتُّ وَرَقُهَا» قَالَ: فَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ، وَثَمَّ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرَ فَلَمَّا لَمْ يَتَكَلَّمُوا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«هِيَ النَّخْلَةُ» فَلَمَّا رَجَعْتُ مَعَ أَبِي

⦗ص: 705⦘

قُلْتُ: يَا أَبَتَاهُ وَقَعَتْ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ قَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَقُولَهَا لَوْ كُنْتَ قُلْتَهَا كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا قُلْتُ: مَنَعَنِي أَنْ أَتَكَلَّمَ أَنِّي لَمْ أَرَكَ، وَلَا أَبَا بَكْرٍ تَكَلَّمْتُمَا فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ وَلَمْ تُكَلِّمَا "

ص: 704

771 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ النَّرْسِيُّ، ثنا حَمَّادُ بْنُ شُعَيْبٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: أَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِجُمَّارٍ فَقَالَ: «إِنَّ مِنَ الشَّجَرَةِ مَا بَرَكَتُهُ كَبَرَكَةِ الْمُسْلِمِ» قَالَ: فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ هِيَ النَّخْلَةُ فَنَظَرْتُ فَإِذَا أَنَا عَاشِرُ عَشْرَةٍ وَكَرِهْتُ أَنْ أَقُولَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«هِيَ النَّخْلَةُ»

ص: 705

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ الْعَلَّافُ، ثنا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ

⦗ص: 706⦘

أَبِي بِشْرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَأْكُلُ جُمَّارَ نَخْلٍ، فَقَالَ: " إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً كَالرَّجُلِ الْمُؤْمِنِ وَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ هِيَ النَّخْلَةُ فَنَظَرْتُ فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ فَإِذَا أَنَا أَحَدَثُهُمْ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:«هِيَ النَّخْلَةُ»

ص: 705

773 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ حِسَابٍ، ثنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، ثنا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا لِأَصْحَابِهِ: «أَخْبِرُونِي عَنْ شَجَرَةٍ مَثَلُهَا مَثَلُ الْمُؤْمِنِ» فَجَعَلَ الْقَوْمُ يَذْكُرُونَ شَجَرًا مِنْ شَجَرِ الْبَوَادِي، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَأُلْقِيَ فِي نَفْسِي أَوْ رُوعِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ فَجَعَلْتُ أُرِيدُ أَنْ أَقُولَهَا فَأَرَى أَسْنَانَ الْقَوْمِ فَأَهَابُ أَنْ أَتَكَلَّمَ فَلَمَّا سَكَتُوا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «هِيَ النَّخْلَةُ» قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: ثُمَّ فَسَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِسُنَّتِهِ الْإِيمَانَ إِذْ فُهِمَ عَنِ اللَّهِ عز وجل مِثْلَهُ فَأَخْبَرَ أَنَّ الْإِيمَانَ ذُو شُعَبٍ أَعْلَاهَا شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَجَعَلَ أَصْلَهُ الْإِقْرَارَ

⦗ص: 707⦘

بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَجَعَلَ شُعْبَةَ الْإِيمَانِ ثُمَّ جَعَلَ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ الْأَعْمَالَ شُعَبًا مِنَ الْإِيمَانِ فَاسْتَعْجَمَ عَلَى الْمُرْجِئِ الْفَهْمُ فَضَرَبَ الْمَثَلَ بِخِلَافِ مَا ضَرَبَهُ اللَّهُ وَالرَّسُولُ، وَقَالَ:«مِثْلَ عَشْرَةِ دَرَاهِمَ» لِيُبْطِلَ سُنَّةَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَيَجْعَلُ قَوْلَهُ هُوَ الْحَقُّ بِخِلَافِ الْآثَارِ، لِأَنَّ الَّذِي سَمَّى الْإِيمَانَ التَّصْدِيقَ هُوَ الَّذِي أَخْبَرَ أَنَّ الْإِيمَانَ ذُو شُعَبٍ فَمَنْ لَمْ يُسَمِّ الْأَعْمَالَ شُعَبًا كَمَا جَعَلَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم وَكَمَا ضَرَبَ اللَّهُ الْمَثَلَ بِهِ فَقَدْ خَالَفَ سُنَّةَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ صِفَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلْإِيمَانِ فَيُؤْمِنُ بِبَعْضِهَا، وَيَكْفُرُ بِبَعْضِهَا لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم حِينَ سَأَلَهُ جِبْرِيلُ: مَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ» إِلَى آخِرِ الْقَوْلِ، ثُمَّ قَالَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ:«آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ» ثُمَّ قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ؟ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» فَبَدَأَ بِأَصْلِهِ، وَالشَّاهِدُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ هُوَ الْمُصَدِّقُ الْمُقِرُّ بِقَلْبِهِ يَشْهَدُ بِهَا لِلَّهِ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، يَبْتَدِئُ بِشَهَادَةِ قَلْبِهِ وَالْإِقْرَارِ بِهِ، ثُمَّ يُثَنِّي بِالشَّهَادَةِ بِلِسَانِهِ، وَالْإِقْرَارِ بِهِ كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَرْجِعُ بِهَا إِلَى الْقَلْبِ مُخْلِصًا يَعْنِي مُخْلِصًا بِالشَّهَادَةِ قَلْبُهُ لَيْسَ كَمَا شَهِدَتِ الْمُنَافِقُونَ إِذْ: {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1] قَالَ اللَّهُ: {وَاللَّهُ

⦗ص: 708⦘

يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] ، فَلَمْ يُكَذِّبْ قُلُوبَهُمْ أَنَّهُ حَقٌّ فِي عَيْنِهِ، وَلَكِنْ كَذَّبَهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ، فَقَالَ:{وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} [المنافقون: 1] أَيْ كَمَا قَالُوا، ثُمَّ قَالَ:{وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] فَكَذَّبَهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ لَا أَنَّهُمْ قَالُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ بَاطِلًا وَلَا كَذِبًا، وَكَذَلِكَ حِينَ أَجَابَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جِبْرِيلَ بِقَوْلِهِ:«الْإِسْلَامُ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» لَمْ يُرِدْ شَهَادَةً بِاللِّسَانِ كَشَهَادَةِ الْمُنَافِقِينَ، وَلَكِنْ أَرَادَ شَهَادَةً بَدْؤُهَا مِنَ الْقَلْبِ بِالتَّصْدِيقِ بِاللَّهِ بِأَنَّهُ وَاحِدٌ. وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا يُنْقِصُ قَوْلَهُ:«تُؤْمِنُ بِاللَّهِ» لِأَنَّهُ بَدَأَهُ بِأَوَّلِ الْإِيمَانِ فَقَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ ثُمَّ تُقِرَّ بِقَلْبِكَ، وَلِسَانِكَ فَتَشْهَدُ لَهُ بِذَلِكَ، فَابْتَدَأَ الْإِسْلَامَ بِالشَّهَادَةِ، وَالْإِيمَانَ بِالتَّصْدِيقِ، وَهُمْ مُجَامِعُونَا أَنَّهُمَا جَمِيعًا إِيمَانٌ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الشَّهَادَةِ الَّتِي جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوَّلَ الْإِسْلَامِ، وَبَيْنَ التَّصْدِيقِ الَّذِي سَمَّاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِسْلَامًا، فَهُمْ يَجْعَلُونَهُمَا جَمِيعًا إِيمَانًا فَمَا بَالُ مَا بَقِيَ لِمَا سَمَّاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِسْلَامًا لَا يَكُونُ إِيمَانًا كَيْفَ نَقَصُوهُ فَأَضَافُوا بَعْضَ الْإِسْلَامِ إِلَى الْإِيمَانِ، وَنَفَوْا بَاقِيهِ عَنِ الْإِيمَانِ، وَقَدْ سَمَّاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِسْلَامًا كُلَّهُ، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ:«أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ» يُنَبِّئُهُمْ

⦗ص: 709⦘

لِلْفَهْمِ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ:«شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» وَمَا ذَكَرَ مَعَهَا مِنَ الْإِيمَانِ ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً» فَالْعَجَبُ لِمَنْ طَلَبَ الْحَدِيثَ مِنْهُمْ أَوْ سَمِعَ الْآثَارَ، وَإِنْ لَمْ يَطْلُبْهَا كَيْفَ يَسْمَعُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَصَفَ الْإِيمَانَ بِصِفَاتٍ ثُمَّ يُفَرِّقُ بَيْنَهَا فَيُؤْمِنُ بِبَعْضِ صِفَاتِهِ وَيَجْحَدُ بَعْضًا، وَلَيْسَتِ التَّفْرِقَةُ بِالَّذِي يُزِيلُ الِاسْمَ لَأَنَّا قَدْ وَجَدْنَا اللَّهَ وَالرَّسُولَ يُفَرِّقَانِ الصِّفَةَ فِي أَشْيَاءَ، وَيُوجِبَانِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَجْمَعُوهَا لِمَنْ سَمَّى بِهَا بِاسْمٍ وَاحِدٍ. مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عز وجل:{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [الحديد: 19] وَلَمْ يَذْكُرْ عَمَلًا. وَقَالَ: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [الحديد: 21] وَلَمْ يَذْكُرْ عَمَلًا. وَقَالَ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2] إِلَى قَوْلِهِ: {لَهُمْ دَرَجَاتٌ} [الأنفال: 4] فَذَكَرَ الْوَجَلَ، وَإِقَامَ الصَّلَاةِ، وَالْإِيمَانَ لِلَّهِ، وَالْإِنْفَاقَ لِلَّهِ، وَالتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ، وَأَوْجَبَ لَهُمُ الْجَنَّةَ بِذَلِكَ

⦗ص: 710⦘

. وَقَالَ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] إِلَى قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 10] فَأَوْجَبَ لَهُمُ الْجَنَّةَ بِالْأَعْمَالِ الَّتِي ذَكَرَهَا وَلَمْ يَذْكُرْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْوَجَلَ، وَالتَّوَكُّلَ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْآيَةِ الَّتِي فِي الْأَنْفَالِ كُلَّ مَا ذَكَرَ فِي هَذِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ. وَقَالَ:{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} [الأحزاب: 47] وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ} [الإسراء: 9] فَعَمَّ الْأَعْمَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَالَ اللَّهُ عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ} [فاطر: 36] وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 167] وَقَالَ: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 6] وَقَالَ: {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}

⦗ص: 711⦘

فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْكَافِرِينَ فِي النَّارِ وَإِنَّ لَمْ يُصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. وَقَالَ: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر: 42] فَالْكَافِرُ فِي النَّارِ وَيَزْدَادُ عَذَابًا بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ فَهَذِهِ صِفَاتُ أَهْلِ النَّارِ وَأَعْمَالُهُمْ، وَتِلْكَ صِفَاتُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ، فَكَذَلِكَ وَصَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْإِيمَانَ بِصِفَاتٍ فَكُلُّهَا صِفَاتُ الْإِيمَانِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَحَدٌ إِلَّا مَنْ جَمَعَ هَذِهِ الْأَعْمَالَ كُلَّهَا أَوْ قَالَ: لَيْسَتْ هَذِهِ بِأَعْمَالٍ يَسْتَحِقُّ بِهَا الْجَنَّةَ لِأَنَّهُ قَدْ فَرَّقَهَا فَيَرْجِعْ إِلَى الْأَصْلِ يَشْهَدُ أَنَّ مَنْ صَدَّقَ بِاللَّهِ وَبِصِفَاتِهِ كُلِّهَا فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ فَيَشْهَدُ بِالْأَصْلِ وَيَدَعُ الْفُرُوعَ لَكَانَ رَادًّا عَلَى اللَّهِ قَائِلًا بِغَيْرِ الْحَقِّ إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى الْأَصْلِ وَأَلْقَى الْفُرُوعَ. فَكَذَلِكَ مَنْ شَهِدَ بِأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَلْقَى سَائِرَهُ فَلَمْ يَشْهَدْ أَنَّهُ إِيمَانٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ سَمَّى الْإِيمَانَ بِالْأَصْلِ وَبِالْفُرُوعِ وَهُوَ الْإِقْرَارُ وَالْأَعْمَالُ فَسَمَّاهُ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ بِالتَّصْدِيقِ، وَسَمَّى الشَّهَادَةَ، وَالْقِيَامَ بِمَا أَسْمَى مِنَ الْفَرَائِضِ إِسْلَامًا وَسَمَّى

⦗ص: 712⦘

فِيمَا قَالَ لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ الشَّهَادَةَ وَمَا سَمَّى مَعَهَا مِنَ الْفَرَائِضِ إِيمَانًا ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَجَعَلَ أَصْلَ الْإِيمَانِ الشَّهَادَةَ، وَسَائِرَ الْأَعْمَالِ شُعَبًا ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ الْإِيمَانَ يَكْمُلُ بَعْدَ أَصْلِهِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَقَالَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ:«أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا» فِي الْإِيمَانِ كَأَحْسَنِهِمْ خُلُقًا فَإِنَّهُ مُسَاوِيَةٌ فِي الْكَمَالِ فَقَدْ عَانَدَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَلَّبَ مَا شَهِدَ بِهِ بِأَحْسَنِ الْمُؤْمِنِينَ خُلُقًا فَجَعَلَهُ لِأَسْوَئِهِمْ خُلُقًا لَوْ كَانَ كَمَا قَالَ لَكَانَ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَذَا لَا مَعْنَى لَهُ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ حَدَّ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِ أَهْلِ النَّارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَأَخْبَرَ عَنِ اللَّهِ عز وجل أَنَّهُ يَقُولُ:«أَخْرِجُوا مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ دِينَارٍ مِنْ إِيمَانٍ، مِثْقَالَ نِصْفِ دِينَارٍ مِثْقَالَ شَعِيرَةٍ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِثْقَالَ خَرْدَلَةٍ» . فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ مَا كَانَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ مُسْتَوِيًا فِي الْوَزْنِ فَقَدْ عَارَضَ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالرَّدِّ وَمَنْ قَالَ: الَّذِي فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ وَلَا مُسْلِمٍ فَقَدْ رَدَّ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ إِذْ يَقُولُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ مُؤْمِنَةٌ» فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَقَدْ جَزَّأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ أَقَلَّهُمْ إِيمَانًا قَدْ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ

⦗ص: 713⦘

، فَثَبَتَ لَهُ بِذَلِكَ اسْمُ الْإِيمَانِ، فَإِذَا كَانَ أَقَلُّهُمْ إِيمَانًا يَسْتَحِقُّ الِاسْمَ، وَالْآخَرُونَ أَكْثَرُ مِنْهُ إِيمَانًا دَلَّ ذَلِكَ أَنَّ لَهُ أَصْلًا وَفَرْعًا يَسْتَحِقُّ اسْمُهُ مَنْ يَأْتِي بِأَصْلِهِ وَيَتَأَوَّلُونَ فِي الزِّيَادَةِ بَعْدَ أَصْلِهِ فَتَرَكُوا أَنْ يَضْرِبُوا النَّخْلَةَ مَثَلًا لِلْإِيمَانِ مَثَلًا كَمَا ضَرَبَهُ اللَّهُ عز وجل، وَيَجْعَلُ الْإِيمَانَ لَهُ شُعَبًا كَمَا جَعَلَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم فَيَشْهَدُوا بِالْأَصْلِ وَبِالْفُرُوعِ وَيَشْهَدُوا بِالزِّيَادَةِ إِذَا أَتَى بِالْأَعْمَالِ، كَمَا أَنَّ النَّخْلَةَ فُرُوعَهَا وَشُعَبَهَا أَكْمَلُ لَهَا وَهِيَ مُزْدَادَةٌ بَعْدَ مَا ثَبَتَ الْأَصْلُ شُعَبًا وَفَرْعًا، فَقَدْ كَانَ يَحِقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُنْزِلُوا الْمُؤْمِنَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ فَيَشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ إِذْ أَتَى بِالْإِقْرَارِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَيَشْهَدُوا لَهُ بِالزِّيَادَةِ كُلَّمَا ازْدَادَ عَمَلًا مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي سَمَّاهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شُعَبًا لِلْإِيمَانِ، وَكَانَ كُلَّمَا ضَيَّعَ مِنْهَا شُعْبَةً عَلِمُوا أَنَّهُ مِنَ الْكَمَالِ أَنْقُصُ مِنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ قَامَ بِهَا فَلَا يُزِيلُوا عَنْهُ اسْمَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَزُولَ الْأَصْلُ، وَلَيْسَتِ الْعَشَرَةُ مِثْلَ الْإِيمَانِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ إِلَّا كَالْفَرْعِ: الْعَاشِرُ دِرْهَمٌ، وَالْأَوَّلُ دِرْهَمٌ فَإِنَّمَا مَثَلُ أَصْلِهَا مَثَلُ الْفِضَّةِ، وَالْفِضَّةُ كَمَثَلِ التَّصْدِيقِ فَلَوْ كَانَتْ نَقْرَةٌ فِيهَا عَشْرَةٌ ثُمَّ نَقَصَتْ حَبَّةٌ لَسُمِّيَتْ فِضَّةً لِأَنَّ الْفِضَّةَ جَامِعٌ لِاسْمِهَا، قَلَّتْ أَمْ كَثُرَتْ لِأَنَّهَا أَصْلٌ قَائِمٌ أَبَدًا مَا دَامَ مِنْهَا شَيْءٌ وَلَيْسَتِ

⦗ص: 714⦘

الْعَشَرَةُ كَذَلِكَ لَيْسَ أَوَّلُهَا بِأَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ أَصْلًا لَهَا مِنْ آخِرِهَا لِأَنَّهَا أَجْزَاءٌ مُتَفَرِّقَةٌ فَكَمَا بُدِئَ بِالدِّرْهَمِ الْأَوَّلِ بِالْعَدَدِ فَيُجْعَلُ الْأَوَّلُ هُوَ الْعَاشِرُ فَلَيْسَ بَعْضُهَا بِأَحَقَّ بِأَنْ يَكُونَ أَصْلًا لِبَعْضٍ مِنَ الْآخَرِ إِنَّمَا أَصْلُهَا الْفِضَّةُ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَالْأَخْبَارُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ يَفْتَرِقَانِ لِأَنَّهُ دَلَّ عَلَى الْإِيمَانِ بِمَا دَلَّ عَلَى الْإِسْلَامِ، قَالَ فِي حَدِيثِ عُمَرَ لِجِبْرِيلَ حِينَ سَأَلَهُ عَنِ الْإِسْلَامِ: الْإِسْلَامُ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ " وَمَا ذَكَرَ مَعَ الشَّهَادَتَيْنِ مِنَ الْفَرَائِضِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَجَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ» ثُمَّ قَالَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ: «أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ» فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَقَالَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ» فَسَمَّى الْإِسْلَامَ بِمَا سَمَّى بِهِ

⦗ص: 715⦘

الْإِيمَانَ، وَسَمَّى الْإِيمَانَ بِمَا سَمَّى بِهِ الْإِسْلَامَ وَمِمَّا يَزِيدُ ذَلِكَ بَيَانًا قَوْلُهُ: لَا يُؤْمِنُ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ وَقَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ» وَالْبَوَائِقُ لَا تَكُونُ إِلَّا بِاللِّسَانِ، وَالْيَدِ فَسَمَّى الْإِيمَانَ بِمَا سَمَّى بِهِ الْإِسْلَامَ لِأَنَّ مَنْ أَمِنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ فَقَدْ سَلِمَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَمَنْ لَا يَسْلَمُ جَارُهُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ لَا يَأْمَنُ بَوَائِقَهُ، وَقَالَ:«الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فَمَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ أَمِنُوهُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ» فَدَلَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِسُنَّتِهِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ لَا يَفْتَرِقَانِ، وَأَنَّ الْمُسْلِمَ هُوَ الْمُؤْمِنُ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ اسْمَيْنِ دَلَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ يَجْعَلُهُمَا مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَقَدْ عَارَضَ سُنَّةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالرَّدِّ إِلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا أَصْلٌ لِلْآخَرِ لَا يَنْفَكُّ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ لِأَنَّ أَصْلَ الْإِيمَانِ هُوَ التَّصْدِيقُ وَعَنْهُ يَكُونُ الْخُضُوعُ فَلَا يَكُونُ مُصَدِّقًا إِلَّا

⦗ص: 716⦘

خَاضِعًا وَلَا خَاضِعًا إِلَّا مُصَدِّقًا، وَعَنْهُمَا تَكُونُ الْأَعْمَالُ الَّتِي وَصَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْإِسْلَامَ وَتَسَمَّى مَنْ قَامَ بِهَا بِالْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ

ص: 706

774 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّلْتِ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ:" {كَانَ أُمَّةً قَانِتًا} [النحل: 120] قَالَ: كَانَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَلَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِهِ فِي قَوْمِهِ أَحَدٌ عَلَى الْإِسْلَامِ غَيْرُهُ، فَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ عز وجل: {كَانَ أُمَّةً قَانِتًا} [النحل: 120] قَالَ: كَانَ مُطِيعًا. " قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَمِنْ أَعْظَمِ حُجَجِ الْمُرْجِئَةِ الَّتِي يَقُولُونَ بِهَا عِنْدَ أَنْفُسِهِمُ: اللُّغَةُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يُعْرَفُ فِي اللُّغَةِ إِلَّا بِالتَّصْدِيقِ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ التَّصْدِيقَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْقَلْبِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَقَدْ وَجَدْنَا الْعَرَبَ فِي لُغَتِهَا تُسَمِّي كُلَّ عَمَلٍ حَقَّقَتْ بِهِ عَمَلَ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ تَصْدِيقًا فَيَقُولُ الْقَائِلُ

⦗ص: 717⦘

فُلَانٌ يَصْدُقُ فِعْلُهُ قَوْلَهُ يَعْنُونَ يُحَقِّقُ قَوْلَهُ بِفِعْلِهِ، وَيَصْدُقُ سَرِيرَتُهُ عَلَانِيَتَهُ، وَفُلَانٌ يَكْذِبُ فِعْلُهُ قَوْلَهُ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:

[البحر الخفيف]

صَدِّقِ الْقَوْلَ بِالْفِعَالِ فَإِنِّي

لَسْتُ أَرْضَى بِوَصْفِ قَالَ وَقِيلَ

وَقَالَ كُثَيِّرٌ وَهُوَ يَمْدَحُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ رحمه الله:

[البحر الطويل]

وُلِّيتَ فَلَمْ تَشْتُمْ عَلِيًّا وَلَمْ تُخِفْ

بَرِيئًا فَأَمْسَى سَاخِطًا كُلُّ مُجْرِمٍ

وَقُلْتَ فَصَدَّقْتَ الَّذِي قُلْتَ بِالَّذِي

فَعَلْتَ فَأَمْسَى رَاضِيًا كُلُّ مُسْلِمٍ

. وَيَقُولُ الْعَرَبُ إِذَا حَمَلَ الرَّجُلُ عَلَى الْقَوْمِ فِي الْحَرْبِ فَلَمْ يَرْجِعْ قَالُوا: صَدَقَ الْحَمْلَةَ أَيْ حَقَّقَهَا أَيْ لَمْ يَقْتَصِرْ دُونَ أَنْ يَبْلَى، وَإِذَا رَجَعَ قِيلَ كَذَبَ الْحَمْلَةَ. وَيُقَالُ لِلْمُرْجِئَةِ أَخْبِرُونَا عَنِ الْآمِنِ مِنَ اللَّهِ حَتَّى

⦗ص: 718⦘

لَا يَخَافُهُ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ فَلَا يَلْزَمُ قَلْبَهُ الْخَوْفُ أَيَكُونُ مُؤْمِنًا مَنْ كَانَ كَذَلِكَ؟ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ قِيلَ لَهُمْ فَإِذَا زَعَمْتُمْ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ بِاللَّهِ أَنَّهُ الْجَلِيلُ الْعَظِيمُ فَإِنَّ الْقُدْرَةَ عَلَيْهِ نَافِذَةٌ وَأَنَّهُ عَظِيمُ الْغَضَبِ شَدِيدُ الْعِقَابِ، ثُمَّ هُوَ لَا يَخَافُهُ وَلَا يَهَابُهُ وَلَا يُجِلُّهُ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ فَهَلْ فَرَّقَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بَيْنَ مَنْ لَا هَيْبَةَ لَهُ، وَلَا إِجْلَالَ، وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ كَالْأَصْنَامِ إِذْ عَرَفَ أَنَّ الْأَصْنَامَ فِي أَنْفُسِهَا أَصْنَامٌ، وَعَرَفَ فِي نَفْسِهِ وَأَقَرَّ بِلِسَانِهِ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْإِلَهُ ثُمَّ لَمْ يَخَفْهُ وَلَمْ يُجِلَّهُ وَلَمْ يَهَبْهُ وَلَمْ يَرْجُهُ فِي مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي هَلْ جَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَصْنَامِ فَرْقًا فِي التَّصْدِيقِ بِهَا لِأَنَّهُ لَا يَعْمَلُ أَحَدٌ إِلَّا لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ رَغْبَةٍ أَوْ رَهْبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَخَفْهُ وَلَمْ يَرْجُهُ فَقَدْ أَنْزَلَهُ مَنْزِلَةَ مَنْ لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ بِأَهْلٍ أَنْ يُتَّقَى فَكَيْفَ يَكُونُ مُؤْمِنًا مَنْ سَوَّى بَيْنَ اللَّهِ تبارك وتعالى وَبَيْنَ الْأَصْنَامِ الَّتِي لَا تُخَافُ وَلَا تُهَابُ وَلَا تُجَلُّ وَلَا تُرْهَبُ وَلَا تُرْجَأُ لِأَنَّهَا لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ فَإِنْ قَالُوا: لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا مَنْ كَانَ هَكَذَا، وَلَا يَكُونُ مُؤْمِنًا حَتَّى يَكُونَ لِلَّهِ خَائِفًا وَمُجِلًّا وَهَائِبًا قِيلَ لَهُمْ فَإِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ

⦗ص: 719⦘

مُؤْمِنًا، وَإِنَّمَا يُخْرِجُهُ مِنَ الْإِيمَانِ الْكُفْرُ فَقَدْ أَثْبَتُّمْ أَنَّ الْخَوْفَ إِيمَانٌ، وَالْأَمْنَ كُفْرٌ. فَإِنْ قَالُوا: إِنَّ الْخَوْفَ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا إِيمَانٌ وَذَلِكَ خَوْفُ الْإِقْرَارِ وَهُوَ إِقْرَارٌ فِي غَيْبِهِ، وَذَلِكَ خَوْفُ يَقِينٍ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ اللَّهِ عز وجل:{الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام: 51] فَإِنَّمَا يَعْنِي أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، وَقَالَ:{إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} [يونس: 7] يَعْنِي لَا يُؤْمِنُونَ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ مِنَ الْخَوْفِ هُوَ الْمُزْعِجُ عَنِ الْمَعَاصِي، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ، وَلَكِنَّ الْإِيمَانَ سَبَبٌ لَهُ. قِيلَ لَهُمْ: أَمَّا وَاحِدَةٌ فَقَدْ خَرَجْتُمْ مِنَ اللُّغَةِ الَّتِي عَلَيْهَا اعْتَمَدْتُمْ لِأَنَّكُمْ لَمْ تَجِدُوا فِي اللُّغَةِ أَنَّ الْخَوْفَ إِيمَانٌ وَلَا أَنَّ الْأَمْنَ كُفْرٌ. وَالثَّانِيَةُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ مَعْنَى الْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ إِيمَانًا فَكُلُّ خَوْفٍ مِنَ اللَّهِ مُزْعِجًا عَنِ الْمَعَاصِي إِيمَانٌ، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلِ الْخَوْفَ كُلَّهُ إِيمَانًا فَجَعَلَ أَوَّلَهُ إِيمَانًا، وَآخِرَهُ لَا إِيمَانَ فَقَدْ نَاقَضَ، لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ تَصْدِيقٌ إِيمَانًا، وَتَصْدِيقٌ لَا إِيمَانَ فَكَمَا كَانَ كُلُّ تَصْدِيقٍ إِيمَانًا فَكَذَلِكَ كُلُّ خَوْفٍ إِيمَانٌ. فَإِنْ قَالُوا: إِنَّا لَا نَقُولُ إِنَّ الْخَوْفَ جُزْءٌ مِنَ الْإِيمَانِ

⦗ص: 720⦘

وَلَكِنَّا نَقُولُ: لَا يُفَارِقُ الْإِيمَانَ قِيلَ لَهُمْ إِنَّ قَوْلَكُمْ لَا يُفَارِقُ الْإِيمَانَ لَا يَخْلُو مِنْ وَجْهَيْنِ أَنْ تَكُونُوا تَعْنُونَ أَنَّهُ لَا يُفَارِقُ الْإِيمَانَ لِأَنَّهُ مِنَ الْإِيمَانِ أَوْ تَكُونُوا تَعْنُونَ الْإِيمَانَ لَا يَكُونُ إِيمَانًا إِلَّا بِهِ، فَكِلَا الْوَجْهَيْنِ يُثْبِتُ أَنَّهُ إِيمَانٌ لَازِمًا لَا يَكُونُ الْإِيمَانُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ إِيمَانٌ فَإِنْ كَانَ جَائِزًا أَنْ يَكُونَ الْإِيمَانُ وَلَا يَكُونُ فَقَدْ أَثْبَتُّمْ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَسْتَوِي اللَّهُ عز وجل فِي قَلْبِهِ وَالْأَصْنَامُ الَّتِي لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ. فَإِنْ قَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَوِيَ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ. قِيلَ لَهُمْ: فَقَدْ ثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْخَوْفَ وَالْإِجْلَالَ وَالْهَيْبَةَ لِلَّهِ إِيمَانٌ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَصْنَامِ فَرْقٌ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: يُقَالُ لَهُمْ أَخْبِرُونَا عَنْ قَوْلِكُمْ إِنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْخَوْفِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَزَالَ عَنْ إِيمَانٍ، أَخْبِرُونَا إِذَا خَطَرَ بِقَلْبِهِ خَوَاطِرُ الشِّرْكِ مِنَ الْعَدُوِّ أَوْ حَاجَّ مَخْلُوقًا مِنَ النَّاسِ حَتَّى كَادَ يَزُولُ عَنْ إِيمَانِهِ، بِهَا يَنْفِي؟ فَإِنْ قَالُوا بِالْكَرَاهَةِ، قِيلَ: وَمَا الَّذِي يَبْعَثُهُ عَلَى الْكَرَاهَةِ؟ فَإِنْ قَالُوا: الْخَوْفُ، قِيلَ: خَوْفٌ مِنْ مَاذَا؟

⦗ص: 721⦘

فَإِنْ قَالُوا: خَوْفٌ مِنَ اللَّهِ أَنْ يُشْرِكَ بِهِ، قِيلَ: فَلَوْلَا الْخَوْفُ وَالْكَرَاهَةُ لَقَبِلَ الشِّرْكَ، وَاعْتَقَدَهُ فَإِنَّمَا نَفَى الشِّرْكَ بِالْخَوْفِ وَالْكَرَاهَةِ. فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ قِيلَ لَهُمْ: وَلَا يُنْفَى الشَّيْءُ إِلَّا بِضِدِّهِ، وَقَدْ ثَبَتُّمْ أَنَّ الْكَرَاهَةَ لِلْكُفْرِ، وَالْخَوْفُ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَقْبَلَهُ الْعَبْدُ إِيمَانٌ فَإِنَّهُ لَا يَنْفِي الْكُفْرَ إِلَّا بِالْإِيمَانِ وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ بِسُنَّتِهِ

ص: 716

775 -

حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ، أنا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا الشَّيْءَ نَتَعَاظَمُ أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهِ؟ فَقَالَ: «أَوَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟» قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ:«ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ»

ص: 721

776 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أنا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا شَيْئًا مَا نُحِبُّ أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهِ وَأَنَّ لَنَا مَا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ»

ص: 721

777 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى، أنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ بَعْضِ، أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: الرَّجُلُ مِنَّا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِالشَّيْءِ لَأَنْ يَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَفُوهَ بِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ»

ص: 722

778 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أنا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، ثنا يَحْيَى بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِيَ يَقُولُ،: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: شَكَى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْوَسْوَسَةَ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ:«اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ قَدْ أَيِسَ عَدُوُّ اللَّهِ أَنْ يُعْبَدَ فَرَضِيَ مِنْكُمْ بِالْوَسْوَسَةِ هَذَا مَحْضُ الْإِيمَانِ»

ص: 722

779 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى، وَإِسْحَاقُ، قَالَا: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ ذَرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ أَحَدَنَا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِالشَّيْءِ يَعْرِضُ لَهُ لَأَنْ يَكُونَ حُمَمَةً أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ»

780 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أنا أَبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيُّ، ثنا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ

ص: 723

781 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، ثنا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، وَسُلَيْمَانَ، قَالَا: سَمِعْنَا ذَرًّا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نُحَدِّثُ أَنْفُسَنَا بِالشَّيْءِ لَأَنْ يَكُونَ أَحَدُنَا حُمَمَةً أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمُ بِهِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَقْدِرْ مِنْكُمْ إِلَّا عَلَى الْوَسْوَسَةِ، وَقَالَ الْآخَرُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ أَمْرَهُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ "

ص: 723

782 -

حَدَّثَنِي أَبُو زُرْعَةَ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ الْعَبْدِيُّ، ثنا حَمَّادٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ شَهْرٍ، عَنْ خَالِهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَحَدَنَا لَيُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِالشَّيْءِ مِنْ أَمْرِ الرَّبِّ عز وجل لَأَنْ يَسْقُطَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ قَالَ: «وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟» قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ:«ذَاكَ مَحْضُ الْإِيمَانِ»

ص: 724

783 -

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عَثَّامٍ، عَنْ سُعَيْرِ بْنِ الْخِمْسِ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْوَسْوَسَةِ فَقَالَ: «تِلْكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ»

ص: 724

784 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يُوسُفَ الْقُرَشِيُّ أَبُو زَكَرِيَّا، ثنا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ الْمُهَلَّبِيُّ، عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَنُحَدِّثُ أَنْفُسَنَا بِأَشْيَاءَ لَأَنْ يَخِرَّ أَحَدُنَا مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ؟ قَالَ: «ذَاكَ مَحْضُ الْإِيمَانِ»

ص: 725

785 -

حَدَّثَنَا أَبُو قُدَامَةَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، ثنا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، ثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ الْمَازِنِيِّ، عَنْ عَمِّهِ، أَنَّ النَّاسَ، سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْوَسْوَسَةِ الَّتِي يَجِدُهَا أَحَدُهُمْ لَأَنْ يَسْقُطَ مِنْ عِنْدِ الثُّرَيَّا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي الْعَبْدَ فِيمَا دُونَ

⦗ص: 726⦘

ذَلِكَ فَإِذَا عَصَمَ مِنْهُ وَقَعَ فِيمَا هُنَالِكَ» قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: لَيْسَ يَعْنِي أَنَّ الْوَسْوَسَةَ فِي نَفْسِهَا هِيَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ، إِنَّمَا يَعْنِي مَا أَظْهَرُوا لَهُ مِنَ الْكَرَاهَةِ عَنِ الْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ عز وجل، إِذِ اخْتَارُوا لِأَنْ يَخِرُّوا مِنَ السَّمَاءِ عَلَى أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ وَلَا تَطِيبُ نَفْسُ أَحَدٍ بِأَنْ تَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ وَأَنْ تَصِيرَ حُمَمَةً إِلَّا مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ، فَذَلِكَ الْخَوْفُ هُوَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ، لِأَنَّهُ إِذَا وَجَدَ الْوَسْوَسَةَ مِنْ طَرِيقِ الشِّرْكِ نَظَرَ إِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَهْلِ الشِّرْكِ مِنَ الْعَذَابِ، وَطَابَتْ نَفْسُهُ أَنْ تَكُونَ حُمَمَةً لِأَنَّ مَنْ نَظَرَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ بِالْيَقِينِ كَانَ مَا دُونَهُ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَأَخَفُّ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَيُقَالُ لَهُمْ: أَمَّا قَوْلُكُمْ إِنَّ الْخَوْفَ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا يَقِينٌ، وَالْآخَرُ شَكٌّ، وَكَذَلِكَ الرَّجَاءُ، وَمَا كَانَ مِنْهُ يَقِينٌ فَهُوَ إِقْرَارٌ وَتَصْدِيقٌ، وَمَا كَانَ مِنْهُ شَكٌّ فَهُوَ طَاعَةٌ لَا إِيمَانَ فَقَدْ أَخْطَأْتُمْ عَلَى اللُّغَةِ أَيْنَ وَجَدْتُمُ الْخَوْفَ إِقْرَارًا فِي لُغَةٍ أَوْ تَصْدِيقًا؟ فَأَمَّا قَوْلُكُمْ: يَقِينٌ فَلَعَمْرِي إِنَّ الْيَقِينَ يُوجِبُ الْخَوْفَ، وَإِنَّ الْخَوْفَ الَّذِي هُوَ شَكٌّ مَا أَوْجَبَهُ إِلَّا الْيَقِينُ

⦗ص: 727⦘

لَوْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِأَنَّ اللَّهَ حَقٌّ وَأَنَّ لَهُ عَذَابًا يُعَذِّبُ بِهِ مَنْ عَصَاهُ، مَا خَافُوهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمُ فَإِنَّمَا أَوْجَبَ هَذَا الْيَقِينَ بِمَا يَخَافُ، وَكَذَلِكَ الرَّجَاءُ. فَأَمَّا قَوْلُهُ:{يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام: 51] فَقَدْ أَيْقَنُوا بِالْحَشْرِ لَكِنَّهُمْ يَخَافُونَ مَا يَقَعُ فِي الْحَشْرِ فَخَوْفُهُمْ عَنْ يَقِينِ، وَلِذَلِكَ يَرْجُونَ لِقَاءَ رَبِّهِمْ عَنْ يَقِينِ، إِنَّمَا يَرْجُونَ أَنْ يَرْحَمَهُمْ عِنْدَ لِقَائِهِ لَا أَنَّ الْخَوْفَ فِي نَفْسِهِ يَقِينٌ، وَلَا أَنَّ الرَّجَاءَ يَقِينٌ، وَلَكِنَّهَا عَنْ يَقِينِ فَإِنْ سَمَّيْتُمُوهَا إِيمَانًا فَكَذَلِكَ كُلُّ خَوْفٍ وَرَجَاءٍ عَنْ يَقِينِ فَهُوَ إِيمَانٌ، وَلَوْ جَازَ مَا قُلْتُمْ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ أَهْلُ النَّارِ يَخَافُونَ النَّارَ، وَهُمْ فِيهَا لِأَنَّهُمْ قَدْ أَيْقَنُوا بِالْعَذَابِ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ بِهِمْ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْجَنَّةِ يَرْجُونَ الْجَنَّةَ وَهُمْ فِيهَا وَهَذَا خَطَأٌ فِي الْمَعْقُولِ وَاللُّغَةِ إِذَا وَقَعَ الْعَذَابُ زَالَ الْخَوْفُ، وَإِذَا وَقَعَ الظَّفَرُ زَالَ الرَّجَاءُ. لَوْ قَالَ قَائِلٌ: إِنِّي قَدْ أَرْجُو أَنْ يُنْجِزَ اللَّهُ وَعْدَهُ لَا يَذْهَبُ فِي ذَلِكَ إِلَى تَقْصِيرٍ مِنْ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ إِنْ ذَهَبَ إِلَى تَقْصِيرٍ مِنْ نَفْسِهِ مِنْ أَجْلِ ذُنُوبِهِ وَقَعَ الشَّكُّ لِأَنَّهُ لَا يُسَاهِلُ الْوَعْدَ، وَإِنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ يَرْجُو أَنَّ اللَّهَ يَفِي بِمَا قَالَ وَوَعَدَ فَقَدْ ذَهَبَ إِلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ قَائِلٌ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُعَذِّبَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ

⦗ص: 728⦘

، وَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُدْخِلَ اللَّهُ مُحَمَّدًا الْجَنَّةَ لَكَانَ هَذَا حُمْقًا، يَسْتَعْمِلُ الْخَوْفَ فِيمَا قَدْ أَخْبَرَهُ اللَّهُ عز وجل أَنَّهُ فَاعِلُهُ لَا مَحَالَةَ، وَكَذَلِكَ الرَّجَاءُ وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ الْخَوْفَ وَالرَّجَاءَ اللَّذَيْنِ سَمَّيْتُمُوهُمَا إِيمَانًا لَيْسَا يَقِينًا، وَلَكِنَّهُمَا إِشْفَاقٌ مِنَ اللَّهِ عز وجل، وَأَمَلٌ يَبْعَثَانِ عَلَى طَاعَتِهِ، وَيُزْعِجَانِ عَنْ مَعْصِيَتِهِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ إِشْفَاقٍ مِنَ اللَّهِ عز وجل وَأَمَلٍ لَهُ يَبْعَثَانِ عَلَى الطَّاعَةِ وَيُزْعِجَانِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ لَا فُرْقَانَ بَيْنَ ذَلِكَ

ص: 725

786 -

حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ، ثنا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ عَاصِمٍ الْأَنْطَاكِيَّ، يَقُولُ:«مَنْ كَانَ بِاللَّهِ أَعْرَفَ كَانَ مِنَ اللَّهِ أَخْوَفَ» ، قَالَ أَحْمَدُ: صَدَقَ وَاللَّهِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَيُقَالُ لَهُمْ أَخْبِرُونَا عَنِ الْحُبِّ لِلَّهِ إِيمَانٌ هُوَ؟ فَإِنْ قَالُوا: لَا، قِيلَ لَهُمْ: فَمَا ضِدُّ الْحُبِّ؟ فَإِنْ قَالُوا: الْبُغْضُ، وَلَابُدَّ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ، قِيلَ لَهُمْ: فَالْبُغْضُ لِلَّهِ إِذًا لَيْسَ بِكُفْرٍ لِأَنَّ الْكُفْرَ ضِدُّ الْإِيمَانِ، وَمَا لَيْسَ بِكُفْرٍ لَيْسَ ضِدُّهُ إِيمَانًا لِأَنَّ اسْمَ

