الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني
صناعة الفقه ووظائف الفقيه
((وما نحن لولا كلمات الفقهاء)).
أبو الدرداء [الفقيه والمتفقه، الخطيب البغدادي: 141]
((باب الرخصة في الجمع بين المغرب والعشاء في السفر، بذكر خبر غلط في معناه بعض من لم يحسن صناعة الفقه، فتأول هذا الخبر على ظاهره وزعم أن الجمع غير جائز إلا أن يجدّ بالمسافر السفر)).
ابن خزيمة [الصحيح: 2/ 81]
((فإذا حدث بعد ذلك قوم يتأمّلون ما تشتمل عليه الملّة، وكان فيهم من يأخذ ما صرّح به في الملّة واضعُها من الأشياء العملية الجزئية مسلَّمة، ويلتمس أن يستنبط عنها ما لم يتفق أن يصرح به، محتذيًا بما يستنبط من ذلك حذو غرضه بما صرّح به، حدثت من ذلك صناعة الفقه)).
أبو نصر الفارابي [كتاب الحروف: 152]
أخص معاني الفقه في اللغة هو الفهم
(1)
، أما الفقه في الاصطلاح فللفقهاء في تعريفه طرائق، حيث يلتفت بعضهم للجانب المعرفي الذي ينصرف إليه الذهن عند الإطلاق فيعرفه بأنه:(العلم بأحكام الشريعة)
(2)
، أو أنه:(العلم بأحكام أفعال المكلفين الشرعية التي يتوصل إليها بالنظر دون العقلية)
(3)
، أو أنه:(العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية)
(4)
، وهناك من يلتفت إلى الجانب المهاري الذي هو ملكة الاستنباط ومعرفة العلل والقدرة على القياس على ما تعلمه من الأحكام، فيعرف الفقه بأنه: (استنباط حكم المشكل من
(1)
انظر: لسان العرب (17/ 418)، تاج العروس (36/ 456)، الفقيه والمتفقه، الخطيب البغدادي (146).
(2)
انظر: قواطع الأدلة، ابن السمعاني (1/ 9)، المفردات، الراغب الأصفهاني (642).
(3)
انظر: التقريب والإرشاد الصغير، الباقلاني (1/ 171).
(4)
انظر: الضياء اللامع شرح جمع الجوامع، حلولو (1/ 135).
الواضح)
(1)
، أو أنه:(الإصابة والوقوف على المعنى الخفي الذي يتعلق به الحكم)
(2)
، ومنهم من يجمع بين الأمرين كمن عرفه بأنه:(معرفة الأحكام الشرعية الفرعية بالفعل أو بالقوة القريبة)
(3)
.
ومن الواضح لمن يتتبع استعمال كلمة (الفقه) أنها مرت بمراحل، ففي استعمالها الأول الذي جاء في النصوص ودرج عليه الفقهاء الأوائل كانت تعني فهم الدين والشريعة بوجه عام دون تخصيص ذلك بعلم الحلال والحرام
(4)
، ثم اصطلح أهل العلم فيما اصطلحوا على استعمالها في علم الحلال والحرام وفشا هذا الاستعمال في كتاباتهم مع التأكيد على دخول معنى الفهم والاستنباط فيها لما لاحظوه من انتساب طوائف إلى الفقهاء بمجرد حفظ الفروع بلا ملكة تمكنهم من تحقيق الثمرة المرجوة من الفقه وهي الاجتهاد
(5)
.
ولقد كانت عناية علماء الشريعة بالتأكيد على هذه المعنى عناية بالغة، بل إن أصل هذا المعنى وارد في كلام صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم حيث يقول: (نضر الله امرأً سمع منا حديثًا فحفظه حتى يبلغه، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورب حامل فقه
(1)
انظر: قواطع الأدلة (10).
(2)
انظر: التعريفات، الجرجاني (175).
(3)
انظر: مختصر التحرير، ابن النجار (14).
(4)
انظر: مفهوم التأويل، د. فريدة زمرد (176)، مفهوم الفقه الإسلامي، نظام الدين عبد الحميد (12).
(5)
انظر: مقدمة في دراسة الفقه الإسلامي، د. محمد الدسوقي وزميلته (52).
ليس بفقيه)
(1)
، قال ابن السمعاني (ت 489 هـ):(أي: غير مستنبط، ومعناه أنه يحمل الرواية من غير أن يكون له استدلال واستنباط فيها)
(2)
. فنبي الهدى صلى الله عليه وسلم فرق هنا بين حملة الفقه وبين الفقهاء، فحامل الفقه لا يلزم أن يكون فقيهًا بالضرورة، وبناء على هذا فلا بد من التمييز بين الرجلين وألا يجعل مقدار العلم الذي يحمله المرء معيارًا في وصفه بالفقه، فإن حامل الفقه لا يكون فقيهًا حتى (يكون عنده سجية وقوة يقتدر بها على التصرف بالجمع والتفريق والترتيب، والتصحيح والإفساد؛ فإن ذلك ملاك صناعة الفقه)
(3)
.
