المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المقدمة الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى - إصلاح الفقيه فصول في الإصلاح الفقهي

[هيثم بن فهد الرومي]

الفصل: ‌ ‌المقدمة الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى

‌المقدمة

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

هناك اتجاه واضح في الدراسات الشرعية والفقهية المعاصرة إلى الحديث عن تجديد الدين وتجديد الفقه، ووسائل ذلك ومعوقاته، وعن مظاهر هذا التجديد ومجالاته والجهود المبذولة في سبيله، والكثير من هذه الدراسات مفيدة نافعة، كما أن منها ما يخطئ في توصيف الواقع أو في معالجته، ويحصل في أحيان كثيرة أن يكون وصف حالة من الحالات العلمية بأنها من مظاهر التجديد أو من مظاهر الجمود راجعًا إلى تحكمات مزاجية أكثر من رجوعه إلى معايير علمية منضبطة ومحددة، وإذا ما تكلمنا عن تجديد الفقه على وجه التحديد فإن الفقه بأصوله وقواعده ونظرياته ليس علمًا جديدًا يفتقر إلى الضبط المنهجي حتى يستحدث له منهج في تجديده، ولفظة:(التجديد) ذاتها تدل على وجود شيء يجدد دون أن يستبدل به سواه، ومن هنا جاءت المقولة

ص: 11

المشهورة: (أول التجديد قتل الماضي بحثًا)، فالفقه له أصوله ومنهجيته التي تتطلب أن يكون من يمارس التجديد عارفًا بها؛ لئلا يستدرك عليها ما هو من صميمها أو ينتقد فيها ما ليس منها أو ينسب إلى متنها ما هو من هوامشها، والتجديد ما لم يكن متلزمًا بالتماسك الداخلي للعلم الذي كان به قيامه فهو تغيير وتبديل وليس تجديدًا، وبقاء الاسم وحده لا يغني شيئًا ما لم تكن أصوله وفلسفته باقية. وبعض من يستعملون اسم التجديد والإصلاح يفترضون أن الفقه بلغ حدًا معينًا من النمو عند زمن معين ثم وقع في مأزق يقتضي تغييرًا في أصوله وآلياته ومناهجه الكبرى، والكثير من هؤلاء تتشكل في أذهانهم رؤية وتصور معين للنهضة والحضارة والتقدم يحاكمون المناهج الفقهية إليها فيما يصح منها وما لا يصح وما ينبغي أن يستمر منها وما يجب أن يتوقف، ويجعلون من واقع الحياة قبلة يجب أن يخضع الفقه لشروطها

(1)

.

لقد أنزل الله جل جلاله علينا الدين ليكون نجاة لنا في الدنيا والآخرة، وشرع لنا فيه من الأحكام ما يعود علينا بالصلاح التام في شأننا كله، وجعل الأمن والسلام في اتباع دينه وشرعه، فقال تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]، وقال جل ثناؤه:{قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة: 15]، وما من

(1)

انظر على سبيل المثال: سياسيات الإسلام المعاصر، د. رضوان السيد (160)، القطيعة بين المثقف والفقيه، يحيى محمد (103).

ص: 12

صلاح يتوخاه البشر في سياساتهم وتدبيراتهم إلا جاءت الشريعة بما هو أتم منه وأكمل؛ لأنها من عند الله تعالى، والله جل جلاله عليم يعلم ما هو الأصلح لعباده، وهو خبير بأحوالهم الظاهرة والباطنة، وهو لطيف بهم يسبب لهم الخير من حيث لا يعلمون، وهو حكيم يضع الأشياء في محالِّها بحكمته وعدله ولا يدخل تدبيره خلل ولا زلل، وهو رحيم يرحم خلقه ويبصِّرهم ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمون ويمكن لهم أسباب مصالحهم برحمته التي وسعت كل شيء، وهو محيط لا يخفى عليه شيء ولا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وهو جميل يحب الجمال فأفعاله كلها خير ومصلحة وعدل ورحمة، وشريعته شريعة الجمال والجلال، وهو يحب منا أن نتقرب إليه بالجميل من الأقوال والأفعال والأخلاق، وهو رفيق في أحكامه وأمره ونهيه، لا يكلف عباده ما لا يطيقون، ويتدرج بهم من حال إلى حال من رفقه ورأفته بهم، وهو سلام سالم من كل عيب ونقص، وكذلك شرعه ودينه سلام من التناقض والاختلاف والاضطراب وخلاف مصلحة العباد ورحمتهم والإحسان إليهم، وهو قيومٌ قائم على كل نفس بما كسبت وكل مخلوقاته فقيرة إليه ولا غنى لخلقه عنه طرفة عين.

والشريعة التي هذا وصفها لا بد أن تشتمل على أسباب الصلاح كلها، وإدراك هذه الأسباب وفهمها وتحقيقها في واقع حياة الناس موكول إلى اجتهاد أهلها الذين جرى تكليفهم بها، وما يحصل من خلل في حياتهم وفساد في شؤونهم فذاك راجع

ص: 13

إلى تقصيرهم في العلم أو في العمل، فإن الشريعة من الأمر الذي يكلف به العباد ويحاسبون عليه، وليست من الخلق المقدر الذي هو مقضي لا محالة، والكثير من الناس يرون ما يتطرق إلى حياة المسلمين من الفساد فينسبونه إلى الشريعة وتقصر فهومهم عن نسبته إلى تقصيرهم في فهمها والعمل بها وإخلالهم بشروطها، وربما أدى بهم ذلك إلى الدعوة إلى تبديل بعض حقائق الشريعة باسم التجديد والإصلاح، حتى إذا سلكوا تلك السبيل باتوا كصخرة زل متنها عن رأس جبل فهي تتحدر منه إلى مكان سحيق.