⦗ص: 729⦘

الطَّاعَةِ عِنْدَكُمْ يَجْمَعُ الْأَعْمَالَ كُلَّهَا الْمُفْتَرَضَةَ وَغَيْرِهَا فَاسْمُ الْإِيمَانِ طَاعَةٌ، وَضِدُّهُ مَعْصِيَةُ كُفْرٍ وَالْفَرَائِضُ طَاعَةٌ وَضِدُّهَا مَعْصِيَةٌ لَا كُفْرٌ، وَالنَّوَافِلُ طَاعَةٌ وَضِدُّهَا نَقْصٌ لَا مَعْصِيَةٌ وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ، قِيلَ لَهُمْ: فَالْبُغْضُ لِلَّهِ إِذًا لَيْسَ بِكُفْرٍ لِأَنَّ الْكُفْرَ ضِدُّ الْإِيمَانِ، وَمَا لَيْسَ بِكُفْرٍ لَيْسَ ضِدُّهُ إِيمَانًا لِأَنَّ اسْمَ الطَّاعَةِ عِنْدَكُمْ يَجْمَعُ الْأَعْمَالَ كُلَّهَا الْمُفْتَرَضَةَ وَغَيْرِهَا فَاسْمُ الْإِيمَانِ طَاعَةٌ، وَضِدُّهُ مَعْصِيَةُ كُفْرٍ وَالْفَرَائِضُ طَاعَةٌ وَضِدُّهَا مَعْصِيَةٌ لَا كُفْرٌ، وَالنَّوَافِلُ طَاعَةٌ وَضِدُّهَا نَقْصٌ لَا مَعْصِيَةٌ وَلَا كُفْرٌ، فَإِذَا كَانَ الْحَبُّ طَاعَةً لَا إِيمَانًا فَالْبُغْضُ لِلَّهِ مَعْصِيَةٌ لَا كُفْرٌ. فَإِنْ قَالُوا: لَيْسَ بُغْضُ اللَّهِ كُفْرًا فَقَدْ خَرَجُوا مِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَزَعَمُوا أَنَّ مَنْ أَبْغَضَ اللَّهَ كَانَ مُؤْمِنًا فَكُلُّ مُؤْمِنٍ وَإِنْ أَصَابَ الْمَعَاصِي فَهُمْ يَرْجُونَ لَهُ الْعَفْوَ مِنَ اللَّهِ عز وجل وَالرَّحْمَةَ فَمَنْ أَبْغَضَ لِلَّهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ يَرْجُونَ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ جَنَّتَهُ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ:{يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] فَأَخْبَرَ أَنَّ أَوْلِيَاءَهُ لَهُ مُحِبُّونَ وَهُمْ يَرْجُونَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَوْلِيَائِهِ مَنْ أَبْغَضَهُ بَعْدَ أَنْ يُقَرِّبَهُ وَبِمَا قَالَ. وَإِنْ قَالُوا: مَنْ أَبْغَضَ اللَّهَ فَهُوَ كَافِرٌ، قِيلَ لَهُمْ: فَقَدْ أَثْبَتُّمُ الْبُغْضَ كُفْرًا فَكَذَلِكَ الْحَبُّ إِيمَانٌ لِأَنَّ الْإِيمَانَ ضِدُّ الْكُفْرِ فَمَا نَفَى الْكُفْرَ فَهُوَ إِيمَانٌ وَمَا نَفَى الْإِيمَانَ فَهُوَ كُفْرٌ، فَإِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّ الْكُفْرَ يَنْفِي مَا لَيْسَ بِإِيمَانٍ فَإِنَّ الْإِيمَانَ يَنْفِي مَا لَيْسَ بِكُفْرٍ فَإِذَا كَانَ كَافِرًا بِبَعْضِ الْمَعَانِي ثُمَّ أَتَى بِالْإِيمَانِ لَمْ يَنْتِفِ مِنْهُ الْكُفْرَ وَكَانَ مُؤْمِنًا بَعْدَ الْكُفْرِ

⦗ص: 730⦘

، وَكَذَلِكَ إِنْ أَتَى بِالْكُفْرِ لَمْ يَنْتِفِ مِنْهُ الْإِيمَانَ وَكَانَ كَافِرًا مُؤْمِنًا وَهَذَا التَّنَاقُضَ وَالْإِحَالَةَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ فِي قَوْلِكُمْ لَا يَخْرُجُ الْمُؤْمِنُ مِنْهُ إِلَّا بِتَرْكِهِ وَلَا يَتْرُكُهُ إِلَّا بِأَخَفِّ ضِدِّهِ وَهُوَ الْكُفْرُ. فَإِنْ زَعَمُوا أَنَّ الْحُبَّ لِلَّهِ إِيمَانٌ وَالْبُغْضَ لَهُ كُفْرٌ قِيلَ لَهُمْ: فَقَدْ أَضَفْتُمْ إِلَى التَّصْدِيقِ وَالْإِقْرَارِ ثَالِثًا وَهُوَ حُبُّ اللَّهِ فَزَعَمْتُمْ أَنَّهُ إِيمَانٌ ثُمَّ أَزَلْتُمُ التَّصْدِيقَ وَالْإِقْرَارَ بِزَوَالِ الْحُبِّ فَقَدْ جَعَلْتُمُ الْحُبَّ تَصْدِيقًا وَإِقْرَارًا، وَالْبُغْضَ جَحْدًا لِأَنَّهُ لَا يُكَفِّرُ الْعَبْدَ إِلَّا بِالْجَحْدِ عِنْدَكُمْ، وَلَا يُؤْمِنُ إِلَّا بِالتَّصْدِيقِ وَقَدْ كَفَرَ بِالْبُغْضِ وَهُوَ جَحْدٌ عَلَى قَوْلِكُمْ، وَآمَنَ بِالْحُبِّ فَقَدْ ثَبَتَ عَلَى قَوْلِكُمْ إِنَّ الْحُبَّ تَصْدِيقٌ وَالْبُغْضَ جَحْدٌ فَقَدْ خَرَجْتُمْ مِنَ اللُّغَةِ وَالْمَعْقُولِ فَأَيْنَ اللُّغَةُ الَّتِي بِهَا اعْتَلَلْتُمْ؟ فَإِنْ قَالُوا: مُحَالٌ أَنْ يَعْرِفَ اللَّهَ فَلَا يَكُونُ لَهُ مُحِبًّا لِأَنَّهُ يُصَدِّقُ بِهِ بِمَعْرِفَتِهِ أَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ حُبِّهِ وَلَا يَعْرِضُ فِي قَلْبِهِ الْبُغْضَ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي فِطَرِنَا إِنَّا نَعْرِفُ مِنْ دُونِ اللَّهِ بِالْقُدْرَةِ، وَالْحِلْمِ، وَالْكَرَمِ، وَالْجُودِ وَالتَّفَضُّلِ عَلَيْنَا، وَالْإِحْسَانِ إِلَيْنَا، وَالْعِلْمِ، وَالْحِكْمَةِ فِي نَفْسِهِ فَلَا تَمْتَنِعُ

⦗ص: 731⦘

قُلُوبُنَا أَنْ نُحِبَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ، وَمُحَالٌ أَنْ يُسَاوِي اللَّهَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ فِي صِفَاتِهِ وَمَدْحِهِ فَإِذَا كَانَتْ فِطَرُنَا لَا يَمْتَنِعُ مِنْ حُبِّ مَنْ هُوَ دُونَ اللَّهِ مِنَ الْخَلْقِ إِذَا عَرَفْنَا بِبَعْضِ الْمَدْحِ وَكَانَ إِلَيْنَا مُحْسِنًا فَمُحَالٌ أَنْ يَمْتَنِعَ قَلْبُ مَنْ عَرَفَ اللَّهَ وَصَدَّقَ بِهِ وَأَنَّهُ الْمُحْسِنُ إِلَيْهِ وَأَنْ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ إِحْسَانٌ قَطُّ إِلَّا مِنْهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ حُبِّهِ فَمَسْأَلَتُكُمْ إِيَّانَا مُحَالٌ إِذْ سَأَلْتُمُونَا عَنْ مَنْ أَبْغَضَ اللَّهَ وَصَدَّقَ بِهِ فَأَوْجَدْنَاكُمْ أَنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ فَإِنَّ قَوْلَكُمْ صَدَقَ وَهُوَ مُبْغِضٌ مُتَنَاقِضٌ يَنْقُضُ بَعْضُهُ بَعْضًا كَأَنَّكُمْ قُلْتُمْ صَدَقَ وَهُوَ مُكَذِّبٌ لِأَنَّ الْبُغْضَ لَا يَكُونُ مِنْ مُكَذِّبٍ، وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ الْبُغْضُ مِنْ مُصَدِّقٍ لِحَالَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا أَنَّا لَمْ نَرَ وَلَمْ نَسْمَعْ مُؤْمِنًا كَذَلِكَ وَلَمْ نَجِدْهُ فِي فِطَرِ عُقُولِنَا أَنَّا لَا نَمْتَنِعُ مِنْ حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْنَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي نَفْسِهِ أَهْلًا لِلْحُبِّ فَكَيْفَ مَنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ أَهْلًا لِأَنْ يُحِبَّ بَلْ لَا تَمْتَنِعُ قُلُوبُنَا مِمَّنْ هُوَ أَهْلٌ أَنْ نُحِبَّ وَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ إِلَيْنَا، بَلْ نَبْذُلَ لَهُ مِنْ أَمْوَالِنَا وَنُؤْثِرُهُ عَلَى أَنْفُسِنَا فَإِذَا اجْتَمَعَتْ فِيهِ الْخِصَالُ: الْكَرَمُ، وَالْعِلْمُ، وَالتُّقَى، وَالنَّزَاهَةُ مِنْ كُلِّ

⦗ص: 732⦘

مَكْرُوهٍ، وَكَانَ إِلَيْنَا مُحْسِنًا كَانَ حُبُّهُ فِي قُلُوبِنَا كَامِلًا لِمَا عَرَفْنَاهُ بِهِ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُسَاوِي اللَّهَ عز وجل فِي كَرَمِهِ وَجُودِهِ وَحِلْمِهِ وَعِلْمِهِ بَلْ لَا يُشْبِهُهُ أَحَدٌ، وَكُلُّ إِحْسَانٍ فَمِنْهُ وَإِنْ جَرَى عَلَى أَيْدِي الْخَلَائِقِ فَمُحَالٌ أَنْ يَجْتَمِعَ التَّصْدِيقُ لِلَّهِ وَالْبُغْضُ لَهُ، وَمُحَالٌ أَنْ يُزِيلَ التَّصْدِيقُ الْحُبَّ قِيلَ لَهُمْ إِنَّكُمْ أَجَبْتُمُونَا بِجَوَابٍ يَلْزَمُكُمْ فِي مَعْنَى جَوَابِكُمْ هَذَا أَنْ تَقُولُوا بِقَوْلِنَا قَدْ وَافَقْتُمُونَا مِنْ حَيْثُ لَا تَعْلَمُونَ لِأَنَّكُمْ وَصَفْتُمُ الْمَعْرِفَةَ وَالتَّصْدِيقَ ثُمَّ زَعَمْتُمْ أَنَّ الْعَارِفَ الْمُصَدِّقَ لَا يَمْتَنِعُ مِنَ الْحُبِّ لِلَّهِ وَتَرْكِ الْبُغْضِ لَهُ وَأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ فَجَعَلْتُمْ مَا يَكُونُ عَنِ التَّصْدِيقِ إِيمَانًا وَهَذَا الَّذِي خَالَفْتُمُونَا مِنْ أَجْلِهِ لِأَنَّكُمُ اعْتَلَلْتُمْ بِاللُّغَةِ، وَأَهْلُ اللُّغَةِ لَا يُسَمُّونَ الْحُبَّ تَصْدِيقًا وَلَا إِيمَانًا، وَلَا الْبُغْضَ كُفْرًا لِأَنَّ الْحُبَّ عَنِ التَّصْدِيقِ يَكُونُ، وَالْبُغْضَ عَنِ الْإِنْكَارِ وَالْجَحْدِ فَقَدْ أَضَفْتُمْ إِلَى الْإِيمَانِ مَا أَوْجَبَهُ الْإِيمَانُ وَكَانَ عَنْهُ وَكَذَلِكَ كُلَّمَا أَوْجَبَهُ الْإِيمَانُ وَكَانَ عَنْهُ فَهُوَ إِيمَانٌ لَا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّكَ إِذَا أَصْدَرْتَ اللُّغَةَ بِالْعِبَارَةِ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا مُوجِبٌ لِلْآخَرِ عَرَفْتَ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ مُتَقَدِّمَةٌ لِلْحُبِّ بِالْبُغْضِ

⦗ص: 733⦘

. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْقَائِلِ عَرَفْتُ فُلَانًا بِالشَّرِّ وَالْإِسَاءَةِ فَأَبْغَضْتُهُ، وَعَرَفْتُ فُلَانًا بِالْكَرَمِ وَالْإِحْسَانِ فَأَحْبَبْتُهُ، وَلَا يَقُولُ الْعَرَبُ أَبْغَضْتُهُ وَعَرَفَتُهُ بِالْإِسَاءَةِ وَالشَّرِّ وَلَا أَحْبَبْتُهُ وَعَرَفَتْهُ بِالْخَيْرِ وَالْإِحْسَانِ هَذَا مُحَالٌ فِي لُغَتِهَا لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ تَتَقَدَّمُهَا وَلَيْسَتْ بِهَا فَقَدْ جَعَلْتُمْ مَا كَانَ الْإِيمَانُ سَبَبَهُ إِيمَانًا فَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَ الْإِيمَانُ سَبَبُهُ مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ أَوْ جَارِحِهِ فَهُوَ إِيمَانٌ وَقَدْ خَرَجْتُمْ مِنَ اللُّغَةِ الَّتِي بِهَا اعْتَلَلْتُمْ وَوَافَقْتُمْ مُخَالِفِيكُمْ فِي مَعْنَى الْجَوَابِ الَّذِي بِهِ أَجَبْتُمْ. فَإِنْ قُلْتُمْ إِنَّ الْمُبْغِضَ لَا يُبْغِضُ مُبْغِضًا إِلَّا لِخِصَالٍ ثَلَاثٍ إِمَّا لِمَعْرِفَتِهِ بِالشَّرِّ مِنْهُ، وَأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ خَبِيثٌ يَسْتَحِقُّ الْبُغْضَ لِأَفْعَالِهِ الْخَبِيثَةِ وَلِطَبْعِهِ اللَّئِيمِ. وَالْخَصْلَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ يَكُونَ وَإِنْ كَانَ لَيْسَ بِلَئِيمٍ فِي طَبْعِهِ قَدْ أَسَاءَ إِلَيْهِ، وَآذَاهُ وَظَلَمَهُ فَيُبْغِضُهُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَوْ حَسَدَهُ فَيُوَرِّثُهُ الْحَسَدُ لَهُ الْبُغْضَ، وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ لِلَّهِ لِأَنَّهُ إِذَا اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِكَرِيمٍ وَلَا يَسْتَحِقُّ الْمَدْحَ الْحَسَنَ فَقَدِ اعْتَقَدَ الْكُفْرَ وَلَمْ يَعْرِفْ، وَكَذَلِكَ إِنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ قَدْ ظَلَمَهُ وَجَارَ عَلَيْهِ فَهُوَ كَافِرٌ لَمْ يَعْرِفِ اللَّهَ لِأَنَّ الْجَائِرَ

⦗ص: 734⦘

الظَّالِمَ الْمُعْتَدِي هُوَ الْمُحْتَاجُ الْعَاجِزُ الْمَنْقُوصُ إِذَا احْتَاجَ إِلَى الظُّلْمِ لِأَنَّ الظُّلْمَ لَا يَكُونُ إِلَّا لَخَصْلَتَيْنِ اجْتِرَارُ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفَعُ مَضَرَّةٍ مِنْ شَيْءٍ عَنْهُ لَا يَمْلِكُهُ أَوْ دَفْعُ أَذَى مَنْ يَخَافُهُ مِمَّنْ ظَلَمَهُ فَيُبَادِرُهُ بِالظُّلْمِ بِأَنْ يَدْفَعُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَجَلَّ اللَّهُ تبارك وتعالى عَنْ هَذِهِ الصِّفَةِ فَمَنِ اعْتَقَدَ ذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ، وَأَمَّا الْحَسَدُ فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يَحْسِدُ إِلَّا مَخْلُوقًا مِثْلَهُ يُقَاسُهُ عَلَيْهِ إِذْ صَارَ إِلَى خَيْرٍ مِنْ دِينٍ أَوْ دُنْيَا لَمْ يَصِلْ هُوَ إِلَيْهِ، أَوْ عَدَاوَةٌ مُتَقَدِّمَةٌ وَلَيْسَ الْخَلْقُ فِي الْإِلَهِيَّةِ مَعْنًى يُعَظِّمُونَ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَنَالُوا مِنْهَا بَلْ هُمْ مُضْطَرُّونَ إِلَى رَبِّهِمْ مَصْنُوعُونَ مُحْدَثُونَ فَالْحَسَدُ بَيْنَ الْخَلْقِ وَالْخَالِقِ خَارِجٌ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَأَمَّا الْحَسَدُ عَنِ الْعَدَاوَةِ فَإِنَّ الْعَدَاوَةَ لِلَّهِ كُفْرٌ لِأَنَّ الْعَدَاوَةَ مُضَادَّةٌ وَمُعَانَدَةٌ وَذَلِكَ كُفْرٌ كُلُّهُ قِيلَ لَهُمْ إِنَّكُمْ قَدْ صَدَقْتُمْ فِي جَوَابِكُمْ أَنَّ الْبُغْضَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ ذَلِكَ وَأَشْبَاهِهِ فَلَمْ نَسْأَلْكُمْ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مَنْ أَنْزَلَ اللَّهَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ فَلَمْ يَعْرِفُهُ وَلَكِنْ سَأَلْنَاكُمْ عَنِ الْبُغْضِ الَّذِي أَوْجَبَتْهُ هَذِهِ الْخَلَّالُ الَّتِي هِيَ جَحْدٌ وَكُفْرٌ فَجَعَلْتُمُ الْبُغْضَ كُفْرًا وَلَيْسَ هَذِهِ الْخِلَالُ بِبُغْضٍ فِي عَيْنِهِ وَلَكِنَّ الْبُغْضَ عَنْهَا يَكُونُ وَهِيَ سَبَبٌ لِلْبُغْضِ فَقَدْ خَرَجْتُمْ مِنَ اللَّهِ، وَأَضَفْتُمْ إِلَى الْكُفْرِ عَلَى دَعْوَاكُمْ مَا

⦗ص: 735⦘

كَانَ الْكُفْرُ سَبَبًا لَهُ وَعَنْهُ لَا يَكُونُ هُوَ فِي عَيْنِهِ فَقَدْ وَافَقْتُمْ مُخَالِفِيكُمْ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَيَلْزَمُكُمْ أَيْضًا مَا ادَّعَيْتُمْ أَنْ كَانَ مَا أَوْجَبَهُ كُفْرًا فَكَذَلِكَ مَا أَوْجَبَتْهُ أَضْدَادُهَا إِيمَانٌ لِأَنَّ أَضْدَادَهَا مَعْرِفَةٌ بِاللَّهِ إِنَّهُ الْكَرِيمُ ذُو الْإِحْسَانِ وَالْجُودِ، وَإِنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَإِنَّهُ الْعَادِلُ الَّذِي لَا يَجُورُ وَلَا يَظْلِمُ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ صِفَاتِهِ وَإِنَّهُ مُتَفَضِّلٌ عَلَى مَنْ أَرَادَ، وَعَادِلٌ عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعَدْلَ لَا يَنْصَرِفُ مِنْ عَدْلٍ إِلَى جَوْرٍ أَبَدًا فَهَذِهِ الْخِلَالُ الْمُوجِبَةُ لِلْحُبِّ لِلَّهِ فَكَذَلِكَ الْحَبُّ لِلَّهِ إِيمَانٌ بِهِ كَمَا كَانَ الْبُغْضُ كُفْرًا عَنِ الْكُفْرِ الَّذِي أَوْجَبَهُ لَا فُرْقَانَ بَيْنَ ذَلِكَ. فَإِنْ قَالُوا: فَإِنَّ الْحُبَّ لِلَّهِ لَيْسَ بِإِيمَانٍ، وَالْبُغْضَ لَهُ لَيْسَ بِكُفْرٍ وَلَكِنَّهُمَا خَلْقَانِ عَنِ الْكُفْرِ أَوِ الْإِيمَانِ وَلَا يَكُونُ الْبُغْضُ إِلَّا مِنْ كَافِرٍ وَلَا يَكُونُ الْحُبُّ إِلَّا مِنْ مُؤْمِنٍ. قِيلَ لَهُمْ: فَالْبُغْضُ لِلَّهِ لَيْسَ بِكُفْرٍ فِي عَيْنِهِ وَلَكِنَّهُ مَعْصِيَةٌ لَا كُفْرٌ فَمَنْ أَبْغَضَ اللَّهَ لَمْ يَكْفُرْ لِبُغْضِهِ. فَإِنْ قَالُوا: إِنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ كَافِرٍ. قِيلَ لَهُمْ: لَمْ نَسْأَلْكُمْ عَنْ مَا أَوْجَبَهُ وَلَا مِمَّنْ يَكُونُ وَلَكِنْ سَأَلْنَاكُمْ عَنِ الْبُغْضِ هَلْ هُوَ فِي عَيْنِهِ كُفْرٌ أَوْ غَيْرُ كُفْرٍ؟

⦗ص: 736⦘

. فَإِنْ قَالُوا: لَيْسَ هُوَ فِي عَيْنِهِ كُفْرٌ. قِيلَ لَهُمْ: فَكُلُّ مَا لَيْسَ بِكُفْرٍ فَجَائِزٌ لِلَّهِ أَنْ يُبِيحَهُ لِأَنَّ كُلَّ مَعْصِيَةٍ سِوَى الْكُفْرِ فَجَائِزٌ أَنْ يُبِيحَهَا اللَّهُ فِي بَعْضِ الْأَزْمِنَةٍ، وَيُحِلَّهُ وَيَتَعَبَّدُ خَلْقَهُ بِمَا يَشَاءُ. فَإِنْ قَالُوا: لَيْسَتْ كُلُّ الْمَعَاصِي يَجُوزُ فِيهَا النَّسْخُ قِيلَ لَهُمْ: مِثْلُ مَاذَا؟ فَإِنْ قَالُوا: كَالظُّلْمِ مِنَ الْقَتْلِ وَغَيْرِهِ. قِيلَ لَهُمْ: قَدْ أَكْذَبَكُمُ الْكِتَابُ فَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ اللَّهَ عز وجل قَدْ سَمَّى إِخْوَةَ يُوسُفَ عُصَاةً خَاطِئِينَ بِتَغَيُّبِهِمْ يُوسُفَ عَنْ أَبِيهِ، وَكَادَ لِيُوسُفَ عَنْ أَخِيهِ بِمَا احْتَالَ بِالْصُوَاعِ إِذْ دَسَّ الصُّوَاعَ فِي وِعَاءِ أَخِيهِ لِيَقْطَعَهُ عَنْهُمْ وَيَحْبِسَهُ عَنْ أَبِيهِ وَيَرْجِعُوا إِلَيْهِ، وَلَيْسَ هُوَ مَعَهُمْ فَقَالَ تبارك وتعالى:{كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [يوسف: 76] فَأَظْهَرَ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ سَرَقَ وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِخْوَتِهِ وَحَبَسَهُ عَنْ أَبِيهِ فَازْدَادَ لِذَلِكَ حُزْنًا وَلَمْ يُسَمِّ اللَّهُ يُوسُفَ بِذَلِكَ عَاصِيًا بَلْ أَخْبَرَ أَنَّهُ وَلِيَ لَهُ كَيْدَ ذَلِكَ حَقٌّ لَهُ بِأَنْ

⦗ص: 737⦘

ضَمَّ أَخَاهُ، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْنَا أَنْ نَقْتُلَ أَنْفُسَنَا فَقَالَ:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا} [النساء: 30] فَحَرَّمَ عَلَيْنَا أَنْ نَقْتُلَ أَنْفُسَنَا، وَأَنْ يَقْتُلَ بَعْضُنَا بَعْضًا ثُمَّ أَخْبَرَنَا أَنَّهُ جَعَلَ تَوْبَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّتِي يَغْفِرُ لَهُمْ بِهَا وَيَقْبَلُهُمْ قَتْلَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا فَقَالَ:{تُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}

ص: 728

787 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أنا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، ثنا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ:" قَالُوا: يَا مُوسَى سَلْ رَبَّكَ: مَا تَوْبَتُنَا؟ فَسَأَلَ رَبَّهُ، فَقَالَ: تَوْبَتُهُمْ أَنْ يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَقَالُوا: هَذَا وَلَكِنْ أَمْرٌ أَهْوَنُ مِنْ هَذَا؟ فَقَالَ: مَا هُوَ غَيْرُهُ، فَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْخَنَاجِرِ، مَا يُبَالِي الرَّجُلُ مَنْ قَتَلَ أَبَاهُ أَوِ ابْنَهُ أَوْ أَخَاهُ حَتَّى قُتِلَ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَمُوسَى قَائِمٌ يَنْظُرُ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ مُرْهُمْ أَنْ يَرْفَعُوا أَيْدِيَهُمْ فَقَدْ غُفِرَ لِمَنْ قُتِلَ، وَتُبْتُ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ فَكَفُّوا أَيْدِيَهُمْ "

ص: 737

788 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، وَالزَّعْفَرَانِيُّ، قَالَا: أنا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ لِي عَطَاءٌ: " {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ: قَامَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْخَنَاجِرِ مَا يُبَالِي الرَّجُلُ قَتَلَ أَبَاهُ أَوْ قَتَلَ أَخَاهُ أَوْ قَتَلَ ابْنَهُ وَلَا أَحَدًا حَتَّى نَزَلَتِ التَّوْبَةُ " زَادَ إِسْحَاقُ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: فَأَخْبَرَنِي الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي بَزَّةَ أَنَّهُ سَمِعَ مُجَاهِدًا وَسَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ قَالَا: «قَامَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْخَنَاجِرِ لَا يَحِنُّ رَجُلٌ عَلَى قَرِيبٍ وَلَا بَعِيدٍ حَتَّى أَلْوَى مُوسَى بِيَدِهِ فَطَرَحُوا مَا بِأَيْدِيهِمْ فَيُكْشَفُ عَنْ سَبْعِينَ أَلْفِ قَتِيلٍ»

ص: 738

789 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى أَبِي قُرَّةَ فِي تَفْسِيرِ ابْنِ جُرَيْجٍ: " {تُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} كَانَ قَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، إِنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّ نَاسًا مِنْهُمْ عَلِمُوا أَنَّ الْعِجْلَ بَاطِلٌ فَلَمْ يَمْنَعُهُمْ أَنْ يُنْكِرُوا إِلَّا مَخَافَةَ الْقِتَالِ، فَلِذَلِكَ أُمِرُوا أَنْ يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَجَعَلَ اللَّهُ الْقَتْلَ لِمَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ شَهَادَةً، وَكَانَ تَوْبَةً لِمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَلَغَ قَتْلُهُمْ سَبْعِينَ أَلْفًا، ثُمَّ رَفَعَ اللَّهُ الْقَتْلَ عَنْهُمْ، وَتَابَ عَلَيْهِمْ

ص: 739

790 -

حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ:{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمُ} [البقرة: 54] ابْتُلُوا - وَاللَّهِ - بِشَدِيدَةٍ مِنَ الْبَلَاءِ تَنَاحَرُوا بِالشِّفَارِ صَفَّيْنِ فَلَمَّا بَلَغَ مِنْهُمْ نِقْمَتَهُ سَقَطَتِ الشِّفَارُ مِنْ أَيْدِيهِمْ فَكَانَ لِلْمَقْتُولِ مِنْهُمْ شَهَادَةً وَلِلْحَيِّ تَوْبَةً "

ص: 739

791 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَا: أنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أنا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، وَالزُّهْرِيِّ،:" {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] قَالَ: قَامُوا صَفَّيْنِ فَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا. قَالَ قَتَادَةُ: فَكَانَتْ شَهَادَةً لِلْمَقْتُولِ، وَتَوْبَةً لِلْحَيِّ "

ص: 739

792 -

حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ يَحْيَى بْنُ خَلَفٍ، ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، ثنا ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ:" {بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} [البقرة: 54] قَالَ: كَانَ مُوسَى أَمَرَ قَوْمَهُ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَنْ يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْخَنَاجِرِ فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَقْتُلُ أَبَاهُ وَيَقْتُلُ وَلَدَهُ فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَالَ: وَالْعِجْلُ حُلِيُّ اسْتَعَارُوهُ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ فَقَالَ لَهُمْ هَارُونُ: أَحْرِقُوهُ فَأَحْرَقُوهُ، وَكَانَ السَّامِرِيُّ أَخَذَ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ فَرَسِ جِبْرِيلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ فَطَرَحَهَا فِيهِ فَانَسَبَكَ فَكَانَ لَهُ كَالْجَوْفِ تَهْوِي فِيهِ الرِّيحُ، فَقَالَ السَّامِرِيُّ: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى ".

793 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أنا رَوْحٌ، ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: فَإِنْ كَانَ الْبُغْضُ لَيْسَ بِكُفْرٍ فَجَائِزٌ

⦗ص: 741⦘

أَنْ يُبِيحَ اللَّهُ بُغْضَهُ لِمَنِ اعْتَقَدَ مَعْرِفَتَهُ. فَإِنْ قَالُوا: ذَلِكَ مُحَالٌ أَنْ يُفَارِقَ الْكُفْرُ الْبُغْضَ. قِيلَ لَهُمْ: وَكَذَلِكَ مُحَالٌ أَنْ يُفَارِقَ الْإِيمَانُ الْحُبَّ وَكَانَ عَزِيزًا أَنْ يُفَارِقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، فَإِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُفَارِقَ الْبُغْضُ الْكُفْرَ، فَالْحُبُّ الْإِيمَانُ لَا غَيْرُهُ، وَالْبُغْضُ مِنَ الْكُفْرِ جُزْءٌ لَا غَيْرُهُ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَقَدْ زَعَمْتُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ خَلَّتَانِ: الْمَعْرِفَةُ وَالْإِقْرَارُ ثُمَّ زَعَمْتُمْ أَنَّ الْعَارِفَ قَدْ يَعْرِفُ وَيَجْحَدُ، وَأَنَّ الْمَرْءَ قَدْ يُقِرُّ بِلِسَانِهِ وَيُنْكِرُ بِقَلْبِهِ، كَمَا وَصَفَ اللَّهُ عز وجل عَنِ الْمُنَافِقِينَ. فَإِنْ قَالَ مِنْهُمْ قَائِلٌ: لَيْسَ الْإِيمَانُ هُوَ الْمَعْرِفَةُ وَلَكِنَّهُ الْخُضُوعُ مَعَ الْمَعْرِفَةِ. قِيلَ لَهُمُ: الْمَسْأَلَةُ عَلَى حَالِهَا فِي الْخُضُوعِ كَالْمَسْأَلَةِ فِي الْحُبِّ إِذْ كَانَتِ الْمَعْرِفَةُ لَا يَكُونُ إِيمَانًا إِلَّا بِخُضُوعٍ، وَلَيْسَ الْخُضُوعُ هُوَ الْمَعْرِفَةُ وَقَدْ أَضَفْتُمُوهُ إِلَيْهَا فَكَذَلِكَ الْحُبُّ يَقُومُ بِالْخُضُوعِ، وَالْمَسْأَلَةُ عَلَى حَالِهَا وَلَوْ كَانَ الْحُبُّ لَيْسَ جُزْءًا مِنَ الْإِيمَانِ، وَلَا الْبُغْضُ جُزْءًا مِنَ الْكُفْرِ لَجَازَ أَنْ يَفْتَرِقَا فَيَكُونُ إِيمَانٌ بِلَا حُبٍّ، وَبُغْضٌ بِلَا كُفْرٍ، لِأَنَّكُمْ وَإِنِ ادَّعَيْتُمْ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ لَا يَكُونُ إِيمَانًا إِلَّا

⦗ص: 742⦘

وَمَعَهَا خُضُوعٌ فَقَدْ زَعَمْتُمْ أَنَّ الْإِقْرَارَ يَكُونُ بِاللِّسَانِ لَيْسَ مَعَهُ مَعْرِفَةٌ وَلَا خُضُوعٌ، كَمَا وَصَفَ اللَّهُ عز وجل عَنِ الْمُنَافِقِينَ فَإِذَا كَانَ الْإِيمَانُ مَعْرِفَةً وَخُضُوعًا وإِقْرَارًا بِاللِّسَانِ، وَلَا يَتِمُّ الْمَعْرِفَةُ وَالْخُضُوعُ إِلَّا بِالْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ، وَالْإِقْرَارُ هُوَ إِيمَانٌ فِي عَيْنِهِ فَجَازَ أَنْ يُوجَدَ بَعْضُ الْإِيمَانِ فِي زَوَالِ بَعْضٍ فَكَذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ يَزُولَ الْحُبُّ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ لِأَنَّ الْحُبَّ عَنِ الْإِيمَانِ، وَالْإِقْرَارُ فِي نَفْسِهِ إِيمَانٌ، وَكَمَا وُجِدَ إِقْرَارٌ بِلَا تَصْدِيقٍ فَكَذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ يُوجَدَ تَصْدِيقٌ بِلَا حُبٍّ، فَإِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّ الْإِقْرَارَ فَرْعٌ مِنَ الْإِيمَانِ فَكَذَلِكَ الْحُبُّ فَرْعٌ مِنَ الْإِيمَانِ، وَكَمَا وُجِدَ فَرْعٌ بِلَا أَصْلٍ، فَجَائِزٌ أَنْ يُوجَدَ حُبٌّ بِلَا تَصْدِيقٍ. فَإِنْ قَالُوا: ذَلِكَ مُحَالٌ. قِيلَ لَهُمْ: فَقَدْ ثَبَتُّمْ أَنَّ الْحُبَّ لِلَّهِ أَوْجَبُ أَنْ يَكُونَ إِيمَانًا مِنَ الْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ إِذْ كَانَ الْإِقْرَارُ قَدْ يَنْفَرِدُ دُونَ التَّصْدِيقِ فَيَكُونُ إِقْرَارًا وَلَا تَصْدِيقٌ وَلَا يَنْفَرِدُ الْحُبُّ مِنَ الْإِيمَانِ، وَلَا يُفَارِقُهُ فَإِذَا كَانَ الْإِقْرَارُ يَنْفَرِدُ مِنَ التَّصْدِيقِ فَإِنْ يَقْدُمُهُ التَّصْدِيقُ صَارَ الْإِقْرَارُ إِيمَانًا، وَإِذَا انْفَرَدَ لَمْ يَصِرْ إِيمَانًا، فَالْحُبُّ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ إِيمَانًا إِذْ لَا جَائِزَ أَنْ يَنْفَرِدَ مِنَ التَّصْدِيقِ، فَالْحُبُّ عَلَى دَعْوَاكُمْ أَوْكَدُ

⦗ص: 743⦘

مِنَ الْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ أَنْ يَكُونَ إِيمَانًا، وَكَذَلِكَ الْبُغْضُ أَوْكَدُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عز وجل قَدْ رَخَّصَ لِمَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الْعَدُوِّ أَنْ يُعْطِيَهُمُ الْجَحْدَ بِلِسَانِهِ فَيَكُونُ مُؤْمِنًا وَقَدْ أَتَى مَا يَجْحَدُ بِلِسَانِهِ وَبَقِيَ التَّصْدِيقُ فِي قَلْبِهِ، وَلَا يَكُونُ مُؤْمِنًا حَتَّى يُفَارِقَ الْبُغْضَ لِلَّهِ، وَقَدْ يَنْفَرِدُ الْجَحْدُ بِاللِّسَانِ عِنْدَ الرُّخْصَةِ مِنَ التَّصْدِيقِ فَلَا يَكُونُ كُفْرًا وَلَا يَنْفَرِدُ الْبُغْضُ مِنَ التَّصْدِيقِ إِلَّا كَانَ كُفْرًا نَاقِضًا لِلتَّصْدِيقِ فَالْجَحْدُ بِاللِّسَانِ لِلرُّخْصَةِ لَا يَنْقُضُ التَّصْدِيقَ، وَالْبُغْضُ لَا يَكُونُ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا إِلَّا كَانَ نَاقِضًا لِلتَّصْدِيقِ فَالْبُغْضُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ كُفْرًا فَقَدْ نَاقَضْتُمْ دَعْوَاكُمْ فِيهِ فِي دَعْوَاكُمْ مَعَ خُرُوجِكُمْ مِنْ قَوْلِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ لِأَنَّ الْبُغْضَ لِلَّهِ فِي عَيْنِهِ لَيْسَ بِكُفْرٍ وَأَنَّ الْحُبَّ لَيْسَ بِإِيمَانٍ. فَإِنْ قَالُوا: الْحُبُّ لَيْسَ بِإِيمَانٍ، وَالْبُغْضُ كُفْرٌ لِأَنَّ الْبُغْضَ شَتْمٌ. قِيلَ لَهُمْ: وَكَذَلِكَ الْحُبُّ مَدْحٌ. فَإِنْ قَالُوا: إِنَّا قَدْ نُحِبُّ مَنْ يَسْتَأْهِلُ عِنْدَنَا وَلَا يَسْتَأْهِلُ، وَلَا نُبْغِضُ إِلَّا مَنْ يَسْتَأْهِلُ الْبُغْضَ فَالْبُغْضُ شَتْمٌ. قِيلَ لَهُمْ: وَكَذَلِكَ الْحُبُّ مَدْحٌ عَلَى قَوْلِكُمْ، وَلَا جَائِزٌ

⦗ص: 744⦘

لِلْعَاقِلِ أَنْ يُحِبَّ مَنْ لَا يَسْتَأْهِلُ الْحُبَّ فِي مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي، كَمَا لَا جَائِزَ أَنْ يُبْغِضَ إِلَّا مَنْ يَسْتَأْهِلُ الْبُغْضَ وَمَعَ ذَلِكَ إِنَّكُمْ قَدْ فَرَّقْتُمْ فَزَعَمْتُمْ أَنَّ اثْنَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ أَحَدُهُمَا ضِدٌّ لِلْآخَرِ، وَأَحَدُهُمَا كُفْرٌ وَضِدُّهُ لَيْسَ بِإِيمَانٍ، فَإِذَا كَانَ قَدْ تَأْتِي بِالْحُبِّ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ إِيمَانًا ضِدًّا لِلْكُفْرِ فَكَذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ يَأْتِيَ بِالْبُغْضِ، وَلَا يَكُونُ الْإِيمَانُ يُخْرِجُهُ مِنْهُ فَإِنْ لَمْ يَجُزْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْبُغْضُ كُفْرًا لَمْ يَجُزْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْحُبُّ إِيمَانًا، لِأَنَّ الْإِيمَانَ ضِدُّهُ الْكُفْرُ وَأَحَدُهُمَا يَنْفِي الْآخَرَ فَإِذَا كَانَ الْبُغْضُ فِي عَيْنِهِ كُفْرًا يَنْفِي الْإِيمَانَ فَكَذَلِكَ الْحُبُّ فِي عَيْنِهِ إِيمَانٌ يَنْفِي الْكُفْرَ لَا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ يَفْهَمُ الْمَعْقُولَ وَيَعْقِلُ اللُّغَةَ. فَإِنْ قَالُوا: إِنَّ الْحُبَّ إِيمَانٌ، وَالْبُغْضَ كُفْرٌ. قِيلَ لَهُمْ: وَأَيْنَ وَجَدْتُمْ هَذَا فِي اللُّغَةِ أَنَّ الْحُبَّ تَصْدِيقٌ، وَأَنَّ الْبُغْضَ جَحْدٌ؟ فَإِنْ قَالُوا: وَإِنْ لَمْ نَجِدْهُ فِي اللُّغَةِ فَإِنَّ التَّصْدِيقَ لَا يُفَارِقُ الْحُبَّ وَلَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُصَدِّقٌ إِلَّا مُحِبًّا، وَالْبُغْضُ لَا يُفَارِقُ الْكُفْرَ، وَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ مُبْغِضٌ إِلَّا كَافِرًا. قِيلَ لَهُمْ: فَقَدْ جَعَلْتُمْ مَا أَوْجَبَهُ الْإِيمَانُ إِيمَانًا، وَمَا

⦗ص: 745⦘

أَوْجَبَهُ الْكُفْرُ كُفْرًا، فَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَكَانَا سَبَبًا لَهُ فَهُوَ إِيمَانٌ أَوْ كُفْرٌ مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ فَقَدْ خَرَجْتُمْ مِنَ اللُّغَةِ الَّتِي بِهَا اعْتَلَلْتُمْ، وَوَافَقْتُمْ مُخَالِفِيكُمْ فَإِنَّ الْفِرْقَةَ الَّتِي قَالَتْ: إِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْخُضُوعُ مَعَ الْمَعْرِفَةِ فَكُلُّ خَاضِعٍ مُطِيعٌ. قِيلَ: وَأَيْنَ وَجَدْتُمُ الْخُضُوعَ فِي اللُّغَةِ إِيمَانًا؟ فَإِنْ قَالُوا: وَجَدْنَا اللَّهَ تبارك وتعالى حَكَمَ لِمَنْ فَعَلَهُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ، وَكَفَرَ مَنْ لَمْ يَخْضَعْ. قِيلَ لَهُمْ: فَلَمْ تَأْخُذُوا ذَلِكَ عَنِ اللُّغَةِ، وَإِنَّمَا أَخَذْتُمُوهُ عَنِ اللَّهِ فَإِنْ كَانَ الْخُضُوعُ مِنَ الْإِيمَانِ فَكُلُّ خُضُوعٍ إِيمَانٌ إِذَا اتَّبَعْتُمْ أَمْرَ اللَّهِ، وَخَرَجْتُمْ مِمَّا تَعْقِلُونَ مِنَ اللُّغَةِ فَالْخُضُوعُ بِالْقَلْبِ وَالْبَدَنِ أَلَا تَسْمَعُ إِلَى قَوْلِهِ:{فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4] فَثَبَتَ الْخُضُوعُ لِلْأَعْنَاقِ، فَحَيْثُ مَا يُوجَدْ خُضُوعٌ لِلَّهِ فَهُوَ إِيمَانٌ، وَحَيْثُ وُجِدَ إِبَاءٌ وَاسْتِكْبَارٌ أَوْ تَرْكٌ لِأَمْرِهِ فَهُوَ كُفْرٌ، فَالتَّرْكُ مَعَ الْإِبَاءِ كُفْرٌ كَمَا كَانَ الْفِعْلُ بِالْخُضُوعِ وَالْإِرَادَةِ إِيمَانًا، فَإِنْ كَانَتِ الْمُرْجِئَةُ إِنَّمَا قَالَتْ: إِنَّ الْإِقْرَارَ إِيمَانٌ مَعَ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ لِأَنَّهُ تَحْقِيقٌ لِلتَّصْدِيقِ فَكَذَلِكَ عَمَلُ الْجَوَارِحِ كُلِّهَا لَوْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِرَجُلٍ: آمِنْ بِاللَّهِ وَاشْهَدْ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَوْ قَالَ: آمِنْ وَأَقِرَّ بِلِسَانِكَ، فَقَالَ