وحدَّث عبد الله بن وهب (ت 197 هـ): أنه سمع مالكًا (ت 179 هـ) يقول: (ليس الفقه بكثرة المسائل، ولكن الفقه يؤتيه الله من يشاء من خلقه)
(4)
، وذكر النووي (ت 676 هـ) في ترجمة الإمام الشافعي (ت 204 هـ) في ((تهذيب الأسماء واللغات)): أن محمد بن عبد الحكم (ت 268 هـ) قال: ليس فلان عندنا بفقيه؛ لأنه يجمع أقوال الناس ويختار بعضها، قيل: فمن الفقيه؟ قال: الذي يستنبط أصلًا من كتاب أو سنة لم يُسبق إليه، ثم يشعب في ذلك الأصل مائة شعب، قيل: فمن يقوى على هذا؟ قال: محمد بن
(1)
رواه أبو داود في كتاب العلم، باب فضل نشر العلم (3652)، والترمذي في كتاب العلم، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع (2656)، وقال: حديث حسن.
(2)
قواطع الأدلة (11).
(3)
التحبير شرح التحرير، المرداوي (8/ 3870).
(4)
جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر، باب معرفة أصول العلم وحقيقته (2/ 25).
إدريس
(1)
، وقريب من هذا قول أبي حامد الغزالي (ت 505 هـ):(إذا لم يتكلم الفقيه في مسألة لم يسمعها ككلامه في مسألة سمعها فليس بفقيه)
(2)
.
وقال بدر الدين الزركشي (ت 794 هـ): (عُلم من تعريفهم الفقه باستنباط الأحكام أن المسائل المدونة في كتب الفقه ليست بفقه اصطلاحًا، وأن حافظها ليس بفقيه، وبه صرح العبدري في باب الإجماع من شرح المستصفى. قال: وإنما هي نتائج الفقه، والعارف بها فروعي، وإنما الفقيه هو المجتهد الذي ينتج تلك الفروع عن أدلة صحيحة، فيتلقاها منه الفروعي تقليدًا ويدونها ويحفظها. ونحوه قول ابن عبد السلام: هم نقلة فقه لا فقهاء)
(3)
.
وقال ابن رشد الحفيد (ت 595 هـ): (فإن هذا الكتاب إنما وضعناه ليبلغ به المجتهد في هذه الصناعة رتبة الاجتهاد إذا حصَّل ما يجب له أن يحصل قبله من القدر الكافي له في علم النحو واللغة وصناعة أصول الفقه، ويكفي من ذلك ما هو مساوٍ لجرم هذا الكتاب أو أقل، وبهذه الرتبة يسمى فقيهًا لا بحفظ مسائل الفقه، ولو بلغت في العدد أقصى ما يمكن أن يحفظه إنسان، كما نجد متفقهة زماننا يظنون أن الأفقه هو الذي حفظ مسائل أكثر،
(1)
تهذيب الأسماء واللغات (1/ 62).
(2)
حكاها عنه الزركشي في البحر المحيط (1/ 24) نقلًا عن ابن الهمداني (ت 521 هـ) في كتابه ((طبقات الحنفية والشافعية)).
(3)
البحر المحيط (1/ 23).
وهؤلاء عرض لهم شبيه ما يعرض لمن ظن أن الخَفَّاف هو الذي عنده خِفافٌ كثيرة لا الذي يقدر على عملها، وهو بيِّنٌ أن الذي عنده خفاف كثيرة سيأتيه إنسان بقدم لا يجد في خفافه ما يصلح لقدمه، فيلجأ إلى صانع الخفاف ضرورة، وهو الذي يصنع لكل قدم خفًا يوافقه، فهذا هو مثال أكثر المتفقهة في هذا الوقت)
(1)
.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728 هـ): (لكن هؤلاء ليسوا في الحقيقة فقهاء في الدين، بل هم نقلة لكلام بعض العلماء ومذهبه. والفقه لا يكون إلا بفهم الأدلة الشرعية بأدلتها السمعية الثبوتية من الكتاب والسُّنَّة والإجماع نصًا واستنباطًا)
(2)
، ويقول في بيان بعض الضرر الذي نجم من الخلط بين الفقهاء وحملة الفقه: (إذ الرجل قد يكون يرى مذهب بعض الأئمة، وصار ينقل أقواله في تلك المسائل، وربما قرَّبها بدليل ضعيف من قياس أو ظاهر، هذا إن كان فاضلًا وإلا كفاه مجرد نقل المذهب عن قائله إن كان حسن التصور فهمًا صادقًا، وإلا لم يكن عنده إلا حفظ حروفه إن كان حافظًا، وإلا كان كاذبًا أو مدعيًا أو مخطئًا. ولا ريب أن الحاصل عند هؤلاء ليس بعلم كما أن العامة المقلدين للعلماء فيما يفتونهم فإن الحاصل عندهم ليس علمًا بذلك عن دليل يفيدهم القطع، وإن كان العالم عنده دليل يفيد القطع. وهذا الأصل الذي ذكرته أصل عظيم فلا يصد المؤمن العليم عنه صاد فإنه لكثرة التقليد والجهل والظنون في
(1)
بداية المجتهد (3/ 1715).
(2)
الاستقامة (1/ 61).
المنتسبين إلى الفقه والفتوى والقضاء استطال عليهم أولئك المتكلمون حتى أخرجوا الفقه الذي نجد فيه كل العلوم من أصل العلم لما رأوه من تقليد أصحابه وظنهم)
(1)
، وهذا الكلام من هذا الإمام كلام جِدَّ متين، وفيه تحليل عميق لبعض أهم أسباب تطرق الفساد إلى علم الفقه، ولأجل ذلك فإن الإفاضة في شرح هذه القضية وبيانها ليست من التطويل الذي يغني قليله عن كثيره، بل إنها أصل من أصول إصلاح علم الفقه، وتدبرها وتقليب وجوه النظر فيها يفضي إلى خير عظيم ونفع عميم، فإن من أكبر أسباب فساد العلوم دخول من ليس من أهلها فيها.