إن تجديد الفقه وإصلاحه إنما يكون بالعودة إلى أصوله والتمسك بها، وتصحيح ما لحقها من سوء التصورات والآراء وفساد الظنون والأوهام، فإن حياة المتقدمين من أهل القرون الأولى كانت صالحة مستقيمة، مما يدل على أن علومهم كانت صالحة مستقيمة.

يقول ابن أبي جمرة (ت 699 هـ): (عمل المتقدمين أقوى من عمل أهل وقتنا، والعمل هو ثمرة العلم، فإذا كانت ثمرتان ثمر الواحدة خير وأكثر من الأخرى قطع بالجزم أن الذي ثمرها أكثر وأحسن خير من الأخرى بلا خلاف في ذلك عند من له بصيرة وعقل)

(1)

.

وهذا الفقه الصالح عند المتقدمين تشكلت به هوية الأمة

(1)

بهجة النفوس (2/ 59).

ص: 14

وقامت به حياتها، ورسخ بتعاقب القرون في وجدانها ومزاجها، وأصبح من أكبر مكوناتها واتصل بوجودها وجرى به سداد أمورها وصلاح شؤونها. حتى غدت أي محاولة للإصلاح غير مجدية ما لم تكن صادرة عن أصوله ومقاصده وأحكامه وغاياته. وهذه العصور الحديثة حافلة باتجاهات وتيارات تنسب نفسها إلى الإصلاح ولكنها تخاصم هوية الأمة وشريعتها فيؤول أمرها إلى فساد وإفساد، وما يجري على يديها من صلاح فهو صلاح جزئي من وجه دون وجه.

إن صلاح أحوال الأمة له ارتباط وثيق بتجديد فقهها الذي هو منهاج حياتها، ومن هنا كانت الحاجة إلى الحديث عن ((إصلاح الفقيه)) الذي يمارس هذا التجديد بوعي وبصيرة، وقد اخترت لفظة الإصلاح لمناسبة المقابلة بين إصلاح الفقه وإصلاح الحياة مما يتطرق هذا البحث إليه، ولأجل بيان حقيقة الإصلاح الذي به نهضة الأمة وتقدمها دون دعاوى الإصلاح التي تعرض عن الشريعة ولا تكترث بها، أو التي تسلك بها مسالك الغلو أو الجفاء.

ومهدت بين يدي هذه الدراسة بتمهيد يبين أهمية إصلاح الفقيه وأولويته، ثم عقدت سائرها في فصول أربعة: فأما الفصل الأول ففيه بيان معنى الفقه وحقيقة الصناعة الفقهية وفيه أيضًا بيان دور الفقيه ووظائفه في الحياة، فإنه لا يستقيم الحديث عن إصلاح الفقيه ما لم تكن تلك المعاني متقررة ابتداءً.

ص: 15

وأما الفصل الثاني ففيه بيان موقع الفقه في خطة الإصلاح العامة وفيه نماذج وأمثلة تشرح أثر الفقه في الحياة ودور الفقهاء فيها.

وأما الفصل الثالث ففيه بيان علاقات الفقيه في الوسط الذي يمارس فيه وظائفه، وهذه العلاقات تتراوح بين علاقته بالنخبة والعامة، والنخبة نخبتان فنخبة سياسية ونخبة ثقافية، ومن المهم تصور علاقة الفقيه بهذه الأطياف الثلاثة.

وأما الفصل الرابع ففيه بيان سبيل تأهيل الفقيه المصلح المشارك في صياغة الحياة وصناعتها، وذلك بإصلاح التعليم الفقهي وإصلاح التآليف الفقهية، مع إشارة إلى طبيعة المذاهب الفقهية والموقف منها ودورها في تأهيل الفقهاء. ثم ختمت بخاتمة لخصت فيه غرض هذا البحث.

وليس القصد من هذه الدراسة المختصرة اقتراح خطة للإصلاح، فإن هذه مهمة جليلة بحاجة إلى تضافر كبار فقهاء هذا الزمان، ونعوذ بالله من التكلف لما لا نحسن والتصدي لما لا نطيق، ولكنها إشارة عجلي لبعض الأولويات البحثية والمنهجيات العلمية والعملية المتَّبعة عند الفقهاء رحمهم الله تعالى، تهدف إلى تذكير فاضل أو تنبيه غافل. والله تعالى المسؤول أن يصلح النية والقصد، وأن يصلح العلم والعمل، وأن يهدينا لما فيه رشدنا وصلاحنا.

وبعد، فالحمدُ للهِ الذي بيده المواهب كلها، وكل نعمة بنا

ص: 16

فمنه ابتداؤها ودوامها، يجود علينا بفضله، ويثيبنا على طاعة نستعينه عليها، فله الحمد حمدًا لا ينفد، أفضل ما ينبغي أن يحمد.

ثم شكري وثنائي بعد ذلك موصول للشيوخ الأفاضل والأصدقاء الكرام الذين أكرموني بقراءة هذا البحث ومراجعته، وأفادوني بكريم نصحهم وتوجيههم، فالله يتولى جزاءهم ويجزل ثوابهم في الدنيا والآخرة، والله يتولانا جميعًا برحمته وتوفيقه فنعم المولى ونعم النصير.

ص: 17