⦗ص: 746⦘

بِلِسَانِهِ: آمَنْتُ بِاللَّهِ مُعَبِّرًا عَمَّا فِي قَلْبِهِ لَكَانَ ذَلِكَ دَالًّا عَلَى تَحْقِيقِ مَا فِي قَلْبِهِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ يَلِي عِلْمَ السَّرَائِرِ، كَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: آمِنْ بِاللَّهِ وَقُمْ فَصَلِّ فَبَادَرَ إِلَى الْوُضُوءِ فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى لَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ إِقْرَارًا، وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ بِلِسَانِهِ، وَلَوْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِنْ مَالِكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَلَمْ يَقُلْ نَعَمْ فَبَادَرَ فَأَعْطَاهَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَكَانَ ذَلِكَ يَقُومُ مَقَامَ الْإِقْرَارِ مُحَقِّقًا لِمَعْرِفَتِهِ بِاللَّهِ إِذْ أَبْدَى الطَّاعَةَ وَسَارَعَ إِلَيْهَا كَمَا سَارَعَ إِلَيْهَا الْمُقِرُّ بِلِسَانِهِ فَقَدْ قَامَتِ الْجَوَارِحُ مَقَامَ اللِّسَانِ فِي التَّحْقِيقِ لِلْمَعْرِفَةِ، وَإِنْ كَانَ اللِّسَانُ أَعْظَمَ قَدْرًا عِنْدَ اللَّهِ بِالشَّهَادَةِ فَكُلٌّ يُحَقِّقُ لِلْمَعْرِفَةِ. قَالَ: وَيُقَالُ لَهُمْ: أَرَأَيْتُمْ رَجُلًا زِنْدِيقًا أَوْ نَصْرَانِيًّا كَانَ جَالِسًا فِي سَفِينَةٍ أَوْ رَأْسِ جُرُفٍ مُطِلًّا عَلَى الْمَاءِ فَتَدَبَّرَ وَتَفَكَّرَ فِي الْخَلْقِ فَعَرَفَ أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم جَاءَ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِهِ عَلِمَ اللَّهُ صِدْقَ ذَلِكَ مِنْهُ فَزَلَّتْ قَدَمُهُ فَغَرِقَ قَبْلَ أَنْ يَتَشَهَّدَ بِلِسَانٍ هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ مُؤْمِنًا؟ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ، قِيلَ لَهُمْ: مُسْتَكْمِلُ الْإِيمَانِ؟

⦗ص: 747⦘

فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ، قِيلَ لَهُمْ: فَأَيْنَ الْإِقْرَارُ. فَإِنْ قَالُوا: لَمْ يَبْقَ إِلَى أَنْ يُؤَدِّي الْإِقْرَارَ. قِيلَ لَهُمْ: فَقَدْ شَهِدْتُمْ بِأَنَّ التَّصْدِيقَ بِلَا إِقْرَارَ إِيمَانٌ كَامِلٌ فَإِنْ أَمْكَنَهُ الْإِقْرَارَ فَلَمْ يُقِرَّ أَيَنْقُصُ الْإِيمَانُ الْكَامِلُ عِنْدَكُمْ؟ فَإِنْ أَقَرَّ كَمُلَ الْإِيمَانُ فَشَهِدْتُمْ لَهُ بِالْكَمَالِ فِي وَقْتٍ ثُمَّ زَعَمْتُمْ أَنَّهُ مُكْمِلٌ فِي وَقْتٍ ثَانٍ فَكَيْفَ يَكْمُلُ مَا قَدْ كَمُلَ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ: إِنَّمَا كَمُلَ الْمُفْتَرَضُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلَمْ يُفْتَرَضْ عَلَيْهِ الْإِقْرَارُ إِنْ لَمْ يَبْقَ فَإِنْ بَقِيَ فَأَقَرَّ زَادَ كَمَالًا إِلَى كَمَالِهِ لِأَنَّهُ كَانَ كَامِلًا مِنْ جِهَةِ الْوَاجِبِ فِي وَقْتِهِ كَامِلًا مِنْ جِهَةِ مَا أَتَى بِهِ غَيْرُهُ مِمَّنْ يَفِي فَصَدَّقَ وَأَقَرَّ. قِيلَ لَهُمْ: فَهَذَا الَّذِي زَعَمْتُمْ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْفَرْضَ مِنَ الْإِيمَانِ إِذَا لَزِمَ الْعَبْدُ فَأَدَّاهُ فِي وَقْتِهِ فَقَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ وَلَمْ يَأْتِ بِبَاقِي الْفَرْضِ مِنَ الْإِيمَانِ الَّذِي لَزِمَ غَيْرَهُ فَإِنْ بَقَى إِلَى وَقْتٍ ثَانٍ فَأَدَّى مِنَ الْفَرْضِ مَا أَدَّى غَيْرُهُ كَانَ زِيَادَةً عَلَى إِيمَانِهِ الْأَوَّلِ كَمَا قُلْتُمْ فِي الْمُصَدِّقِ فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ ثُمَّ عُوجِلَ بِالْمَوْتِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ وَقْتٌ ثَانٍ وَلَوْ أَتَى وَقْتٌ ثَانٍ فَشَهِدَ فِيهِ كَانَ زِيَادَةً عَلَى إِيمَانِهِ الْأَوَّلِ لَا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ

⦗ص: 748⦘

. فَإِنْ قَالُوا: إِنَّ الَّذِي صَدَقَ ثُمَّ عُوجِلَ بِالْمَوْتِ قَبْلَ أَنْ يُقِرَّ بِاللِّسَانِ إِنْ نَوَى أَنْ يُقِرَّ بِاللَّهِ وَيَشْهَدَ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَإِلَّا فَهُوَ كَافِرٌ قِيلَ لَهُمْ فَقَدْ ضَمِنْتُمْ إِلَى التَّصْدِيقِ النِّيَّةَ، وَلَيْسَتْ فِي اللُّغَةِ وَتَرَكْتُمْ قَوْلَكُمْ، أَرَأَيْتُمْ إِنْ صَدَقَ فِي أَوَّلِ وَقْتٍ فَعُوجِلَ قَبْلَ أَنْ يَنْوِيَ أَنْ يَتَشَهَّدَ فَمَاتَ أَمُؤْمِنٌ هُوَ؟ فَإِنْ قَالُوا: لَا فَالَّذِي نَوَى فَعُوجِلَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ وَقْتُ الْإِقْرَارِ أَيْضًا لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا إِذْ لَمْ يَأْتِ الْوَقْتُ الَّذِي يُمْكِنُهُ فِيهِ الْإِقْرَارَ قَبْلَ تَصْدِيقِهِ لِأَنَّهُ عَجَّلَ قَبْلَ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ مَنْ عَرَفَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ ثُمَّ عُوجِلَ قَبْلَ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ مَنْ عَرَفَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ ثُمَّ عُوجِلَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِ وَقْتٌ يَنْوِي فِيهِ فَقَدْ جَعَلُوا الْإِيمَانَ تَصْدِيقًا بِالْقَلْبِ مَا لَمْ يَأْتِ وَقْتُ عَمَلِ جَارِحِهِ، فَإِذَا أَتَى وَقْتٌ يُمْكِنُهُ فِيهِ التَّشَهُّدَ كَانَ التَّشَهُّدُ فِيهِ إِيمَانًا إِلَى إِيمَانِهِ الْأَوَّلِ فَكَذَلِكَ جَمِيعُ عَمَلِ الْجَوَارِحِ إِذَا أَتَى أَوْقَاتُهَا فَأَمْكَنَهُ الْقِيَامُ بِهَا كَانَ قِيَامُهُ بِهَا زِيَادَةٌ عَلَى إِيمَانِهِ الْأَوَّلِ لَا فُرْقَانَ بَيْنَ ذَلِكَ. فَإِنْ زَعَمُوا أَنَّهُ إِذَا صَدَّقَ بِقَلْبِهِ بِأَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ثُمَّ عُوجِلَ بِالْمَوْتِ قَبْلَ أَنْ يُمْكِنَهُ التَّشَهُّدَ أَنَّهُ كَافِرٌ فَقَدْ كَفَّرُوا مَنْ هُوَ مُؤْمِنٌ فِي اللُّغَةِ لِأَنَّ اللَّهَ عز وجل قَالَ لِإِبْرَاهِيمَ:{أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى} [البقرة: 260]

⦗ص: 749⦘

فَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْ إِيمَانٍ قَدْ كَانَ قَبْلَ الْعِبَادَةِ وَهُوَ التَّصْدِيقُ، وَقَالَ إِخْوَةُ يُوسُفَ:{وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17] أَيْ مُصَدِّقٍ فَقَدْ خَرَجُوا مِنْ قَوْلِهِمْ، وَزَعَمُوا أَنَّ الْمُؤْمِنَ فِي اللُّغَةِ كَافِرٌ بِغَيْرِ تَرْكٍ مِنْهُ لِلْإِقْرَارِ وَهُوَ يُنْكِرُهُ فَكَفَّرُوهُ بِغَيْرِ جُحُودٍ وَلَا إِبَاءٍ لِلْإِقْرَارِ، وَلَا امْتِنَاعٍ مِنْهُ وَهُوَ الْخُرُوجُ مِنَ اللُّغَةِ وَمِنْ قَوْلِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ إِذِ الْكُفْرُ لَا يَكُونُ إِلَّا جُحُودًا بِالْقَلْبِ أَوْ تَكْذِيبًا بِالْقَلْبِ أَوْ بِاللِّسَانِ أَوْ إِبَاءً أَوِ امْتِنَاعًا بِاسْتِكْبَارٍ وَاسْتِنْكَافٍ. فَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ عَبْدًا عِنْدَ الْبُلُوغِ وَهُوَ صَحِيحٌ مُسْلِمٌ اعْتَقَدَ بِقَلْبِهِ أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حَقٌّ ثُمَّ أَفْلَجَ قَبْلَ أَنْ يَجِئَ وَقْتُ الْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ فَيَبُسَتْ يَدَاهُ وَلِسَانُهُ فَمَكَثَ بِذَلِكَ عَشْرَ سِنِينَ مُصَدِّقًا بِقَلْبِهِ لَا يُمْكِنُهُ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ وَلَا الْإِشَارَةُ بِجَارِحِهِ فَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَقُولُوا إِنَّهُ عَاشَ كَافِرًا حَتَّى مَاتَ وَهَذَا الْخُرُوجُ مِنَ اللُّغَةِ، وَمِنْ قَوْلِ الْأُمَّةِ كُلِّهَا. فَإِنْ قَالُوا: هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا فُرْقَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُصَدِّقِ وَالْمُعَاجِلِ بِالْفَرْضِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ وَقْتٌ يُمْكِنُهُ فِيهِ الْإِقْرَارَ، وَكَذَلِكَ إِنْ صَدَّقَ ثُمَّ جُنَّ فَزَالَ عَقْلُهُ مَعَ آخِرِ وَقْتِ التَّصْدِيقِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ وَقْتٌ يُمْكِنُهُ فِيهِ الْإِقْرَارَ لَا فُرْقَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُعَاجِلِ بِالْفَرْضِ فَقَدْ تَرَكُوا

⦗ص: 750⦘

قَوْلَهُمْ وَنَقَضُوا أَصْلَهُمْ، وَأَقَرُّوا بِزِيَادَةِ الْإِيمَانِ بَعْدَ مَا شَهِدُوا لَهُ بِالْكَمَالِ. وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضُهُمْ إِنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ فَهَذَا دَعْوَى ادَّعَوْهَا لِيُثْبِتُوا بِهَا عِنْدَ الْأُمَّةِ أَنَّهُمْ مُقِرُّونَ بِقَوْلِ اللَّهِ عز وجل:{زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2] و {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4] لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: مُحَالٌ أَنْ يَكُونَ الزِّيَادَةُ إِلَّا بَعْدَ الْكَمَالِ، وَأَنَّ الْجُزْءَ الثَّانِي إِذَا ضُمَّ إِلَى الْأَوَّلِ فَلَيْسَ بِزِيَادَةٍ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الْعَدَدِ لَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى الْمَعْرُوفِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ مَعْلُومٌ فَإِذَا ضَمَّ جُزْءًا إِلَى جُزْءٍ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ زِيَادَةٌ فِي الْإِيمَانِ حَتَّى يُتِمَّ فَإِذَا تَمَّ جَارَتِ الزِّيَادَةُ عَلَى الْإِيمَانِ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ مِنَ الْقَوْلِ لِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا تَمَّ ثُمَّ ضُمَّ إِلَيْهِ غَيْرُهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مِنْهُ مَا كَانَ جُزْءًا مِنْهُ لَا أَنْ يُضَمَّ إِلَيْهِ جُزْءٌ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِذَا كَانُوا قَدْ أَتَوْا بِالْإِيمَانِ كَامِلًا ثُمَّ ازْدَادُوا مَعْرِفَةً فِيمَا ادَّعَوْا، ثُمَّ زَعَمُوا أَنَّهَا زِيَادَةٌ فِي الْإِيمَانِ فَكَيْفَ زَادَ فِيمَا هُوَ كَامِلٌ لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ مَا لَمْ يُسَمَّ بِهِ وَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ الْمَعْرِفَةَ هِيَ إِيمَانٌ مَعَ الْإِقْرَارِ فَقَدْ جَاءُوا بِالْمَعْرِفَةِ وَالْإِقْرَارِ وَذَلِكَ هُوَ الْإِيمَانُ الْكَامِلُ عِنْدَهُمْ فَكَيْفَ جَاءَ بِمَعْرِفَةٍ وَقَدْ كَمُلَتِ الْمَعْرِفَةُ وَلَمْ تَبْقَ مِنْهَا شَيْءٌ يَأْتِي بِهَا الْعَارِفُ لِأَنَّ الْإِيمَانَ مَعْلُومٌ عِنْدَ اللَّهِ

⦗ص: 751⦘

وَعِنْدَهُمْ فَإِذَا كَمُلَ الْمَعْلُومُ ثُمَّ جِئَ بِثَانٍ بَعْدَهُ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْإِيمَانِ الْمَعْلُومِ إِلَّا أَنْ يَزْعُمُوا أَنَّ الْإِيمَانَ فَرْضٌ وَنَافِلَةٌ، وَالنَّافِلَةُ تَرْكُهَا مُبَاحٌ، وَفِعْلُهَا قُرْبَةٌ إِلَى اللَّهِ عز وجل، وَالْكُفْرُ ضِدُّ الْإِيمَانِ فَإِنْ كَانَ الْإِيمَانُ مِنْهُ مُفْتَرَضٌ، وَمِنْهُ نَافِلَةٌ فَضِدُّهُمَا جَمِيعًا الْكُفْرُ فَكَمَا كَانَ تَرْكُ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ فَرْضٌ بَعْدَ مَا يَتْرُكُ الْإِيمَانَ الَّذِي هُوَ نَافِلَةٌ مُبَاحٌ فَتَرْكُ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ الْكُفْرُ عِنْدَهُمْ فَكُفْرٌ بِاللَّهِ مُبَاحٌ، وَكُفْرٌ مُحَرَّمٌ وَهَذَا لَا يَقُولُ بِهِ إِلَّا مُخْتَلِطٌ. فَإِنْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ إِنَّمَا سَمَّوُا الزِّيَادَةَ فِيهِ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَعْرِفَةٍ وَالْمَعْرِفَةُ هِيَ الْإِيمَانُ. قِيلَ لَهُمْ: قَدْ غَلَطْتُمْ مِنْ وَجْهَيْنِ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَإِنَّ هَذِهِ الْمَعْرِفَةَ الزَّائِدَةَ لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ مُفْتَرَضَةً أَوْ غَيْرِ مُفْتَرَضَةٍ فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُفْتَرَضَةٍ فَهِيَ مَعْلُومَةٌ، وَذَلِكَ عِنْدَكُمْ مَا لَا يَزِيدُ وَإِنْ كَانَتْ لَيْسَتْ مُفْتَرَضَةً فَقَدْ ثَبَتُّمْ إِيمَانًا بِالْإِبَاحَةِ وَهَلْ أَبَاحَ اللَّهُ لِعِبَادِهِ تَرْكَ الْإِيمَانِ مِنْ جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ وَلَوْ كَانَ مُبَاحًا لَاسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ ضِدَّهُ وَكَانَ كُفْرٌ مُبَاحٌ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَيُقَالُ لَهُمْ: أَخْبِرُونَا هَلْ يُوصَلُ إِلَى هَيْبَةِ شَيْءٍ، وَتَعْظِيمِهِ، وَخَوْفِهِ، وَرَجَائِهِ، وَحُبِّهِ إِلَّا بِخَصْلَتَيْنِ إِمَّا بِمُعَايَنَةٍ وَإِمَّا بِإِيمَانٍ لَهُ بِخَبَرٍ صَادِقٍ أَوْ

⦗ص: 752⦘

دَلِيلٍ يَلْزَمُ؟ فَإِنْ قَالُوا: لَا يُوصَلُ إِلَى ذَلِكَ وَلَا يُنَالُ إِلَّا بِمَا ذَكَرْتَ. قُلْنَا لَهُمْ: فَقَدْ سَقَطَتِ الْمُعَايَنَةُ عَنِ الْعِبَادِ فَلَمْ يُعَايِنْ أَحَدٌ مِنْهُمُ اللَّهَ تبارك وتعالى، وَلَمْ يَرَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ إِلَّا مَا خَصَّ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا سَقَطَتِ الْمُعَايَنَةُ لَمْ يَكُنْ لِلْعِبَادِ وَسِيلَةٌ يَنَالُوا بِهَا الْخَوْفَ، وَالرَّجَاءَ، وَالتَّعْظِيمَ، وَالْإِجْلَالَ إِلَّا الْإِيمَانَ فَلَمْ يُفَاوِتِ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ صَدْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَآخِرِهَا فِي الطَّاعَاتِ مِنَ الْخَوْفِ، وَالرَّجَاءِ، وَالْهَيْبَةِ، وَالْحُبِّ، وَالْيَقِينِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ إِذْ زَالَ الْعِيَانُ، وَلَا وَسِيلَةَ لَهُمْ إِلَى هَذِهِ الْأَخْلَاقِ وَلَا أَصْلَ لَهَا يَنْبَعِثُ مِنْهُ، وَيَهِيجُ مِنْهُ إِلَّا الْإِيمَانُ وَلَا سَبِيلَ إِلَى مَعْنًى ثَالِثٍ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُنَالُ خَوْفٌ وَلَا رَجَاءٌ، وَلَا حُبٌّ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ إِلَّا بِمُعَايَنَةٍ أَوْ إِيمَانٍ فَلَمْ يُفَاوِتُوا فِي هَذِهِ الْأَخْلَاقِ فَرَأَيْنَا بَعْضَهُمْ خَائِفًا مِنَ اللَّهِ مَرْعُوبًا مُجِلًّا لَهُ مُشْفِقًا رَاجِيًا لَهُ رَاغِبًا فِيمَا عِنْدَهُ قَدْ أَزْعَجَهُ خَوْفُهُ عَنْ كُلِّ مَعْصِيَةٍ وَحَمَلَهُ رَجَاؤُهُ وَرَغْبَتُهُ عَلَى الْقِيَامِ بِحَقِّ اللَّهِ. وَرَأَيْنَا آخَرِينَ مُقِرِّينَ لِلَّهِ بِوَحْدَانِيَّتِهِ لَا يُزَايِلُهُمُ الْإِقْرَارُ وَالتَّصْدِيقُ وَهُمْ فِي عَامَّةِ أُمُورِهِمْ آمِنُونَ لَا يَخَافُونَ اللَّهَ عِنْدَ مَعْصِيَةٍ يَرْكَبُونَهَا وَلَا يَبْذِلُونَ لِلَّهِ الْحَقَّ فِيمَا يَرْجُونَ

⦗ص: 753⦘

ثَوَابَهُ فَوَجَدْنَاهُمْ أَقَلَّ خَوْفًا وَرَجَاءً وَإِجْلَالًا لِلَّهِ وَهَيْبَةً مِنَ الْآخَرِينَ. وَكُلٌّ قَدْ يُفَارِقُهُمُ الْإِقْرَارُ وَالتَّصْدِيقُ فَلَمَّا وَجَدْنَاهُمْ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ جَمِيعًا قَدِ اسْتَحَقُّوا اسْمَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ زَايَلُوا بِهِ الْجَحْدَ وَالتَّكْذِيبَ، وَأَنَّهُمْ قَدْ تَفَاضَلُوا بَعْدَ اسْتِحْقَاقِ الِاسْمِ فِي كَثْرَةِ الْإِيمَانِ وَقِلَّتِهِ وَعَظِيمِ قَدْرِهِ فِي الْقُلُوبِ مِنْ تَعْظِيمِ مَعْرِفَتِهِمْ بِالتَّصْدِيقِ بِهِ الَّذِي آمَنُوا بِهِ إِذْ لَا تَبْلُغُ لَهُ غَايَةَ مَعْرِفَةٍ فَيُسَاوِيهِ بِالْعِلْمِ بِنَفْسِهِ جَلَّ عَنْ ذَلِكَ وَتَعَالَى فَدَلَّ تَبَايُنُهُمْ فِيمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُمْ لَمْ يَتَبَايَنُوا الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاحِدًا إِذْ كَانُوا لَا يَنَالُونَ مَا تَبَايَنُوا فِيهِ إِلَّا بِالْإِيمَانِ إِذْ سَقَطَتِ الْمُعَايَنَةُ فَبَعْضُهُمْ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ فِي الْإِيمَانِ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَبَايَنُوا فِي الْإِقْرَارِ بِأَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى عِنْدَهُمْ حَقٌّ لَا بَاطِلٌ إِلَّا بِالْإِيمَانِ وَمَا قَالَ صِدْقٌ لَا كَذِبٌ وَبِمَا وَعَدَ وَتَوَعَّدَ مِنْ عِقَابِهِ وَثَوَابِهِ فَاسْتَوَوْا فِي الْإِقْرَارِ بِأَنَّ اللَّهَ حَقٌّ وَمَا قَالَ وَمَا تَوَاعَدَ وَوَعَدَ وَلَوْ دَخَلَ بَعْضُهُمُ الرَّيْبَ فِي ذَلِكَ لَكَفَرَ، وَالتَّفَاضُلُ لَا يَقَعُ بَيْنَ اثْنَيْنِ حَتَّى يَكُونَ فِي الْمَفْضُولِ مِنْهُمَا مَعْنًى يُسَاوِي بِهِ التَّفَاضُلَ يَسْتَحِقُّ بِهِ مَعَ الِاسْمِ ثُمَّ يَفْضُلُ بِهِ بِأَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ أَفْضَلَ مِمَّا عِنْدَ

⦗ص: 754⦘

الْأَخَرِ فَيُدْرِكُ بِفَضْلِهِ لِأَنَّهُ لَا جَائِزَ أَنْ يُقَالَ فُلَانٌ صَحِيحٌ أَقْوَى بَصَرًا مِنْ فُلَانٍ الْأَعْمَى، وَلَا فُلَانٌ السَّمِيعُ أَقْوَى سَمْعًا مِنْ فُلَانٍ الْأَصَمِّ فَكَذَلِكَ لَا يُقَالُ فُلَانٌ الْمُؤْمِنُ أَقْوَى إِيمَانًا مِنْ فُلَانٍ الْكَافِرِ هَذَا سَاقِطٌ فِي التَّفَاضُلِ لَا يَقُولُهُ ذُو لُغَةٍ وَلَا مَعْقُولٍ فَإِذَا كَانَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الِاسْمَ الَّذِي يُزَايِلُ بِهِ الْعَمَى الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْبَصَرِ، وَلَوْ كَانَ أَقَلَّ قَلِيلِهِ بَعْدَ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِهِ اسْمَ الْبَصَرِ فَيُزَايِلُ بِهِ اسْمَ الْعَمَى فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ أَنْ يُقَالَ فُلَانٌ الْبَصِيرُ أَقْوَى بَصَرًا مِنْ فُلَانٍ إِذْ لِلْمَفْضُولِ مِنَ الْبَصَرِ مَا يَسْتَحِقُّ اسْمَ الْبَصَرِ وَكَذَلِكَ الْقُوَّةُ وَالسَّمْعُ وَلَا سَبِيلَ إِلَى اسْتِبَانَةِ الْأَشْيَاءِ وَإِبْصَارِهَا إِلَّا بِبَصَرٍ وَلَا حَمْلِ الْأَشْيَاءِ إِلَّا بِقُوَّةٍ وَلَا إِدْرَاكَ الْأَصْوَاتِ وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَهَا إِلَّا بِسَمَاعٍ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ بَصِيرَيْنِ نَظَرَ أَحَدُهُمَا اسْتَبَانَ شَيْئًا عَلَى قَدْرِ مِيلٍ وَأَبْصَرَهُ بَيِّنًا وَلَا يَتَبَيَّنُ مَا فَوْقَ ذَلِكَ وَنَظَرَ الْآخَرُ إِلَيْهِ عَلَى رَأْسِ مِيلَيْنِ فَأَبْصَرَهُ وَتَبَيَّنَهُ وَأَبْصَرَ النَّظَرَ إِلَيْهِ فَلَمْ يَرَهُ لَشَهِدَتِ الْعُقُولُ اضْطِرَارًا عَلَى أَنَّ الْمُتَبَيِّنَ لِلشَّيْءِ عَلَى رَأْسِ مِيلَيْنِ أَقْوَى بَصَرًا مِنَ الَّذِي لَمْ يَسْتَبِنْ لَهُ الشَّيْءُ إِلَّا عَلَى رَأْسِ مِيلٍ، وَذَلِكَ مِثْلُ رَجُلٍ تَوَلَّى عَنْهُمَا فَجَعَلَا يَسْتَبِينَانِهِ جَمِيعًا

⦗ص: 755⦘

حَتَّى بَلَغَ رَأْسَ الْمِيلِ ثُمَّ خَفِيَ عَلَى أَحَدِهِمَا فَلَمْ يَرَهُ وَجَعَلَ الْآخَرُ يَتَبَيَّنُهُ حَتَّى رَآهُ عَلَى رَأْسِ مِيلَيْنِ لَشَهِدَتِ الْعُقُولُ أَنَّ هَذَا أَقْوَاهُمَا بَصَرًا إِذْ لَا سَبِيلَ لَهُمَا إِلَى الِاسْتِبَانَةِ إِلَّا بِبَصَرٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ حَمَلَ أَحَدُهُمَا مِئَةَ رَطْلٍ فَزِيدَ عَلَيْهِ عَشَرَةٌ فَأَلْقَاهَا وَلَمْ يُطِقْهَا وَزِيدَ عَلَى الْآخَرِ خَمْسُونَ أُخْرَى لَشَهِدَتِ الْعُقُولُ بِأَنَّ هَذَا أَشَدُّهُمَا قُوَّةً وَإِنْ كَانَ عِنْدَ هَذَا مِنَ الْقُوَّةِ مَا زَايَلَ بِهِ الزَّمَانَةَ. وَكَذَلِكَ السَّمْعُ فَلَمَّا كَانَتِ الْأَبْصَارُ لَا يُنَالُ بِهَا اسْتِبَانَةُ الْأَشْيَاءِ إِلَّا بِقَدْرِ قُوَاهَا، وَلَا الْقَوِيُّ يَنَالُ بِهَذَا الْحِمْلِ إِلَّا بِقَدْرِ الْقُوَى. وَكَذَلِكَ إِدْرَاكُ الْأَصْوَاتِ لَا تُدْرَكُ إِلَّا بِقَدْرِ قُوَى الْأَسْمَاعِ فَلَمَّا تَفَاوَتُوا فِي ذَلِكَ شَهِدَتِ الْقُلُوبُ بِاضْطِرَارِ أَنَّهُمْ لَيْسُوا فِيهَا مُسْتَوِينَ، وَإِنْ كَانَ فِي أَوَّلِهَا لَا يَتَفَاوَتُونَ فَكَذَلِكَ شَهِدَتِ الْعُقُولُ إِذَا تَدَبَّرَتِ الْإِيمَانَ وَعَلِمَتْ أَنَّهُ إِذَا كَانَ لَا يُنَالُ خَوْفٌ وَلَا رَجَاءٌ لِلَّهِ وَلَا إِجْلَالٌ وَلَا هَيْبَةٌ وَلَا مُسَارَعَةٌ إِلَى طَاعَةٍ إِلَّا بِالْإِيمَانِ إِذْ سَقَطَتِ الْمُعَايَنَةُ فَكَانَ مَا يُنَالُ بِهِ هَذِهِ الْأَخْلَاقُ كُلِّهَا إِيمَانًا لَا غَيْرَهُ

⦗ص: 756⦘

فَإِذَا تَدَبَّرَتِ الْعُقُولُ ذَلِكَ شَهِدَتْ أَنَّهُمْ لَوْلَا أَنَّ الْخَائِفِينَ وَالْمُطِيعِينَ لِلَّهِ فَضُلُوا الْعَاصِينَ الَّذِينَ قَلَّ خَوْفُهُمْ مِنْهُ وَتَعْظِيمُهُمْ لَهُ فِي الْإِيمَانِ لَمَا تَفَاوَتُوا فِي هَذِهِ الْأَخْلَاقِ فَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ أَنَّهُمْ فِيهِ مُتَفَاوِتُونَ وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا كَانُوا فِي الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَالتَّعْظِيمِ، وَالْإِجْلَالِ، وَالْهَيْبَةِ مُخْتَلِفَيْنِ فَلَوْ جَازَ أَنْ يَسْتَوُوا فِي الْإِيمَانِ وَلَا سَبِيلَ إِلَى هَذِهِ الْأَخْلَاقِ إِلَّا بِهِ وَمِنْهُ ثُمَّ يَتَفَاوَتُونَ فِي هَذِهِ الْأَخْلَاقِ لَجَازَ أَنْ يَسْتَوُوا فِي قُوَى الْأَبْصَارِ، ثُمَّ يَخْتَلِفُونَ فِي الِاسْتِبَانَةِ مِنَ الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ وَيَسْتَوُوا فِي الْقُوَى وَيَخْتَلِفُوا فِي الْحَمْلِ وَالْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ فَيَكُونَانِ جَمِيعًا فِي الْقُوَّةِ يَسْتَوِيَانِ، وَيَخْتَلِفَانِ فِي الْحَمْلِ فَيَحْمِلُ أَحَدُهُمَا خَمْسَمِائَةِ رَطْلٍ، وَالْآخَرُ لَا يُطِيقُ إِلَّا مِائَةً فَإِنِ اسْتَحَالَ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ هُوَ فِي الْإِيمَانِ مُسْتَحِيلٌ لَا فُرْقَانَ بَيْنَهُمَا. فَإِنْ قَالَ جَاهِلٌ لَا يَعْرِفُ اللُّغَةَ وَلَا التَّمْيِيزَ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ بِالْمَعْقُولِ وَلَا كَيْفَ أُصُولُ الطَّاعَاتِ فَقَالَ: إِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْأَخْلَاقِ بِالتَّوْفِيقِ لِأَنَّ اللَّهَ عز وجل وَفَّقَ بَعْضَهُمْ وَلَمْ يُوَفِّقِ الْآخَرَ

⦗ص: 757⦘

. قِيلَ لَهُمْ: لَيْسَ فِي الْقَدْرِ نَازَعْنَاكُمْ وَقَدْ أَجْمَعْنَا أَنَّهُ بِالتَّوْفِيقِ وَلَكِنْ كَيْفَ وَفَّقَ مَنْ كَثُرَ خَوْفُهُ وَرَجَاؤُهُ وَقَوَّى تَعْظِيمَهُ وَثِقَتَهُ وَتَوَكُّلَهُ بِأَنْ أَلْزَمَ قَلْبَهُ ذَلِكَ كَمَا أَلْزَمَهُ نَاظِرَ عَيْنِهِ لَمْ يَكُنْ عَنْ مَعْرِفَةٍ بِمَا خُوِّفَ بِهِ وَلَا عَنْ ذِكْرٍ لِلَّهِ وَلَا هُوَ مُخْتَارٌ لَهُ فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ بِمُكْتَسِبٍ وَلَا عَامِلٍ إِلَّا وَفَّقَهُ بِأَنْ وَهَبَ لَهُ التَّذَكُّرَ وَالتَّفَكُّرَ فَعَقَلَ عَنْهُ مَا قَالَ فَعَظُمَتْ بِذَلِكَ مَعْرِفَتُهُ وَقَوِيَ بِهِ إِيمَانُهُ فَعَظُمَ خَوْفُهُ وَرَجَاؤُهُ. قَالُوا: جَائِزٌ أَنْ يَلْزَمَ ذَلِكَ قَلْبَهُ بِلَا تَذَكُّرٍ وَلَا عَنْ مَعْرِفَةٍ بِمَا خُوِّفَ بِهِ وَلَا اخْتِيَارٍ لَهُ كَالسَّحَرَةِ أَلْزَمَ قُلُوبَهُمُ الْخَوْفَ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذَلِكَ طَلَبٌ مِنْهُمْ وَلَا مَعْرِفَةٌ وَلَا ذِكْرٌ وَلَا اخْتِيَارٌ. قِيلَ لَهُمْ: لَوْ كَانَ كَمَا تَقُولُونَ مَا كَانَ ذَلِكَ لَهُمْ عَمَلًا وَلَا مُدِحُوا بِهِ كَمَا لَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ جَمَالُ وُجُوهِهِمْ لَهُمْ عَمَلًا وَلَا صِحَّةُ أَجْسَامِهِمْ. فَإِنْ قَالُوا: كُلُّ حَسَنٍ يُلْزِمُهُ اللَّهُ الْعَبْدَ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ مِنْهُ لَيْسَ مِنَ الطَّاعَاتِ فَلَيْسَ هُوَ لَهُ بِعَمَلٍ وَلَا يُثَابُ عَلَيْهِ، وَكُلُّ مَا أُلْزِمَ مِنَ الطَّاعَةِ لِلَّهِ فَهُوَ لَهُ عَمَلٌ. قِيلَ لَهُمُ: الْعِلَّتَانِ وَاحِدَةٌ وَإِنَّمَا أَنْتُمْ تَدَّعُونَ وَلَمْ تَأْتُوا بِتَفْرِقَةٍ وَقَدْ دَلَّ الْكِتَابُ عَلَى خِلَافِ مَا قُلْتُمْ لِأَنَّ اللَّهَ

⦗ص: 758⦘

وَصَفَ الْخَائِفِينَ بِالتَّذَكُّرِ وَالتَّفَكُّرِ، وَأَخْرَجَ مِنْهُمْ مَنْ لَيْسَ بِمُتَذَكِّرٍ وَلَا مُتَفَكِّرٍ فَقَالَ:{لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد: 3] فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مَنْ عَقَلَ وَلَمْ يَتَفَكَّرْ كَانَ اللَّهُ فِيمَا قَالَ اللَّهُ عز وجل آيَةً فَقَدْ عَارَضَ اللَّهَ، وَمَا قَالَ بِرَدٍّ، وَقَدْ أَخْبَرَنَا عَنِ السَّحَرَةِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى كَذِبِ دَعْوَاكُمْ لِقَوْلِهِمْ:{إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا} [طه: 73] فَلَا شَاهِدَ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَصْدَقَ مِنَ اللَّهِ يُخْبِرُكَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِقَصْدٍ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَاخْتِيَارٍ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ أَرَادَ مِنْهُمْ أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ ثُمَّ قَالُوا: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا} [طه: 74] فَعَبَّرُوا عَنْ عَقْلِهِمْ عَنِ اللَّهِ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ فَهَذَا الِاكْتِسَابُ وَمَا سِوَاهُ اضْطِرَارًا. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: فَإِنْ قَالُوا: بَلْ وَفَّقَهُمْ بِأَنْ وَهَبَ لَهُمُ التَّذَكُّرَ وَالتَّفَكُّرَ فَعَقَلُوا عَنْهُ فَخَافُوهُ. قِيلَ: فَكَذَلِكَ وَفَّقَهُمْ حَتَّى عَقَلُوا عَنْهُ فَصَدَّقُوا بِهِ جَمِيعًا أَنَّهُ حَقٌّ ثُمَّ تَفَاوَتُوا فِي التَّصْدِيقِ حَتَّى كَانَ أَحَدُهُمْ كَأَنَّمَا يُعَايِنُ مَا صَدَّقَ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ

ص: 740

794 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أنا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ:" كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَرَأَ رَجُلٌ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا وَقَرَأَ صَاحِبُهُ غَيْرَهَا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اقْرَأَا» فَقَرَأَا، فَقَالَ: أَحْسَنْتُمَا وَأَصَبْتُمَا، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ سَقَطَ فِي نَفْسِي شَيْءٌ وَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَا قَدْ غَشِيَنِي ضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِي فَارْفَضَّيْتُ عَرَقًا وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَبِّي، ثُمَّ قَالَ لِي: «يَا أُبَيُّ إِنَّ رَبِّي أَرْسَلَ إِلَيَّ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ ".

⦗ص: 760⦘

795 -

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَسَأَلَ جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْإِحْسَانِ فَقَالَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ.،

796 -

وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِحَارِثَةَ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ قَالَ: أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا، قَالَ: وَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ؟ قَالَ: عَرَفْتُ نَفْسِي فِي الدُّنْيَا فَأَسْهَرْتُ لِيَلِي، وَأَظْمَأْتُ نَهَارِي فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزًا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا وَإِلَى أَهْلِ النَّارِ فِي النَّارِ قَالَ: " أَبْصَرْتَ فَالْزَمْ،

797 -

وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ قَالَ: عَبْدٌ نَوَّرَ اللَّهُ الْإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ فَكَذَلِكَ يَتَفَاضَلُونَ فِي التَّصْدِيقِ.