يقول أبو محمد ابن حزم (ت 456 هـ): (لا آفة على العلوم وأهلها أضر من الدخلاء فيها وهم من غير أهلها، فإنهم يجهلون ويظنون أنهم يعلمون، ويفسدون ويقدرون أنهم يصلحون)
(2)
.
وللمتقدمين عناية بتقرير هذا المعنى، وكلماتهم مشهورة في التأكيد على أن الفقه إنما يؤخذ عن الفقهاء، الذين هم أهل الفهم والنظر في معاني النصوص والقدرة على الاستنباط منها والقياس عليها وإلحاق أشباهها بها.
(1)
الاستقامة (1/ 55).
(2)
من رسالة مداواة النفوس ضمن رسائل ابن حزم (1/ 345)، وانظر أيضًا كلامه في رسالة (مراتب العلوم) ضمن الرسائل (4/ 86).
قال أبو الزناد (ت 130 هـ): (أدركت بالمدينة مائة أو قريبًا من مائة كلهم مأمون، ما يؤخذ عن رجل منهم حرف من الفقه، يقال: إنه ليس من أهله)
(1)
.
وقال سفيان بن عيينة (ت 198 هـ): (الحديث مضلة إلا للفقهاء)
(2)
.
قال ابن أبي زيد القيرواني (ت 386 هـ): (يريد أن غيرهم قد يحمل شيئًا على ظاهره وله تأويل من حديث غيره، أو دليل يخفى عليه، أو متروك أوجب تركَه غيرُ شيء مما لا يقوم به إلا من استبحر وتفقه)
(3)
.
وقال ابن وهب (ت 197 هـ): (لولا أن الله أنقذني بمالك والليث لضللت. فقيل له: كيف ذلك؟ قال: أكثرت من الحديث فحيرني. فكنت أعرض ذلك على مالك والليث، فيقولان لي: خذ هذا ودع هذا)
(4)
.
(1)
الفقيه والمتفقه، الخطيب البغدادي، باب أدب المستفتي (1136).
(2)
الجامع، ابن أبي زيد القيرواني (118). وهذه الكلمة أيضًا تروى لابن وهب بلفظ:(الحديث مضلة إلا للعلماء). انظر: ترتيب المدارك (1/ 91)، وقد شنع أبو محمد ابن حزم رحمه الله على هذه الكلمة جدًا على ما عرف في مذهبه. انظر: الرسالة الباهرة (20).
(3)
الجامع (118).
(4)
كتاب المجروحين، ابن حبان (1/ 42)، ترتيب المدارك، القاضي عياض (3/ 236) والسياق له، وجاء في ترجمة ابن وهب أن مالكًا لم يكتب لأحد باسم الفقيه إلا إليه، وكان يكتب إليه: إلى عبد الله بن وهب فقيه مصر، ولم يكن يفعل هذا بغيره.
انظر: ترتيب المدارك (3/ 230).
وقال المزني (264 هـ): (واطلبوا العلم عند أهل الفقه تكونوا فقهاء إن شاء الله)
(1)
.
وقال الإمام الترمذي (ت 297 هـ) في باب ما جاء في غسل الميت من كتاب الجنائز بعد أن ذكر كلام مالك والشافعي: (وكذلك قال الفقهاء وهم أعلم بمعاني الحديث)
(2)
.
فمما تقدم يستبين لنا أن الفقه لا يتأتى بالمعرفة المجردة مهما بلغ حِمل المرء منها، بل لا بد أن ينضم إلى ذلك الملكة العقلية التي تمكنه من الاستنباط والتنزيل ونحوها من الملكات التي كان يجمعها في إطلاقات المتقدمين اسم الرأي، والأئمة الفقهاء المتبوعون ما منهم من أحد إلا وقد استعمل الرأي، فإنا متى علمنا ختم النبوة وانقطاع الوحي، مع بقاء التكليف بالشريعة وتجدد الحوادث، فإن من لازم ذلك استعمال الرأي في فهم النصوص وفي معرفة حكم ما يستجد من النوازل، فأما ما روي من ذم الرأي فإنما قصد به نوع ذميم من الرأي.
قال أبو الحسين البصري (ت 436 هـ): (إذا كان الذين ذموا الرأي هم الذين قالوا به وجب صرف ذمهم إلى الرأي مع وجود النص أو من ترك الطلب للنص، كما يجب مثله لو حُكي الرأي وذمه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(3)
.
(1)
الفقيه والمتفقه، الخطيب البغدادي، باب القول في السؤال عن الحادثة والكلام فيها قبل وقوعها (652).
(2)
جامع الترمذي، كتاب الجنائز، باب ما جاء في غسل الميت (990).
(3)
المعتمد (2/ 734)، وانظر: الإحكام، الآمدي (4/ 55).
والفقيه الذي يقوم به هذا المعنى وإن قلت محفوظاته أولى باسم الفقه ممن يتكثر من المسائل دون تفقه فيها ولا علم بمداخلها ومخارجها، فإن الفقيه كل الفقيه إنما هو فقيه النفس الذي يملك القدرة على استخراج أحكام الفقه من أدلتها، ثم لا يزال به التفقه حتى يغدو له كالسجية التي لا يتكلف لها
(1)
.
ومن كان بهذه المثابة كان على استخراج المعاني من النصوص أقدر من غيره، فإن النصوص فيها من المعاني ما الناس متفاوتون في استخراجه، وقد يهتدي المتأخر إلى ما لم يتنبه له المتقدم.
قال الزركشي (ت 794 هـ): (على فقيه النفس ذي الملكة الصحيحة تتبع ألفاظ الوحيين الكتاب والسُّنِّة واستخراج المعاني منهما. ومن جعل ذلك دأبه وجدها مملوءة، وورد البحر الذي لا ينزف، وكلما ظفر بآية طلب ما هو أعلى منها، واستمد من الوهاب)
(2)
.
وفقه النفس هذا ليس معرفةً تُنقل، بل هي ملكة ودربة، وأصلها موهبة وفضل من الله يختص به من يشاء من عباده. قال أبو المعالي الجويني (ت 478 هـ):(ولكن ينبغي أن يكون الناقل موثوقًا به فقيهَ النفس؛ لأن الفقه لا يمكن نقله)
(3)
، وقال أبوّ
(1)
انظر: التحبير شرح التحرير، المرداوي (8/ 3870)، تراجم ستة من فقهاء العالم الإسلامي، عبد الفتاح أبو غدة (84).
(2)
البحر المحيط (6/ 233).
(3)
البرهان (2/ 885).
حامد الغزالي (ت 505 هـ) عند ذكره لصفات المجتهدين: (وفقه النفس لا بد منه، وهو غريزة لا تتعلق بالاكتساب)
(1)
.
وقد جاء رجل إلى ابن شبرمة (ت 144 هـ) فسأله عن مسألة ففسَّرها له، فقال: لم أفهم، فأعاد، فقال: لم أفهم، فأعاد، فقال: لم أفهم، فقال له: إن كنت لم تفهم لأنك لم تفهم فستفهم بالإعادة، وإن كنت لم تفهم لأنك لا تفهم فهذا داء لا دواء له
(2)
.
وقال الإمام الشافعي (ت 204 هـ): (الطبع أرض، والعلم بذرة، ولا يكون العلم إلا بالطلب، فإذا كان الطبع قابلًا زكا ريعٍ العلم وتفرعت معانيه)، قال الخطيب البغدادي (ت 463 هـ) معلقًا على ذلك:(قلت: والبلادة داء عسير برؤه، عظيم ضره)
(3)
.
(1)
المنخول (464).
(2)
الفقيه والمتفقه، الخطيب البغدادي، باب حذف المتفقه العلائق (842).
(3)
الفقيه والمتفقه، الخطيب البغدادي، باب حذف المتفقه العلائق (840).
متى علم ما تقدم بيانه من معنى الفقه، فإن هذا الفقه الذي هو ملكة راسخة في نفس صاحبها متى تهيأت له فإن من شأنها ألا تقف به عند علم الحلال والحرام فحسب، فإن الشريعة كل لا يتجزأ، ومهما اضطرت العلماءَ ظروفُ التعليم والاصطلاح المتأخر إلى قسمة العلوم الشرعية وممايزتها، فإنها تبقى في حقيقتها كالشيء الواحد الذي لا يمكن فهم بعضه على وجه التمام إلا بفهم جميعه، ومهما كان الترجيح في مسألة تجزؤ الاجتهاد فإن من المتحقق أن أئمة الدين الذين هم محل القدوة والأسوة لم يكونوا من أهل التخصص المحض بلسان المتأخرين، ولم يكونوا أهل معرفة مجردة، بل كانوا أهل علم وعمل وعبادة وتأله وصبر وجهاد، وبمثل ذلك بورك في علمهم وتبوؤوا في الأمة مبوأ صدق وقبول.
وقد عقد الحافظ ابن عبد البر (ت 463 هـ) في كتابه ((جامع بيان العلم وفضله)) بابًا سماه: (باب من يستحق أن يسمى فقيهًا أو
عالمًا حقيقة لا مجازًا، ومن يجوز له الفتيا عند العلماء)، وساق فيه من النصوص والآثار ما يؤكد المعنى آنف الذكر. وقد قال مجاهد (ت 104 هـ): (الفقيه من خاف الله عز وجل
(1)
، وقال مطر الوراق (ت 129 هـ): سألت الحسن (ت 110 هـ) عن مسألة فقال فيها، فقلت: يا أبا سعيد، يأبى عليك الفقهاء ويخالفونك، فقال:(ثكلتك أمك مطر! وهل رأيت فقيهًا قط؟ وهل تدري ما الفقيه؟ الفقيه الورع الزاهد الذي لا يسخر بمن أسفل منه، ولا يهمز من فوقه، ولا يأخذ على علم علمه الله حطامًا)
(2)
.
وهذه الإشارات من هؤلاء السادة لها دلالتها التي لا ينبغي أن تغفل، فإن استقامة الفقيه وخشيته لله تعالى سبب من أسباب توفيقه وسداده، وهذا أمر لا ينبغي إغفاله في منظومة المعرفة في الإسلام، وقد أشار الإمام أحمد (ت 241 هـ) إلى هذا لما سأله سائل: من نسأل بعدك؟ فقال: سلوا عبد الوهاب- يعني: الوراق- مثله يوفق لإصابة الحق
(3)
.
وقد أفاض أبو حامد الغزالي (ت 505 هـ) في هذا المعنى ضمن حديثه عن تبديل ألفاظ العلوم فقال: (اللفظ الأول الفقه، فقد تصرفوا فيه بالتخصيص لا بالنقل والتحويل، إذ خصصوه بمعرفة الفروع الغريبة في الفتاوى، والوقوف على دقائق عللها،
(1)
جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر، باب من يستحق أن يسمى فقيهًا (1547).
(2)
الفقيه والمتفقه، الخطيب البغدادي، باب ما جاء في ورع المفتي وتحفظه (1067).