798 -

كَمَا رَوَى عَنِ الْحَسَنِ، وَذَكَرَ، هَذِهِ الْآيَاتِ:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] قَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا جَاءَتْهُمْ هَذِهِ الدَّعْوَةُ مِنَ اللَّهِ صَدَّقُوا بِهَا فَوَصَلَ نَفْعُهَا إِلَى قُلُوبِهِمْ فَخَشَعَتْ لِذَلِكَ قُلُوبُهُمْ وَأَسْمَاعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ، فَكُنْتُ إِذَا رَأَيْتُهُمْ

⦗ص: 761⦘

رَأَيْتُ قَوْمًا كَأَنَّمَا يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ رَأَيَ الْمُتَّقِينَ أَفَلَا تَرَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَالْعُلَمَاءَ مِنْ بَعْدِهِ يَدُلُّونَ عَلَى أَنَّ التَّصْدِيقَ يَتَفَاوَتُ فِي شِدَّةِ الْيَقِينِ وَالْبَصَائِرِ وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى تَحْقِيقِ الْمَثَلِ الَّذِي ضَرَبْنَا فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: فَلِمَ لَا يُسَمَّى النَّظَرُ جُزْءًا مِنَ النَّاظِرِ، وَالِاسْتِمَاعُ جُزْءًا مِنَ السَّمْعِ وَالْحَمْلُ جُزْءًا مِنَ الْقُوَى قِيلَ لَهُمْ إِنَّمَا ضَرَبْنَا لَكَ مَثَلًا لِتَصْدِيقِ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَ الْأَعْمَالِ فَلَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ اللُّغَةِ أَنَّ النَّظَرَ مِنَ الْبَصَرِ، وَالطَّاقَةُ مِنَ الْقُوَى، وَالِاسْتِمَاعُ مِنَ السَّمْعِ فَكَذَلِكَ هَذِهِ الْأَخْلَاقُ مِنَ التَّصْدِيقِ وَكُلُّهَا تُضَافُ إِلَى الْإِيمَانِ فِي الِاسْمِ. فَإِنْ قَالُوا: فَلَيْسَ الِاسْتِمَاعُ فِي عَيْنِهِ غَيْرُ السَّمْعِ وَالنَّظَرُ غَيْرُ الْبَصَرِ لِأَنَّ الْبَصَرَ وَالسَّمْعَ فِعْلُ اللَّهِ، وَالِاسْتِمَاعُ وَالنَّظَرُ فِعْلُ الْعَبْدِ. قِيلَ لَهُمْ: هُوَ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّ الشَّيْءَ يَكُونُ مِنَ الشَّيْءِ عَلَى جِهَتَيْنِ وَإِنْ كَانَا غَيْرَيْنِ فَأَحَدُهُمَا لَا يُوجِبُ

⦗ص: 762⦘

الْآخَرَ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ وَلَا يَكُونَ الْآخَرُ، هَلِ الْكَلَامُ إِلَّا مِنَ اللِّسَانِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ اللِّسَانُ وَلَا يَكُونُ الْكَلَامُ فَأَمَّا الْبَصَرُ الصَّحِيحُ إِذَا لَاقَتْهُ الْأَشْخَاصُ فَلَا جَائِزَ إِلَّا أَنْ يُوجِبَ نَظَرَ اسْتِبَانَةٍ، وَكَذَلِكَ الْأَسْمَاعُ إِذَا ظَهَرَتْ لَهَا الْأَصْوَاتُ فَلَا جَائِزَ إِلَّا أَنْ تُوجِبَ دَرَكًا لِلْأَصْوَاتِ كَالنَّارِ إِذَا لَاقَتِ الْمَاءَ فَلَا جَائِزَ إِلَّا أَنْ تُوجِبَ تَسْخِينًا، وَكَذَلِكَ الثَّلْجُ إِذَا لَاقَى الْأَشْيَاءَ الْقَابِلَةَ لِلْبَرْدِ فَلَا جَائِزَ إِلَّا أَنْ يُوجِبَ تَبْرِيدًا. فَإِنْ قَالُوا: قَدْ نَرَى مِنَ النَّارِ الْيَسِيرَ الَّذِي لَا يُوجِبُ مِثْلَهُ التَّسْخِينُ وَلَا الْإِحْرَاقُ وَكَذَلِكَ الثَّلْجُ قِيلَ لَهُمْ إِنَّهُ وَإِنْ قَلَّ كُلُّ جُزْءٍ مِنْهَا فَإِنَّهُ فِي نَفْسِهِ مُبَرِّدٌ وَمُسَخِّنٌ لِأَنَّهُ إِذَا ضُمَّ إِلَى الْآخَرِ الَّذِي مِنْ جِنْسِهِ سَخَّنَ أَوْ أَحْرَقَ أَوْ بَرَّدَ فَلَيْسَ مِنْهَا جُزْءٌ أَوْجَبَ التَّسْخِينَ وَالتَّبْرِيدَ دُونَ الْجُزْءِ الْآخَرِ، وَالَّذِي انْفَرَدَ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ تَسْخِينٌ وَلَا تَبْرِيدٌ فَإِذَا ضُمَّ إِلَى الْأَجْزَاءِ الْمُسَخَّنَةِ وَالْمُبَرَّدَةِ أَخَذَ بِقِسْطِهِ مِنَ التَّسْخِينِ أَوِ التَّبْرِيدِ وَكُلُّهَا مُوجِبَةٌ لِلتَّسْخِينِ أَوِ التَّبْرِيدِ لَيْسَ مِنْهَا جُزْءٌ مُوجِبًا لِذَلِكَ دُونَ الْآخَرِ. فَإِنْ قَالُوا: أَلَيْسَ إِذَا انْفَرَدَ أَقَلُّ أَجْزَائِهَا عَلَى حَالٍ لَمْ يَكُنْ تَسْخِينٌ وَلَا إِحْرَاقٌ وَلَا تَبْرِيدٌ؟

⦗ص: 763⦘

قُلْنَا: وَإِنْ لَمْ تُوجِبْ فَإِنَّ فِيهِ التَّسْخِينُ وَالْإِحْرَاقُ وَالتَّبْرِيدُ وَكَذَلِكَ أَقَلُّ قَلِيلِ الْإِيمَانِ لَا يُوجِبُ الْخَوْفَ الْمُزْعِجَ عَلَى تَرْكِ مَا كَرِهَ اللَّهُ وَلَا الرَّجَاءَ الْمُزْعِجَ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا أَحَبَّ اللَّهُ فَإِذَا انْضَمَّتْ إِلَيْهِ أَجْزَاءٌ مِنْ جِنْسِهِ أَوْجَبَ الْخَوْفَ الْمُزْعِجَ عَنْ كُلِّ مَا كَرِهَ اللَّهُ لَا يَقْدِرُ صَاحِبُهُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَلَا يَتَمَالَكُ. فَكَذَلِكَ الرَّجَاءُ، وَالْحُبُّ، وَالْهَيْبَةُ وَالتَّعْظِيمُ وَالْإِجْلَالُ لِلَّهِ، وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ. فَإِنْ قَالُوا: فَقَدْ وَجَدْنَا أَقَلَّ قَلِيلِ الْإِيمَانِ إِنْ زَايَلَهُ أَقَلُّ قَلِيلِ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَالْحُبِّ لِلَّهِ كَانَ كَافِرًا وَلَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُحِبَّ لِلَّهِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ لَا يَهَابُهُ فَهُوَ كَافِرٌ لِأَنَّهُ عَرَفَ رَبَّهُ وَاعْتَرَفَ بِهِ أَوْجَبَتْ مَعْرِفَتُهُ حُبَّهُ وَهَيْبَتَهُ وَرَجَاءَهُ وَخَوْفَهُ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ أُعْطِي الدُّنْيَا كُلَّهَا عَلَى أَنْ تَكْفُرَ بِهِ أَوْ تَكْذِبَ عَلَيْهِ مَا فَعَلَ وَإِنْ أَتَى بِكُلِّ الْعِصْيَانِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَوْلَا أَنَّهُ مُحِبٌّ مَا آثَرَهُ عَلَى كُلِّ مَحْبُوبٍ مِنَ الدُّنْيَا، وَكَذَلِكَ تَهَابُهُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ مُعْتَقِدًا لِلْكُفْرِ يَقْبَلُهُ، أَوْ قَائِلٌ عَلَيْهِ بِلِسَانِهِ، وَمَنْ لَمْ يَهَبْ غَيْرُهُ مِنَ الْخَلْقِ فَقَدِ اسْتَخَفَّ بِهِ وَمَنْ لَمْ يُجِلَّهُ فَقَدْ صَغَّرَ

⦗ص: 764⦘

قَدْرَهُ فَكَذَلِكَ الْخَالِقُ مَنْ لَمْ يَهَبْهُ وَلَمْ يُجِلَّهُ وَلَمْ يَعْرِفْهُ. وَكَذَلِكَ أَقَلُّ أَجْزَاءِ النَّارَ أَوِ الثَّلْجِ قَدْ تُوجِبُ الْحَرْقَ وَالتَّسْخِينَ لَا مَحَالَةَ وَلَوْ لَمْ يُوجِبْهُ لَكَانَتِ النَّارُ مُتَقَلِّبَةً عَنْ شَبَحِ النَّارِيَّةِ، وَكَانَ الثَّلْجُ مُتَقَلِّبًا عَنْ شَبَحِ الثَّلْجِيَّةِ. فَإِنْ قَالُوا: فَلَسْنَا نَرَى ذَلِكَ، وَلَا نَعْرِفُهُ. قِيلَ: إِنَّمَا مَنَعَكُمْ مِنْ ذَلِكَ قِلَّةُ مَعْرِفَتِكُمْ بِالْأَشْيَاءِ كَيْفَ صَنَعَهَا اللَّهُ عز وجل وَنَحْنُ نُرِيكُمْ ذَلِكَ إِنَّمَا امْتَنَعَ الْأَبْصَارُ أَنْ تَرَى ذَلِكَ أَنَّ الْقَلِيلَ مِنَ النَّارِ إِذَا لَاقَى جُزْءًا مِنَ الْحَطَبِ أَقْوَى مِنْهُ لَمْ تُحْرِقْهُ وَغَلَبَهُ الْجُزْءُ مِنَ الْحَطَبِ فَأَطْفَأَهُ وَإِذَا لَاقَى جُزْءًا أَضْعَفَ مِنْهُ أَحْرَقَهُ أَوْ سَخَّنَهُ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الشَّرَارَةَ الضَّعِيفَةَ إِذَا لَاقَتِ الْحَرِيرَ أَحْرَقَتْهُ، وَإِذَا لَاقَتْ مَا فَوْقَهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ لَمْ تَعْمَلْ فِيهِ وَقَهَرَهَا بِقُوَّةِ طَبْعِهِ وَكَذَلِكَ الثَّلْجُ لَوْ أُلْقِيَتْ مِنْهُ حَبَّةٌ فِي مَاءٍ جَارٍ مَا وَجَدْتَ لَهُ تَبْرِيدًا، وَلَوْ أُلْقِيَتْ تِلْكَ الْحَبَّةُ عَلَى حَدَقَةِ الْإِنْسَانِ أَوْ عَلَى لِسَانِهِ لَأَحَسَّ تَبْرِيدَهَا فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ طَبْعَهَا فِيهَا قَائِمٌ أَبَدًا، وَكَذَلِكَ

⦗ص: 765⦘

كُلُّ مُوجِبٌ لِشَيْءٍ لَا مَحَالَةَ فَهُوَ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ عَلَى التَّجْزِئَةِ فَإِنَّهُ مُضَافٌ إِلَيْهِ لَا يَمْتَنِعُ أَحَدٌ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُضِيفُهُ إِلَيْهِ فَكَذَلِكَ التَّصْدِيقُ يُضَافُ إِلَيْهِ مَا هُوَ مُوجِبَةٌ لَا مَحَالَةَ وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ اضْطِرَارًا لِأَنَّكُمْ نَوْعَانِ نَوْعٌ مِنْكُمْ وَهُمْ جُمْهُورُكُمْ وَعَامَّتُكُمْ يَقُولُونَ إِنَّ الْمَعْرِفَةَ لَا يَكُونُ فِي عَيْنِهَا إِيمَانًا يَمْنَعُكُمْ مِنْ ذَلِكَ شَهَادَةُ اللَّهِ تبارك وتعالى عَلَى قُلُوبِ مَنْ سُمِّيَ بِالْكُفْرِ أَنَّهَا عَالِمَةٌ مُؤْقِنَةٌ فَزَعَمْتُمْ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ لَيْسَتْ فِي عَيْنِهَا إِيمَانًا حَتَّى يَكُونَ مَعَهُ الْإِقْرَارُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: لَا تَكُونُ الْمَعْرِفَةُ إِيمَانًا حَتَّى يَكُونَ مَعَهُ الْخُضُوعُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: لَا تَكُونُ الْمَعْرِفَةُ إِيمَانًا حَتَّى يَكُونَ مَعَهَا الْخُضُوعُ وَالْإِقْرَارُ. ثُمَّ زَعَمَ مَنْ قَالَ مِنْكُمْ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ عَلَى تَعَرُّفِكُمْ أَنَّ الْخُضُوعَ إِيمَانٌ مَعَ الْمَعْرِفَةِ، وَالْإِقْرَارُ كَذَلِكَ، وَالتَّصْدِيقُ كَذَلِكَ، وَلَيْسَتِ الْمَعْرِفَةُ هِيَ الْخُضُوعُ وَلَا الْإِقْرَارُ وَلَا التَّصْدِيقُ وَلَكِنْ مَعْرِفَةٌ أَوْجَبَتْ ذَلِكَ كُلَّهُ. فَهَلْ تَجِدُونَ بَيْنَ مَا قُلْتُمْ وَبَيْنَ مَا قَالَ مُخَالِفُوكُمْ فُرْقَانًا

⦗ص: 766⦘

إِذْ سَمَّوْا إِيمَانًا مَا أَوْجَبُهُ التَّصْدِيقُ وَسَمَّيْتُمْ إِيمَانًا مَا أَوْجَبَتْهُ الْمَعْرِفَةُ بَلْ هُمْ قَدِ ادَّعَوُا الصِّدْقَ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا جَعَلُوا الْأَعْمَالَ إِيمَانًا مِنَ الْمَعْرِفَةِ الْقَوِيَّةِ، وَالتَّصْدِيقُ الْقَوِيُّ يُوجِبُهُ الْعَمَلُ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ عِنْدَهُمُ التَّصْدِيقُ يَتَفَاوَتُ، وَمَا ادَّعَيْتُمْ مِنَ الْمَعْرِفَةِ لَا يُوجِبُ التَّصْدِيقَ وَالْخُضُوعَ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ لَا يَتَفَاوَتُ وَقَدْ شَهِدَ اللَّهُ وَأَقْرَرْتُمْ بِذَلِكَ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ فِي قُلُوبِ الْكُفَّارِ فَلَوْ كَانَتْ تُوجِبُ الْخُضُوعَ وَالتَّصْدِيقَ وَالْإِقْرَارَ مَا جَامَعَتِ الْكُفْرَ أَبَدًا، لِأَنَّ الْخُضُوعَ وَالْإِقْرَارَ وَالتَّصْدِيقَ فِي قَوْلِنَا وَقَوْلِكُمْ إِيمَانٌ وَهُوَ ضِدُّ الْكُفْرِ فَلَوْ كَانَتْ تُوجِبُ ذَلِكَ مَا قَارَنَهَا الْكُفْرُ أَبَدًا فَلَمَّا وَجَدْنَا عَارِفًا كَافِرًا، وَعَارِفًا مُؤْمِنًا عِنْدَنَا وَعِنْدَكُمُ اسْتَحَالَ أَنْ تُوجِبَ الْمَعْرِفَةُ الْإِيمَانَ إِذَا كَانَتْ لَا تَتَفَاوَتُ، وَلَا جَائِزَ أَنْ تُوجِبَ خُضُوعًا، وَلَا إِقْرَارًا أَبَدًا إِنْ كَانَتْ لَا تَتَفَاوَتُ فَقَدْ زَعَمْتُمْ أَنَّ أَصْلَ الْإِيمَانِ الْمَعْرِفَةَ فَإِذَا كَانَ مَعَهَا الْخُشُوعُ وَالتَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ كَانَ جَمِيعُ ذَلِكَ إِيمَانًا فَقَدْ ضَمَمْتُمْ إِلَى الْمَعْرِفَةِ مَا لَيْسَ جُزْءًا مِنْهَا وَلَا هِيَ مُوجِبَةٌ لَهُ فَدَعْوَى مُخَالِفِيكُمْ فِي إِضَافَتِهِمْ أَصْدَقُ وَأَبَيَنُ لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ عِنْدَهُمْ يَتَفَاوَتُ لَهَا أَوَّلٌ وَأَعْلَى، وَكَذَلِكَ التَّصْدِيقُ لَهُ أَوَّلٌ وَأَعْلَى فَإِذَا

⦗ص: 767⦘

عَظُمَتِ الْمَعْرِفَةُ أَوْجَبَتِ الْعَمَلَ لَا مَحَالَةَ فَجَعَلُوا مِنَ الْإِيمَانِ وَأَضَافُوا إِلَيْهِ مَا أَوْجَبَهُ عَظِيمُ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّصْدِيقِ فَقَدْ وَافَقْتُمُوهُمْ عَلَى مِثْلِ مَا خَالَفُتُمُوهُمْ، وَيُصَدِّقُ دَعْوَاكُمْ وَلَمْ تَقُودُوا قَوْلَكُمْ. وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ عِنْدَكُمْ إِذَا انْفَرَدَتْ لَيْسَتْ بِإِيمَانٍ فَإِذَا جَامَعَهَا الْخُضُوعُ وَالْإِقْرَارُ وَالتَّصْدِيقُ صَارَتِ الْمَعْرِفَةُ إِيمَانًا فَكَانَتْ فِي عَيْنِهَا وَحْدَهَا لَا إِيمَانَ فَلَمَّا ضُمَّ إِلَيْهَا غَيْرُهَا انْقَلَبَتْ فَصَارَتْ إِيمَانًا؟ وَقَالَ مُخَالِفُوكُمُ: الْإِيمَانُ أَصْلٌ إِذَا ضُمَّ إِلَيْهِ ازْدَادَ بِهِ وَلَا يَتَقَلَّبُ. وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ إِضَافَتُكُمْ إِلَى التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ الْقَوْلَ الَّذِي لَيْسَ مِنَ الْمَعْرِفَةِ فِي شَيْءٍ لِأَنَّ الْقَوْلَ أَجْزَاءٌ مُؤَلَّفَةٌ فِي صَوْتٍ عَنْ حَرَكَةِ لِسَانٍ، وَالْمَعْرِفَةُ عَقْدٌ بِضَمِيرِ الْقَلْبِ لَيْسَتْ بِصَوْتٍ وَلَا حُرُوفٍ وَلَا حَرَكَةٍ فَأَضَفْتُمْ إِلَى الْمَعْرِفَةِ مَا لَيْسَ فِيهَا وَلَا يُشْبِهُهَا وَلَا هِيَ مُوجِبَةٌ لَهُ إِلَّا أَنَّ بَعْضَهُمْ يَزْعُمُ أَنَّ التَّصْدِيقَ يُوجِبُ الْقَوْلَ وَهُوَ وَإِنْ أَوْجَبَهُ فَلَيْسَ الْقَوْلُ مِنْ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ فِي شَيْءٍ إِذِ الْقَوْلُ حُرُوفٌ مُؤَلَّفَةٌ فِي صَوْتٍ عَنْ حَرَكَةٍ وَلَيْسَ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ كَذَلِكَ فَأَضَفْتُمْ إِلَيْهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ وَلَا يُشْبِهُهُ ثُمَّ زَعَمْتُمْ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا إِلَّا بِهِ فَهَذَا أَعْجَبُ مَنْ

⦗ص: 768⦘

قَوْلِ مُخَالِفِيكُمْ فَقَدْ قَايَسْنَاكُمْ عَلَى اللُّغَةِ وَالْمَعْقُولِ فَتَبَيَّنَ دَحْضُ حُجَّتِكُمْ وَبُطْلَانُ دَعْوَاكُمْ وَأَوْلَى بِالْحَقِّ اتِّبَاعِهِ مَنْ أَرَادَ اللَّهَ وَخَافَهُ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَزَعَمَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُرْجِئَةِ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْمَعْرِفَةُ وَالْإِقْرَارُ، وَأَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ فَمَنْ دُونَهُمْ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا مِنَ الْإِيمَانِ بِشَيْءٍ إِلَّا أَمَرَ بِهِ غَيْرَهُ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ مِنَ الْإِيمَانِ بِشَيْءٍ إِلَّا أَمَرَ بِهِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَلْزَمُ فَرْضُهُ إِلَّا جُمْلَةً، وَلَا يَحْدُثُ مِنْهُ شَيْءٌ بَعْدَ شَيْءٍ، وَلَا يَأْتِي أَحَدٌ مِنْهُ بِشَيْءٍ بَعْدَ شَيْءٍ إِلَّا كَانَ كَافِرًا. فَيُقَالُ لَهُمْ: خَبِّرُونَا عَنْ أَهْلِ زَمَانِ مُوسَى وَعِيسَى هَلْ كَانَ مِنْ إِيمَانِهِمْ أَنْ يَعْلَمُوا وَيَعْتَقِدُوا التَّصْدِيقَ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ مُحَمَّدًا رَسُولًا؟ فَإِنْ قَالُوا: لَمْ يَكُنْ مِنْ إِيمَانِهِمْ أَنْ يَعْلَمُوا وَيَعْتَقِدُوا أَنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ مُحَمَّدًا رَسُولًا، وَلَكِنْ كَانَ مِنْ إِيمَانِهِمْ أَنْ يَعْلَمُوا وَيَعْتَقِدُوا أَنَّ اللَّهَ سَيَبْعَثُ مُحَمَّدًا رَسُولًا. قِيلَ لَهُمْ: فَهَلْ مِنْ إِيمَانِنَا الْيَوْمَ أَنْ نَعْلَمَ، وَنَعْتَقِدَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ مُحَمَّدًا رَسُولًا؟ فَإِنْ قَالُوا: وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ أَوْجَبُوا عَلَيْنَا مِنَ

⦗ص: 769⦘

الْإِيمَانِ مَا لَمْ يُوجِبُوهُ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَنَا فَهَذَا نَقْضٌ لِمَا بَنَوْا عَلَيْهِ أَصْلَهُمْ، وَخُرُوجٌ مِنْ جُمْلَةِ قَوْلِهِمْ. وَإِنْ قَالُوا: الْعِلْمُ وَالِاعْتِقَادُ بِأَنَّ اللَّهَ سَيَبْعَثُ مُحَمَّدًا رَسُولًا لِأَنَّا قَدْ عَلِمْنَا بِأَنَّهُ قَدْ بَعَثَهُ رَسُولًا، وَأَهْلُ الزَّمَانِ الْأَوَّلِ قَدْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ مُحَمَّدًا رَسُولًا إِذْ كَانُوا قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ سَيَبْعَثُهُ رَسُولًا وَهَذَا هُوَ الْخُلْفُ مِنَ الْكَلَامِ، وَالتَّنَاقُضُ مِنَ الْمَقَالِ. وَيُقَالُ لَهُمْ: خَبِّرُونَا عَنْ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ بِذِكْرِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ زَمَانِ مُوسَى وَعِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ آمَنَ بِمُوسَى وَعِيسَى وَجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ جُمْلَةً هَلْ يَكُونُ مُؤْمِنًا؟ فَإِنْ قَالُوا: لَا، قِيلَ لَهُمْ: وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ بِذِكْرِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ وَجَمِيعِ مَا فَرَضَ اللَّهُ عز وجل وَجَمِيعِ مَا أَحَلَّ وَحَرَّمَ، فَجَهِلَ بِشَيْءٍ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ بِهِ، وَلَمْ يَفْتَرِضْهُ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا وَهُوَ مُقِرٌّ مُصَدِّقٌ بِمُوسَى وَعِيسَى، وَبِجَمِيعِ مَا جَاءَا بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. فَإِنْ قَالُوا: لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا مَنْ لَمْ يَعْرِفْ مِنْهُمْ جَمِيعَ ذَلِكَ، وَلَمْ يُقِرَّ بِهِ خَرَجُوا مِنْ قَوْلِ أَهْلِ الصَّلَاةِ، وَلَا يَقُولُ

⦗ص: 770⦘

هَذَا مُسْلِمٌ. وَإِنْ قَالُوا: هُوَ مُؤْمِنٌ إِذْ آمَنَ بِمُوسَى وَعِيسَى وَبِمَا جَاءَا بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ بِذِكْرِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الشَّرَائِعِ. قِيلَ لَهُمْ: فَإِنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ، وَعَلِمَ أَنَّ مُحَمَّدًا سَيُبْعَثُ أَوْ أَدْرَكَ زَمَانَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَعَلِمَ وَأَقَرَّ بِهِ وَصَدَّقَ بِهِ هَلْ حَدَثَ لَهُ مِنَ الْإِيمَانِ شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ، أَوْ أَصَابَ مِنَ الْإِيمَانِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ أَصَابَهُ قَبْلَ ذَلِكَ؟ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ فَقَدْ رَجَعُوا عَنْ قَوْلِهِمْ. وَإِنْ قَالُوا: لَمْ يُصِبْ بِعِلْمِهِ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَإِقْرَارِهِ بِهِ إِيمَانًا لَمْ يَكُنْ أَصَابَهُ قَبْلَ ذَلِكَ. قِيلَ لَهُمْ: فَإِنْ جَهِلَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بَعْدَ مَا بَعَثَهُ اللَّهُ أَوْ عَلِمَهُ فَلَمْ يُقِرَّ بِهِ، وَأَقَامَ عَلَى أَمْرِهِ الْأَوَّلِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ مُسْتَكْمِلُ الْإِيمَانِ؟ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ خَرَجُوا مِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَلَيْسَ هَذَا قَوْلُهُمْ، وَإِنْ قَالُوا: إِذَا جَهِلَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بَعْدَ مَا بَعَثَهُ اللَّهُ أَوْ عَرَفَهُ فَلَمْ يُقِرَّ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ. قِيلَ لَهُمْ: فَهَلْ يَكُونُ كَافِرًا إِلَّا بِتَرْكِ الْإِيمَانِ؟

⦗ص: 771⦘

فَإِنْ قَالُوا: لَا فَقَدْ أَقَرُّوا بِزِيَادَةِ الْإِيمَانِ، وَوَجَبَ عَلَيْهِمْ فَرْضُهُ بَعْدَ مَا بُعِثَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم. وَيُقَالُ لَهُمْ: قَالَ اللَّهُ عز وجل: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ، وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} [النساء: 164] . خَبِّرُونَا عَنْ أُولَئِكَ الَّذِي أَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ هَؤُلَاءِ الرُّسُلَ الَّذِينَ لَمْ يَقْصُصْهُمْ عَلَيْنَا، وَلَمْ يُخْبِرْنَا بِأَسْمَائِهِمْ هَلْ كَلَّفَهُمُ اللَّهُ الْمَعْرِفَةَ بِهَؤُلَاءِ الرُّسُلِ بِأَعْيَانِهِمْ وَأَسْمَائِهِمْ؟ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ، وَلَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ قِيلَ لَهُمْ: فَقَدْ لَزِمَ أُولَئِكَ مِنْ فَرْضِ الْإِيمَانِ مَا لَزِمَ أُولَئِكَ وَلَزِمَ أُولَئِكَ مِنْ فَرْضِ الْإِيمَانِ مَا لَمْ يَلْزَمُنَا، لِأَنَّهُمْ أَدْرَكُوا أُولَئِكَ الرُّسُلَ وَعَايَنُوهُمْ وَأَخْبَرُونَا بِأَسْمَائِهِمْ فَوَجَبَ عَلَيْهِمْ مَعْرِفَتُهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَعْيَانِهِمْ، وَالْإِقْرَارُ وَالتَّصْدِيقُ بِأَنَّهُمْ رُسُلُ اللَّهِ وَلَمْ نُدْرِكْهُمْ نَحْنُ، وَلَمْ نُعَايِنْهُمْ، وَلَا أَخْبَرَنَا بِأَسْمَائِهِمْ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْنَا مِنَ الْإِيمَانِ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَعْيَانِهِمْ مَا وَجَبَ عَلَى أُولَئِكَ، وَكَذَلِكَ مَنْ آمَنَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبِالْفَرَائِضِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ تبارك وتعالى أَوْ يُنْزِلُهَا جُمْلَةً فِي أَوَّلِ مَا بَعَثَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ مُؤْمِنًا، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ الْفَرَائِضَ، وَفَسَّرَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم

⦗ص: 772⦘

فَعَرَّفَهَا وَعَرَّفَ تَفْسِيرَهَا فَمَنْ آمَنَ بِهَا زَادَ إِيمَانًا إِلَى إِيمَانِهِ الْأَوَّلِ، وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى:{وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة: 124] وَذَلِكَ أَنَّ الْإِيمَانَ الْأَوَّلَ يَحْمِلُ الْفَرَائِضَ الَّتِي نَزَلَتْ وَيُنَزِّلُ كَانَ هُوَ الْإِيمَانُ مَا لَمْ يُكَلِّفُوا الْإِيمَانَ بِتَفْسِيرِ الْفَرَائِضِ الَّتِي نَزَلَتْ وَالَّتِي تَنْزِلُ فَإِذَا نَزَلَتِ الْفَرَائِضُ وَفُسِّرَتْ لَهُمْ وَجَبَ عَلَيْهِمُ الْإِيمَانَ بِتَفْسِيرِهَا كَمَا وَجَبَ عَلَيْهِمُ الْإِيمَانُ بِجُمْلَتِهَا وَصَارَ الْإِيمَانُ بِتَفْسِيرِهَا مَضْمُومًا إِلَى الْإِيمَانِ الْأَوَّلِ فَصَارَ إِيمَانُهُمْ أَكْمَلَ. فَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّاسَ مُتَفَاوِتُونَ فِي الْإِيمَانِ غَيْرُ مُسْتَوِينَ إِذْ كَانَ اللَّهُ عز وجل قَدِ افْتَرَضَ عَلَى الْأَوَّلِينَ مِنَ الْإِيمَانِ مَا لَمْ يَفْتَرِضُ عَلَى الْآخِرِينَ، وَافْتَرَضَ عَلَى الْآخِرِينَ مَا لَمْ يَفْتَرِضُ عَلَى الْأَوَّلِينَ نَحْوًا مِمَّا وَصَفْتُ لَكَ مِنْ مَعْرِفَةِ الرُّسُلِ بِأَعْيَانِهِمْ وَأَسْمَائِهِمْ وَحُدُودِ الْفَرَائِضِ الَّتِي افْتُرِضَتْ عَلَيْهِمْ، وَتَفْسِيرِهَا فَكُلُّ مَنْ أَدَّى مَا كُلِّفَ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْفَرْضِ عَلَيْهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ مُسْتَكْمِلٌ لِمَا افْتُرِضَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَكْثَرَ إِيمَانًا