(3)
طبقات الحنابلة، ابن أبي يعلى (2/ 202).
واستكثار الكلام فيها، وحفظ المقالات المتعلقة بها، فمن كان أشد تعمقًا فيها وأكثر اشتغالًا بها يقال هو الأفقه.
ولقد كان اسم الفقه في العصر الأول مطلقًا على علم طريق الآخرة، ومعرفة دقائق آفات النفوس ومفسدات الأعمال، وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا، وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة، واستيلاء الخوف على القلب. ويدلك عليه قوله تعالى:{لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة: 122]. وما يحصل به الإنذار والتخويف هو هذا الفقه، دون تفريعات الطلاق والعتاق واللعان والسلم والإجارة، فذلك لا يحصل به إنذار ولا تخويف، بل التجرد له على الدوام يقسِّي القلب وينزع الخشية منه كما يُشاهد الآن من المتجردين له)، ثم قال:(ولست أقول إن اسم الفقه لم يكن متناولًا للفتاوى في الأحكام الظاهرة، ولكن كان بطريق العموم والشمول، أو بطريق الاستتباع، وكان إطلاقهم له على علم الآخرة أكثر، فثار من هذا التخصيص تلبيس بعث الناس على التجرد له، والإعراض عن علم الآخرة وأحكام القلب، ووجدوا على ذلك معينًا من الطبع، فإن علم الباطن غامض، والعمل به عسير، والتوصل به إلى طلب الولاية والقضاء والجاه والمال متعذر، فوجد الشيطان مجالًا لتحسين ذلك في القلوب بواسطة تخصيص اسم الفقه الذي هو اسم محمود في الشرع)
(1)
.
فالفقه في أصل استعماله إنما هو فهم الدين كله، بأصوله
(1)
إحياء علوم الدين (1/ 120 - 124)، وانظر كلامه في: فاتحة العلوم (6).
واعتقاداته وتشريعاته وآدابه وفضائله ومكارمه، وكل ذلك مفتقر في تحصيله وتطبيقه والهداية به وإليه إلى فهم عميق لا يتأتى بمجرد المعرفة، ولا يرفع ذلك الاصطلاح المتأخر الذي يخصه بعلم الحلال والحرام، ولكن القصد أن يعلم حقيقة ما يتنزل عليه اسم الفقه؛ لأننا متى شئنا الحديث عن إصلاح الفقه ووظائفه فلا بد أن يعلم امتداد هذا الاسم الشريف وما يترتب على هذا الامتداد من المعاني المؤثرة. ولأجل مزيد بيان لذلك أسوق كلامًا جليلًا للإمام الحليمي (ت 403 هـ) حيث يقول: (ومن نظر وتبين علم أن الفقه إن كان يستوجب الثناء ويستحق المدح والإطراء؛ لأنه علم أصله وحي، فما وصفناه من أضراب علم الشريعة وحي أصله تنزيل كله، وإن كان ذلك لما يحتاج إليه فيه من الفهم والفطنة، فما علم من العلوم إلا ومنه جلي وخفي، ولا وجه لإدراك الخفي إلا الاستدلال بالجلي عليه، ولا سبيل إلى الاستدلال بالجلي على الخفي إلا بعد إدراك المعاني وتبيّنها، وفي ذلك ما يبين أن اسم الفقه علم العلوم الشريعة كلها [كذا]، أعلاها الذي يتوصل بها إلى معرفة الله تعالى جده ووحدانيته وقدسه وعامة صفاته، ومعرفة أنبياء الله ورسله، والفرق بينهم وبين من يدَّعي مثلَ ما ادَّعوا، ولا يأتي من البينات بمثل ما أتوا. وما بعد ذلك من علم العبادات، وأحكام الاكتساب والمعاملات، والحدود والجنايات، والفصل بين المتنازعين، وإيصال الحقوق إلى المستحقين، ومن علم الأحوال والأخلاق والآداب والسيرة الحميدة والعشرة الجميلة، والمروءة التي هي قرينة العدالة، وإبقاء معاني العبودية
على تصرف الأحوال في الجملة. وعلم مع ذلك أن التذكير مما أمر الله تعالى جدُّه في كتابه، والله لا يأمر بالهزل ولا بما يهزأ به، ولا بما يضع امتثاله من تمثيله، ويحطُّ استعماله من قدر مستعمله، قال الله عز وجل:{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55]، وقال:{فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} [الطور: 29]. فيسمي الله تعالى جدُّه نبيَّه صلى الله عليه وسلم مذكرًا وسمى تبليغه وتعليمه تذكيرًا، وأمْرَه به إرشادًا وتبصيرًا. فكيف يعرض لأسباب الضعة ما جعله الله تعالى من أسباب الرفعة؟ وكيف يجري في عداد أهل النقص طائفة قائدها نبيها وإمامها رسولها؟ أو كيف يخرج علم التذكير من جملة الفقه وهو لا يقع إلا من أولي الفطنة والتمييز والخبرة بما يوجبه الحال، ويرجى أن ينجع فيمن يذكره المقدار الذي لا يستكثر فيمل منه أو يتضجر، وبالوقت الذي يكون التذكير فيه أنفع، ومن قلوب السامعين أوقع، وينبوع الذكر الذي يكون إلى القلوب أسرع، وفي القلوب أنجع. وإذا تُؤُمِّلَ هذا المقام وما جرى فيه من الكلام، وُجد أشبهَ المقامات بالقضاء بين المتخاصمين والحكم بين المتنازعين التذكيرُ؛ لأن المذكر يفصل بين دواعي النفس، فيميز المردية منها عن المنجية، ويخلص الموبقة من المعتقة، ويرجح دواعي العقل على دواعي الهوى والطبع، ويلزم السامعين أن يقفوا عند الحدود المحدودة لهم ولا يتعدوها، ويلزموا المثل الممثلة لهم ولا يتخطوها. كما أن القاضي يفصل بين المحق في دعواه والمبطل الراكب لهواه، ويميز البينات عن دواحض الشبهات، ويرجح من
أصنافها ما يجب ترجيحه، ويقدم منها ما يحق تقديمه، ويلزم المتحاكمين إليه أن ينتهوا إلى ما يوجبه الحكم لهم، ولا يرضى ببغي إن ظهر منهم. فإن كان علم القضاء فقهًا كما يحتاج القاضي إليه من الفهم والفطنة والذكاء والخبرة، فعلم التذكير مثله؛ لأنه في هذا المعنى شكله. وبعد هذا فكيف ينفر الناس عن علم القصص وهو من براهين النبوة وأعلام الرسالة، إذ يقول الله عز وجل:{تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49]. هذا وقد سمى الله عز وجل القرآن قصصًا، قال:{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3]، وقال:{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} [آل عمران: 62]، وإنما الاقتصاص إذا الخبر على وجهه [كذا]، فسواء كان المخبر عنه أنباء الأولين أو الحكام أو أحكام ما شرع للآخرين فكل ذلك قصص. والفقه محتاج فيهما إليه؛ لأن به يدرك مقاصد الاقتصاص، وبإدراكها يتميز العام عن الخاص)
(1)
.
فالحليمي هنا ينبه إلى ملحظ مهم، وهو أن الفقه كما أنه يُنص على اشتراطه في بعض الوظائف الشرعية كالإفتاء والقضاء، فهو شرط في سائر الوظائف كالوعظ والتذكير والقصص ونحوها.
وهذا الذي يشير إليه له أثره الكبير في إصلاح التصورات والمفاهيم الشرعية، فإن وظيفة الوعظ لها أثرها البالغ على مفاهيم
(1)
المنهاج في شعب الإيمان (1/ 13).
الناس وتصورهم، وما أكثر ما يؤدي تولي الجهلة وتصدرهم لهذه الوظائف إلى فساد كبير. وهذا أمر طالت شكوى الفقهاء منه قديمًا وحديثًا، وقد أدى تعرض الجهال لها إلى الزهد فيها وانصراف الفقهاء عن توليها وحضورها، وأصبح اسم الوعظ من الأسماء التي يترفع الفقيه عنها مع أنها من وظائف النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم كما قال الله جل جلاله:{فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء: 63]، والواعظ يصادف في الناس حال رقة وتأثر واستعداد لتقبل المفاهيم والتصورات، ومن هنا كان إصلاح الوعظ من أغراض الإصلاح الفقهي العام.
يقول ابن الجوزي (ت 597 هـ): (كان الوعاظ في قديم الزمان علماء فقهاء، وقد حضر مجلس عبيد بن عمير عبد الله بن عمر رضي الله عنه وكان عمر بن عبد العزيز يحضر مجلس القاص، ثم خسَّت هذه الصناعة فتعرَّض لها الجهال، فبعد عن الحضور وعندهم المميزون من الناس، وتعلق بهم العوام والنساء، فلم يتشاغلوا بالعلم وأقبلوا على القصص وما يعجب الجهلة وتنوعت البدع في هذا الفن)
(1)
.
فالفقه إذًا هو الملكة التامة التي تمكن صاحبها من الاقتدار على فهم الشريعة وإدارة الحياة بهداياتها
(2)
، واختصاص علم
(1)
تلبيس إبليس (123)، وانظر كلام الراغب الأصفهاني في: الذريعة إلى مكارم الشريعة (255).
(2)
مصطلح الملكة التامة من المصطلحات التي يستعملها ابن خلدون في مقدمته، وأصلها عنده قوة فطرية عامة، ثم تحصل جزئية في علم ما باكتساب قواعده والدربة عليه، بحيث يكون لصاحبها طبع الفلسفة، وهي نادرة في الناس. انظر: المقدمة (5/ 84)(5/ 280)، أليس الصبح بقريب، ابن عاشور (147).
الفروع والأحكام باسمه من الاصطلاحات العلمية الراسخة التي تواضع العلماء عليها، غير أنه لا ينبغي إهمال أصل المعنى لما يترتب على ذلك من فساد العلوم والأحوال. ومن أمثلة هذا الفساد ما يتولد في نفوس كثير من الخاصة فضلًا عن العامة من تصور أن الفقه من علم الجزئيات، وأن الفقهاء بعيدون عن واقع الناس ومعاشهم؛ بما ينشغلون به من تتبع الصور الجزئية وتطلب أحكامها. والحق أن حال بعض الفقهاء من أسباب انبعاث هذا التصور، لكن طبيعة علم الفقه وواقع الفقهاء الذين يصدق عليهم هذا الاسم بالحقيقة لا يساعد على تأكيده، فالفقهاء في تاريخ المسلمين المديد وباختلاف الزمان والمكان كان لهم الأثر الكبير في صناعة الحياة.