⦗ص: 773⦘

وَأَكْثَرَ مِنْهُ إِذْ كُلِّفَ مِنَ الْإِيمَانِ مَا لَمْ يُكَلَّفْ هُوَ. وَيُقَالُ لَهُمْ: مَا تَقُولُونَ فِي رَجُلٍ نَوَى أَنْ يَكْفُرَ غَدًا لِمِيرَاثٍ طَمِعَ أَنْ يُصِيبَهُ أَوْ غَيْرُهُ؟ فَإِنْ قَالُوا: هُوَ كَافِرٌ، قِيلَ لَهُمْ: فَكَيْفَ أَخَرَجْتُمُ الْمُؤْمِنَ مِنْ إِيمَانِهِ بِنِيَّتِهِ أَنْ يَكْفُرَ غَدًا فَهَلْ أَخَرَجْتُمُ الْكَافِرَ مِنْ كُفْرِهِ بِنِيَّتِهِ أَنْ يُؤْمِنَ غَدًا؟ فَإِنْ قَالُوا: بِأَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا يَكْفُرُ غَدًا فَقَدْ تَرَكَ الْخُضُوعَ، وَالْإِنْكَارَ لِلَّهِ بِالطَّاعَةِ فَمِنْ ثَمَّ أَكْفَرْنَاهُ، وَالْكَافِرَ أَخَّرَ الْإِذْعَانَ لِلَّهِ وَالْخُضُوعَ لَهُ وَنَوَاهُ فَلَمْ يُخْرِجْهُ ذَلِكَ مِنْ كُفْرِهِ. قِيلَ لَهُمْ: أَمَّا الْمُؤْمِنُ فَفِي وَقْتِهِ مُذْعِنٌ خَاضِعٌ إِذْ لَمْ يَتَعَجَّلِ الْكُفْرَ فَيَعْتَقِدُهُ، وَإِنَّمَا أَخَّرَ الْكُفْرَ وَلَزِمَ الْخُضُوعُ لِلَّهِ فَلَمْ يَدَعْهُ، وَلَوْ زَايَلَهُ الْخُضُوعُ مَا أَخَّرَ الْكُفْرَ، وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ لَوْلَا مُزَايَلَةُ الْخُضُوعِ لَهُ لَآمَنَ لِأَنَّهُ إِنَّمَا نَوَى أَنْ يَخْضَعَ بَعْدَ وَقْتِهِ فَإِنْ كَانَ نِيَّتُهُ أَنْ يَخْضَعَ بَعْدَ وَقْتِهِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ كُفْرِهِ فَكَذَلِكَ نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ أَنْ لَا يَخْضَعَ بَعْدَ وَقْتِهِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ إِيمَانِهِ لِأَنَّ الْكَافِرَ أَوْرَدَ النِّيَّةَ بِخُضُوعٍ يَتَأَخَّرُ عَلَى أَنَّهَا لَازِمٌ، وَالْمُؤْمِنُ أَوْرَدَ لِلَّهِ تَائِبًا مُتَأَخِّرًا عَلَى خُضُوعٍ لَازِمٍ فَلَا فُرْقَانَ بَيْنَ ذَلِكَ، فَإِمَّا أَنْ يَحْكُمُوا عَلَيْهِمَا بِحَالَيْهِمَا فِي وَقْتَيْهِمَا اللَّذَيْنِ هُمَا فِيهِمَا أَوْ بِحَالَيْهِمَا اللَّذَيْنِ لَمْ يَأْتِيَا، وَلَا فُرْقَانَ بَيْنَ ذَلِكَ، وَأُخْرَى أَيْنَ وَجَدْتُمْ أَنَّ النِّيَّةَ فِي عَيْنِهَا إِيمَانٌ أَوِ الْخُضُوعُ فِي عَيْنِهِ إِيمَانٌ إِذَا كَانَ الْكَافِرُ مُنْكِرًا لِلَّهِ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ نَاو لَا يَكْذِبُ عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَقَدْ ثَبَتُّمُ الْإِرَادَةَ وَالْخُضُوعَ إِيمَانًا وَزَوَالَهُمَا كُفْرًا، فَلَمْ يَنْفَعِ الْكَافِرَ إِذْ لَمْ يَتَعَجَّلْهَا فَهَلَّا نَفَعَتِ الْمُؤْمِنَ إِذْ تَعَجَّلَهَا فَقَدْ أَكْفَرْتُمْ مَعَ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ بِالنِّيَّةِ لِأَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا لَعَلَّهُ لَا يَفْعَلُهُ، وَقَدْ كَانَ يَجِبُ عَلَيْكُمْ فِي الْقِيَاسِ أَنْ شَهِدَ لِلْكَافِرِ بِالْإِيمَانِ بِنِيَّتِهِ الَّتِي قَدَّمَهَا كَمَا لَمْ يَنْفَعِ الْمُؤْمِنَ مَعْرِفَتُهُ وَقَوْلُهُ بِلِسَانِهِ، وَخَرَجَ مِنَ الْإِيمَانِ بِالنِّيَّةِ لِلْكُفْرِ. فَكَذَلِكَ لَا يُكَفِّرُ الْكَافِرَ إِنْكَارُهُ بِقَلْبِهِ وَتَكْذِيبُهُ بِلِسَانِهِ مَعَ النِّيَّةِ الَّتِي قَدَّمَهَا أَنْ يُؤْمِنَ غَدًا. فَإِنْ هُمْ سَأَلُونَا، فَقَالُوا: مَا تَقُولُونَ أَنْتُمْ فِي ذَلِكَ قِيلَ لَهُمْ: إِنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ هُوَ عِنْدَنَا الْمَعْرِفَةَ وَحْدَهَا، وَلَا الْقَوْلَ وَحْدَهُ لَأَنَّا قَدْ وَجَدْنَا الْمُنَافِقِينَ يُقِرُّونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَهُمْ كَافِرُونَ، وَوَجَدْنَا الْيَهُودَ قَدْ عَرَفُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ بِقُلُوبِهِمْ، وَهُمْ كَافِرُونَ فَلَمَّا كَانَتِ الْمَعْرِفَةُ فِي عَيْنِهَا إِذَا انْفَرَدَتْ لَا إِيمَانَ، وَكَانَ الْقَوْلُ إِذَا انْفَرَدَ لَا إِيمَانُ فَإِذَا ضُمَّا لَمْ يَكُونَا إِيمَانًا إِلَّا بِشَرِيطَةِ نِيَّتِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَيْئَيْنِ يَنْفَرِدَانِ خَارِجَيْنِ مِنْ بَعْضِ الْأَجْنَاسِ ثُمَّ يَجْتَمِعَانِ فَيَدْخُلَانِ فِي غَيْرِ جِنْسِهِمَا إِلَّا أَنْ يَزِيدَ فِيهِمَا مَعْنًى وَهُوَ أَنْ يَجُوزَ مَعْرِفَةٌ لَيْسَتْ بِمَعْرِفَةٍ تَسْبِقُ عَلَى كِتَابٍ سُمِعَ كَمَعْرِفَةِ الْيَهُودِ لَا مَعْرِفَةُ بَيَانٍ أَوْجَبَهَا الِاضْطِرَارُ فَإِبْلِيسُ عَايَنَ مَا لَمْ يَجِدْ لِلشَّكِّ فِيهِ مَسَاغًا يُعْرَفُ ثُمَّ أَبَى السُّجُودَ، وَإِنَّمَا الْمَعْرِفَةُ الَّتِي هِيَ إِيمَانٌ هِيَ مَعْرِفَةُ تَعْظِيمِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ وَهَيْبَتِهِ، فَتَعَظُّمُ الْمَعْرِفَةِ تُعَظِّمُ الْقَدْرَ مَعْرِفَةٌ فَوْقَ مَعْرِفَةِ الْإِقْرَارِ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ الْمُصَدِّقُ الَّذِي لَا يَجِدُ مَحِيصًا عَنِ الْإِجْلَالِ وَالْخُضُوعِ لِلَّهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَلَا تُطَاوِعُهُ نَفْسُهُ وَلَا يَصْفُو لِنَفْسِهِ رِيبَةَ الْكُفْرِ لِأَنَّ النِّيَّةَ فِي الْكُفْرِ اسْتِهَانَةٌ بِالرَّبِّ وَالِاسْتِهَانَةُ ضِدُّ التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ وَالْهَيْبَةِ فَإِذَا عَظُمَتْ مَعْرِفَتُهُ تَعْظِيمَ قَدْرِهِ لَمْ تَبُحْ نَفْسُهُ بِنِيَّةِ الْكُفْرِ وَلَوْ قُطِعَ أَعْضَاؤُهُ فَمِنْ ثَمَّ كَانَ هَذَا الْمُؤْمِنُ لَمَّا نَوَى الْكُفْرَ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ الْكُفْرَ وَيَعْتَقِدُهُ لَدَيْنَا، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ تَدَيُّنٍ حَتَّى صَغُرَ قَدْرُ الرَّبِّ عِنْدَهُ فَاسْتَهَانَ بِهِ، وَلَيْسَ هَذَا بِمُصَدِّقٍ وَلَا مُؤْمِنٍ لِأَنَّ التَّعْظِيمَ لَا يُقَارِنُ الِاسْتِهَانَةَ وَالتَّصْدِيقَ لَا يُقَارِنُ نِيَّةَ التَّكْذِيبِ وَكَيْفَ يَفْتَرِقَانِ وَهُمَا ضِدَّانِ وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ لَوْ كَانَ بَعَثَهُ عَلَى نِيَّةِ الْإِيمَانِ مَعْرِفَتُهُ لِلَّهِ بِتَحْقِيقِهِ عَلَى مَا وَصَفْنَا مَا أَخَّرَ ذَلِكَ طَرْفَةَ عَيْنٍ فَفِي تَأْخِيرِهِ ذَلِكَ أَمْنٌ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَهَانَ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ لَا مَحَالَةَ وَكِلَاهُمَا كَافِرَانِ بِغَيْرِ الْجَوَابِ الَّذِي أَجَبْتُمْ. فَبِذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ الْإِيمَانَ يُوجِبُ الْإِجْلَالَ لِلَّهِ وَالتَّعْظِيمَ لَهُ، وَالْخَوْفَ مِنْهُ وَالتَّسَارُعَ إِلَيْهِ بِالطَّاعَةِ عَلَى قَدْرِ مَا وَجَبَ فِي الْقَلْبِ فِي عَظِيمِ الْمَعْرِفَةِ وَقَدْرِ الْمَعْرُوفِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَيُقَالُ لَهُمْ: قَوْلُكُمْ إِنَّ الْقَوْلَ بِاللِّسَانِ إِيمَانٌ مَعَ الْمَعْرِفَةِ أَيُّهُمَا أَصْلٌ لِلْآخَرِ؟ فَإِنْ زَعَمُوا أَنَّ الْقَوْلَ بِاللِّسَانِ أصل للإيمان، فَقَدْ أَوْجَبُوا لِلْمُنَافِقِينَ أَصْلَ الْإِيمَانِ إِذْ يَشْهَدُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَقَدْ أَكْذَبَهُمُ اللَّهُ عز وجل، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ ثُمَّ أَخْبَرَ عَنِ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ قَالُوا: آمَنَّا، فَقَالَ:{قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] فَأَخْبَرَ أَنَّ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ لَيْسَ بِإِيمَانٍ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ الْإِيمَانَ أَوَّلَهُ عَلَى الْقَلْبِ فَقَالَ:{وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14] وَقَالَ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8] فَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى إِكْفَارِ مَنْ أَقَرَّ بِلِسَانِهِ وَقَلْبُهُ مُنْكِرٌ. وَإِنْ قَالُوا: إِنَّ الْمَعْرِفَةَ أَصْلُ الْإِيمَانِ. قِيلَ لَهُمْ: فَالْإِقْرَارُ أَصْلٌ ثَانٍ مُضَافٌ إِلَيْهِ أَوْ فَرْعٌ لَهُ؟ فَإِنْ قَالُوا: أَصْلٌ ثَانٍ، قِيلَ لَهُمْ: فَمَنْ جَاءَ بِالْمَعْرِفَةِ، وَلَمْ يَأْتِ بِالْأَصْلِ الثَّانِي لِطَلَبِ دُنْيَا أَوِ اسْتِكْبَارٍ عَنِ اتِّبَاعِ الْمُسْلِمِينَ لِئَلَّا يَزُولُ عَنْ رِيَاسَةٍ أَوْ غَيْرِهَا إِلَّا أَنَّهُ عَارِفٌ بِاللَّهِ عز وجل وَبِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، مَا حَالُهُ عِنْدَكُمْ؟ فَإِنْ قَالُوا: كَافِرٌ، قِيلَ لَهُمْ: كَافِرٌ لَيْسَ فِيهِ مِنَ الْإِيمَانِ شَيْءٌ أَوْ قَدْ جَاءَ بِأَحَدِ الْأَصْلَيْنِ؟ فَإِنْ قَالُوا: لَيْسَ فِيهِ مِنَ الْإِيمَانِ شَيْءٌ فَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ مَعْرِفَةَ الْقَلْبِ هُوَ قَوْلُ اللِّسَانِ إِذْ كَانَ زَوَالُ الْمَعْرِفَةِ هُوَ تَرْكُ الْقَوْلِ، وَهَذَا التَّنَاقُضُ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ إِذَا أَقَرَّ بِاللِّسَانِ كَانَ عَارِفًا مِنْ قَبْلِ الْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ، وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا بِقَلْبِهِ فَإِنْ كَانَ قَدْ تَجَامَعَ الْإِنْكَارُ بِالْقَلْبِ الْقَوْلَ بِاللِّسَانِ فَكَذَلِكَ تُجَامِعُ الْمَعْرِفَةُ تَرْكَ الْقَوْلِ بِاللِّسَانِ، وَلَوْ كَانَ فِي زَوَالِ الْمَعْرِفَةِ زَوَالُ الْقَوْلِ وَكَانَ لَا يُقِرُّ بِاللِّسَانِ مُنْكَرًا كَمَا لَمْ يَعْرِفُ الْقَلْبُ مُنْكَرًا بِاللِّسَانِ أَبَدًا عَلَى قِيَاسِ مَا قُلْتُمْ. فَإِنْ قَالُوا: الْإِقْرَارُ فَرْعٌ لِأَصْلِ الْإِيمَانِ، وَهُوَ الْمَعْرِفَةُ. قِيلَ لَهُمْ: فَتَرْكُ الْفَرْعِ يَذْهَبُ بِالْأَصْلِ أَوْ يَبْقَى الْأَصْلُ عَلَى حَالِهِ، وَأَزَالَ الْفَرْعَ؟ فَإِنْ قَالُوا: يَذْهَبُ الْأَصْلُ، قِيلَ لَهُمْ: فَالْأَصْلُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ فِي زَوَالِهِ زَوَالُ الْفَرْعِ فَقَدْ وَجَدْنَاهُ مُقِرًّا مُنْكَرًافَكَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّهُ عَارِفٌ مُنْكِرٌ. فَإِنْ قَالُوا: هُوَ عَارِفٌ تَارِكٌ لِلْإِقْرَارِ بِلِسَانِهِ. قِيلَ: وَلَمْ يُسَمِّهِ اللَّهُ مُؤْمِنًا مَعَ تَرْكِ الْإِقْرَارِ بِلِسَانِهِ. وَقِيلَ لَهُمْ: إِبْلِيسُ إِنَّمَا كَفَرَ بِتَرْكِ الْفَرْعِ، وَلَمْ تَنْفَعْهُ الْمَعْرِفَةُ وَلَيْسَ الْقَوْلُ مِنَ الْمَعْرِفَةِ فِي شَيْءٍ لِأَنَّهُ فَرْعٌ مُضَافٌ إِلَيْهَا بِالِاسْمِ لَا مِنْ جِنْسِهَا، وَإِنَّمَا الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ يَكُونُ عَنْهَا وَلَيْسَ هُوَ بِهَا، وَلَا مِنْ جِنْسِهَا لِأَنَّ الْأَصْوَاتَ، وَالْحُرُوفَ، وَالْحَرَكَاتِ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الضَّمِيرِ فِي شَيْءٍ وَإِنْ كَانَ الْإِيمَانُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِفَرْعٍ عَنِ الْمَعْرِفَةِ وَلَيْسَ مِنْ جِنْسِهَا، فَمَا أَنْكَرْتُمْ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالصَّلَاةِ وَلَيْسَتْ هِيَ مِنْ جِنْسِ الْمَعْرِفَةِ وَلَكِنْ عَنْهَا يَكُونُ. فَإِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّ بَيْنَهُمَا فُرْقَانًا، فَمَا الْفُرْقَانُ؟ اللُّغَةُ يَدْعُونَهَا فِي مَجَازِ اللُّغَاتِ أَوْ حَقِيقَةُ مَعْنًى؟ فَإِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّ الْعَرَبَ قَدْ يَقُولُ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ: فُلَانٌ صَدَقَنِي بِلِسَانِهِ فَسَمَّوُا الْإِقْرَارَ تَصْدِيقًا. قِيلَ لَكُمْ: لَيْسَ يَخْلُو مَا ادَّعَيْتُمْ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ تَعْنِي بِقَوْلِهَا صَدَقَنِي فُلَانٌ بِلِسَانٍ أَيْ أَنَّهُ آمَنَ بِقَوْلٍ بِلِسَانِهِ، وَقَلْبُهُ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ، أَوْ تَكُونَ تَعْنِي أَنَّهُ صَدَقَنِي بِقَلْبِهِ فَآمَنَ بِقَوْلِي ثُمَّ عَبَّرَ لِي عَمَّا فِي قَلْبِهِ أَنِّي صَادِقٌ عِنْدَهُ، فَإِنْ كَانَتْ تَعْنِي أَنَّهُ آمَنَ بِلِسَانِهِ دُونَ قَلْبِهِ فَقَدْ ثَبَتَ الْإِيمَانُ بِاللِّسَانِ، وَإِنْ كَانَ الْقَلْبُ مُنْكِرًا وَإِنْ كَانَتْ إِنَّمَا تَعْنِي أَنَّهُ إِنَّمَا عَبَّرَ عَمَّا فِي قَلْبِهِ فَقَدْ دَلَّلَ بِذَلِكَ أَنَّ الْعِبَارَةَ لَيْسَتْ بِالْمُعَبِّرَةِ عَنْهُ، وَإِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّهَا مَعْنًى ثَالِثٌ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا تَصْدِيقٌ بِالْقَلْبِ، وَالْآخَرُ تَحْقِيقٌ لِمَا فِي قَلْبِهِ. قِيلَ لَكُمْ: تَحْقِيقٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ آمَنَ أَوِ الْإِيمَانُ قَائِمٌ فِي اللِّسَانِ؟ فَإِنْ قَالُوا: قَائِمٌ فِي اللِّسَانِ فَقَدْ فَرَغْنَا مِنْ ذَلِكَ. وَإِنْ قَالُوا: تَحْقِيقٌ لَهُ، وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَإِلَّا عَانَدُوا اللُّغَةَ وَخَالَفُوا الْفُرْقَانَ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ:{وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14] فَأَخْبَرَ أَنَّهُ فِي الْقَلْبِ وَأَخْبَرَ أَنَّ قَوْلَهُمْ لَيْسَ بِإِيمَانٍ إِذْ قَالَ: لَمْ تُؤْمِنُوا. فَقَدْ دَلَّ أَنَّ قَوْلَ الْإِنْسَانِ لَيْسَ بِإِيمَانٍ فِي عَيْنِهِ حَتَّى يَكُونَ عِبَارَةً عَمَّا فِي الْقَلْبِ. وَأَمَّا اللُّغَةُ فَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُهَا أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ صَدَقْتَ فِي أَنَّ لَكَ عَلَيَّ حَقٌّ أَنَّهُ إِقْرَارٌ بِلِسَانِهِ وَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَقَرَّ لَهُ لِرَهْبَةٍ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ مُنْكِرٌ لِحَقِّهِ فَذَلِكَ مِنْهُ كَذِبٌ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُؤْمِنٍ بِمَا يَقُولُ أَوْ يَكُونُ عَارِفًا بِذَلِكَ بِقَلْبِهِ مُصَدِّقًا لَهُ، وَقَدْ أَجْمَعُوا أَنَّ ذَلِكَ عِبَارَةٌ عَمَّا فِي قَلْبِهِ تَحْقِيقُ إِيمَانِهِ بِقَلْبِهِ فَيَقُولُونَ قَدْ آمَنَ بِمَا قَالَ، وَصَدَّقَ بِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ طَلَبَ مِنْهُ حَقَّهُ فَقَالَ: لِي عَلَيْكَ أَلْفُ دِينَارٍ أَوْ هَذَا الثَّوْبُ الَّذِي عَلَيْكَ لِي فَخَلَعَهُ فَنَاوَلَهُ إِيَّاهُ أَوْ وَزَنَ لَهُ أَلْفَ دِينَارٍ فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ فَقَالُوا: قَدْ صَدَّقَهُ وَرَدَّ عَلَيْهِ حَقَّهُ، وَلَوْ لَمْ يُصَدِّقْهُ مَا أَعْطَاهُ فَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ تَحْقِيقًا لِمَا فِي الْقَلْبِ يَدُلُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ مُصَدِّقٌ بِاللَّهِ وَبِمَا قَالَ فَكَذَلِكَ جَمِيعُ الطَّاعَاتِ الْمُفْتَرَضَةِ هِيَ مُحَقِّقَةٌ لِلتَّصْدِيقِ مُكَمِّلَةٌ لَهُ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ إِنَّمَا يَكْمُلُ إِيمَانُهُ بِأَنْ يَرْفَعَ لِسَانَهُ وَيَضَعُهُ بِالتَّوْحِيدِ فَكَذَلِكَ يَكْمُلُ إِيمَانُهُ بِأَنْ يَضَعَ وَجْهَهُ لِلَّهِ فِي التُّرَابِ تَوْحِيدًا لَهُ بِذَلِكَ لَا يُرِيدُ غَيْرَهُمَا كِلَاهُمَا جَارِحَتَانِ غَيْرُ الْقَلْبِ وَغَيْرُ عَمَلِهِ وَلَا فُرْقَانَ بَيْنَ ذَلِكَ إِلَّا ادِّعَاءُ اللُّغَةِ الَّتِي قَدْ تَدَاوَلَتْهَا الْعَرَبُ بَيْنَهَا، يُرِيدُ بِهِ الْعِبَارَةَ بِعَيْنِهَا أَنَّ الْإِقْرَارَ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِيمَانِ فِي الْقَلْبِ، وَقَدْ يُسَمَّى فِعْلُ الْجَوَارِحِ أَيْضًا تَصْدِيقًا، لَوْ قَالَ قَائِلٌ لِرَجُلٍ: إِنَّ فُلَانًا قَتَلَ وَلَدَكَ فَشَدَّ عَلَى قَاتِلِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُولَ لِلْمُخْبِرِ لَهُ صَدَقْتَ لَشَهِدَتِ الْقُلُوبُ أَنَّهُ قَدْ صَدَّقَهُ بِفِعْلِهِ وَمَعَ شَهَادَتِهِمَا فَهِيَ عَالِمَةٌ أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ تَحْقِيقٌ لِتَصْدِيقِ قَلْبِهِ لَا أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ إِيمَانٌ بِالْقَلْبِ وَمِنْ ذَلِكَ تَصْدِيقًا مِنْهُمْ تَحْقِيقًا لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ، وَلَمْ يُخْبِرْنَا أَنَّهُمْ قَالُوا: صَدَقْتَ هُوَ عَلَيْنَا ثُمَّ سَجَدُوا، وَأَبَى إِبْلِيسُ أَنْ يَسْجُدَ وَلَمْ يَقُلْ إِنَّكَ لَمْ تَأْمُرْنِي بِالسُّجُودِ فَكَانَ إِبَاؤُهُ كُفْرًا لَا أَنَّهُ جَحَدَ بِلِسَانِهِ فَكَانَ سُجُودُهُمْ إِيمَانًا كَمَا كَانَ إِبَاؤُهُ كُفْرًا فَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ إِذَا أَقَرَّ شَهِدَتِ الْقُلُوبُ أَنَّهُ مُصَدِّقٌ لِلظَّاهِرِ، وَإِنْ لَمْ يَقْطَعُوا بِالْغَيْبِ وَهُمْ عَارِفُونَ أَنَّ قَوْلَ اللِّسَانِ لَيْسَ هُوَ الْإِيمَانُ بِالْقَلْبِ وَإِنَّمَا هُوَ عِبَارَةٌ عَمَّا فِي الْقَلْبِ، وَلَنْ تَجِدُوا بَيْنَ ذَلِكَ فُرْقَانًا إِلَّا بِالْمُكَابَرَةِ. وَيُقَالُ لَهُمْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ سَوَّغْنَا لَكُمْ أَنَّ الْعِبَارَةَ عَمَّا فِي الْقَلْبِ بِالْإِقْرَارِ هُوَ فِي عَيْنِهِ إِيمَانٌ كَالْمَعْرِفَةِ بِالْقَلْبِ، أَرَأَيْتُمْ هَذَا الْإِقْرَارَ الَّذِي هُوَ إِيمَانٌ مَتَى يَكُونُ إِيمَانًا إِذَا كَانَ كَافِرًا قَبْلَ ذَلِكَ، فَإِذَا أَقَرَّ فَبَدَّلَ الْجَحْدَ الْأَوَّلَ أَوْ أَقَرَّ كَانَ إِيمَانًا أَوْ إِذَا جَاءَ بِالْإِقْرَارِ وَإِنْ كَانَ نَاسِيًا عَلَى غَيْرِ جَحْدٍ فَأَتَى بِالْإِقْرَارِ فِي وَقْتِ الْبُلُوغِ أَوْ خَلَقَهُ اللَّهُ بَالِغًا فَأَقَرَّ بَعْدَ الْبُلُوغِ؟ فَإِنْ قَالُوا: إِنَّمَا يَكُونُ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ إِيمَانًا فَمَنْ كَانَ جَاحِدًا مِنْ قَبْلُ فَقَدْ أَخْرَجُوا الْمَلَائِكَةَ وَآدَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَكُلَّ نَاشِئٍ عَلَى الْإِسْلَامِ مِنْ أَنْ يَكُونَ آمَنَ بِاللَّهِ قَطُّ، وَلَا يَقُولُ هَذَا أَحَدٌ. وَإِنْ زَعَمُوا أَنَّهُ إِيمَانٌ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ جَاحِدًا كَانَ أَوْ نَاسِيًا أَوْ خُلِقَ بَالِغًا بِغَيْرِ طُفُولِيَّةٍ كَالْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ. قِيلَ لَهُمْ: فَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَلَمْ يُسَمَّ إِقْرَارًا إِلَّا أَنَّهُ اعْتِرَافٌ لِلرَّبِّ بِوَحْدَانِيَّتِهِ وَبِمَا قَالَ، أَوْ لِأَنَّهُ اعْتِرَافٌ، وَهُوَ وَاجِبٌ؟ فَإِنْ قَالُوا: لِأَنَّهُ اعْتِرَافٌ فِي عَيْنِهِ لَا أَنَّهُ أَوْجَبَهُ. قِيلَ لَهُمْ: فَكُلَّمَا جَاءَ بِالِاعْتِرَافِ فَهُوَ إِيمَانٌ. وَإِنْ قَالُوا: لِأَنَّهُ اعْتِرَافٌ وَأَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَهُ. قِيلَ لَهُمْ: فَكُلَّمَا جَاءَ بِهِ اعْتِرَافًا وَاجِبًا فَهُوَ إِيمَانٌ. فَإِنْ قَالُوا: لَا، نَاقَضُوا قَوْلَهُمْ. وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مِنْ قَلْبٍ صَادِقٍ فَقَدْ أَقَرَّ، وَمَعْنَى أَقَرَّ: اعْتَرَفَ، فَإِذَا كَانَ هَذَا إِيمَانًا فَكُلَّمَا وَحَّدَ اللَّهَ أَبَدًا إِلَى أَنْ يَمُوتَ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُعْتَرِفٌ عَنْ قَلْبٍ صَادِقٍ فَهُوَ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَفِي كُلِّ سَاعَةٍ يُوَحِّدُ فِيهَا يَزْدَادُ إِيمَانًا، وَكُلُّ وَقْتٍ يَشْتَغِلُ قَلْبُهُ بِالْمَعَاصِي فَلَا يَنْشَرِحُ لِلْقَوْلِ بِالِاعْتِرَافِ، وَلَا يَعْظُمُ فِي قَلْبِهِ الرَّبُّ تبارك وتعالى فَيَفْزَعُ إِلَى تَوْحِيدِهِ فَهُوَ أَنْقَصُ مِنْهُ فِي الْحَالِ الْأُولَى الَّتِي عَظَّمَ بِقَلْبِهِ الْمُعْتَرِفِ بِهِ حَتَّى حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلِ بِلِسَانِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ نَقْصًا بِتَصْدِيقِهِ بِقَلْبِهِ، أَنَّ اللَّهَ حَقٌّ لَا بَاطِلٌ، وَلَكِنَّهُ نَقَصَ مِنْ تَرْكِهِ الِاعْتِرَافَ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ وَاجِبٌ كَالتَّشَهُّدِ وَالذِّكْرِ فِي الصَّلَاةِ الَّذِي كَانَ يَأْتِي بِهِ الْيَوْمَ مِرَارًا كَثِيرَةً مِنْ تَعْظِيمٍ لِلَّهِ بِقَلْبِهِ. فَإِنْ قَالُوا: إِنَّ ذَلِكَ التَّكْرَارَ لِلتَّوْحِيدِ لَيْسَ هُوَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ مِنَ الْإِيمَانِ. قِيلَ لَهُمْ: فَقَدْ ثَبَتُّمْ عَنْ ضَمَائِرِكُمِ أَنَّ الِاعْتِرَافَ إِنَّمَا يَكُونُ تَوْحِيدًا وَإِيمَانًا مَعَ الْوُجُوبِ أَفَرَأَيْتُمُ التَّشَهُّدَ فِي الصَّلَاةِ وَالتَّوْحِيدَ فِي الْأَذَانِ أَتَوْحِيدٌ لَهُ؟ وَكَذَلِكَ الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ بِالْحَمْدِ إِذَا قَرَأَ فِي صَلَاتِهِ فَقَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] فَقَدْ أَخْلَصَ لِلَّهِ بِالتَّوْحِيدِ وَأَقَرَّ أَنَّهُ رَبُّ الْخَلَائِقِ، وَكَذَلِكَ التَّشَهُّدُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ مُفْتَرَضَةٍ، وَكَذَلِكَ التَّلْبِيَةُ أَوَّلَ مَا يُحْرِمُ لَا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا مَرَّةً فَكَذَلِكَ جَمِيعًا كُلُّهُ إِيمَانٌ إِنْ كَانَ كُلُّ اعْتِرَافٍ وَاجِبٍ يَكُونُ إِيمَانًا. فَإِنْ قَالُوا: لَيْسَ هُوَ إِيمَانًا لِأَنَّهُ وَاجِبٌ، وَلَكِنَّهُ اعْتِرَافٌ فِي عَيْنِهِ فِي أَوَّلِ مَا يُصَدِّقُ بِهِ. قِيلَ لَهُمْ: هَذِهِ دَعْوَى مِنْكُمْ فَمَا جَعَلَهُ أَوَّلًا إِيمَانًا وَآخِرًا لَا إِيمَانٌ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ؟ . فَإِنْ قَالُوا: وَجَدْنَا جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ إِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ أَوَّلَ مَا يُسْلِمُ. قِيلَ: آمَنَ، وَإِذَا كَرَّرَهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُقَلْ: آمَنَ. قِيلَ لَهُمْ: فَقَدْ ثَبَتُّمْ أَنَّ مَعْنَاكُمْ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِكُمْ: إِنَّ الْإِقْرَارَ إِنَّمَا يَكُونُ إِيمَانًا فَمَنْ كَانَ جَاحِدًا مِنْ قَبْلُ فَقَطْ، وَهَذِهِ الشَّهَادَةُ عَلَى كُلِّ مَلَكٍ وَرَسُولٍ وَنَاشِئٍ عَلَى الْإِسْلَامِ أَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِلِسَانِهِ قَطُّ؟ . فَإِنْ قَالُوا: لَسْنَا نَقُولُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّا نَقُولُ لَهُ: إِنَّ الطِّفْلَ إِذَا بَلَغَ فَأَقَرَّ فِي وَقْتِ بُلُوغِهِ فَذَلِكَ مِنْهُ إِيمَانٌ فَإِنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ إِيمَانٌ تِلْكَ السَّاعَةِ قِيلَ لَهُمْ فَهَلْ رَأَيْتُمُ الْمُسْلِمِينَ يَقُولُونَ لِطِفْلٍ إِذَا بَلَغَ فَيَشْهَدُ آمَنَ السَّاعَةَ؟ أَوْ يَعْمَلُونَ أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْإِيمَانُ إِلَّا تِلْكَ السَّاعَةُ ثُمَّ أَتَى بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَلَا يَقُولُونَ إِنَّهُ آمَنَ السَّاعَةَ فَيُوهِمُونَ أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا مِنْ قَبْلُ وَلَكِنْ يَقُولُونَ: الْآنَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِيمَانُ، وَقَدْ كَانَ مِنْ قَبْلُ أَنْ تَأْتِيَ بِهِ مُؤْمِنًا وَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَهَذَا اعْتِرَافٌ فِي عَيْنِهِ أَوَّلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنِ اعْتِرَافٌ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ مَا كَانَ أَحَدٌ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ اعْتِرَافًا وَخُضُوعًا لِلَّهِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَكِنَّهُ مَعْقُولٌ أَنَّهُ لَا يُزَايِلُهُ اسْمُ الِاعْتِرَافِ مَتَى أَتَى بِهِ لِأَنَّهُ اعْتِرَافٌ فِي عَيْنِهِ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ مَا أَدَّاهُ فِي أَوَّلِ الْوُجُوبِ ثُمَّ هُوَ يُكَرِّرُهُ فِي الْفَرَائِضِ وَغَيْرِهَا، وَلَوْ كَانَ فِي عَيْنِهِ هُوَ الْإِيمَانُ لَا لِأَنَّهُ اعْتِرَافٌ عَمَّا فِي الْقَلْبِ لَكَانَ إِذَا سَكَتَ كَفَرَ لِأَنَّ ضِدَّ الْكَلَامِ السُّكُوتَ كَمَا أَنَّ ضِدُّ الْمَعْرِفَةِ الْإِنْكَارَ. وَإِنْ قُلْتُمْ: إِنَّمَا يَأْتِي بِضِدِّهِ إِذَا جَحَدَ بِلِسَانِهِ. قِيلَ: كَيْفَ يَأْتِي بِضِدِّهِ بَعْدَ مَا قَدْ نَقَضَ؟ وَهَلْ يَكُونُ لِلْفَانِي ضِدٌّ يُزِيلُهُ، وَكَيْفَ يُزِيلُ الْمُوجُودُ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ لِأَنَّهُ قَدْ فَنِيَ الْكَلَامُ الْأَوَّلُ وَأَعْقَبَهُ السُّكُوتُ، ثُمَّ جَاءَ بِالْجَحْدِ بِلِسَانِهِ فَزَالَ السُّكُوتُ، ثُمَّ زَعَمْتُمْ أَنَّهُ قَدْ زَالَ مَا كَانَ قَدْ زَالَ مِنْ قَبْلُ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ النَّهَرُ إِذَا ذَهَبَ ثُمَّ جَاءَ اللَّيْلُ ثُمَّ جَاءَ الصُّبْحُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي ضِدًّا لِلْأَوَّلِ فَأَزَالَ مَا قَدْ زَالَ، وَقَدْ كَانَتْ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةٌ وَهُوَ اللَّيْلُ كَمَا كَانَ السُّكُوتُ بَيْنَ الْإِقْرَارِ وَالْجَحْدِ. فَإِنْ زَعَمُوا: أَنَّ الِاعْتِرَافَ كَانَ عَنْ خُضُوعٍ مِنَ الْقَلْبِ فَلَمَّا جَاءَ الْجَحْدُ لَمْ يَأْتِ حَتَّى زَالَ خُضُوعُ الْقَلْبِ قِيلَ: فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْخُضُوعُ مَعَ الْمَعْرِفَةِ، وَأَنَّ الْقَوْلَ عِبَارَةٌ عَنْهُ، فَلَمَّا جَاءَ بِقَوْلٍ خِلَافَ ذَلِكَ لَمْ يَأْتِ بِهِ إِلَّا عَنْ زَوَالِ الْخُضُوعِ عَنِ الْقَلْبِ وَهُوَ الْإِبَاءُ أَنْ يُقِرَّ بِلِسَانِهِ لِاسْتِنْكَافٍ أَوْ طَمَعٍ فِي دُنْيَا أَوْ طَلَبِ رِيَاسَةٍ فَكَذَلِكَ كُلُّ مَا أَتَى بِالْقَوْلِ، وَالْخُضُوعُ فِي الْقَلْبِ عَلَى حَالِهِ فَإِنَّهُ يَزْدَادُ إِيمَانًا إِذَا كَانَ عِبَارَةً عَنِ الْخُضُوعِ فِي الْقَلْبِ لَمْ يَتَغَيَّرْ وَلَمْ يَتَقَلَّبْ إِلَّا زَالَهُ أَوْ لَا يَحِقُّ فِيهِ الْوُجُوبُ لَمْ يُكَرِّرْهُ وَاجِبًا، وَغَيْرُ وَاجِبٍ إِنَّ الْخُضُوعَ دَائِمٌ فِي الْقَلْبِ بِحَالِهِ، وَالْقَوْلُ كَالْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَيْسَ بَيْنَ ذَلِكَ فُرْقَانٌ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَعْلَاهَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» فَسَمَّى الشَّهَادَةَ إِيمَانًا فَمَتَى مَا وُجِدَتِ الشَّهَادَةُ مِنْ قَلْبٍ مُخْلِصٍ مُصَدِّقٍ فَهِيَ إِيمَانٌ، وَقَائِلُهَا مُزْدَادٌ إِيمَانًا إِلَى إِيمَانِهِ

ص: 759

799 -

وَقَدْ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: ثنا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثنا صَدَقَةُ أَبُو الْمُغِيرَةِ وَهُوَ ابْنُ مُوسَى الدَّقِيقِيُّ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ، عَنْ سُمَيْرِ بْنِ نَهَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «جَدِّدُوا إِيمَانَكُمْ» قَالُوا: وَكَيْفَ نُجَدِّدُ إِيمَانَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «تَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» . قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: فَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ مَتَى قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا مُتَقَرِّبًا بِذَلِكَ إِلَى اللَّهِ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ إِيمَانًا. وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ الْأَخْبَارُ الَّتِي رُوِّينَاهَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يَقُولُ لِبَعْضٍ: اجْلِسْ بِنَا نُؤْمِنُ سَاعَةً، يَعْنِي نَذْكُرُ اللَّهَ. وَالذِّكْرُ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ إِيمَانٌ مَتَى أَتَوْا بِهِ ازْدَادُوا إِيمَانًا

ص: 787

800 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، ثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ، ثنا بِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْحَكِيمِ الصَّنْعَانِيِّ، قَالَ:«ذُكِرَ لِي أَنَّ التَّلْبِيَةَ إِنَّمَا جُعِلَتْ يُجَدَّدُ بِهَا الْإِيمَانُ، وَيَثْبُتُ بِهَا الْإِسْلَامُ» . قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُرْجِئَةِ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِاللِّسَانِ هُوَ التَّصْدِيقُ فَهُوَ وَتَصْدِيقُ الْقَلْبِ مَعْنًى وَاحِدٌ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي أَعْيَانِهِمَا

⦗ص: 789⦘

. يُقَالُ لَهُمْ: كَيْفَ يَخْتَلِفُ شَيْئَانِ فِي أَعْيَانِهِمَا وَيَتَّفِقَانِ فِي الِاسْمِ مِنْ جِهَةِ مَا اخْتَلَفَا؟ فَإِنْ قَالُوا: ذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي اللُّغَةِ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: دِينِي وَدِينُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَاحِدٌ، وَفِعْلُ مُحَمَّدٍ غَيْرُ فِعْلِهِ لِأَنَّ ضَمِيرَهُ غَيْرَ ضَمِيرِهِ، وَقَوْلَهُ غَيْرَ قَوْلِهِ. فَيُقَالُ لَهُمْ: إِنَّمَا يَقُولُ الْقَائِلُ ذَلِكَ يُرِيدُ أَنَّ الدِّينَ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم هُوَ دِينِي، وَلَا يُرِيدُ أَنَّ ضَمِيرَ مُحَمَّدٍ هُوَ ضَمِيرِي لِأَنَّ اسْمَ الْإِيمَانِ فِي مَجَازِ اللُّغَةِ يَقَعُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَلَى الْأَمْرِ بِهِ وَالدَّلَالَةِ عَلَيْهِ فِي الظَّاهِرِ، وَالْآخَرُ حَقِيقَةٌ فِي الْمَعْنَى، فَأَمَّا الظَّاهِرُ فِي اللِّسَانِ الَّذِي هُوَ عَلَى الْمَجَازِ، فَقَوْلُ الْمُسْلِمِينَ: جَاءَنَا مُحَمَّدٌ بِالْإِيمَانِ، وَشَرَحَ لَنَا الْإِيمَانَ، وَجَاءَنَا بِالدِّينِ فَإِنَّمَا يَعْنُونَ بَيَانَ الْإِيمَانِ وَتَفْسِيرَهِ كَيْفَ هُوَ، لِأَنَّ اللَّهَ عز وجل أَمَرَ بِالْإِيمَانِ، ثُمَّ فَسَّرَ لَنَا مَا الْإِيمَانُ فَسُمِّيَ تَفْسِيرُ الْإِيمَانِ إِيمَانًا، فَأَمَّا عَلَى الْحَقِيقَةِ فِي الْمَعْنَى فَإِنَّمَا الْإِيمَانُ فِعْلٌ مِنَ الْمُؤْمِنِ، وَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ كَلَامُ اللَّهِ فِعْلًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَسَمَّى اللَّهُ الدَّلَالَةَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْأَمْرِ بِهِ إِيمَانًا، وَالْإِيمَانُ فِي عَيْنِهِ فِعْلُ الْمُؤْمِنِ كَمَا يَقُولُ: جَاءَنَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم بِالصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ وَاسْتَخْرَجَهَا لَنَا، وَالصَّلَاةُ فِي عَيْنِهَا لَيْسَتْ بِالْأَمْرِ

⦗ص: 790⦘

وَبِالشَّرْحِ، وَلَكِنَّهَا الْمَأْمُورُ بِهَا الْمَشْرُوحَةُ لِلْعِبَادِ لِأَنَّهَا فِي عَيْنِهَا افْتِتَاحٌ بِتَكْبِيرٍ، وَقِرَاءَةٌ، وَرُكُوعٌ، وَسُجُودٌ، وَذَلِكَ غَيْرُ الْأَمْرِ. فَقَوْلُ الْقَائِلِ: دِينِي وَدِينُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَاحِدٌ يرِيدُ أَنِّي أَدِينُ بِالدِّينِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم واحداً إِنَّمَا يَعْنِي أَنَّا قَدْ صَلَّيْنَا الصَّلَاةَ الَّتِي أَمَرَ بِهَا جَمِيعًا إِلَّا أَنَّ حَرَكَاتَهُ وَسُكُونَهُ فِي الصَّلَاةِ هِيَ حَرَكَاتِي وَسُكُونِي وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَعْنًى وَاحِدًا لَكَانَ دِينِي وَدِينُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَعْنَى أَنَّ فِعْلَهُ فِعْلِي بِمَعْنًى وَاحِدٍ، لَكَانَ لِي مِنَ الْأَجْرِ مِثْلَ مَا لَهُ فَسَاوَيْتُهُ فِي الْأَجْرِ مِنَ اللَّهِ، وَلَا يَقُولُ هَذَا مُسْلِمٌ فَكَذَلِكَ لَمْ يَعْنِ أَنَّ التَّصْدِيقَ هُوَ الْقَوْلُ بِاللِّسَانِ بَلِ الْقَوْلُ فِي عَيْنِهِ حُرُوفٌ مُؤَلَّفَةٌ وَصَوْتٌ وَحَرَكَاتٌ، وَالتَّصْدِيقُ فِي الْقَلْبِ عَقْدُ ضَمِيرٍ لَا صَوْتٌ، وَلَا حُرُوفٌ، وَلَا حَرَكَاتٌ فَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا الْآخَرُ لَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ تَصْدِيقًا لَجَازَ أَنْ يَكُونَ التَّصْدِيقُ قَوْلًا، فَكَانَ مَنْ قَالَ بِلِسَانِهِ فَقَدْ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ، وَقَدْ وَجَدْنَا الْمُنَافِقِينَ قَدْ قَالُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ مِنْهُمْ تَصْدِيقًا. قَالَ: وَيُقَالُ لَهُمْ أَخْبِرُونَا عَنِ الْإِيمَانِ: هُوَ بِعَيْنِهِ لَا يَتَقَلَّبُ أَبَدًا أَمْ لِلطَّاعَةِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ؟

⦗ص: 791⦘

فَإِنْ قَالُوا: بِعَيْنِهِ، قِيلَ لَهُمْ: فَلَا يَتَقَلَّبُ أَبَدًا مَا كَانَتِ الْعَيْنُ مَوْجُودَةً. فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ، قِيلَ لَهُمْ: فَهَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ السَّبْتَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَشُحُومَ الْبُطُونِ وَكُلَّ ذِي ظُفُرٍ فَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ مُحَرَّمًا، وَكَانُوا بِالْإِيمَانِ بِهِ مُؤْمِنِينَ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ عز وجل أَحَلَّهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَوْ أَنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ حَرَّمَتْهُ بَعْدَمَا أَحَلَّهُ اللَّهُ، مَا حُكْمُهُمْ عِنْدَكُمْ؟ فَإِنْ قَالُوا: كُفَّارًا، قِيلَ لَهُمْ: فَالْأَمْرُ الَّذِي كَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِيمَانًا لَوْ أَتَى بِهِ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم كَانَ كُفْرًا، فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ بِعَيْنِهِ وَلَوْ كَانَ بِعَيْنِهِ لَمَا انْقَلَبَ أَبَدًا فَقَدْ ثَبَتَ أََنَّهُ لِِلطَّاعَةِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا بِعَيْنِهِ. إِنْ كَانَ فِي حَالٍ مِنْهُمْ إِيمَانًا، ثُمَّ صَارَ فِي الْحَالِ الْأُخْرَى كُفْرًا فَقَدْ ثَبَتُوا أَنَّهُ بِعَيْنِهِ، وَأَنَّهُ كَيْفَ مَا قَلَبَهُمُ اللَّهُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ إِيمَانًا، وَكَانَ تَرْكُهُ كُفْرًا. فَإِنْ قَالُوا: إِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يُصَدِّقُوا فِي كُلِّ حَالٍ بِمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ. قِيلَ لَهُمْ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ قَالُوا حِينَ حَوَّلَهُمُ اللَّهُ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ: اللَّهُ صَادِقٌ بِهِمَا جَمِيعًا، وَقَدْ صَدَّقْنَا بِقَوْلِهِ فَآمَنَّا بِهِ، وَلَكِنَّا نُصَلِّي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَمَا كُنَّا

⦗ص: 792⦘

أَوَّلًا مَخَافَةَ عَيْبِ النَّاسِ أَنْ يَقُولُوا بَدَّلَ دِينَهُمُ اللَّهَ صَادِقٌ، وَأَنَّهُ قَدْ نَسَخَهَا. فَإِنْ قَالُوا: هُمْ كُفَّارٌ، قِيلَ: وَلِمَ؟ . فَإِنْ قَالُوا: لِيُذْعِنُوا وَيَخْضَعُوا بِالطَّاعَةِ. قِيلَ لَهُمْ: وَأَيْنَ وَجَدْتُمْ ذَلِكَ فِي اللُّغَةِ إِيمَانًا، وَهُمْ يَقُولُونَ: نَعَمْ هُوَ عَلَيْنَا حَقٌّ نُقِرُّ بِهِ وَنُصَدِّقُ، وَلَكِنَّا نُصَلِّي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَرَاهَةَ اللَّائِمَةِ. فَإِنْ قَالُوا: لَمْ يُقِرُّوا بَعْدُ، قِيلَ لَهُمْ: لَمْ يُقِرُّوا بِالْفِعْلِ، وَلَمْ يُقِرُّوا أَنَّهُ حَقٌّ وَاجِبٌ. فَإِنْ قَالُوا: لَمْ يُقِرُّوا بِالْفِعْلِ، قِيلَ لَهُمْ: فَالْإِقْرَارُ بِالْفِعْلِ إِنَّمَا هُوَ إِرَادَةٌ يُعَبِّرُوا عَنْهَا، أَنَّا نَفْعَلُ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا كَفَرُوا فِي قَوْلِكُمْ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْإِيمَانَ إِرَادَةٌ وَوَعْدٌ بِالْقَوْلِ أَنْ يَفْعَلُوا، وَهُنَا خِلَافُ مَا ادَّعَيْتُمْ فِي اللُّغَةِ. وَيُقَالُ لَهُمْ: مَا تَقُولُونَ فِي مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْخَمْرَ حَلَالٌ هَلْ كَفَرَ؟ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ، قِيلَ لَهُمْ: فَهَلْ تَرَكَ إِيمَانًا بِتَحْلِيلِهِ الْخَمْرَ؟ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ، قِيلَ لَهُمْ: فَهُوَ كَافِرٌ بِاللَّهِ وَبِالْقُرْآنِ؟ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ، قِيلَ: فَمَا تَقُولُونَ فِي رَجُلٍ أَقَرَّ بِاللَّهِ

⦗ص: 793⦘

وَبِالرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَبِمَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَنَّ الْخَمْرَ عَلَيْهِ حَرَامٌ ثُمَّ اسْتَحَلَّهَا هَلْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ أَمْ بِالْخَمْرِ؟ فَإِنْ قَالُوا: بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، قِيلَ: فَمَا عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَسْتَتِيبَهُ مِنْهُ؟ أَيَسْتَتِيبُهُ مِنْ تَحْلِيلِ الْخَمْرِ أَمْ يَسْتَتِيبُهُ مِنَ الْجَحْدِ بِاللَّهِ حَتَّى يَشْهَدَ أَنَّ لَةِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا بِعَيْنِهِ. إِنْ كَانَ فِي حَالٍ مِنْهُمْ إِيمَانًا، ثُمَّ صَارَ فِي الْحَالِ الْأُخْرَى كُفْرًا فَقَدْ ثَبَتُوا أَنَّهُ بِعَيْنِهِ، وَأَنَّهُ كَيْفَ مَا قَلَبَهُمُ اللَّهُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ إِيمَانًا، وَكَانَ تَرْكُهُ كُفْرًا. فَإِنْ قَالُوا: إِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يُصَدِّقُوا فِي كُلِّ حَالٍ بِمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ. قِيلَ لَهُمْ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ قَالُوا حِينَ حَوَّلَهُمُ اللَّهُ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ: اللَّهُ صَادِقٌ بِهِمَا جَمِيعًا، وَقَدْ صَدَّقْنَا بِقَوْلِهِ فَآمَنَّا بِهِ، وَلَكِنَّا نُصَلِّي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَمَا كُنَّا أَوَّلًا مَخَافَةَ عَيْبِ النَّاسِ أَنْ يَقُولُوا بَدَّلَ دِينَهُمْ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ صَادِقٌ، وَأَنَّهُ قَدْ نَسَخَهَا. فَإِنْ قَالُوا: هُمْ كُفَّارٌ، قِيلَ: وَلِمَ؟ . فَإِنْ قَالُوا: لِيُذْعِنُوا وَيَخْضَعُوا بِالطَّاعَةِ. قِيلَ لَهُمْ: وَأَيْنَ وَجَدْتُمْ ذَلِكَ فِي اللُّغَةِ إِيمَانًا، وَهُمْ يَقُولُونَ: نَعَمْ هُوَ عَلَيْنَا حَقٌّ نُقِرُّ بِهِ وَنُصَدِّقُ، وَلَكِنَّا نُصَلِّي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَرَاهَةَ اللَّائِمَةِ. فَإِنْ قَالُوا: لَمْ يُقِرُّوا بَعْدُ، قِيلَ لَهُمْ: لَمْ يُقِرُّوا بِالْفِعْلِ، وَلَمْ يُقِرُّوا أَنَّهُ حَقٌّ وَاجِبٌ. فَإِنْ قَالُوا: لَمْ يُقِرُّوا بِالْفِعْلِ، قِيلَ لَهُمْ: فَالْإِقْرَارُ بِالْفِعْلِ إِنَّمَا هُوَ إِرَادَةٌ يُعَبِّرُوا عَنْهَا، أَنَّا نَفْعَلُ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا كَفَرُوا فِي قَوْلِكُمْ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْإِيمَانَ إِرَادَةٌ وَوَعْدٌ بِالْقَوْلِ أَنْ يَفْعَلُوا، وَهُنَا خِلَافُ مَا ادَّعَيْتُمْ فِي اللُّغَةِ. وَيُقَالُ لَهُمْ: مَا تَقُولُونَ فِي مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْخَمْرَ حَلَالٌ هَلْ كَفَرَ؟ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ، قِيلَ لَهُمْ: فَهَلْ تَرَكَ إِيمَانًا بِتَحْلِيلِهِ الْخَمْرَ؟ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ، قِيلَ لَهُمْ: فَهُوَ كَافِرٌ بِاللَّهِ وَبِالْقُرْآنِ؟ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ، قِيلَ: فَمَا تَقُولُونَ فِي رَجُلٍ أَقَرَّ بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَبِمَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَنَّ الْخَمْرَ عَلَيْهِ حَرَامٌ ثُمَّ اسْتَحَلَّهَا هَلْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ أَمْ بِالْخَمْرِ؟ فَإِنْ قَالُوا: بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، قِيلَ: فَمَا عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَسْتَتِيبَهُ مِنْهُ؟ أَيَسْتَتِيبُهُ مِنْ تَحْلِيلِ الْخَمْرِ أَمْ يَسْتَتِيبُهُ مِنَ الْجَحْدِ بِاللَّهِ حَتَّى يَشْهَدَ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِرُّ بِجَمِيعِ الْفَرَائِضِ؟ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ زَعَمُوا أَنَّ الْإِقْرَارَ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ الْإِقْرَارُ بِجَمِيعِ الدِّينِ، وَالْكُفْرَ بِهَا الْكُفْرُ بِجَمِيعِ الدِّينِ مَعَ خُرُوجِهِمْ مِنَ الْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا أَنَّهُ لَا يُسْتَتَابُ مِنْ تَحْلِيلِ الْخَمْرِ. أَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ بِمَا سِوَاهَا فَقَدْ كَفَّرُوهُ وَفِيهِ أَكْثَرُ الْإِيمَانِ، لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ بَعْدَ اسْتِحْلَالِهِ الْخَمْرَ: الزِّنَا حَلَالٌ ازْدَادَ بِذَلِكَ كُفْرًا إِلَى كُفْرِهِ الْأَوَّلِ. فَإِنْ قَالُوا: إِنَّهُ يَزْدَادُ كُفْرًا وَلَا يَكُونُ بِازْدِيَادِهِ الْكُفْرَ تَارِكًا لِلْإِيمَانِ فَقَدْ أَصَابُوا لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ لَمْ يَتْرُكْ بِذَلِكَ إِيمَانًا فَهُوَ إِذَا رَجَعَ عَنْ تِلْكَ الْخَلَّةِ لَمْ يُصِبْ بِهَا إِيمَانًا. فَإِنْ قَالُوا: قَدْ يَزْدَادُ كُفْرًا إِلَى كُفْرٍ بِلَا تَرْكِ إِيمَانٍ قَدْ يَزْعُمُ أَنَّ الشَّمْسَ رَبَّهُ ثُمَّ يُضِيفُ إِلَيْهَا الْقَمَرَ فَيَزْدَادُ كُفْرًا، وَلَمْ يَتْرُكْ بِذَلِكَ إِيمَانًا

⦗ص: 794⦘

. قُلْنَا: لَيْسَ عَنْ كَافِرٍ لَمْ يُؤْمِنْ بِشَيْءٍ سَأَلْنَاكُمْ، إِنَّمَا سَأَلْنَاكُمْ عَنْ مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ رَبَّهُ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الشَّمْسَ أَيْضًا رَبَّهُ هَلْ تَرَكَ إِيمَانًا بِالتَّوْحِيدِ، وَلَمْ يُنْكِرِ الْخَالِقَ فَإِنَّمَا يُصَابُ الْإِيمَانُ بِتَرْكِ الْكُفْرِ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَنْفِي الشِّرْكَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُقِرَّ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُهُ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِذَلِكَ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ يُقِرَّ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُهُ وَحْدَهُ وَيَنْفِي الشَّرِيكَ الَّذِي أَدْخَلَهُ، وَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُهُ وَرَبُّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَمْ يُقِرَّ بِتَحْرِيمِ الزِّنَا وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يُقِرَّ بِتَحْرِيمِ الزِّنَا وَيُؤْمِنَ بِهِ، وَمِنْهُ يُسْتَتَابُ وَلَا يُقَالُ لَهُ: أَقِرَّ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُكَ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَيُقَالُ لَهُمْ: خَبِّرُونَا عَمَّنِ اعْتَقَدَ أَنَّ لِلَّهَ وَلَدًا، ثُمَّ عَبَّرَ بِلِسَانٍ عَمَّا فِي قَلْبِهِ هَلِ الْعَقْدُ مِنْهُ كُفْرٌ مِنْهُ؟ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ، قِيلَ لَهُمْ: فَهَلْ قَوْلُهُ: لِلَّهِ وَلَدٌ أَوْ شَرِيكٌ أَوْ لَيْسَ بِإِلَهٍ إِذَا قَالَهُ مُقِرًّا بِلِسَانِهِ عَمَّا فِي قَلْبِهِ هَلْ يَكُونُ الْعِبَارَةُ مِنْهُ بِذَلِكَ كُفْرًا؟ فَإِنْ قَالُوا: لَا، قِيلَ لَهُمْ: فَكَذَلِكَ إِقْرَارُهُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَكُونُ إِيمَانًا. فَإِنْ قَالُوا: إِنَّ إِقْرَارَهُ الْأَوَّلَ إِيمَانٌ وَتَكْرَارَهُ لَيْسَ بِإِيمَانٍ