يقول د. محمد عابد الجابري (ت 1431 هـ): (إذا جاز لنا أن نسمى الحضارة الإسلامية بإحدى منتجاتها، فإنه سيكون علينا أن نقول عنها إنها حضارة فقه، وذلك بنفس المعنى الذي ينطبق على الحضارة اليونانية حينما نقول عنها إنها حضارة فلسفة، وعلى الحضارة الأوروبية المعاصرة حينما نصفها بأنها حضارة علم وتقنية. والواقع أنه سواء نظرنا إلى المنتجات الفكرية للحضارة الإسلامية من ناحية الكم، أو نظرنا إليها من ناحية الكيف، فإننا سنجد الفقه يحتل الدرجة الأولى بدون منازع. إن ما كتب في الفقه من مطولات ومختصرات وشروح وشروح الشروح لا يكاد
يحصى، وما استنسخ من هذه الكتب بمختلف أنواعها يستحيل استقصاؤه، بل إننا نكاد نجزم أنه إلى عهد قريب، لم يكن يخلو بيت من البيوت المسلمة من الخليج إلى المحيط، بل وفي أعماق كل من آسيا وأفريقيا من كتاب في الفقه، وبعبارة أخرى أنه ما من مسلم كان يحسن القراءة بالعربية إلا وكان على اتصال مباشر بكتب الفقه. وإذن فالفقه من هذه الناحية كان أعدل الأشياء قسمة بين الناس في المجتمع العربي الإسلامي، ولذلك كان لا بد أن يترك أثره قويًا فيه، ليس فقط في السلوك العملي للفرد والجماعة- الشيء الذي يستهدفه أساسًا- بل في السلوك العقلي أيضًا؛ أي: في طريقة التفكير والإنتاج الفكري)
(1)
.
والذين يصفون علم الفقه بأنه علم الجزئيات أو أن الفقهاء منشغلون بها انصرفت أنظارهم إلى أفراد المسائل الفقهية في مصنفات الفقه ومدوناته، وغفلوا عن طبيعة علم الفقه ونشأته وغاياته وآثاره. والفقه بطبيعته من علوم الحياة، وحاجة الناس إليه موفورة، فإن المسلمين حريصون على مشروعية أفعالهم، فيكثر سؤالهم للفقهاء عنها فيجيبونهم عليها، ومن هنا تنشأ المسائل والأحكام. أما كثرتها وتشعبها فذلك عائد إلى كثرة أسئلة الناس وتشعبها، وإذا طالعنا كتب الطبقات والتراجم فإننا نلاحظ أن الكثير من مدائن المسلمين ربما خلت من عالم باللغة أو عالم
(1)
تكوين العقل العربي (96).
بالكلام لكنها قل أن تخلو من فقيه يفتي الناس ويعلمهم؛ لمسيس حاجة الناس إليه
(1)
.
وإنما ينشأ الفساد عندما يظن ظان أن أصل الفقه هو هذه التفريعات والخلافيات التي تتضمنها كتب الفقهاء لا سيما المطولات منها. مع أن من العلماء من عد الاشتغال بالتقديرات وتكرار الفروع أقدم فساد أوجب تأخر الفقه
(2)
.
والعدل يقتضي أن يعلم الفرق بين الفقه كفن وعلم وبين الفروع الفقهية، فإن الفقه منه ما هو أصول وقواعد وقطعيات كلية هي أساس الدين، ومنه ما هو فروع وأحكام تفصيلية ناتجة من ممارسة الحياة وأسئلة الناس، وكلاهما من ضرورات تكوين الفقيه، وقد قال قتادة (ت 117 هـ):(من لم يعرف الاختلاف لم يشم أنفه الفقه)
(3)
، وقال ابن الماجشون (ت 212 هـ):(كانوا يقولون: لا يكون فقيهًا في الحادث من لم يكن عالمًا بالماضي)
(4)
. لكن من الواجب أن يعلم أن هذه الفروع نتائج للفقه، ومعرفتها ضرورة من جهة معرفة كلام أهل العلم لئلا تكون من مسائل الاتفاق، ولئلا يهمل من الخلاف والأدلة ما لا ينبغي إهماله. قال عطاء (ت 114 هـ): (لا ينبغي لأحد أن يفتي الناس حتى يكون عالمًا باختلاف الناس؛ فإن لم يكن كذلك رد من
(1)
انظر: أليس الصبح بقريب، ابن عاشور (60).
(2)
انظر: أليس الصبح بقريب، ابن عاشور (171).
(3)
جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر، باب من يستحق أن يسمى فقيهًا (1522).
(4)
جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر، باب من يستحق أن يسمى فقيهًا (1531).
العلم ما هو أوثق من أوثق من الذي في يده)
(1)
. ثم هي بعد ذلك من المسائل التي يُتفقَّه بها ويُتدرَّب عليها.
والفقهاء قد يختصرون في بعض المسائل لظهور حكمها ووضوح مأخذها، ويطيلون في أخرى لإشكالها ودقة مأخذها، وربما كانت الأولى أكثر حصولًا وحاجة الناس إليها أكبر، وربما كانت الثانية من قبيل النوادر، لكن الناس لا بد لهم ممن يفتيهم.