⦗ص: 795⦘

. قِيلَ لَهُمْ: وَكَذَلِكَ الْكُفْرُ. فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ، قِيلَ لَهُمْ: عِبَارَةٌ كَعِبَارَةٍ أَوَّلُهَا الْمُبْتَدَأُ بِهَا كُفْرٌ، وَالثَّانِي لَا كُفْرَ وَهَذَا التَّنَاقُضُ. فَإِنْ قَالُوا: إِنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ إِيمَانٌ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْإِقْرَارِ، قِيلَ لَهُمْ: فَقَدِ ازْدَادَ الْعَبْدُ إِيمَانًا فَإِذَا أَمْسَكَ عَنِ التَّكْرَارِ وَكَرَّرَ غَيْرُهُ كَانَ هَذَا الْمُكَرِّرُ أَكْثَرَ إِيمَانًا مِنَ الَّذِي لَمْ يُكَرِّرْهُ، وَقَدْ دَخَلْتُمْ فِي أَعْظَمِ مِمَّا عِبْتُمْ عَلَى مُخَالِفِيكُمْ إِذْ زَعَمُوا أَنَّ الْفَرْضَ مِنَ الْإِيمَانِ، وَجَعَلْتُمْ أَنْتُمُ النَّافِلَةَ مِنَ الْإِيمَانِ، فَقَدْ ثَبَتُّمُ التَّطَوُّعَ إِيمَانًا فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي قَوْلِهِ: تَرْكُهُ كُفْرٌ، إِذْ كَانَ ضِدُّهُ إِيمَانًا. فَإِنْ قَالُوا: إِنَّ تَكْرَارَهُ فِي الْفَرَائِضِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِيمَانٌ، وَلَا يَكُونُ التَّكْرَارُ فِي التَّطَوُّعِ إِيمَانًا. قِيلَ لَهُمْ: وَإِذَا جَاءَ بِفَرِيضَةٍ كَالصَّلَاةِ فِيهَا التَّشَهُّدُ وَالذِّكْرُ حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ خَوْفُ اللَّهِ وَطَلَبُ رِضَاهُ ثُمَّ ضَيَّعَهَا مِنَ الْغَدِ أَيُضَيِّعُهَا وَهُوَ عَلَى خَوْفِهِ الْأَوَّلِ وَخُضُوعِهِ لِلَّهِ بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ؟ فَإِنْ قَالُوا: لَا، قِيلَ لَهُمْ: فَهَلْ نَقَصَ مِنْ إِيمَانِهِ إِذْ زَالَ خَوْفُهُ الْأَوَّلُ وَرَغْبَتُهُ الَّتِي هَاجَتْهُ عَلَى الصَّلَاةِ؟ فَإِنْ قَالُوا: لَيْسَ تَكْرَارُهُ مِنْ إِيمَانِهِ فِي فَرْضٍ وَلَا غَيْرِهِ

⦗ص: 796⦘

. قِيلَ لَهُمْ: فَكَذَلِكَ لَيْسَ تَكْرَارُ الْكَافِرِ الْجَحْدَ بِلِسَانِهِ وَإِضَافَتَهُ إِلَى اللَّهِ الْوَلَدَ وَالشَّرِيكَ مِنْ كُفْرِهِ. فَإِنْ قَالُوا: لَيْسَ هُوَ مِنْ كُفْرِهِ، قِيلَ لَهُمْ: فَمَا جَعَلَ أَوَّلَ الْجَحْدِ بِلِسَانِهِ كُفْرًا، وَلَمْ يَجْعَلِ الْجَحْدَ الثَّانِي بِلِسَانِهِ كُفْرًا وَهُمَا وَاحِدٌ فِي مَعْنَاهُمَا لَا يَخْتَلِفَانِ، وَالنَّهْيُ عَنْهُمَا ثَابِتٌ، وَإِنَّمَا هُمَا عِبَارَةٌ عَنِ الْجَحْدِ فَلَئِنْ كَانَ كِلَاهُمَا جَحْدًا، وَاحِدُهُمَا كُفْرٌ، وَالْآخَرُ لَيْسَ بِكُفْرٍ لَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا كِلَاهُمَا كُفْرًا وَاحِدُهُمَا جَحْدٌ وَالْآخَرُ لَيْسَ بِجَحْدٍ، إِذْ لَا مَعْنَى لِلْكُفْرِ إِلَّا الْجَحْدُ، وَهَلْ يَخْتَلِفُ النَّاسُ فِي اللُّغَةِ أَنَّ رَجُلًا لَوْ جَحَدَ رَجُلًا حَقَّهُ ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ فَسَأَلَهُ فَجَحَدَهُ أَنْ يُقَالَ كُلَّمَا سَأَلَهُ حَقَّهُ جَحَدَهُ، وَكَذَلِكَ يُقَالُ كَفَرَهُ حَقَّهُ، فَلَا فُرْقَانَ بَيْنَ الْجَحْدَيْنِ. فَإِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّ الْأَوَّلَ كُفْرٌ، وَالثَّانِي لَيْسَ بِكُفْرٍ فَقَدْ خَرَجْتُمْ مِنَ اللُّغَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَأْتُوا بِحُجَّةٍ. فَإِنْ قَالُوا: إِنَّ الْأَوَّلَ، وَالْآخَرَ لَيْسَ بِكُفْرٍ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْكُفْرَ عَقْدٌ فِي الْقَلْبِ، وَلَيْسَ الْجَحْدُ بِاللِّسَانِ مِنَ الْكُفْرِ فِي شَيْءٍ، فَكَذَلِكَ الْمَعْرِفَةُ بِالْقَلْبِ إِيمَانٌ وَلَيْسَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ مِنَ الْإِيمَانِ فِي شَيْءٍ. فَإِنْ قَالُوا: بَيْنَهُمَا فُرْقَانٌ، سُئِلُوا عَنِ الْفُرْقَانِ، وَلَنْ يَأْتُوا بِهِ

⦗ص: 797⦘

. وَيُقَالُ لَهُمْ: أَخْبِرُونَا عَمَّنْ كَانَ يُوَحِّدُ اللَّهَ فِي الْفَتْرَةِ كَزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ وَأَدْرَكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَآمَنَ بِهِ هَلِ ازْدَادَ إِيمَانًا؟ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ، قِيلَ كَذَلِكَ مَنْ كَانَ يَكْفُرُ بِاللَّهِ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَكَفَرَ بِهِ فَقَدِ ازْدَادَ كُفْرًا؟ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ، كِلَاهُمَا يَزْدَادُ، هَذَا الْكَافِرُ يَزْدَادُ كُفْرًا، وَهَذَا الْمُؤْمِنُ يَزْدَادُ إِيمَانًا، لِأَنَّهُمَا لَمْ يَخْرُجَا مِنْ بَابِ تَصْدِيقٍ وَجَحْدٍ. قِيلَ لَهُمْ: أَلَيْسَ هُوَ جَحْدٌ بَعْدَ جَحْدٍ فَكَذَلِكَ إِذَا كَرَّرَ الْجَحْدَ فَتَكْرَارُهُ كُلُّهُ كُفْرٌ؟ فَإِنْ قَالُوا: إِذَا أَتَى بِجَحْدَيْنِ فِي أَوَّلِ الْبِدَايَةِ لِمَعْنَيَيْنِ مُفْتَرِقَيْنِ كَانَ كُفْرًا فَإِذَا أَتَى بِجَحْدَيْنِ لِمَعْنًى وَاحِدٍ كَانَتِ الْبِدَايَةُ كُفْرًا، وَالثَّانِي لَيْسَ بِكُفْرٍ. قِيلَ لَهُمْ: هَذَا تَحَكُّمٌ، فَأْتُوا بِلُغَةٍ أَوْ مَعْقُولٍ وَنَحْنُ مُوجِدُوهُمْ فِي اللُّغَةِ مِثْلَ ذَلِكَ أَنَّ الْعَامَّةَ إِذَا سَمِعَتِ النَّصْرَانِيَّ تَشْهَدُ أَنَّ لِلَّهَ وَلَدًا، قَالُوا لَهُ: تَكَلَّمْتَ بِالْكُفْرِ، وَهَذَا يَا عَدُوَّ اللَّهِ الْكُفْرُ، وَإِنْ كَانَ يُكَرِّرُهَا إِنْ بَلَغَ مِائَةَ سَنَةٍ فَهُوَ مُتَكَلِّمٌ بِالْكُفْرِ مُكَرِّرٌ فَكَذَلِكَ الْمُكَرِّرُ لِلشَّهَادَةِ لِلَّهِ بِالتَّوْحِيدِ وَلِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم بِالرِّسَالَةِ يَتَكَلَّمُ بِالْإِيمَانِ أَبَدًا

⦗ص: 798⦘

. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَحَكَى عَنْ بَعْضِ الْأَكَابِرِ مِنْ أُسْتَاذِي الْمُرْجِئَةِ: النُّعْمَانُ بْنُ ثَابِتٍ وَغَيْرُهُ أَنَّهُمْ قَالُوا: الْمَعْرِفَةُ وَالْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ كَالدَّابَّةِ الْبَلْقَاءِ لَا يُسَمَّى بَلْقَاءَ حَتَّى يَجْتَمِعَ فِيهَا اللَّوْنَانِ السَّوَادُ وَالْبَيَاضُ فَإِذَا انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا لَمْ يُسَمِّ الدَّابَّةَ بَلْقَاءَ، وَلَا يُسَمَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ اللَّوْنَيْنِ عَلَى الِانْفِرَادِ بَلْقَاءَ فَإِذَا اجْتَمَعَا فِي الدَّابَّةِ سُمِّيَا بَلْقَاءَ، فَكَذَلِكَ الْمَعْرِفَةُ وَالْإِقْرَارُ إِذَا انْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يُسَمَّيَا إِيمَانًا وَلَا يُسَمَّى الْإِنْسَانُ بِهِ مُؤْمِنًا، فَإِذَا اجْتَمَعَا سُمِّيَا إِيمَانًا، وَيُسَمَّى الْمُؤْمِنُ بِاجْتِمَاعِهِمَا مُؤْمِنًا. قَالُوا: وَذَلِكَ أَيْضًا كَالنَّوْرَةِ وَالزَّرْنِيخِ لَا يَتَحَلَّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ، فَإِذَا اجْتَمَعَا حَلَقَا. فَيُقَالُ لَهُمْ: إِنَّ هَذَيْنِ الْمَثَلَيْنِ اللَّذَيْنِ ضَرَبْتُمُوهُمَا هُمَا عَلَيْكُمْ لَا لَكُمُ لِأَنَّ الدَّابَّةَ إِذَا انْفَرَدَتْ بِأَحَدِ اللَّوْنَيْنِ لَمْ تُسَمَّ بَلْقَاءَ أَبَدًا، وَلَا يُسَمَّى اللَّوْنُ بَلْقَاءَ عَلَى حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ مَا لَمْ يَجْتَمِعَا فِي الدَّابَّةِ، وَأَنْتُمْ قَدْ تُسَمُّونَ الْمُؤْمِنَ مُؤْمِنًا إِذَا اعْتَقَدَ الْمَعْرِفَةَ وَالْإِيمَانَ بِالْقَلْبِ، وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ بِلِسَانِهِ إِذَا كَانَ أَخْرَسَ أَوْ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلَامِ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ الْفِعْلَ مِنْهُ إِيمَانًا

⦗ص: 799⦘

، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِلِسَانِهِ مَرَّةً ثُمَّ سَكَتَ عَنِ الْكَلَامِ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَبَدًا لَكَانَ عِنْدَكُمْ مُؤْمِنًا، وَلَوْ أَنَّ الدَّابَّةَ الْبَلْقَاءَ زَالَ عَنْهَا الْبَيَاضُ وَبَقِيَ السَّوَادُ وَبَقِيَ الْبَيَاضُ لَزَالَ عَنْهَا اسْمُ الْبَلَقِ، فَلَمْ يُسَمَّ بَلْقَاءَ أَبَدًا، وَلَمْ يُسَمَّ اللَّوْنُ الْوَاحِدُ إِذَا بَقِيَ بَلْقَاءَ أَبَدًا، وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ الْمَوْلُودُ عَلَى الْإِيمَانِ النَّاشِئُ عَلَيْهِ الْمُعْتَقِدُ لِلْمَعْرِفَةِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ هُوَ مُؤْمِنٌ عِنْدَكُمْ، وَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِلِسَانِهِ أَبَدًا وَلَوْ أَنَّ الدَّابَّةَ نُتِجَتْ وَلَوْنُهَا كُلُّهَا بَيَاضٌ لَا سَوَادَ فِيهِ أَوْ سَوَادٌ لَا بَيَاضَ فِيهِ لَمْ يُسَمَّ بَلْقَاءَ أَبَدًا، فَقَدْ بَطَلَ أَنْ يَكُونَ الدَّابَّةُ مَثَلًا لِلْمُؤْمِنِ، وَالْبَلَقُ مَثَلًا لِلْإِيمَانِ إِذَا افْتَرَقَ مَعْنَاهُمَا، وَلِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ وَالْإِقْرَارَ فِعْلَانِ يَزُولُ أَحَدُهُمَا وَيَثْبُتُ الْآخَرُ، وَفِعْلُ الْقَلْبِ يُسَمَّى تَصْدِيقًا فِي اللُّغَةِ إِذَا كَانَ الْفَاعِلُ لَهُ مُعْتَقِدًا لِلْمَعْرِفَةِ وَالِاعْتِرَافِ بِالْقَلْبِ خَاضِعًا مُذْعِنًا، وَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِلِسَانِهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ الْفِعْلُ مِنْهُ إِيمَانًا وَلَوْ أَقَرَّ بِلِسَانِهِ إِيمَاءً وَلَمْ يُعْلَمْ مَا فِي قَلْبِهِ يُسَمَّى مُؤْمِنًا وَيُسَمَّى ذَلِكَ الْإِقْرَارُ مِنْهُ إِيمَانًا، وَحُكِمَ لَهُ بِحُكْمِ الْإِيمَانِ، وَجَرَى عَلَى فَاعِلِهِ اسْمُ الْمُؤْمِنِ وَأَحْكَامِهِ فَكَانَ مُؤْمِنًا فِي الِاسْمِ وَالْحُكْمِ مَعًا، وَالدَّابَّةُ إِذَا ظَهَرَ فِيهَا أَحَدُ اللَّوْنَيْنِ

⦗ص: 800⦘

، وَلَمْ يَظْهَرِ الْآخَرُ لَمْ يُسَمَّ بَلْقَاءَ، وَلَمْ يُسَمَّ ذَلِكَ اللَّوْنُ الْمُنْفَرِدُ بَلْقَاءَ أَبَدًا، فَقَدِ افْتَرَقَ مَعْنَى الْإِيمَانِ وَاسْمُهُ مِنْ مَعْنَى الْبَلَقِ فِي الدَّابَّةِ وَاسْمُهُ، وَفَارَقَ الْمُؤْمِنُ الدَّابَّةَ الْبَلْقَاءَ فِي الِاسْمِ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا، فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مِثْلُ الْآخَرِ. وَأَمَّا ضَرْبُكُمُ الْمَثَلَ بِالنَّوْرَةِ وَالزَّرْنِيخِ فَذَلِكَ أَبْعَدُ فِي الْمَثَلِ، وَلَيْسَ يَخْلُو ضَرْبُكُمُ الْمَثَلَ بِهِمَا مِنْ أَنْ تَكُونُوا مَثَّلْتُمُ النَّوْرَةَ وَالزَّرْنِيخَ بِالْإِيمَانِ أَوْ بِالْمُؤْمِنِ فَإِنْ كَانَ بِالْمُؤْمِنِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُ جِسْمَيْنِ يَجْتَمِعَانِ فَيَكُونُ مِنْهُمَا الْإِيمَانُ كَالنَّوْرَةِ وَالزَّرْنِيخِ يَكُونُ مِنْهُمَا الْحَلْقُ وَهَذَا مُحَالٌ مِنَ الْكَلَامِ. وَإِنْ تَكُونُوا مَثَّلْتُمُوهُمَا بِالْإِيمَانِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ جِنْسِ صَاحِبِهِ وَلَا جَوْهَرِهِ فَإِذَا اجْتَمَعَا وَهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ كَانَ مِنْهُمَا الْحَلْقُ فَإِنْ يَكُنِ الْحَلْقُ مَثَلًا لِلْإِيمَانِ فَالْإِيمَانُ إِذًا مَعْنًى مُتَوَلِّدٌ عَنِ الْإِقْرَارِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَلَيْسَ الْإِقْرَارُ وَالْمَعْرِفَةُ بِإِيمَانٍ كَمَا أَنَّ الْحَلْقَ لَيْسَ بِزَرْنِيخٍ وَلَا نَوْرَةٍ. وَإِنْ تَكُونُوا مَثَّلْتُمُوهُمَا عَلَى الْإِيمَانِ لِأَنَّ الْحَلْقَ يَتَوَلَّدُ عَنْهُمَا كَالطَّاعَةِ يَتَوَلَّدُ عَنِ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِقْرَارِ فَقَدْ جَعَلْتُمُ

⦗ص: 801⦘

اثْنَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي أَعْيَانِهِمَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ الْآخَرِ يُسَمَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاسْمٍ غَيْرِ اسْمِ الْآخَرِ، وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُمَا غَيْرُهُمَا، فَالْإِيمَانُ إِذًا اثْنَانِ يُوجِبَانِ الطَّاعَةَ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِكُمْ. فَإِنْ قُلْتُمْ: إِنَّمَا أَرَدْنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يُسَمَّى حَالِقًا حَتَّى يَجْتَمِعَا فَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ وَالْمَعْرِفَةُ لَا يُسَمَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِيمَانًا حَتَّى يَجْتَمِعَا. قِيلَ لَهُمْ: إِنَّ الْحَلْقَ فِعْلٌ مُتَوَلِّدٌ عَنْهُمَا سُمِّيَا بِهِ حَالِقَانِ لَا لِأَعْيَانِهِمَا حِينَ اجْتَمَعَا، وَأَنْتُمْ تُسَمُّونَ الْإِقْرَارَ وَالْمَعْرِفَةَ إِيمَانًا فِي أَنْفُسِهِمَا وَإِنْ لَمْ يَتَوَلَّدْ عَنْهُمَا طَاعَةٌ. فَإِنْ قَالُوا: إِنَّهُمَا إِذَا اجْتَمَعَا كَانَ الْحَلْقُ مِنْ فِعْلِهِمَا وَإِنْ لَمْ يَحْلِقَا فَالِاسْمُ لَهُمَا ثَابِتٌ، فَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ وَالْمَعْرِفَةُ. قِيلَ لَهُمْ: إِنَّهُمَا لَا يَحْلِقَانِ، وَلَا يَكُونُ لَهُمَا الِاسْمُ ثَابِتًا حَتَّى يَجْتَمِعَا مَعَ الْمَاءِ وَهُوَ جِسْمٌ ثَالِثٌ، فَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ وَالْمَعْرِفَةُ لَا يُسَمَّيَانِ إِيمَانًا حَتَّى يَجْتَمِعَ مَعَهُمَا جِسْمٌ ثَالِثٌ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَيُقَالُ لَهُمْ: وَكَذَلِكَ يَجُوزُ لِمُخَالِفِيكُمْ أَيْضًا أَنْ يَضْرِبُوا مَثَلًا لِقَوْلِهِمْ: إِنَّ الْإِيمَانَ اسْمٌ

⦗ص: 802⦘

لِطَاعَاتٍ كَثِيرَةٍ فَيَقُولُونَ: مَثَلُ ذَلِكَ كَمَثَلِ بَعْضِ الْأَدْوِيَةِ لِلْمَشْيِ وَغَيْرِهِ، أَنَّهُ لَا يُمْشَى وَلَا يَطْلِقُ الْبَطْنَ حَتَّى يَجْتَمِعَ فِيهِ أَخْلَاطٌ شَتَّى فَيُسَمَّى مُمْشِيًا، فَهَلْ تَجِدُونَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ فُرْقَانًا فِيمَا مَثَّلُوا وَمَثَّلْتُمْ؟ وَيُقَالُ لَهُمْ: أَخْبِرُونَا بِحَقِّ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِقْرَارِ إِذَا أَتَى بِهِمَا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ أَلَيْسَ يَكُونُ يُسَمَّى مُؤْمِنًا؟ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ، قِيلَ لَهُمْ: فَهَلْ يُجْزِئُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْإِيمَانِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ ثُمَّ يَتْرُكُهُ فِي الثَّانِي؟ فَإِنْ قَالُوا: لَا، حَتَّى يَدُومَ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ يَتُوبَ. قِيلَ لَهُمْ: فَإِنْ عَرَضَتْ بِهِ الْعَوَارِضُ الْمُشَكِّكَةُ عَنْ عَوَارِضِ الشَّيْطَانِ أَوْ حِجَاجُ أَهْلِ الضَّلَالَةِ، هَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ ذَلِكَ، وَيَحْبِسَ نَفْسَهُ عَلَى إِيمَانِهِ، وَلَا يَدَعْ قَلْبَهُ يَرْكَنُ إِلَى زِينَةِ غُرُورٍ مِنْ حُجَّةِ عَدُوٍّ وَلَا تَزْيِينِ الشَّيْطَانِ، وَيَصْبِرُ عَلَى إِيمَانِهِ؟ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ، قِيلَ لَهُمْ: فَلَوْ تَرَكَ الصَّبْرَ عَلَى إِيمَانِهِ، أَلَيْسَ كَانَ كَافِرًا؟ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ: قِيلَ لَهُمْ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ بِالصَّبْرِ عَلَى إِيمَانِهِ يَكُونُ مُؤْمِنًا كَمَا لَا يَثْبُتُ الْإِيمَانُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ مِنَ الْإِيمَانِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ إِنَّمَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ لَا بِغَيْرِهِ

⦗ص: 803⦘

. فَإِنْ قَالُوا: قَدْ يَقُومُ بِالْمُؤْمِنِ وَهُوَ غَيْرُهُ. قِيلَ لَهُمْ: لَمْ نَسْأَلْكُمْ عَنْ قِيَامِ فِعْلٍ بِفَاعِلٍ إِنَّمَا سَأَلْنَاكُمْ عَنْ فِعْلٍ لَا يَكُونُ الْإِيمَانُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ مِنَ الْإِيمَانِ كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالصَّبْرِ فِيهَا عَنِ الْخُرُوجِ مِنْهَا إِلَى غَيْرِهَا، وَالصَّبْرُ هُوَ إِمْسَاكُ الْجَوَارِحِ عَنِ الْخُرُوجِ مِنْهَا إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الْكَلَامِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَذَلِكَ مِنْ صَلَوَاتِهِ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ إِقْبَالَهُ وَتَرْكَهُ الْإِدْبَارَ عَنِ الْقِبْلَةِ وَصَمْتَهُ عَنِ الْكَلَامِ مِنْ صَلَاتِهِ، وَلَوْ لَمْ يَصْبِرْ عَنْ ذَلِكَ كَانَ خَارِجًا مِنَ الصَّلَاةِ. فَكَذَلِكَ الصَّابِرُ عَنْ إِيمَانِهِ أَنْ يَزُولَ عَنْهُ فَيَعْتَقِدَ سِوَاهُ أَوْ يَتَكَلَّمَ بِغَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ عَارِفًا بِرَبِّهِ فَصَبْرُهُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ إِيمَانِهِ لَا فُرْقَانَ بَيْنَ ذَلِكَ. فَإِذَا كَانَ الصَّبْرُ عَلَى الْإِيمَانِ مِنَ الْإِيمَانِ فَكَذَلِكَ كُلُّ صَبْرٍ هُوَ لِلَّهِ طَاعَةٌ فَهُوَ إِيمَانٌ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ صَبْرٌ إِيمَانًا، وَصَبْرٌ لَا إِيمَانٌ، جَازَ أَنْ يَكُونَ تَصْدِيقٌ إِيمَانًا، وَتَصْدِيقٌ لَا إِيمَانٌ لِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا وَجَبَ لِاسْمٍ فَهُوَ وَاجِبٌ أَبَدًا مَا كَانَ الِاسْمُ يَثْبُتُ بِثُبُوتِهِ، وَيَزُولُ بِزَوَالِهِ، فَالصَّبْرُ لَهُ أَصْلٌ وَفَرْعٌ فَأَصْلُ الصَّبْرِ عَلَى إِمْسَاكِ الْإِيمَانِ، وَضِدُّهُ تَرْكُهُ، وَيَقَعُ بَدَلَهُ الْكُفْرُ، وَالْفَرْعُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ فَمَعْنًى مِنْهُ الصَّبْرُ عَلَى أَدَاءِ

⦗ص: 804⦘

الْمَفْرُوضِ، وَتَرْكُهُ مَعْصِيَةٌ، وَلَا يَلْزَمُهُ بَعْضٌ، وَكَذَلِكَ الْيَقِينُ، وَالْحُبُّ، وَالرَّجَاءُ، وَالْخَوْفُ، وَالرِّضَا، وَالتَّوَكُّلُ فَالْجَوَابُ فِيهِ عَلَى مَا وَصَفْنَا. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: إِنْ سَأَلَ سَائِلٌ مِنَ الْمُرْجِئَةِ فَقَالَ: هَلْ لِلَّهِ دِينٌ مَنْ أَصَابَهُ كَانَ مُؤْمِنًا مُسْلِمًا؟ فَيُقَالُ لَهُ: نَعَمْ دِينُ اللَّهِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ، وَهُوَ الْإِيمَانُ لَهُ أَصْلٌ مَنْ أَصَابَهُ كَانَ مُؤْمِنًا مُسْلِمًا بِالْخُرُوجِ مِنْ مِلَلِ الْكُفْرِ، وَالدُّخُولِ فِي مِلَّةِ الْإِسْلَامِ وَلِذَلِكَ الْأَصْلُ فَرْعٌ وَهُوَ الْقِيَامُ بِمَا أَقَرَّ بِهِ، وَكَمَالُ الْأَصْلِ أَنْ يَأْتِيَ بِالْقَائِمِ فَإِنْ ضَيَّعَ شَيْئًا مِنَ الْفَرَائِضِ فَقَدِ انْتَقَصَ مِنَ الْفَرْعِ وَلَمْ يَزَلِ الْأَصْلُ. فَإِنْ قَالَ: بَيِّنْ لَنَا الْأَصْلَ وَالْفَرْعَ؟ قِيلَ لَهُ: الْأَصْلُ: التَّصْدِيقُ بِاللَّهِ وَالْخُضُوعُ لِلَّهِ بِإِعْطَاءِ الْعَزْمِ لِلْأَدَاءِ بِمَا أَمَرَ بِهِ مُجَانِبًا لِلِاسْتِنْكَافِ، وَالِاسْتِكْبَارِ، وَالْمُعَانَدَةِ، وَالْفَرْعُ تَحْقِيقُ ذَلِكَ بِالتَّعْظِيمِ لِلَّهِ، وَالْخَوْفِ لَهُ وَالرَّجَاءِ الَّذِي أَوْجَبَهُ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِي يَبْعَثُهُمْ عَلَى أَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَاجْتِنَابِ الْمَحَارِمِ فَإِذَا أَدُّوا الْفَرَائِضَ وَاجْتَنَبُوا الْمَحَارِمَ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَأَبْدَانِهِمْ فَقَدِ اجْتَمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْإِيمَانُ الْمُفْتَرَضُ

⦗ص: 805⦘

. ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الْإِيمَانُ كُلُّهُ وَلَيْسَتِ النَّوَافِلُ مِنْهُ فِي شَيْءٍ وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ الْإِيمَانَ وَلَمْ يُبِحْ تَرْكَهُ، فَجَعَلَ جَحْدَهُ كُفْرًا. فَقَالُوا: مَنْ جَحَدَ بِفَرِيضَةٍ فَهُوَ كَافِرٌ، وَلَوْ جَحَدَ بِنَافِلَةٍ مِنَ النَّوَافِلِ لَمْ يَكُنْ كَافِرًا، وَالْكُفْرُ ضِدُّ الْإِيمَانِ فَثَبَتَ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْمُفْتَرَضُ، وَأَنَّ النَّوَافِلَ لَيْسَتْ مِنَ الْإِيمَانِ وَلَوْ كَانَتْ مِنَ الْإِيمَانِ لَكَانَ مَنْ جَحَدَ بِهَا كَافِرًا. قَالُوا: وَأَمَّا مَنِ احْتَجَّ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَعْلَاهَا شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ» فَلَيْسَ هَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّوَافِلَ مِنَ الْإِيمَانِ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الْأُمَّةِ أَنْ يُمِيطُوا الْأَذَى عَنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ لَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَحْفُرُوا الْآبَارَ وَيَتْرُكُوهَا مَفْتُوحَةً يَقَعُ فِيهَا الضَّعِيفُ وَالْمَكْفُوفُ وَالصَّبِيُّ، وَكَذَلِكَ لَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَضَعُوا الْعُذْرَةَ عَلَى الطَّرِيقِ فَيَدُوسُهَا النَّاسُ وَيَتَأَذَّوْنَ بِهَا، وَكَذَلِكَ لَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَضَعُوا السِّبَاعَ فِي الطَّرِيقِ يَنْهَشُ النَّاسَ وَيُجَرِّحُهُمْ. قَالُوا: فَإِنَّمَا عَنَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا يَفْعَلَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ أَذَى الْمُسْلِمِينَ

⦗ص: 806⦘

. وَقَالُوا: لَوْ كَانَ التَّنَفُّلُ مِنَ الْإِيمَانِ مَا كَمُلَ إِيمَانُ أَحَدٍ أَبَدًا، وَلَا مَلَكًا مُقَرَّبًا وَلَا نَبِيًّا مُرْسَلًا، فَكَانَ كُلُّ مَنْ لَقِيَ اللَّهَ مَنْ لَقِيَهُ لَقِيَهُ نَاقِصَ الْإِيمَانِ. قَالُوا: وَهَذَا شَتْمٌ لِرُسُلِ اللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ، وَإِيجَابُ أَنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ بِمَعْلُومٍ، وَلَا لَهُ نِهَايَةٌ، وَاللَّهُ لَا يَأْمُرُ بِمَا لَيْسَ لَهُ نِهَايَةٌ، وَلَيْسَ بِمَعْلُومٍ فَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ أَنَّ الْفَرَائِضَ مِنَ الْإِيمَانِ، وَلَيْسَتِ النَّوَافِلُ مِنْهُ فِي شَيْءٍ، وَلَكِنَّهَا بِرٌّ وَإِحْسَانٌ وَقُرْبَةٌ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ الْأَعْظَمُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ: الْإِيمَانُ وَاحِدٌ لَهُ أَصْلٌ وَفَرْعٌ فَأَصْلُهُ مُفْتَرَضٌ، وَفَرْعُهُ مِنْهُ مُفْتَرَضٌ، وَمِنْهُ لَا مُفْتَرَضٌ، فَأَمَّا الْمُفْتَرَضُ فَهُوَ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ بِقُلُوبِهِمْ وَجَوَارِحِهِمْ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ مَحْدُودٌ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يُوجِبُ إِلَّا مَعْلُومًا يَسْتَوْجِبُ الثَّوَابَ مَنْ أَتَاهُ، وَيَسْتَوْجِبُ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ مَنْ قَصَّرَ عَنْهُ بَعْدَ عِلْمٍ، وَالْبَاقِي مِنَ الْإِيمَانِ هُوَ نَافِلَةٌ لَمْ يَفْتَرِضْهُ اللَّهُ عز وجل. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ الْإِيمَانُ أَنَّ الْفَرَائِضَ لَمْ يَقُمْ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ إِلَّا عَنْ تَصْدِيقٍ بِاللَّهِ، وَبِمَا وَعَدَ وَتَوَعَّدَ فَكُلَّمَا عَظُمَ قَدْرُ اللَّهِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَقَدْرُ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ بَعَثَهُمْ ذَلِكَ عَلَى أَدَاءِ وَاجِبِ حَقِّهِ

⦗ص: 807⦘

، وَكَذَلِكَ كُلَّمَا عَظُمَ فِي قُلُوبِهِمْ بَذَلُوا لَهُ الْمَجْهُودَ، وَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِكُلِّ مَا اسْتَطَاعُوا، لَا فُرْقَانَ بَيْنَ ذَلِكَ، وَمَنْ يَقُلْ بِهَذَا مِنْ أَصْحَابِنَا فَقَدْ نَاقَضَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ شَيْءٌ مِنَ الطَّاعَةِ عَنِ التَّصْدِيقِ إِيمَانًا فَكُلُّ طَاعَةٍ عَنْ تَصْدِيقٍ إِيمَانٌ. وَإِنَّمَا خَالَفَتْنَا الْمُرْجِئَةُ بِأَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ الْإِيمَانَ اسْمٌ لِلتَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ فَقَطْ، وَقُلْنَا: لَا، بَلْ هُوَ اسْمٌ لِلطَّاعَةِ، ثُمَّ نَاقَضَتْ مِنَّا فِرْقَةٌ، فَقَالُوا: هُوَ اسْمٌ لِبَعْضِ الطَّاعَةِ لَا لِكُلِّ الطَّاعَةِ، وَإِنَّمَا بِالْمُفْتَرَضِ يَخْرُجُ تَارِكُهَا، وَلَيْسَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهَا فَرْضٌ كَانَتْ إِيمَانًا، وَإِنَّمَا كَانَتْ إِيمَانًا مِنْ أَجْلِ أَنَّهَا طَاعَةٌ لَا مِنْ أَجْلِ أَنَّهَا مُفْتَرَضَةٌ فَقَدْ نَاقَضَ مَنْ جَعَلَ طَاعَةً إِيمَانًا، وَطَاعَةً لَا إِيمَانَ، وَمَنْ تَدَبَّرَ الْإِيمَانَ عَلِمَ أَنَّهُ لَا غَايَةَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُفْتَرَضُ مِنْهُ لَهُ غَايَةٌ لِأَنَّ الَّذِي آمَنَ الْعِبَادُ بِهِ لَا غَايَةَ عِنْدَهُمْ فِي الْكَمَالِ وَالْإِجْلَالِ وَالْهَيْبَةِ، فَلَوْ آمَنُوا بِهِ كَمَا يَحِقُّ لَهُ لَعَرَفُوهُ كَمَا يَحِقُّ لَهُ، وَلَوْ عَرَفُوهُ كَمَا يَحِقُّ لَهُ لَسَاوَوْهُ بِالْعِلْمِ بِنَفْسِهِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُسَاوِيهِ مَا يَعْلَمُ بِنَفْسِهِ، فَإِذَا كَانُوا لَا يُسَاوُوهُ بِالْعِلْمِ بِنَفْسِهِ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ مَعْرِفَتَهُمْ لَيْسَتْ لَهَا غَايَةٌ. فَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ لَيْسَ لَهُ غَايَةٌ لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ أَصْلُ

⦗ص: 808⦘

الْإِيمَانِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ مِنْ رَأْفَتِهِ، وَرَحْمَتِهِ لَهُمُ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ مَا لَا يُجْهِدُهُمْ وَلَا يَسْتَفْرِغُ طَاقَتَهُمْ، وَلَوْ شَاءَ لَافْتَرَضَ عَلَيْهِمْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَوِ افْتَرَضَهُ عَلَيْهِمْ لَكَانَ إِيمَانًا مُفْتَرَضًا، وَلَوْ تَقَطَّعَ عِبَادُهُ مَا بَلَغُوا غَايَةَ الْمَعْرِفَةِ بِهِ، أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى قَوْلِ سَلْمَانَ لِحُجْرٍ:«لَوْ تَقَطَّعْتَ أَعْضَاءً مَا بَلَغْتَ الْإِيمَانَ» ، وَصَدَقَ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَعْرُوفِ غَايَةٌ عِنْدَ الْعَارِفِينَ فَيَكُونُ لِمَعْرِفَتِهِمْ بِهِ غَايَةٌ

ص: 788

801 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، ثنا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، ثنا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: قَالَ سَلْمَانُ لِحَجَرٍ: «يَا ابْنَ أُمِّ حُجَيَّةَ لَوْ تَقَطَّعْتَ أَعْضَاءً مَا بَلَغْتَ الْإِيمَانَ»

ص: 808

802 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، ثنا أَبُو صَالِحٍ، كَاتِبُ اللَّيْثِ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، وَرِشْدِينُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ أَنْعَمَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ الْأَشْعَرِيِّ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّكُمْ لَوْ عَرَفْتُمُ اللَّهَ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ لَمَشَيْتُمْ عَلَى الْبُحُورِ، وَلَزَالَ بِدُعَائِكُمُ الْجِبَالُ، وَلَوْ أَنَّكُمْ خِفْتُمُ اللَّهَ كَحَقِّ الْخَوْفِ لَعَلِمْتُمُ الْعِلْمَ الَّذِي لَيْسَ مَعَهُ جَهْلٌ، وَمَا بَلَغَ ذَلِكَ أَحَدٌ قَطُّ» قُلْتُ: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَلَا أَنَا» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ كَمَا بَلَغَنَا قَدْ كَانَ

⦗ص: 809⦘

يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَلَوِ ازْدَادَ يَقِينًا وَخَوْفًا لَمَشَى فِي الْهَوَاءِ» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كُنْتُ أَدْرِي أَنَّ الرُّسُلَ يُقَصِّرُوا فِي ذَلِكَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ أَعْظَمُ وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ يُدْرَكَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِهِ، وَلَا يَزْدَادُ أَحَدٌ مِنَ الْخَوْفِ وَالْيَقِينِ إِلَّا كَانَ مَا لَمْ يَبْلُغْ أَعْظَمَ وَأَكْثَرَ مِنَ الَّذِي يَبْلُغُ» . قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2] . وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُخْتَلِفُونَ لَوْ أَنَّ مُؤْمِنًا ذُكِرَ اللَّهُ عِنْدَهُ وَهُوَ مَشْغُولٌ بِبَعْضِ الْحَلَالِ فَلَمْ يَوْجَلْ قَلْبُهُ مَا كَانَ تَارِكًا فَرْضًا، وَلَوْ تُلِيَتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنَ الْقُرْآنِ فَلَمْ يَتَحَرَّكْ قَلْبُهُ لِشُغْلِهِ بِمَا هُوَ فِيهِ لَمْ يَتْرُكْ فَرْضًا، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ عز وجل مَنْ وَجَلَ قَلْبُهُ عِنْدَ ذِكْرِهِ وَازْدَادَ إِيمَانًا بِتَحَرُّكِ قَلْبٍ عِنْدَ تِلَاوَةِ آيَاتِ اللَّهِ مُزْدَادًا مِنَ الْإِيمَانِ ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِأَنْ جَعَلَ لَهُ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ بَعْدَ مَا وَصَفَهُ بِمَا قَدْ أَجْمَعُوا أَنَّهُ لَوْ تَرَكَهُ لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا مِنَ الْوَجَلِ فَذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ إِيمَانُ

⦗ص: 810⦘

نَفْلٍ لَا فَرْضٍ، وَكَذَلِكَ إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَفْضَلُهَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ» فَهَذِهِ دَعْوَى خُصُوصٍ دُونَ الْعُمُومِ، وَقَدْ عَمَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كُلَّ أَذًى، وَإِمَاطَتِهِ إِيمَانٌ حَتَّى تَأْتِي سُنَّةٌ ثَابِتَةٌ تَخُصُّ شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ بَلْ ظَاهِرُ اللُّغَةِ وَالْمُتَعَارَفُ فِي الْكَلَامِ أَنَّهُ إِنَّمَا يُمَاطُ عَنِ الطَّرِيقِ مَا كَانَ فِيهِ مَلْقِيُّ، وَلَا تَمْتَنِعُ الْأُمَّةُ أَنْ تَقُولَ لِمَنْ نَحَّى شَوْكَةً عَنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ قَدْ أَمَاطَ أَذًى عَنِ الطَّرِيقِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَى أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَّرَهُ فَغَفَرَ لَهُ

ص: 808

803 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ سُمَيٍّ، مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَّرَهُ شَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ» قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: فَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَنَّ الرَّجُلَ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْمُلْقِي لِلْغُصْنِ عَلَى الطَّرِيقِ فَيَكُونُ وَاجِبًا عَلَيْهِ أَنْ يُمِيطَهَا إِنَّمَا كَانَ مُتَطَوِّعًا بِإِمَاطَتِهَا، وَكَذَلِكَ الْأَخْبَارُ الَّتِي جَاءَتْ فِي إِمَاطَةِ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا فَضِيلَةٌ وَتَطَوُّعٌ مِنْ ذَلِكَ

ص: 810

804 -

مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، ثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أنا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: ثنا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" كُلُّ سُلَامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلُّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ، قَالَ: يَعْدِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَيُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ وَيَحْمِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ يَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ خُطْوَةٍ يَمْشِيهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ، وَيُمِيطُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ "

ص: 811

805 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنا جَرِيرٌ، عَنِ الْهَجَرِيِّ، عَنْ أَبِي عِيَاضٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِمَاطَتُكَ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ، وَإِرْشَادُكَ الرَّجُلَ الطَّرِيقَ صَدَقَةٌ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ صَدَقَةٌ، وَاتِّبَاعُكَ جِنَازَتَهُ صَدَقَةٌ، وَرَدُّكَ السَّلَامَ صَدَقَةٌ»

ص: 811

806 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، ثنا عَاصِمُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ مِيسَمٍ مِنَ الْإِنْسَانِ عَلَيْهِ صَلَاةٌ كُلَّ يَوْمٍ أَوْ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ» فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: هَذَا مِنْ أَشَدِّ مَا أُتِينَا بِهِ قَالَ: «إِنْ أَمْرًا بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيًا عَنِ الْمُنْكَرِ صَلَاةٌ، أَوْ صَدَقَةٌ، وَحَمْلُكَ عَلَى الضَّعِيفِ صَلَاةٌ، وَإنْمَاؤُكَ الْقَذَرَ عَنِ الطَّرِيقِ صَلَاةٌ، وَكُلُّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَلَاةٌ»

ص: 812

807 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أنا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي السَّلِيلِ، عَنْ أَبِي تَمِيمَةَ الْهُجَيْمِيِّ، عَنْ رَجُلٍ، مِنْ قَوْمِهِ قَالَ: لَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَأَلْتُهُ عَنِ الْمَعْرُوفِ؟ قَالَ: «لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تُعْطِيَ صِلَةَ الْحَبْلِ، وَلَوْ أَنْ تُعْطِيَ شِسْعَ النَّعْلِ، وَلَوْ أَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ الْمُسْتَسْقِي، وَلَوْ أَنْ تُنَحِّيَ الشَّيْءَ عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ يُؤْذِيهِمْ، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ وَوَجْهُكَ إِلَيْهِ مُنْطَلِقٌ، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ فَتُسَلِّمَ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَنْ تُؤْنِسَ الْوَحْشَانَ بِنَفْسِكَ فِي الْأَرْضِ، وَإِنْ سَبَّكَ رَجُلٌ بِشَيْءٍ يَعْلَمُهُ فِيكَ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ فِيهِ نَحْوَهُ فَلَا تَسُبَّهُ لِيَكُونَ لَكَ أَجْرُ ذَلِكَ، وَيَكُونَ عَلَيْهِ وِزْرُهُ، وَمَا سَرَّ أُذُنَكَ أَنْ يَسْمَعَهُ فَاعْمَلْهُ، وَمَا سَاءَتْكَ أَنْ تَسْمَعَهُ فَاجْتَنِبْهُ»

ص: 813

808 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، ثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ الْحَبْحَابِ، عَنْ أَبِي الْوَازِعِ الرَّاسِبِيِّ، عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَا أَدْرِي لَعَسَى أَنْ تَمْضِيَ وَأَبْقَى بَعْدَكَ فَزَوِّدْنِي شَيْئًا يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«افْعَلْ كَذَا وَافْعَلْ كَذَا - أَبُو بَكْرٍ نَسِيَهُ - وَأَمِطِ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ»

ص: 814

809 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، عَنْ شَدَّادِ بْنِ سَعِيدٍ الرَّاسِبِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَمْرٍو أَبَا الْوَازِعِ، يَذْكُرُ أَنَّهُ أَخْبَرَهُمْ أَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا أَبَا بَرْزَةَ أَمِطِ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ فَإِنَّ لَكَ بِذَلِكَ صَدَقَةٌ»

ص: 814

810 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، ثنا أَبُو الْمُغِيرَةِ، ثنا أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ عُقْبَةَ بْنِ رُومَانَ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ زَحْزَحَ عَنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا يُؤْذِيهِمْ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهِ حَسَنَةً، وَمَنْ كَتَبَ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً أَدْخَلَهُ بِهَا الْجَنَّةَ»

ص: 814

811 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، ثنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ وَاصِلٍ، مَوْلَى أَبِي عُيَيْنَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي بَشَّارُ بْنُ أَبِي سَيْفٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ غُطَيْفٍ، قَالَ: مَرِضَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَتَيْنَاهُ نَعُودُهُ فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ فَإِذَا هُوَ مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ عَلَى الْجِدَارِ وَإِذَا امْرَأَتُهُ بِجَنْبِهِ قَاعِدَةٌ فَقُلْنَا: كَيْفَ بَاتَ أَبُو عُبَيْدَةَ؟ فَقَالَتْ: بَاتَ بِأَجْرٍ، فَأَقْبَلَ إِلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَبِتْ بِأَجْرٍ، فَسَكَتْنَا فَقَالَ: أَلَا تَسْأَلُونِي عَمَّا قُلْتُ؟ قَالَ: قُلْنَا مَا أَعْجَبَنَا الَّذِي قُلْتَ فَنَسْأَلُكَ عَنْهُ، قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ أَنْفَقَ نَفَقَةً فَاضِلَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبِسَبْعِمِائَةٍ وَمَنْ أَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى أَهْلِهِ، أَوْ عَادَ

⦗ص: 816⦘

مَرِيضًا، أَوْ مَازَ أَذًى فَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ مَا لَمْ يَخْرِقْهَا وَمَنِ ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِبَلَاءٍ فِي جَسَدِهِ فَهُوَ لَهُ حَظُّهُ»

ص: 815

812 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ، قَالَ: ثنا عِكْرِمَةُ يَعْنِي ابْنَ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي زُمَيْلٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، يَرْفَعُهُ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: لَا أَعْلَمُ إِلَّا رَفَعَهُ، قَالَ:«إِفْرَاغُكَ مِنْ دَلْوِكَ فِي دَلْوِ أَخِيكَ صَدَقَةٌ، وَأَمْرُكَ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيُكَ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَتَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ صَدَقَةٌ، وَإِمَاطَتُكَ الْحَجَرَ وَالشَّوْكَ وَالْعَظْمَ عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَهَدْيُكَ الرَّجُلَ فِي أَرْضِ الضَّالَّةِ لَكَ صَدَقَةٌ»

ص: 817

813 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ السُّلَمِيُّ، ثنا النَّضْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثنا عِكْرِمَةُ، ثنا أَبُو زُمَيْلٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ صَدَقَةٌ، وَأَمْرُكَ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيُكَ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَإِرْشَادُكَ الرَّجُلَ فِي أَرْضِ الضَّالَّةِ صَدَقَةٌ، وَنَظَرُكَ لِلرَّجُلِ الرَّدِيءِ الْبَصَرِ صَدَقَةٌ، وَإِمَاطَتُكَ الْحَجَرَ وَالشَّوْكَةَ وَالْعَظْمَ عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ، وَإِفْرَاغُكَ فِي دَلْوِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ»

⦗ص: 818⦘

814 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُبَارَكِ، ثنا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ الْعَلَاءِ بْنِ زَبْرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ حَرَامَ بْنَ حَكِيمٍ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «وَعَلَى كُلِّ نَفْسٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ» وَسَاقَ الْحَدِيثَ

ص: 817

815 -

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ الْجُرْجَانِيُّ، ثنا أَبُو عَامِرٍ، ثنا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ

⦗ص: 819⦘

سَلَّامٍ، عَنْ أَبِي سَلَّامٍ، أَنَّ أَبَا ذَرٍّ، قَالَ: عَلَى كُلِّ نَفْسٍ كُلَّ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ صَدَقَةٌ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ أَيْنَ نَتَصَدَّقُ، وَلَيْسَ لَنَا أَمْوَالٌ؟ قَالَ:«أَوَلَيْسَ مِنْ أَبْوَابِ الصَّدَقَةِ التَّكْبِيرُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، وَتَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتَعْزِلُ الشَّوْكَةَ وَالْحَجَرَ عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ، وَتُسْمِعُ الْأَصَمَّ وَالْأَبْكَمَ حَتَّى يَفْقَهُ، وَتَهْدِي الْأَعْمَى، وَتُدِلُّ الْمُسْتَدِلَّ عَلَى حَاجَةٍ لَهُ قَدْ عَلِمْتَ مَكَانَهَا، وَتَسْعَى بِشَدِّ سَاقَيْكَ إِلَى اللَّهْفَانِ الْمُسْتَغِيثِ، وَتَرْفَعُ بِشَدِّ ذِرَاعَيْكَ مَعَ الضَّعِيفِ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَبْوَابِ الصَّدَقَةِ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ، وَلَكَ فِي جِمَاعِكَ زَوْجَتِكَ أَجْرٌ» قَالَ أَبُو ذَرٍّ: كَيْفَ يَكُونُ لِي أَجْرٌ فِي شَهْوَتِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ وَلَدٌ فَأَدْرَكَ وَرَجَوْتَ خَيْرَهُ ثُمَّ مَاتَ أَكُنْتَ تَحْتَسِبَهُ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ:«فَأَنْتَ خَلَقْتَهُ؟» قُلْتُ: بَلِ اللَّهَ خَلَقَهُ، قَالَ:«فَأَنْتَ هَدَيْتَهُ؟» قُلْتُ: بَلِ اللَّهُ هَدَاهُ، قَالَ:«فَأَنْتَ كُنْتَ تَرْزُقُهُ؟» قُلْتُ: بَلِ

⦗ص: 820⦘

اللَّهُ كَانَ يَرْزُقُهُ، قَالَ:«فَكَذَاكَ فَضَعْهُ فِي حَلَالِهِ، وَجَنِّبْهُ حَرَامَهُ فَإِنْ شَاءَ اللَّهُ أَحْيَاهُ، وَإِنْ شَاءَ أَمَاتَهُ وَلَكَ أَجْرُهُ»

ص: 818

816 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، ثنا مَعْمَرُ بْنُ يَعْمَرَ اللَّيْثِيُّ، ثنا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي زَيْدٌ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلَّامٍ، ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ فَرُّوخَ، أَنَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ، تَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ خَلْقَ كُلَّ إِنْسَانٍ مِنْ بَنِي آدَمَ عَلَى سِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةِ مَفْصِلٍ فَمَنْ كَبَّرَ اللَّهَ، وَحَمِدَ اللَّهَ، وَهَلَّلَ اللَّهَ، وَسَبَّحَهُ، وَاسْتَغْفَرَهُ، وَعَزَلَ شَجَرًا عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ، أَوْ عَزَلَ شَوْكًا عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ، أَوْ عَزَلَ عَظْمًا عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ أَمَرَ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ عَدَدَ ذَلِكَ السِّتِّينَ وَالثَّلَاثِمِائَةٍ السُّلَامَى فَإِنَّهُ يُمْسِي يَوْمَئِذٍ وَقَدْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ»

⦗ص: 821⦘

817 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْوَرَّاقُ، ثنا أَبُو سَلَمَةَ، ثنا أَبَانُ، ثنا يَحْيَى، أَنَّ زَيْدًا حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا سَلَّامٍ حَدَّثَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ فَرُّوخَ حَدَّثَهُ أَنَّ عَائِشَةَ حَدَّثَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ مِثْلَهُ

ص: 820

818 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ أَبَانَ بْنِ صَمْعَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْوَازِعِ، عَنْ أَبِي بَرْزَةَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ؟ قَالَ: «أَمِطِ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ»

ص: 821

819 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، ثنا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثنا أَبُو هِلَالٍ، ثنا أَبُو الْوَازِعِ، عَنْ أَبِي بَرْزَةَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مُرْنِي بِعَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ أَدْخَلَنِي اللَّهُ بِهِ الْجَنَّةَ؟ قَالَ: «انْظُرْ مَا يُؤْذِي النَّاسَ فِي طَرِيقِهِمْ فَنَحِّهِ»

ص: 821

820 -

حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، ثنا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، ثنا الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ، ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «فِي الْإِنْسَانِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ مَفْصِلًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَنْ كُلِّ مَفْصِلٍ بِصَدَقَةٍ» قَالُوا: وَمَنْ يُطِيقُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «النُّخَاعَةُ يَرَاهَا فِي الْمَسْجِدِ فَيَدْفِنُهَا صَدَقَةٌ، وَالْأَذَى يُنَحِّيهِ عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَرَكْعَتَيِ الضُّحَى»

ص: 822

821 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي سَمِينَةَ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ سَابِقٍ، ثنا مِنْهَالُ بْنُ خَلِيفَةَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: ثنا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِحَدِيثٍ مَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ مُنْذُ عَرَفْنَا الْإِسْلَامَ فَرَحُنَا بِهِ قَالَ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ يُؤْجَرُ فِي هِدَايَتِهِ الْمُسْلِمَ، وَإِمَاطَتِهِ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَفِي تَعْبِيرِ لِسَانِهِ عَنِ الْأَعْجَمِيِّ وَإِنَّهُ لَيُؤْجَرُ فِي إِتْيَانِهِ أَهْلِهِ حَتَّى إِنَّهُ لَيُؤْجَرُ فِي السِّلْعَةِ فَتَكُونُ فِي طَرَفِ الثَّوْبِ فَيَلْتَمِسَهَا فَيُخْطِئُهَا كَفُّهُ فَيُخْفِقُ لَهَا فُؤَادُهُ فَيَرُدُّ عَلَيْهِ فَيُكْتَبُ لَهُ أَجْرُهَا»

ص: 822

822 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ جُوَيْرِيَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «أَكْثَرُهَا، فَأَكْثَرُهَا، فَأَكْثَرُهَا» ، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِي مَالٌ؟ قَالَ: «فَمِنْ عَفْوِ مَالِكَ» قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟ قَالَ: «فَمِنْ عَفْوِ طَعَامِكَ» ، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟ قَالَ: «اتَّقِ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ التَّمْرِ» قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟ قَالَ: «فَأَمِطِ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ» قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟ قَالَ: «الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ» قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟ قَالَ: «فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ يَا أَبَا ذَرٍّ فَدَعِ النَّاسَ مِنَ الشَّرِّ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَى نَفْسِهِ»

⦗ص: 824⦘

قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟ قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا تُرِيدُ يَا أَبَا ذَرٍّ تَدَعُ فِيكَ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا " قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ إِمَاطَةَ الْأَذَى لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ، إِذْ قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ، قَالَ: فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ؟ قَالَ: فَدَعِ النَّاسَ مِنَ الشَّرِّ فَلَوْ كَانَ إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ وَاجِبًا لَمَا رَخَّصَ لَهُ فِي تَرْكِهِ، وَلَقَالَ لَهُ عَلَيْكَ أَنْ تَفْعَلَهُ، وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فَرْضًا عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْهُ أَبْدَلَهُ مَكَانَهُ شَيْئًا هُوَ أَسْهَلُ عَلَيْهِ مِنْهُ، فَلَمَّا قَالَ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ لَمْ يُرَخِّصْ لَهُ فِي تَرْكِهِ كَفَّ الشَّرِّ إِذْ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، فَأَبَانَ أَنَّ إِمَاطَةَ الْأَذَى مِنَ النَّوَافِلِ

ص: 823

823 -

حَدَّثَنَا بُنْدَارٌ، ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، ثنا سُفْيَانُ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، يَقُولُ:«مَنْ مَشَى بِدَيْنِهِ إِلَى غَرِيمِهِ يَقْضِيَهُ فَلَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ صَدَقَةٌ، وَمَنْ هَدَى زُقَاقًا فَلَهُ بِهِ صَدَقَةٌ، وَمَنْ أَعَانَ ضَعِيفًا عَلَى حَمْلِ دَابَّةٍ فَلَهُ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ، وَمَنْ أَمَاطَ أَذًى عَنِ الطَّرِيقِ فَلَهُ صَدَقَةٌ» قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: «الْبَذَاذَةُ مِنَ الْإِيمَانِ» يُرِيدُ التَّقَشُّفَ، وَلَيْسَ التَّقَشُّفُ بِغَرَضٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ:«الْحَيَاءُ مِنَ الْإِيمَانِ»

ص: 824

824 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ فَقَالَ: «إِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الْإِيمَانِ» . قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَالْحَيَاءُ حَيَاءَانِ حَيَاءٌ مِنَ اللَّهِ، وَحَيَاءٌ مِنَ النَّاسِ، وَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِالْعَبْدِ الْحَيَاءُ مِنَ اللَّهِ عز وجل، وَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْحَيَاءَ مِنْ خَلْقِهِ خُلُقًا كَرِيمًا لَمَا كَانَ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ يَسْتَوْجِبُ أَنْ يُسْتَحَى مِنْهُ إِذْ لَا مَالِكَ لِنَفْعٍ، وَلَا ضُرٍّ غَيْرَهُ، وَلَكِنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَسْتَحِيَ خَلْقُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ فَيَسْتُرُوا عُيُوبَهُمْ مِنْهُمْ، فَلَا يَفْتَضِحُ بَعْضُهُمْ عِنْدَ بَعْضٍ، فَمِنَ الْحَيَاءِ مِنَ اللَّهِ مَا هُوَ

⦗ص: 826⦘

فَرْضٌ، وَمِنْهُ فَضِيلَةٌ وَنَافِلَةٌ، وَهُوَ هَائِجٌ عَنِ الْمَعْرِفَةِ بِعَظَمَةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ وَقُدْرَتِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ تَعْظِيمُ اللَّهِ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ أَوْرَثَهُ الْحَيَاءَ مِنَ اللَّهِ وَالْهَيْبَةِ لَهُ فَغَلَبَ عَلَى قَلْبِهِ ذِكْرُ اطِّلَاعِ اللَّهِ الْعَظِيمِ وَنَظَرِهِ بِعَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ إِلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَجَوَارِحِهِ، وَذِكْرُ الْمَقَامِ غَدًا بَيْنَ يَدَيْهِ وَسُؤَالِهِ إِيَّاهُ عَنْ جَمِيعِ أَعْمَالِ قَلْبِهِ وَجَوَارِحِهِ، وَذِكْرُ دَوَامِ إِحْسَانِهِ إِلَيْهِ، وَقِلَّةِ الشُّكْرِ مِنْهُ لِرَبِّهِ فَإِذَا غَلَبَ ذِكْرُ هَذِهِ الْأُمُورِ عَلَى قَلْبِهِ هَاجَ مِنْهُ الْحَيَاءُ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَحَى اللَّهَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى قَلْبِهِ وَهُوَ مُعْتَقِدٌ لِشَيْءٍ مِمَّا يَكْرَهُ، أَوْ عَلَى جَارِحَةٍ مِنْ جَوَارِحِهِ، يَتَحَرَّكُ بِمَا يَكْرَهُ فَطَهَّرَ قَلْبَهُ مِنْ كُلِّ مَعْصِيَةٍ، وَمَنَعَ جَوَارِحَهُ مِنْ جَمِيعِ مَعَاصِيهِ إِذْ فَهِمَ عَنْهُ قَوْلَهُ:{ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لَنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس: 14] وَقَالَ: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس: 61] وَقَالَ: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105] وَقَالَ مُنْكِرًا عَلَى مَنِ اسْتَخَفَّ بِنَظَرِهِ: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق: 14]

ص: 825

825 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ عُفَيْرٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ إِلَى قَوْمٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي قَالَ: «أَفْشِ السَّلَامَ، وَابْذُلِ الطَّعَامَ، وَاسْتَحِ مِنَ اللَّهِ اسْتِحْيَاءَكَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِكَ وَإِذَا أَسَأْتَ فَأَحْسِنْ، وَلْتُحَسِّنْ خُلُقَكَ مَا اسْتَطَعْتَ»

ص: 827

826 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، ثنا أَبُو الْوَلِيدِ، ثنا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ يَزِيدَ، أَنَّ رَجُلًا، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي؟ قَالَ: «أُوصِيكَ أَنْ تَسْتَحِيَ اللَّهَ كَمَا تَسْتَحِي رَجُلًا صَالِحًا مِنْ قَوْمِكَ»

ص: 827

827 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، ثنا أَبُو صَالِحٍ، ثنا اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ، أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: إِنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْصِنِي؟ قَالَ: «أُوصِيكَ أَنْ تَسْتَحِيَ اللَّهَ كَمَا تَسْتَحِي رَجُلًا صَالِحًا مِنْ قَوْمِكَ» قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: أَلَسْتَ تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عَلِمَ أَنَّ رَجُلًا صَالِحًا يَنْظُرُ إِلَيْهِ أَوْ يَسْمَعُ كَلَامَهُ أَمْسَكَ عَنْ كُلِّ مَا يَخَافُ أَنْ يَمْقُتَهُ عَلَيْهِ، أَوْ يَضَعُ مِنْ قَدْرِهِ عِنْدَهُ، وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ يَطَّلِعُ عَلَى مَا فِي ضَمِيرِهِ لَمَا أَضْمَرَ إِلَّا عَلَى مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يُحَسِّنُهُ عِنْدَهُ وَيُجَمِّلُ، وَكَذَلِكَ يَسْتَحِي مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ مِنْ كُلِّ نَقْصٍ فِي فَضْلٍ إِلَّا لِمَرَضٍ، فَأَجْمَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَفْسِيرَ الْحَيَاءِ مِنَ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ فَمَنِ اسْتَحْيَى مِنَ اللَّهِ فِيمَا يُظْهِرُ وَكُلُّ شَيْءٍ ظَاهِرٌ لَهُ كَمَا يَسْتَحِي مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ فَقَدِ اسْتَحْيَى مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ لِأَنَّهُ عَالِمٌ بِأَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ فَلَا يَدَعُ قَلْبَهُ يُضْمِرُ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا يَكْرَهُ إِنْ عَرَضَ لَهُ رِيَاءٌ فِي عَمَلٍ

⦗ص: 829⦘

، أَوْ عُجْبٌ، أَوْ كِبْرٌ ذَكَرَ نَظَرَ اللَّهِ إِلَيْهِ فَاسْتَحْيَى مِنْهُ أَنْ يَرَى ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ فَتَرَكَهُ، وَاسْتَحْيَى أَيْضًا مِنْ كُلِّ نَقْصٍ يَدْخُلُ فِيهِ مِنْ فُضُولِ الدُّنْيَا، أَوْ مِنْ فُضُولِ الْكَلَامِ، وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ زَهَّدَهُ فِي ذَلِكَ وَرَغَّبَهُ فِي تَرْكِهِ فَهُوَ يَسْتَحِي أَنْ يَرَاهُ رَاغِبًا فِيمَا زَهَّدَهُ فِيهِ، وَكَذَلِكَ إِنْ خَافَ غَيْرَهُ اسْتَحْيَى مِنْهُ أَنْ يَرَاهُ يَخَافُ غَيْرَهُ أَوْ يَرْجُوهُ أَوْ يَطْمَعُ فِيهِ، وَهَذِهِ فَضِيلَةٌ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ مِنْ ذَلِكَ

ص: 828

828 -

مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، ثنا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يُونُسَ الْأَيْلِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، يَخْطُبُ النَّاسَ وَهُوَ يَقُولُ:«يَا أَيُّهَا النَّاسُ اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ فَإِنِّي لَأَظَلُّ إِذَا أَتَيْتُ الْخَلَاءَ أُغَطِّي رَأْسِي اسْتِحْيَاءً مِنْ رَبِّي»

ص: 829

829 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو مُوسَى: «إِنِّي لَأَغْتَسِلُ فِي الْبَيْتِ الْمُظْلِمِ فَمَا أُقِيمُ صُلْبِي حَيَاءً مِنْ رَبِّي حَتَّى آخُذُ ثَوْبِي»

ص: 829

830 -

حَدَّثَنِي الدَّوْرَقِيُّ، ثنا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، ثنا سَالِمٌ أَبُو جُمَيْعٍ، ثنا الْحَسَنُ، وَذَكَرَ، عُثْمَانَ وَشِدَّةَ حَيَائِهِ فَقَالَ:«إِنْ كَانَ لِيَكُونُ فِي الْبَيْتِ وَالْبَابُ عَلَيْهِ مُغْلَقٌ فَمَا يَضَعُ عَنْهُ الثَّوْبَ لِيُفِيضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ يَمْنَعُهُ الْحَيَاءُ أَنْ يُقِيمَ صُلْبَهُ»

ص: 830

831 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، ثنا الْأَعْمَشُ، عَنْ شَقِيقٍ، قَالَ:" كُنْتُ فِي جَيْشٍ فَمَرَرْنَا بِأَجَمَةٍ مُخِيفَةٍ فَإِذَا رَجُلٌ فِيهَا نَائِمٌ عَلَى فِرَاشِهِ وَفَرَسُهُ حَوْلَهُ تَدُورُ فَأَيْقَظْنَاهُ فَقُلْنَا: مَا تَخَافُ فِي هَذِهِ الْأَجَمَةِ؟ فَقَالَ: إِنِّي لَأَسْتَحِي مِنْ ذِي الْعَرْشِ أَنْ يَعْلَمَ أَنِّي أَخَافُ أَحَدًا دُونَهُ "

ص: 830

832 -

حَدَّثَنَا الدَّوْرَقِيُّ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى أَبُو جَعْفَرٍ، ثنا فَضَالَةُ بْنُ حُسَيْنٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ نَعَامَةَ، قَالَ: لَمَّا سُيِّرَ عَامِرٌ إِلَى الشَّامِ وَنَزَلُوا بِطَرِيقِ الشَّامِ بِمَاءٍ فَإِذَا الْأَسَدُ قَدْ حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَاءِ، وَجَاءَ عَامِرٌ حَتَّى أَصَابَ حَاجَتَهُ مِنَ الْمَاءِ فَقَالُوا لَهُ: لَقَدْ خَاطَرْتَ بِنَفْسِكَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنْ كُنْتُ لَأَسْتَحِي أَنْ يَعْلَمَ اللَّهُ أَنِّي أَخَافُ أَحَدًا غَيْرَهُ "

ص: 830

833 -

حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عِيسَى، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: أُنْبِئْتُ أَنَّ عَامِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْقَيْسِيَّ، تَخَلَّفَ عَنْ أَصْحَابِهِ، فَقِيلَ لَهُ: هَذِهِ الْأَجَمَةُ فِيهَا الْأَسَدُ وَإِنَّا نَخْشَى عَلَيْكَ، فَقَالَ: إِنِّي لَأَسْتَحِي رَبِّي أَنْ أَخْشَى شَيْئًا دُونَهُ "

ص: 831

834 -

حَدَّثَنَا الدَّوْرَقِيُّ، ثنا أَبُو دَاوُدَ، ثنا الْحَكَمُ بْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ، يَقُولُ: مَرَّ عَامِرٌ بِالْحُرَّاسِ لَيْلَةً فَكَلَّمُوهُ فَلَمْ يُكَلِّمْهُمْ ثُمَّ كَلَّمُوهُ فَتَكَلَّمَ، فَقَالُوا: لَقَدْ سَكَتَّ حَتَّى خِفْنَاكَ فَقَالَ: " لَأَنْ تَخْتَلِفَ الْأَسِنَّةُ فِي جَوْفِي أَحَبُّ مِنْ أَنْ يَعْلَمَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِي أَنِّي أَخَافُ سِوَاهُ، قَالَ الْحَسَنُ: قَدْ خَافَ مَنْ كَانَ خَيْرًا مِنْ عَامِرٍ خَافَ مُوسَى نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

ص: 831

835 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ الدَّوْرَقِيُّ، ثنا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثنا عُمَارَةُ بْنُ أَبِي شُعَيْبٍ الْقَسْمَلِيُّ، ثنا مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ، قَالَ: مَرَّ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَيْسِيُّ فَإِذَا قَافِلَةٌ قَدِ احْتَبَسَتْ، فَقَالَ لَهُمْ:«مَا لَكُمْ؟» قَالُوا: الْأَسَدُ حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الطَّرِيقِ قَالَ: «إِنَّمَا ذَا كَلْبٌ مِنْ كِلَابِ اللَّهِ فَمَرَّ بِهِ حَتَّى أَصَابَ ثَوْبَهُ فَمُ الْأَسَدِ»

ص: 832

836 -

حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عِيسَى، أنا ابْنُ الْمُبَارَكِ، أنا الْمُسْتَلِمُ بْنُ سَعِيدٍ الْوَاسِطِيُّ، ثنا حَمَّادٌ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّ أَبَاهُ، أَخْبَرَهُ قَالَ: خَرَجْنَا فِي غَزْوَةٍ إِلَى كَابُلَ وَفِي الْجَيْشِ صِلَةُ بْنُ أَشْيَمَ فَنَزَلَ النَّاسُ عِنْدَ الْعَتْمَةِ، فَقُلْتُ: لَأَرْمُقَنَّ عَمَلَهُ وَأَنْظُرُ مَا يَذْكُرُ النَّاسُ مِنْ عِبَادَتِهِ، فَصَلُّوا الْعَتْمَةَ، ثُمَّ اضْطَجَعَ فَالْتَمَسَ غَفْلَةَ النَّاسِ حَتَّى إِذَا قُلْتُ: هَدَأَتِ الْعُيُونُ وَثَبَ فَدَخَلَ غَيْصَةً قَرِيبًا مِنْهُ وَدَخَلْتُ فِي إِثْرِهِ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، فَافْتَتَحَ وَجَاءَ الْأَسَدُ حَتَّى دَنَا مِنْهُ، وَصَعِدْتُ فِي شَجَرَةٍ قَالَ: فَنَرَاهُ الْتَفَتَ أَوْ عَدَّهُ جُرَذًا حَتَّى سَجَدَ، فَقُلْتُ

⦗ص: 833⦘

: الْآنَ يَفْتَرِسُهُ فَلَا يَنْثَنِي، فَجَلَسَ ثُمَّ سَلَّمَ فَقَالَ:«أَيُّهَا السَّبُعُ، اطْلُبِ الرِّزْقَ مِنْ مَكَانٍ آخَرَ» ، فَوَلَّى وَإِنَّ لَهُ أَزِيزًا أَقُولُ تَصَدَّعَتِ الْجِبَالُ مِنْهُ، فَمَا زَالَ كَذَلِكَ يُصَلِّي حَتَّى لَمَّا كَانَ عِنْدَ الصُّبْحِ جَلَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ بِمَحَامِدَ لَمْ أَسْمَعْ بِمِثْلِهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ:«اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ تُجِيرَنِيَ مِنَ النَّارِ، أَوَمِثْلِي يَجْتَرِئُ أَنْ يَسْأَلَكَ الْجَنَّةَ؟» ، ثُمَّ رَجَعَ فَأَصْبَحَ كَأَنَّهُ بَاتَ عَلَى الْحَشَايَا وَأَصْبَحْتُ وَبِي مِنَ الْفَتْرَةِ مَا اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ فَلَمَّا دَنَوْا مِنْ أَرْضِ الْعَدُوِّ، وَقَالَ الْأَمِيرُ لَا يَشِذَّنَّ أَحَدٌ مِنَ الْعَسْكَرِ فَذَهَبَتْ بَغْلَتُهُ بِثِقَلِهَا فَأَخَذَ يُصَلِّي فَقِيلَ لَهُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ ذَهَبُوا قَالَ:«دَعُونِي أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ» ، قَالُوا: إِنَّ النَّاسَ قَدْ ذَهَبُوا، قَالَ:«إِنَّمَا هُمَا خَفِيفَتَانِ» ، قَالَ: فَدَعَا، ثُمَّ قَالَ:«إِنِّي أُقْسِمُ عَلَيْكَ أَنْ تَرُدَّ عَلَيَّ بَغْلَتِي وَثِقْلِهَا» ، قَالَ: فَجَاءَتْ حَتَّى قَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، قَالَ: فَلَمَّا لَقِيَهُ الْعَدُوُّ حَمَلَ هُوَ وَهِشَامُ بْنُ عَامِرٍ فَطَعَنَّا بِهِمْ طَعْنًا وَضَرْبًا وَقَتْلًا قَالَ: فَكَسَرَا ذَلِكَ الْعَدُوَّ، وَقَالُوا: رَجُلَانِ مِنَ الْعَرَبِ صَنَعَا هَذَا فَكَيْفَ لَوْ قَاتَلُونَا فَأَعْطَوُا الْمُسْلِمِينَ حَاجَاتِهِمْ، فَقِيلَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّ هِشَامَ بْنَ

⦗ص: 834⦘

عَامِرٍ وَكَانَ يُجَالِسُهُ أَلْقَى بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةَ وَأُخْبِرَ بِخَبَرِهِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَا، وَلَكِنَّهُ الْتَمَسَ هَذِهِ الْآيَةَ:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} "

ص: 832

837 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْأَزْدِيُّ النَّصْرِيُّ، ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ، قَالَ:«كَانَ عَمْرُو بْنُ عُتْبَةَ يَرْعَى رِكَابًا لِأَصْحَابِهِ وَغَمَامَةٌ تُظِلُّهُ»

ص: 834

839 -

حَدَّثَنِي الدَّوْرَقِيُّ، ثنا غَسَّانُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ: قَالَ لِي وُهَيْبٌ: " بَيْنَمَا أَنَا فِي السُّوقِ، إِذْ أُخِذَ بِقَفَايَ فَقَالَ: يَا وُهَيْبُ خَفِ اللَّهَ فِي قُدْرَتِهِ عَلَيْكَ، وَاسْتَحِ مِنَ اللَّهِ فِي قُرْبِهِ مِنْكَ فَالْتَفَتُّ فَلَمْ أَرَ شَيْئًا "

ص: 835

840 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْأَزْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ النَّوَا، وَكَانَ مِنَ الْعَابِدِينَ قَالَ: قِيلَ لِوُهَيْبٍ الْمَكِّيِّ مِنْ أَيْنَ أَخَذْتَ هَذَا؟ قَالَ: " كُنْتُ رَجُلًا تَاجِرًا فَبَيْنَمَا أَنَا قَاعِدٌ إِذْ جَاءَنِي رَجُلٌ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَنْكِبِي فَقَالَ لِي: يَا وُهَيْبُ اسْتَحِ مِنَ اللَّهِ لِقُرْبِهِ مِنْكَ، وَخَفِ اللَّهَ لِقُدْرَتِهِ عَلَيْكَ، ثُمَّ ذَهَبَ فَنَظَرْتُ بَيْنَ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي فَلَمْ أَرَ أَحَدًا "

ص: 835

841 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْأَزْدِيُّ، ثنا جَعْفَرُ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَرٍ السَّائِحُ، أَنَّ الْهَيْثَمَ بْنَ جَمَّازٍ قَالَ:" كَانَتْ لِي امْرَأَةٌ لَا تَنَامُ بِاللَّيْلِ، وَكُنْتُ لَا أَصْبِرُ مَعَهَا عَلَى السَّهَرِ فَكُنْتُ إِذَا تَرُشُّ عَلَيَّ الْمَاءَ وَتُنَبِّهُنِي بِرِجْلِهَا وَتَقُولُ: مَا تَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ إِلَى كَمْ هَذَا الْغَطِيطُ، قَالَ: فَوَاللَّهِ إِنْ كُنْتُ لَأَسْتَحِي مِمَّا تَصْنَعُ "

ص: 835

842 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو الْبَهْرَانِيُّ، قَالَ: قِيلَ لِرَابِعَةَ: لَوْ كَتَبْتِ إِلَى عُمَرَ بْنِ مِهْرَانَ لِرَجُلٍ فِي حَاجَةٍ؟ فَقَالَتْ: «إِنِّي لَأَسْتَحِي مِمَّنْ يَمْلِكُ الدُّنْيَا أَنْ أَسْأَلَهُ مِنْهَا شَيْئًا فَكَيْفَ أَسْأَلُ مَنْ لَا يَمْلِكُ مِنْهَا شَيْئًا لَيْسَ لِي إِلَى مَخْلُوقٍ حَاجَةٌ»

ص: 836

843 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، قَالَ: مَرِضَ دَاوُدُ الطَّائِيُّ فَلَزِمَ جَوْفَ بَيْتِهِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ فَقِيلَ لَهُ: لَوْ خَرَجْتَ إِلَى صَحْنِ الدَّارِ؟ قَالَ: إِنِّي لَأَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ أَنْ يَرَانِيَ فِي رَاحَةٍ بَدَنِي "

ص: 836

844 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أنا عَرْعَرَةُ بْنُ الْبِرِنْدِ الشَّامِيُّ، ثنا زِيَادُ بْنُ الْخَصَاصِ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى ثَلَاثَةً يَغْتَسِلُونَ مِنْ حَوْضٍ عُرَاةً فَقَالَ:«أَمَا تَسْتَحْيُونَ اللَّهَ، أَمَا تَسْتَحْيُونَ الْحَفَظَةَ الْكِرَامَ الْكَاتِبِينَ، أَمَا يَسْتَحِي بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ»

ص: 836

قَالَ زُرَارَةُ بْنُ أَوْفَى: وَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجِيرًا لَهُ فِي غَنَمِ الصَّدَقَةِ قَائِمًا عُرْيَانًا فَقَالَ: «كَمْ عَمِلْتَ لَنَا؟» قَالَ: وَلِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «مَا أُرِيدُ أَنْ يَلِيَ لِي عَمَلًا مَنْ لَا يَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ إِذَا خَلَا» .

⦗ص: 837⦘

845 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَطِيَّةَ، أَنَّ رَجُلًا، كَانَ يَرْعَى لِآلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَرَآهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عُرْيَانًا فَذَكَرَ مِثْلَهُ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: فَكَانَ الْحَيَاءُ الَّذِي حَمَلَ هَؤُلَاءِ عَلَى هَذِهِ الْأَفْعَالِ غَيْرَ فَرْضٍ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّهُ نَافِلَةٌ مِنَ

⦗ص: 838⦘

النَّوَافِلِ وَفَضِيلَةٌ وَهُوَ مِنَ الْإِيمَانِ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا هِيَ عَلَامَاتُ الْحَيَاءِ الَّذِي يُهِيجُهُ ذِكْرُ اطِّلَاعِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَجَوَارِحِهِ، وَأَمَّا الْحَيَاءُ الَّذِي يَهِيجُ عَنْ ذِكْرِ الْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ يُوَرِّثُ الِاسْتِعْدَادَ لِجَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى عَمَّا يُسَائِلُهُ إِذَا سَأَلَهُ عَنْ جَمِيعِ أَعْمَالِهِ الَّتِي عَمِلَهَا لِمَنْ عَمِلَهَا، وَيُوَرِّثُهُ الِاسْتِعْدَادَ بِالِاعْتِذَارِ، كَيْفَ يَعْتَذِرُ مِنِ ارْتِكَابِهِ لِمَا نَهَاهُ عَنْهُ، وَلِمَنْ تَابَ، وَمَا أَرَادَ بِالتَّوْبَةِ، وَمَا أَرَادَ بِالنَّوَافِلِ وَلِمَنْ عَمِلَهَا؟ فَإِذَا أَرَادَ الِاسْتِعْدَادَ لِهَذِهِ الْأُمُورِ تَطَهَّرَ مِنَ الْأَدْنَاسِ وَكَمَّلَ الْفُرُوضَ فَأَدَّاهَا كَامِلَةً، وَأَخْلَصَ الطَّاعَاتِ بِصِدْقٍ لَا يَشُوبُهُ رِيَاءٌ، وَإِنَّمَا يُعِدُّ الْجَوَابَ لِمَنْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، وَأَعْلَمُ بِسِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ مِنْ نَفْسِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلْنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف: 7] وَقَالَ تَعَالَى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92] . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ مِنِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ حَتَّى يَسْأَلُهُ عَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ، وَعُمْرِهِ فِيمَا

⦗ص: 839⦘

أَفْنَاهُ، وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَعِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ»

ص: 836

846 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حِبَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مِحْصَنٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ وَهُوَ ابْنُ قَيْسٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، رضي الله عنهم عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَنْ تَزُولَ قَدَمَا عَبْدٍ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسِ خِصَالٍ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ أَصَابَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ»

ص: 839

847 -

حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ الْجَارُودِ، عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ، عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ مَالِهِ مِمَّا اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ، وَعَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ» قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَكَذَلِكَ كَانَ الْعُلَمَاءُ بِاللَّهِ تَعَالَى يَعُدُّونَ مِنَ اللَّهِ وَخَوْفًا لَهُ مِنْ ذَلِكَ.

ص: 840

848 -

مَا حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ هِلَالِ بْنِ أَبِي حُمَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، رضي الله عنه يَقُولُ: وَبَدَأَ بِالْيَمِينِ قَبْلَ أَنْ يُحَدِّثَنَا قَالَ: " وَاللَّهِ مَا مِنْكُمْ مِنْ إِنْسَانٍ إِلَّا أَنَّ رَبَّهُ سَيْخَلُو بِهِ كَمَا يَخْلُو بِالْقَمَرِ لَيْلَتَهُ فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ مَا غَرَّكَ بِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ يَقُولُ: مَاذَا أَجَبْتَ الْمُرْسَلِينَ؟ كَيْفَ عَمِلْتَ فِيمَا عَلِمْتَ؟ "

ص: 840

849 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا فَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ لُقْمَانَ، قَالَ: قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءٍ رضي الله عنه: " إِنَّمَا أَخْشَى مِنْ رَبِّي أَنْ يَدْعُونِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُؤُسِ الْخَلَائِقِ فَيَقُولُ: يَا عُوَيْمِرُ فَأَقُولُ: لَبَّيْكَ رَبِّي، فَيَقُولُ: مَا عَمِلْتَ فِيمَا عَلِمْتَ؟ " قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ:

⦗ص: 842⦘

850 -

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه حِينَ عُوتِبَ فِي اسْتِخْلَافِهِ عُمَرَ رضي الله عنه فَقَالَ: هَلْ تُخَوِّفُونِي إِلَّا بِاللَّهِ فَإِنِّي أَقُولُ لِرَبِّي إِذَا سَأَلَنِي اسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ خَيْرَ أَهْلِكَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: فَالْمُسْتَحِي مِنْ سُؤَالِ اللَّهِ تَعَالَى غَدًا يُعِدُّ الْجَوَابَ وَالتَّطَهُّرَ مِنْ كُلِّ مَا يَكْرَهُ اللَّهُ ثُمَّ لَا يُفَارِقُهُ الْحَيَاءُ مَعَ الطَّهَارَةِ إِذْ قَدْ عَلِمَ أَنَّمَا تَرَكَ مِنَ الذُّنُوبِ وَتَابَ مِنْهُ لَنْ يَنْجُوَ مِنَ اللَّهِ أَوْ يَسْأَلُهُ عَنْهُ

851 -

كَمَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ، عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا، سَأَلَهُ فَقَالَ: الْعَبْدُ إِذَا تَابَ مِنَ الذَّنْبِ أَيُغْفَرُ لَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَيَمْحُوهُ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَا وَاللَّهِ حَتَّى يُوقِفَهُ عَلَيْهِ، وَيُسَائِلُهُ عَنْهُ، ثُمَّ بَكَى الْحَسَنُ فَقَالَ: لَوْ لَمْ يَبْكِ الْعَبْدُ إِلَّا لِلْحَيَاءِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَكَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَبْكِيَ

ص: 841

852 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ ذَكْوَانَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، رضي الله عنه قَالَ:" كَانَ أَبُوكُمْ آدَمُ طُوَالًا كَالنَّخْلَةِ السَّحُوقِ سِتِّينَ ذِرَاعًا، فَلَمَّا أَصَابَ الْخَطِيئَةَ بَدَتْ لَهُ سَوْأَتُهُ فَخَرَجَ هَارِبًا فِي الْجَنَّةِ فَتَلَقَّتْهُ شَجَرَةٌ فَأَخَذَتْ بِشَعَرِهِ فَنَادَاهُ رَبُّهُ عز وجل أَفِرَارًا مِنِّي يَا آدَمُ؟ فَقَالَ: لَا، وَاللَّهِ يَا رَبِّ وَلَكِنْ حَيَاءً مِنْكَ وَمِمَّا جِئْتُ بِهِ فَأُهْبِطَ إِلَى الْأَرْضِ "

ص: 842

853 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ عَمَلٍ عَمَلَهُ آدَمُ عليه السلام حِينَ أُهْبِطَ طَافَ بِالْبَيْتِ فَلَقِيَتْهُ الْمَلَائِكَةُ فَقَالُوا: يَا آدَمُ قَدْ طُفْنَا بِهَذَا الْبَيْتِ قَبْلَكَ بِأَلْفَيْ عَامٍ فَمَكَثَ آدَمُ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً مَا يُبْدِي عَنْ وَاضِحَةٍ وَلَا يَرْقَأُ دَمْعُهُ فَقَالَتْ لَهُ حَوَّاءُ قَدِ اسْتَوْحَشْنَا إِلَى أَصْوَاتِ الْمَلَائِكَةِ فَادْعُ رَبَّكَ يُسْمِعُنَا أَصْوَاتَهُمْ، فَقَالَ: مَا زِلْتُ مُسْتَحِيًا مِنْ رَبِّي أَنْ أَرْفَعَ طَرْفِي إِلَى أَدِيمِ السَّمَاءِ مِمَّا صَنَعْتُ "

854 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَاقِدٍ أَبِي رَجَاءٍ الْهَرَوِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَقَالَ: مَا رَفَعْتُ طَرْفِي إِلَى السَّمَاءِ حَيَاءً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مُنْذُ صَنَعْتُ مَا صَنَعْتُ

ص: 843

855 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْأَزْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ عَوْفٍ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَا

⦗ص: 844⦘

: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجَدَلِيِّ، قَالَ:«مَا رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ حَتَّى مَاتَ حَيَاءً مِنْ رَبِّهِ يَعْنِي دَاوُدَ عليه السلام» . قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَأَمَّا مَا يَهِيجُ مِنَ الْحَيَاءِ عِنْدَ ذِكْرِ دَوَامِ النِّعَمِ وَكَثْرَةِ الْإِحْسَانِ، وَتَضْيِيعِ الشُّكْرِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْفِطَرِ أَنَّ مَنْ دَامَ إِحْسَانُهُ إِلَيْكَ وَكَثُرَتْ أَيَادِيهِ عِنْدَكَ وَقَلَّتْ مُكَافَأَتُكَ لَهُ غَضَضْتَ طَرْفَكَ إِذَا رَأَيْتَهُ حَيَاءً مِنْهُ فَكَيْفَ بِمَنْ خَلَقَكَ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا، وَلَمْ يَزَلْ مُحْسِنًا إِلَيْكَ مُنْذُ خَلَقَكَ يَتَبَغَّضُ إِلَيْهِ الْعَبْدُ، وَيَتَهَتَّكُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَهُوَ يَسْتُرُ عَلَيْهِ حَتَّى كَأَنَّهُ لَا ذَنْبَ لَهُ لَمْ يَتَهَاوَنْ بِنَظَرِهِ، وَإِنْ تَغَيَّرَ الْعَبْدُ أَوْ لَمْ يَتَغَيَّرْ فَنِعَمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ دَائِمَةٌ وَإِحْسَانُهُ إِلَيْهِ مُتَوَاصِلٌ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مَعَ تَضْيِيعِ الشُّكْرِ بَلْ مَا رَضَى بِالتَّقْصِيرِ عَنِ الشُّكْرِ حَتَّى نَالَ مَعَاصِيَ رَبِّهِ بِنِعَمِهِ، وَاسْتَعَانَ عَلَى مُخَالَفَتِهِ بِأَيَادِيهِ فَإِذَا ذَكَرَ الْمُسْتَحِي دَوَامَ النِّعَمِ، وَتَضْيِيعَ الشُّكْرِ، وَكَثْرَةَ الْإِسَاءَةِ مَعَ فَقْرِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِحْسَانَ

⦗ص: 845⦘

اللَّهِ تَعَالَى إِلَيْهِ هَاجَ مِنْهُ الْحَيَاءَ وَالْحَصْرَ مِنْ رَبِّهِ عز وجل حَتَّى كَادَ أَنْ يَذُوبَ حَيَاءً مِنْهُ فَإِذَا هَاجَ ذَلِكَ مِنْهُ اسْتَعْظَمَ كُلَّ نِعْمَةٍ وَإِنْ صَغُرَتْ إِذْ عَرَفَ تَضْيِيعَهُ لِلشُّكْرِ فَيَسْتَكْثِرُ وَيَسْتَعْظِمُ أَقَلَّ النِّعَمِ لَهُ إِذْ عَلِمَ أَنَّهُ أَهْلٌ أَنْ يُزَالَ عَنْهُ النِّعَمُ فَكَيْفَ بِأَنْ يُدَامَ عَلَيْهِ، وَيَزْدَادَ فِيهَا لِأَنَّ مَنْ أَسَأْتَ إِلَيْهِ فَعَلِمْتَ أَنَّكَ قَدِ اسْتَأْهَلْتَ مِنْهُ الْغَضَبَ فَأَلْطَفَكَ لِكَلِمَةٍ اسْتَكْثَرْتَهَا لِعِلْمِكَ بِمَا قَدِ اسْتَوْجَبْتَ مِنْهُ مِنَ الْغَضَبِ وَالْعُقُوبَةِ فَإِنْ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى دَوَامَ النِّعَمِ وَالزِّيَادَةِ فِيهَا سَأَلَهُ بِحَيَاءٍ وَانْكِسَارِ قَلْبٍ، لَوْلَا مَعْرِفَتُهُ بِجُودِهِ وَكَرَمِهِ وَتَفَضُّلِهِ مَا سَأَلَهُ فَيَكَادُ أَنْ يَنْقَطِعَ عَنِ الدُّعَاءِ حَيَاءً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ يَذْكُرُ تَفَضُّلَهُ وَجُودَهُ وَكَرَمَهُ فَيَدْعُوهُ بِقَلْبٍ مُنْكَسِرٍ مِنَ الْحَيَاءِ خَوْفًا أَنْ لَا يُجَابَ وَيَبْعَثُهُ ذَلِكَ عَلَى الشُّكْرِ لَمَّا لَزِمَ قَلْبَهُ الْحَيَاءُ مِنْ تَضْيِيعِ الشُّكْرِ فَإِذَا لَزِمَتْ هَذِهِ الذُّكُورُ قَلْبَهُ، وَأَهْجَنَ الْحَيَاءُ مِنْهُ فَاسْتَعْمَلَهُنَّ كَمَا وَصَفْتُ لَكَ فَقَدِ اسْتَحْيَى مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِحَقِيقَةِ الْحَيَاءِ، وَإِنْ كَانَ لَا غَايَةَ لِحَقِيقَةِ الْحَيَاءِ إِذِ الْمُسْتَحْيَى مِنْهُ لَا غَايَةَ لِعَظَمَتِهِ عِنْدَ الْمُسْتَحْيِي مِنْهُ أَلَا

⦗ص: 846⦘

تَرَى إِلَى،

856 -

مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ» قَالُوا: إِنَّا لَنَسْتَحِي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، فَقَالَ:«لَيْسَ ذَاكَ» فَدَلَّ أَنَّ لِلْحَيَاءِ حَقِيقَةً فَوْقَ مَا أُوتُوا مِنَ الْحَيَاءِ، فَقَالَ: لَيْسَ ذَاكَ حَقُّ الْحَيَاءِ، وَلَكِنَّهُ حَيَاءٌ دُونَ الْحَقِيقَةِ، ثُمَّ قَالَ:«وَلَكِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقُّ الْحَيَاءِ أَنْ لَا تَنْسُوا الْمَقَابِرَ وَالْبِلَى» فَأَخْبَرَ أَنَّ الْحَيَاءَ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ يَسْتَحِيَ الْعَبْدُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَرَاهُ نَاسِيًا لِلْمَقَابِرِ وَالْبِلَى، فَإِذَا اسْتَحْيَى مِنْ ذَلِكَ دَامَ مِنْهُ الذِّكْرُ لِلْمَقَابِرِ وَالْبِلَى لَا يَنْسَى ذَلِكَ حَيَاءً مِنْ رَبِّهِ تَعَالَى، وَقَالَ:«وَلْيَحْفَظِ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى» يَعْنِي مَا احْتَوَى عَلَيْهِ الرَّأْسُ مِنْ سَمْعٍ وَبَصَرٍ وَلِسَانٍ «وَلْيَحْفَظِ الْبَطْنَ وَمَا حَوَى» ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ:«الْجَوْفُ وَمَا وَعَى» وَذَلِكَ يَجْمَعُ كُلَّ مَا أَضْمَرَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ، وَكُلَّ مَا دَخَلَ جَوْفَهُ فَقَدِ اجْتَمَعَ فِي الْحَيَاءِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى الْخَيْرُ كُلُّهُ مِنَ الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ جَمِيعًا، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنَ الْإِيمَانِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَأَمَّا الْحَيَاءُ مِنَ النَّاسِ

ص: 843

857 -

فَإِنَّ إِسْحَاقَ حَدَّثَنَا قَالَ: أَخْبَرَنَا النَّضْرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نَعَامَةَ الْعَدَوِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ حُجَيْرَ بْنَ الرَّبِيعِ الْعَدَوِيَّ، يَقُولُ: قَالَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ رضي الله عنه سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «الْحَيَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ، أَوِ الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِالْخَيْرِ» فَقَالَ بَشِيرُ بْنُ كَعْبٍ: إِنَّا نَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى: مِنْهُ وَقَارٌ وَمِنْهُ ضَعْفٌ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا يَا حُجَيْرُ؟ فَقُلْتُ: لَا بَأْسَ بِهِ رَجُلٌ مِنَّا، فَقَالَ: يَسْمَعُنِي أُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَيُحَدِّثُنِي عَنِ الْكُتُبِ لَا أُحَدِّثُكُمُ الْيَوْمَ حَدِيثًا

ص: 846

858 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُوَيْدٍ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه، وَعِنْدَهُ بَشِيرُ بْنُ كَعْبٍ الْعَدَوِيُّ فَقَالَ عِمْرَانُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ» فَقَالَ بَشِيرٌ: إِنَّ مِنْهُ سَكِينَةً وَوَقَارًا، وَمِنْهُ ضَعْفٌ، كَذَلِكَ نَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَعَادَ عِمْرَانُ الْحَدِيثَ فَأَعَادَ بَشِيرٌ

⦗ص: 848⦘

قَوْلَهُ فَغَضِبَ عِمْرَانُ رضي الله عنه حَتَّى احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ وَقَالَ يَرَانِي أُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيُحَدِّثُنِي عَنْ كُتُبِهِ فَقَالَ: فَقُلْنَا لَهُ: إِنَّهُ، إِنَّهُ، إِنَّهُ

ص: 847

859 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، وَمُحَمَّدٌ، قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا السَّوَّارِ الْعَدَوِيَّ، أَنَّهُ سَمِعَ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ، رضي الله عنه يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ» فَقَالَ بَشِيرُ بْنُ كَعْبٍ: مَكْتُوبٌ فِي الْحِكْمَةِ أَنَّ مِنْهُ سَكِينَةً، وَمِنْهُ ضَعْفٌ، فَقَالَ عِمْرَانُ: أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتُحَدِّثُنِي عَنْ صُحُفِكَ

ص: 848

860 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ رَبَاحٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا السَّوَّارِ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ» فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: إِنَّ فِي الْحِكْمَةِ مَكْتُوبًا أَنَّ مِنْهُ وَقَارًا لِلَّهِ، وَمِنْهُ ضَعْفٌ، فَقَالَ: أَلَا أُرَانِي أُحَدِّثُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتُحَدِّثُونِي عَنِ الْكُتُبِ، وَقَالَ أَبُو عَاصِمٍ مَرَّةً: وَتُحَدِّثُونِي عَنِ الصُّحُفِ، لَا أُحَدِّثُكُمُ الْيَوْمَ حَدِيثًا

ص: 848

861 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ يَحْيَى، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا وَإِنَّ خُلُقَ هَذَا الدِّينِ الْحَيَاءُ»

ص: 849

862 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا

⦗ص: 851⦘

مَعْمَرٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَا كَانَ الْفُحْشُ فِي شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ، وَلَا كَانَ الْحَيَاءُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ» . قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: فَالْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم غَيْرَ أَنَّهُ أَمْرٌ يَدَّعِيهِ الصَّادِقُ وَالْكَاذِبُ، وَأَصْلُهُ فِعْلٌ مِنَ الطَّبِيعَةِ الْكَرِيمَةِ غَرِيزَةُ خَيْرٍ يَخْتَصُّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ، يَنْفَعُ الْعَاصِيَ وَالْمُطِيعَ، أَمَّا الْمُطِيعُ فَقَدْ زَالَ كُلَّ خُلُقٍ دَنِيٍّ، وَأَمَّا الْفَاسِقُ فَلَمْ يَجْمَعْ مَعَ فِسْقِهِ تَهَتُّكًا، وَإِذَا هَاجَ الْحَيَاءُ مِنَ الْمُطِيعِ وَجَدَ الْعَدُوُّ سَبِيلًا إِلَى الدُّعَاءِ إِلَى الرِّيَاءِ فَإِنْ أَطَاعَهُ الْعَبْدُ اعْتَقَدَ الرِّيَاءَ، وَاعْتَلَّ بِالْحَيَاءِ وَصَدَّقَ هَاجَهُ أَوَّلًا الْحَيَاءُ، ثُمَّ أَخْطَرَ الْعَدُوَّ بِالرِّيَاءِ، وَلَمْ يَفْطِنْ لَهُ بِقَلْبِهِ فَصَارَ مُرَائِيًا

⦗ص: 852⦘

. وَقَدْ يَهِيجُهُ الْحَيَاءُ عَلَى أَنْ يُرِيدَ اللَّهَ تَعَالَى فَيَضُمُّ الْإِخْلَاصَ إِلَى الْحَيَاءِ، فَإِنْ فَعَلَ الْفِعْلَ لِلْحَيَاءِ وَتَرَكَهُ لِغَيْرِ ذِكْرِ إِخْلَاصٍ وَلَا رِيَاءٍ فَهُوَ دِينٌ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«مَا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ الْحَيَاءُ مِنَ اللَّهِ أَوْلَى بِهِ فِيهِ» . وَذَلِكَ أَنْ يَسْتَحِيَ الْعَبْدُ مِنْ إِظْهَارِ الْمَعَاصِي فَيَسْتَتِرُ حَيَاءً مِنَ النَّاسِ، وَالْحَيَاءُ مِنَ اللَّهِ أَوْلَى بِهِ فَضَيَّعَ الْحَيَاءَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي سَرِيرَتِهِ وَاسْتَحْيَى مِنَ النَّاسِ، وَالْحَيَاءُ الَّذِي أَدَّاهُ إِلَى السِّتْرِ خَيْرٌ لَهُ مِنَ التَّهَتُّكِ لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«مَا سَتَرَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ فِي الدُّنْيَا إِلَّا سَتَرَ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ» فَهُوَ يَرْجُو إِذْ مَنَّ عَلَيْهِ بِالْحَيَاءِ فَاسْتَتَرَ أَنْ يَسْتُرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، وَيَغْفِرُ لَهُ فَالْحَيَاءُ مُفَارِقٌ لِكُلِّ خُلُقٍ فِي دِينٍ أَوْ دُنْيَا، فَمَثَلُ ذَلِكَ مَثَلُ رَجُلٍ سَأَلَ رَجُلَيْنِ قَرْضًا أَوْ صِلَةً فَلَمْ يَكُنْ فِي قَلْبِ أَحَدِهِمَا كَبِيرُ حَيَاءٍ فَرَدَّهُ إِذَا لَمْ تَسْمَحْ نَفْسُهُ بِالْإِعْطَاءِ، وَسَأَلَ الْآخَرَ فَلَمْ تَسْمَحْ نَفْسُهُ إِلَّا بِالْإِعْطَاءِ، فَمِنْهُ الْحَيَاءُ مِنَ الْبُخْلِ، فَمَسَكَ عَنْ إِظْهَارِ الرِّيَاءِ وَبَادَرَ لِيَفْعَلَ فَوَجَدَ الْعَدُوَّ مَوْضِعَ دُعَاءٍ فَقَالَ: أَعْطِهِ، لَا يَقُولُ: مَا أَبْخَلَهُ، وَأَعْطِهِ لِيُثْنِي عَلَيْكَ بِهِ، وَيُعَظِّمُكَ بِهِ فَاعْتَقَدَ ذَلِكَ وَأَعْطَى، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ أَعْطَى لِلْحَيَاءِ لِبُدُوِّ هَيَجَانِ الْحَيَاءِ مِنْ نَفْسِهِ، فَإِنْ هُوَ لَمَّا خَطَرَ خَاطِرُ الرِّيَاءِ نَفَاهُ وَقَالَ: لَا بَلْ لِلَّهِ، أَوْ لَمَّا رَأَى نَفْسَهُ امْتَنَعَتْ مِنَ

⦗ص: 853⦘

الرَّدِّ مِنْ أَجْلِ الْحَيَاءِ ذَكَرَ ثَوَابَ اللَّهِ تَعَالَى فَأَزَادَهُ، وَلَوْلَا الْحَيَاءُ لَرَدَّ صَاحِبَهُ، وَلَوْ أَنَّهُ أَخْلَصَ الْإِعْطَاءَ شُكْرًا لِمَنْ جَعَلَ غَرِيزَتَهُ تَهِيجُ بِالْحَيَاءِ، وَلِمَنْ وَهَبَ لَهُ الْحَيَاءَ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ كَمَنْ لَا يَسْتَحِي دُونَ طَلَبِ الثَّوَابِ لَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ، وَآخَرُ سُئِلَ فَهَاجَ مِنْهُ مِنَ الْحَيَاءِ مَا لَمْ يَمْلِكُهُ فَأَعْطَى عَلَيْهِ وَلَمْ يَقْبَلْ حَضَرَهُ رِيَاءً وَلَمْ يَذْكُرْ ثَوَابًا. وَمَا أَقَلُّ ذَلِكَ أَنْ يُعْطِيَ عَبْدًا أَوْ يَعْمَلَ أَوْ يَتْرُكَ إِلَّا لِرَغْبَةٍ أَوْ رَهْبَةٍ فَإِنْ أَعْطَى عَلَى ذَلِكَ الْحَيَاءِ فَهُوَ خَيْرٌ مَا لَمْ يَعْتَقِدِ الرِّيَاءَ وَمَنْ جَمَعَ مَعَ الْحَيَاءَ إِرَادَةَ اللَّهِ وَثَوَابَهُ فَذَلِكَ أَفْضَلُ لِأَنَّ الْحَيَاءَ عَنْ غَرِيزَةٍ كَرِيمَةٍ فَإِذَا هَاجَتْ تِلْكَ الْغَرِيزَةُ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَعْتَقِدُ الْإِخْلَاصَ أَوِ الرِّيَاءَ أَوْ يَعْمَلْ عَلَيْهِمَا بِغَيْرِ عَقْدِ رِيَاءٍ وَلَا إِخْلَاصٍ، وَكُلُّ امْرِئٍ يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْقِلَ بِالْحَيَاءِ وَقَدْ يُخَيَّلُ إِلَى بَعْضِ أَهْلِ الدُّنْيَا أَنَّهُ مُسْتَحِي، وَإِنَّمَا هُوَ مُرَاءٍ يَسْتَحِي مِنْ أَشْيَاءَ مُبَاحَةٍ كَالِاسْتِعْجَالِ بِالْمَشْيِ وَالسُّرْعَةِ إِلَيْهِ بِالْمَشْيِ وَغَيْرِهِ لِأَنَّهُ خُرُوجٌ إِلَى الْخِفَّةِ، فَيَصِيرُ رِيَاءً وَجَزَعًا مِنَ الزَّوَالِ عَنِ الْخُشُوعِ، أَوْ لِيُقَالَ مَا أَخْشَعَهُ وَأَسْكَنَهُ وَقَدْ تَأْتِي الشَّيْءَ اسْتِحْيَاءً مِنَ الْخَلْقِ، وَالْحَيَاءُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ أَوْلَى بِهِ فَهُوَ كَخَيْرٍ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْخَيْرِ كَالرَّجُلِ يَرَى مِنْ شَيْخٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مُنْكَرًا فَيُرِيدُ أَنْ يَأْمُرَهُ فَيَسْتَحِي مِنْ شَبِيبَتِهِ فَالْحَيَاءُ مِنَ الشَّيْبَةِ، وَتَوْقِيرِ الْكَبِيرِ خَيْرٌ وَأَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ

⦗ص: 854⦘

أَنْ يَأْمُرَهُ وَيَنْهَاهُ، وَقَدْ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ تَعَالَى إِكْرَامُ ذِي الشَّيْبَةِ» وَالْحَيَاءُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى بِهِ أَنْ نَسْتَحِيَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَضَعَ أَمْرَهُ فِيهِ فَيَنْهَاهُ وَيَعْثُرَ عَلَيْهِ مَعْصِيَةً إِنْ رَآهَا مِنْهُ أَوْ يَدَعُهُ إِنْ أَظْهَرَهَا فَلْيُؤْثِرِ الْحَيَاءَ مِنَ اللَّهِ عز وجل عَلَى الْحَيَاءِ مِنَ الْخَلْقِ

ص: 850

863 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَهْزُ بْنُ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ الْقُشَيْرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهٍ رَضِيَ اللَّهُ، عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا أَمْ مَا نَذَرُ فَقَالَ: «احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلَّا مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِذَا كَانَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ؟ قَالَ: «إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لَا يَرَاهَا أَحَدٌ فَلَا يَرَاهَا» ، قُلْتُ: فَإِذَا كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا؟ قَالَ: «فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحَى مِنَ النَّاسِ»

ص: 854

864 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ صِلَةَ، عَنْ حُذَيْفَةَ، ح وَإِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَا:«مَنْ صَلَّى صَلَاةً وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَإِذَا خَلَا فَلْيُصَلِّ مِثْلَهَا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَإِنَّهَا اسْتِهَانَةٌ يَسْتَهِينُ بِهَا رَبَّهُ أَلَا يَسْتَحِي أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أَعْظَمَ فِي عَيْنِهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى»

ص: 855

865 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُسْلِمٍ الْهَجَرِيُّ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللهٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ حَسَّنَ صَلَاتَهُ حَيْثُ يَرَاهُ النَّاسُ، وَأَسَاءَهَا إِذَا خَلَا فَإِنَّمَا تِلْكَ اسْتِهَانَةُ يَسْتَهِينُ بِهَا رَبَّهُ»

ص: 855

866 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ زِيَادٍ يَعْنِي فَيَّاضًا، قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ، يَقُولُ: آثِرِ الْحَيَاءَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْحَيَاءِ مِنَ النَّاسِ " قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: فَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَسْتَحِيَ مِنَ اللَّهِ

⦗ص: 856⦘

تَعَالَى أَنْ يَرَاهُ كَثِيرَ الْحَيَاءِ مِنَ الْخَلْقِ قَلِيلَ الْحَيَاءِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَلْيَكُنِ الْغَالِبَ عَلَيْهِ الْحَيَاءُ مِنَ اللَّهِ، وَأَفْضَلُ فِي الدِّينِ كَنَحْوِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قِصَّةِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ رضي الله عنها حِينَ بَنَى بِهَا، وَتَحَدَّثَ عِنْدَهُ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهٍ رضي الله عنه فَخَرَجَ رَجَاءَ أَنْ يَقُومُوا، ثُمَّ رَجَعَ وَهُمْ عَلَى حَالِهِمْ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَاسْتَحَى أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: قُومُوا، وَكَانَ كَرِيمًا صلى الله عليه وسلم كَثِيرَ الْحَيَاءِ. رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل:{لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} [الأحزاب: 53] إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب: 53] فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى آثَرَهُ وَأَرْخَى الْحِجَابَ وَقَالَ صلى الله عليه وسلم لِأَنَسٍ رضي الله عنه: «وَرَاءَكَ» ، وَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى بِهِ صلى الله عليه وسلم فَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى أَهْلِ الدِّينِ أَنْ يَفْعَلُوا

ص: 855

867 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، وعَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عُتْبَةَ، مَوْلًى لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ، عَنْهُ قَالَ: كَانَ صلى الله عليه وسلم أَشَدَّ حَيَاءً مِنْ عَذْرَاءَ فِي خِدْرِهَا، وَكَانَ إِذَا كَرِهَ شَيْئًا رُئِيَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ "

⦗ص: 857⦘

868 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ مَوْلًى، لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ يُحَدِّثُهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، رضي الله عنه مِثْلَهُ

ص: 856

869 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، وَعَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ، رضي الله عنه قَالَ: " شَهِدْتُ وَلِيمَةَ زَيْنَبَ رضي الله عنها فَأُشْبِعَ النَّاسُ خُبْزًا وَلَحْمًا فَلَمَّا فَرَغَ قَامَ وَتَبِعْتُهُ فَتَخَلَّقَ رَجُلَانِ اسْتَأْنَسَ بِهِمَا الْحَدِيثُ فَلَمْ يَخْرُجَا فَجَعَلَ يَمُرُّ بِنِسَائِهِ يُسَلِّمُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ: «سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَيْفَ أَصْبَحْتُمْ يَا أَهْلَ الْبَيْتِ» فَيَقُولُونَ بِخَيْرٍ يَا رَسُولَ

⦗ص: 858⦘

اللَّهِ كَيْفَ وَجَدْتَ أَهْلَكَ فَيَقُولُ: «بِخَيْرٍ» فَلَمَّا فَرَغَ رَجَعَ وَرَجَعْتُ مَعَهُ فَلَمَّا بَلَغَ الْبَابَ إِذَا هُوَ بِالرَّجُلَيْنِ قَدِ اسْتَأْنَسَ بِهِمَا الْحَدِيثَ فَلَمَّا رَأَيَاهُ قَدْ رَجَعَ قَامَا فَخَرَجَا فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي أَنَا أَخْبَرْتُهُ أَوْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ بِأَنَّهُمَا قَدْ خَرَجَا فَرَجَعَ وَرَجَعْتُ مَعَهُ فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي أُسْكُفَّةِ الْبَابِ أَرْخَى الْحِجَابَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} [الأحزاب: 53] "

ص: 857

870 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّغَانِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو النَّضْرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ يَعْنِي ابْنَ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رضي الله عنه قَالَ: " لَمَّا انْقَضَتْ عِدَّةُ زَيْنَبَ رضي الله عنها قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِزَيْدٍ رضي الله عنه: «اذْهَبْ فَاذْكُرْهَا عَلَيَّ» فَانْطَلَقَ زَيْدٌ إِلَيْهَا فَإِذَا هِيَ تَجْمَعُ عَجِينَتَهَا قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُهَا مَا اسْتَطَعْتُ أَنْ أَنْظُرَ إِلَيْهَا مِنْ عِظَمِهَا فِي صَدْرِي حِينَ عَرَفْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطَبَهَا فَنَكَصْتُ عَلَى عَقِبِي فَوَلَّيْتُهَا ظَهْرِي، ثُمَّ قُلْتُ: يَا زَيْنَبُ أَبْشِرِي أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُكِ قَالَتْ: مَا أَنَا بِصَانِعَةٍ شَيْئًا حَتَّى أُوَامِرَ رَبِّي فَقَامَتْ إِلَى مَسْجِدِهَا وَنَزَلَ الْقُرْآنُ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ

⦗ص: 859⦘

، قَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه: لَقَدْ رَأَيْتُنَا حِينَ دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَطْعَمَنَا عَلَيْهَا الْخُبْزَ وَاللَّحْمَ حَتَّى امْتَدَّ النَّهَارُ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَقِيَ رَهْطٌ يَتَحَدَّثُونَ بَعْدَ الطَّعَامِ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلَ يَتْبَعُ نِسَاءَهُ يُسَلِّمُ عَلَيْهِنَّ فَقُلْنَ كَيْفَ وَجَدْتَ أَهْلَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ أَنَسٌ: فَمَا أَدْرِي أَنَا أَخْبَرْتُهُ أَنَّ الْقَوْمَ قَدْ خَرَجُوا أَوْ أُخْبِرَ فَانْطَلَقَ حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى الْبَيْتِ فَوَجَدَهُمْ قَدْ خَرَجُوا فَذَهَبْتُ أَدْخُلُ مَعَهُ فَأَلْقَى بَيْنِي وَبَيْنَهُ السِّتْرَ قَالَ: وَنَزَلَ الْحِجَابُ وَوَعَظَ الْقَوْمَ بِمَا وُعِظُوا بِهِ: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [سورة: الأحزاب، آية رقم: 53] إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [سورة: الأحزاب، آية رقم: 53] "

ص: 858

871 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، رضي الله عنه قَالَ: «دَعَوْتُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى وَلِيمَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَبِيحَةَ بَنَى بِزَيْنَبَ

⦗ص: 860⦘

بِنْتِ جَحْشٍ رضي الله عنها فَأَوْسَعَهُمْ خُبْزًا وَلَحْمًا، ثُمَّ رَجَعَ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ فَأَتَى حُجَرَ نِسَائِهِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِنَّ وَدَعَوْنَ لَهُ فَرَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ وَأَنَا مَعَهُ، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى الْبَيْتِ إِذَا رَجُلَانِ قَدْ جَرَى بِهِمَا الْحَدِيثُ فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ فَلَمَّا أَبْصَرَهُمَا وَلَّى رَاجِعًا فَلَمَّا رَأَى الرَّجُلَانِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَلَّى عَنْ بَيْتِهِ قَامَا مُسْرِعَيْنِ فَلَا أَدْرِي أَنَا أَخْبَرْتُهُ أَوْ أُخْبِرَ فَرَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ، وَأَرْخَى السِّتْرَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ وَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ»

ص: 859

872 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ سَلْمٍ الْعَلَوِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: " لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ جِئْتُ أَدْخُلُ كَمَا كُنْتُ أَدْخُلُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «وَرَاءَكَ يَا بُنَيَّ»

ص: 860

873 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ سَلْمٍ الْعَلَوِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه يَقُولُ: كُنْتُ أَخْدُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَكُنْتُ أَدْخُلُ بِغَيْرِ إِذَنٍ فَجِئْتُ يَوْمًا لِأَدْخُلَ كَمَا كُنْتُ أَدْخُلُ فَقَالَ: «وَرَاءَكَ يَا بُنَيَّ فَقَدْ حَدَثَ بَعْدَكَ أَمْرٌ فَلَا تَدْخُلَنَّ إِلَّا بِإِذْنٍ» قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ الطُّفَيْلِ بْنِ سَخْبَرَةَ

ص: 861

874 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ طُفَيْلِ بْنِ سَخْبَرَةَ رضي الله عنه أَخِي عَائِشَةَ رضي الله عنها لِأُمِّهَا قَالَ: " رَأَيْتُ رُؤْيَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُ بِهَا مَنْ أَخْبَرْتُ، ثُمَّ

⦗ص: 862⦘

أَخْبَرْتُ بِهَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «أَخْبَرْتُ بِهَا أَحَدًا؟» فَقُلْتُ: نَعَمْ رَأَيْتُ كَأَنَّنِي مَرَرْتُ بِرَهْطٍ مِنَ الْيَهُودِ فَقُلْتُ: مَنْ أَنْتُمْ فَقَالُوا: نَحْنُ الْيَهُودُ، فَقُلْتُ: أَنْتُمُ الْقَوْمُ لَوْلَا أَنْ تَقُولُوا عُزَيْرُ ابْنُ اللَّهِ فَقَالُوا: وَأَنْتُمُ الْقَوْمُ لَوْلَا أَنْ تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ ثُمَّ أَتَيْتُ عَلَى رَهْطٍ مِنَ النَّصَارَى فَقُلْتُ: مَا أَنْتُمْ؟ فَقَالُوا: نَحْنُ النَّصَارَى، فَقُلْتُ: إِنَّكُمْ لَأَنْتُمُ الْقَوْمُ لَوْلَا أَنَّكُمْ تَقُولُوا: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ فَقَالُوا: وَأَنْتُمُ الْقَوْمُ لَوْلَا أَنَّكُمْ تَقُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ فَلَمَّا صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ قَامَ خَطِيبًا فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «فَإِنَّ طُفَيْلًا رَأَى رُؤْيَةً أَخْبَرَ بِهَا مَنْ أَخْبَرَ مِنْكُمْ، وَإِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَقُولُونَ كَلِمَةً كَانَ يَمْنَعُنِي الْحَيَاءُ مِنْكُمْ أَنْ أَنْهَاكُمْ فَلَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ»

⦗ص: 863⦘

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: فَدَلَّ قَوْلُهُ كَانَ يَمْنَعُنِي الْحَيَاءُ مِنْكُمْ أَنْ أَنْهَاكُمْ غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ وَيَسْتَحِي أَنْ يَنْهَاكُمْ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ جَاءَهُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى نَهْيٌ عَنْ ذَلِكَ فَلَمَّا رَأَى طُفَيْلٌ الرُّؤْيَا اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ كَرِهَ ذَلِكَ فَنَهَاهُ عَنْهُ فَكَانَ إِمْسَاكُهُ عَنِ النَّهْيِ فِي الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا حَيَاءً مِنْهُمْ فِعْلًا حَسَنًا عَنْ خُلُقٍ كَرِيمٍ، ثُمَّ آثَرَ مَا هُوَ أَوْلَى بِهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ التَّطَوُّعَ مِنَ الْإِيمَانِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا»

ص: 861

875 -

سَمِعْتُ إِسْحَاقَ، يَحْكِي عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكٍ رَضِيَ اللَّهُ، عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ حُسْنِ الْخُلُقِ، مَا هُوَ؟ فَقَالَ: كَفُّ الْأَذَى، وَبَذْلُ الْمَعْرُوفِ، وَبَسْطُ الْوَجْهِ وَأَنْ لَا تَغْضَبَ " قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ:

876 -

وَقَالَ غَيْرُ ابْنِ الْمُبَارَكِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: حُسْنُ الْخُلُقِ: كَظْمُ الْغَيْظِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِظْهَارُ الطَّلَاقَةِ وَالْبِشْرِ إِلَّا لِلْمُبْتَدِعِ وَالْفَاجِرِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فَاجِرًا إِذَا انْبَسَطَتْ إِلَيْهِ أَقْلَعَ وَاسْتَحْيَى، وَالْعَفْوُ عَنِ الزَّالِّينَ إِلَّا تَأْدِيبًا أَوْ إِقَامَةَ حَدٍّ، وَكُفُّ الْأَذَى عَنْ كُلِّ مُسْلِمٍ وَمُعَاهِدٍ إِلَّا تَغْيِيرًا عَنْ مُنْكَرٍ أَوْ أَخْذًا بِمَظْلَمَةٍ لِمَظْلُومٍ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ

ص: 863

877 -

حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي الدَّوْرَقِيُّ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَيْضُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْفُضَيْلَ، يَقُولُ: إِذَا خَالَطْتَ فَخَالِطْ حَسَنَ الْخُلُقِ فَإِنَّهُ لَا يَدْعُو إِلَّا إِلَى خَيْرٍ ثُمَّ قَالَ: {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] قَالَ: بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63] قَالَ: إِنْ جُهِلَ عَلَيْهِ حَلُمَ، وَإِنْ أُسِيءَ إِلَيْهِ أَحْسَنَ، وَإِنْ حُرِمَ أَعْطَى، وَإِنْ قُطِعَ وَصَلَ أُولَئِكَ "

ص: 864

878 -

حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِيُّ، عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ بْنِ الشِّخِّيرٍ رَضِيَ اللَّهُ، عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا، أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «حُسْنُ الْخُلُقِ» ثُمَّ أَتَاهُ عَنْ شِمَالِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «حُسْنُ الْخُلُقِ» ثُمَّ أَتَاهُ مِنْ بَعْدِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «مَا لَكَ لَا تَفَقَهُ أَوْ مَا لَكَ لَا تَنْقَهُ حُسْنُ الْخُلُقِ هُوَ أَنْ لَا تَغْضَبَ إِنِ اسْتَطَعْتَ»

ص: 864

879 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ ثَابِتٍ، قَالَ: قَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه خَدَمْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ سِنِينَ كَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا مَا قَالَ لِي أُفٍّ قَطُّ، وَلَا قَالَ لِشَيْءٍ قَطُّ صَنَعْتُهُ لِمَ صَنَعْتَهُ، وَلَا قَالَ لِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ لِمَ تَرَكْتَهُ "

ص: 865

880 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مِنْ أَكْمَلِ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا وَأَلْطَفُهُمْ بِأَهْلِهِ»

ص: 866

881 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْمُنْكَدِرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهٍ رَضِيَ اللَّهُ، عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ، وَإِنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ»

⦗ص: 867⦘

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَأَمَّا تَشْنِيعُ مَنْ شَنَّعَ فَقَالَ: لَوْ كَانَ النَّوَافِلُ مِنَ الْإِيمَانِ لَمَا أَصَابَ أَحَدٌ الْإِيمَانَ فَيُقَالُ لَهُ: أَمَّا الْإِيمَانُ لَمَّا أَصَابَ أَحَدٌ الْإِيمَانَ فَيُقَالُ لَهُ: أَمَّا الْإِيمَانُ الْمُفْتَرَضُ فَقَدْ أَصَابَهُ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا الَّذِي هُوَ تَطَوُّعٌ فَقَدْ أَصَابَ كَثِيرًا مِنْهُ الْأَقْوِيَاءُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الرُّسُلِ وَغَيْرِهِمْ، وَمَنْ قَصَّرَ عَمَّا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ الذَّمَّ، وَلَمْ يُسَمَّ مَنْقُوصًا، وَلَكِنْ يُسَمَّى كَامِلًا قَدْ أَدَّى مَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَزَادَ أَضْعَافَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ قَدْ فَصَّلَهُ، كَمَا أَنَّ مَنْ خَالَفَنَا يَزْعُمُ أَنَّ الْإِيمَانَ بِرٌّ وَإِحْسَانٌ وَقُرْبَةٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ النَّوَافِلَ كَذَلِكَ وَأَنَّهُ

⦗ص: 868⦘

لَا غَايَةَ لَهَا، فَإِنْ كَانَ مَنْ لَمْ يَأْتِ بِالْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ نَافِلَةٌ كَمَا كَانَ مَنْقُوصًا كَانَ مَنْ لَمْ يَأْتِ بِالنَّوَافِلِ كُلِّهَا مَنْقُوصًا مِنَ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ وَالْفَضْلِ. فَإِنْ قَالُوا: لَا يُسَمَّوْنَ مَنْقُوصِينَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُقَصِّرُوا عَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِمْ. قِيلَ: فَكَذَلِكَ لَا يُسَمَّوْنَ مَنْقُوصِينَ مِنَ الْإِيمَانِ إِذَا أَدُّوا مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ وَزَادُوا، وَلَا فُرْقَانَ بَيْنَ ذَلِكَ إِنْ لَحِقَهُمُ النَّقْصُ فِي الْإِيمَانِ لَحِقَهُمُ النَّقْصُ فِي الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ لَا فُرْقَانَ بَيْنَ ذَلِكَ

ص: 866

882 -

حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الدَّارِمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَبَّانُ بْنُ هِلَالٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُوَيْدٌ أَبُو حَاتِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: إِطْعَامُ الطَّعَامِ، وَلِينُ الْكَلَامِ " قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: «السَّمَاحَةُ وَالصَّبْرُ» قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ» قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْمَلُ قَالَ

⦗ص: 869⦘

: «أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا» قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْقَتْلِ أَشْرَفُ قَالَ: «مَنْ أُهَرِيقَ دَمُهُ وَعُقِرَ جَوَادُهُ» قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «جَهْدُ الْمُقِلِّ» قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيُّ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «طُولُ الْقُنُوتِ» قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «مَنْ هَجَرَ السُّوءَ»

ص: 868

883 -

حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ عُبَيْدٍ الْإِيَادِيُّ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه حَدَّثَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «بَيْنَمَا أَنَا ذَاتَ يَوْمٍ قَاعِدٌ إِذْ أَتَانِي جِبْرِيلُ فَوَكَزَ بَيْنَ كَتِفَيَّ فَقُمْتُ فَإِذَا أَنَا

⦗ص: 870⦘

بِشَجَرَةٍ فِيهَا مِثْلُ وَكْرَيِ الطَّيْرِ فَقَعَدَ فِي وَاحِدَةٍ وَقَعَّدَنِي فِي الْأُخْرَى فَسَمَتْ فَارْتَفَعَتْ حَتَّى سَدَّتِ الْخَافِقَيْنِ وَلَوْ شِئْتُ لَمَسَسْتُ السَّمَاءَ وَأَنَا أَنْظُرُ أُقَلِّبُ بَصَرِي إِلَى السَّمَاءِ فَالْتَفَتَ إِلَيَّ جِبْرِيلُ كَأَنَّهُ حِلْسٌ لَاطِئٌ فَعَرَفْتُ فَضْلَ عَلِمِهِ بِاللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِلْمِي فَفَتَحَ لَنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ فَرَأَيْتُ النُّورَ الْأَعْظَمَ، وَلُطَّ دُونِي بِحِجَابٍ وَرَفَرَفُهُ مِنْ يَاقُوتٍ فَأَوْحَى إِلَيَّ مَا شَاءَ أَنْ يُوحِيَ»

ص: 869

884 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ يَعْلَى بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ:«الْحَيَاءُ وَالْإِيمَانُ قُرِنَا جَمِيعًا فَإِذَا رُفِعَ أَحَدُهُمَا رُفِعَ الْآخَرُ»

ص: 870

885 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ، وَمَنْزِلُهُ، فِي بَنِي عِجْلٍ وَكَانَ

⦗ص: 871⦘

يُجَالِسُ الْحَسَنَ بْنَ حَيٍّ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ:«الْحَيَاءُ وَالْإِيمَانُ فِي قَرْنٍ فَإِذَا انْتُزِعَ أَحَدُهُمَا تَبِعَهُ الْآخَرُ»

ص: 870