وبناءً على هذا فالنظر إلى المادة الفقهية نظرةً كميةً، وقياس اهتمامات الفقهاء بالنظر إلى طول المسائل وقصرها فيه خلل كبير.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728 هـ) في تقرير هذا المعنى كلام نفيس حيث يقول: (بل باب الحيض الذي هو من أشكل الفقه في كتاب الطهارة، وفيه من الفروع والنزاع ما هو معلوم، ومع هذا أكثر الأحكام الشرعية المتعلقة بأفعال النساء في الحيض معلومة. ومن انتصب ليفتي الناس يفتيهم بأحكام معلومة متفق عليها مائة مرة، حتى يفتيهم بالظن مرة واحدة. وإن أكثر الناس لا يعلمون أحكام الحيض وما تنازع الفقهاء فيه من أقله وأكثره وأكثر سنين الحيض وأقله ومسائل المتحيرة، فهذا من أندر الموجود، ومتى توجد امرأة لا تحيض إلا يومًا؟ وإنما في ذلك حكايات قليلة جدًا، مع العلم بأن عامة بنات آدم يحضن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن هذا شيء كتبه الله على بنات آدم))
(2)
. وكذلك متى
(1)
جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر، باب من يستحق أن يسمى فقيهًا (1524).
(2)
متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب الحيض، باب كيف كان بدء الحيض (294)، ومسلم في كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام (2976).
توجد في العالم امرأة تحيض خمسة عشر يومًا أو تسعة عشر؟ أو امرأة مستحاضة دائمًا لا يعرف لها عادة ولا يتميز الدم في ألوانه؟ بل الاستحاضة إذا وقعت فغالب النسوة يكون تميزها وعادتها واحدة، والحكم في ذلك ثابت بالنصوص المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم وباتفاق الفقهاء. ونحن ذكرنا في الموت الذي هو أمر لازم لكل أحد وقل من يموت إلا وله شيء
(1)
، وفي الحيض الذي هو أمر معتاد للنساء، وكذلك سائر الأجناس المعتادة مثل النكاح وتوابعه والبيوع وتوابعها والعبادات والجنايات.
فإن قال قائل: مسائل الاجتهاد والخلاف في الفقه كثيرة جدًا في هذه الأبواب، قيل له: مسائل القطع والنص والإجماع بقدر تلك أضعافًا مضاعفة، وإنما كثرت لكثرة أعمال العباد وكثرة أنواعها، فإنها أكثر ما يعلمه الناس مفصلًا، ومتى كثر الشيء إلى هذا الحد كان كل جزء منه كثيرًا. من ينظرها مكتوبة فلا يرتسم في نفسه إلا ذلك. كما يطالع تواريخ الناس والفتن وهي متصلة في الخبر فيرتسم في نفسه أن العالم ما زال ذلك فيه متواصلًا، والمكتوب شيء والواقع أشياء كثيرة، فكذلك أعمال العباد وأحكامها ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك)
(2)
.
فهذه الفروع والتفصيلات الجزئية هي نتائج ارتباط الفقه بالحياة، وسؤال الناس لأهل الذكر والفقه في الدين عما يشكل
(1)
أيْ: مال يورِّثه، وكان حديثه قبل هذا الموضع عن علم الفرائض.
(2)
الاستقامة (1/ 58).
عليهم، فإن من المعلوم أنه ما من عمل وله حكم في الشريعة، وأصل هذه الأحكام في كتاب الله تعالى بالأصالة أو بالدلالة.
قال الإمام الشافعي (ت 204 هـ): (فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها)
(1)
.
ومتى علم امتزاج الفقه بالحياة فإن أسئلة الناس ستتوارد على الفقهاء في شتى مجالات الحياة، ولذا فإن كتب الفقه وأبوابه تعم كافة الأنشطة التي يمكن للبشر أن يزاولوها، ومنها الجليل واليسير، والكثير والقليل والنادر، لا سيما والإسلام له دولة تقوم بأمره وترعى مقاصده، وعلمها يعم كل فرع من فروع الحياة
(2)
.
والفقه بآلياته هو الذي يغور بهدايات الشريعة في المجتمعات الإسلامية إلى أبعد مدى، ويطبعها بطابع يمزج تفاصيل الحضارة بتفاصيل الشريعة، حتى بات للإسلام حضارة تنسب إليه فيقال لها:(الحضارة الإسلامية)، وهذا ما يمتاز به دين الإسلام من بين سائر الديانات
(3)
. ولذا فإن تغيير سلوك المسلمين وأخلاقهم الاجتماعية، وتوجيه حياتهم بخلاف ما تقتضيه حضارتهم، كان من أكبر مداخل الدول الاستعمارية لإحلال مفاهيم ومشاريع أجنبية أدت إلى فوضى عارمة في مجالات شتى
(4)
.
ومن الفساد الذي ينشأ من إغفال الفرق بين وظيفة الفقيه في
(1)
الرسالة (20).
(2)
انظر: نظرية الإسلام السياسية، المودودي (42).
(3)
انظر: أرض العروبة رؤية حضارية في المكان والزمان، د. سليمان حزين (271).
(4)
انظر: تراثنا الفقهي وضرورة التجديد، عبد الحي عمور (6).
الحياة وصنيع الفقهاء في مدوناتهم، ما يقوم بأذهان بعض الناس من تصور أن الفقهاء غير معنيين بالجانب الأخلاقي بقدر اهتمامهم بالجانب الحقوقي. وسبب هذا اللبس أن الفقهاء يعنون في كتبهم بجانب القضاء، أو ما يسمى باللسان المعاصر (القواعد القانونية)، وهي الحد الأدنى الذي يلزم توافره لتحقيق الضبط الاجتماعي، وما كان كذلك فلا بد من اتخاذ الوسائل اللازمة لتطبيقه بإنشاء المؤسسات القضائية ولواحقها ولوازمها، أما الجوانب التي تتعلق بالآداب والمكارم فهي من قبيل (القواعد الأخلاقية) التي تبين الحد الأعلى لما ينبغي أن يكون عليه السلوك العام والمجتمع الفاضل، مما يربي الفقهاء عليه الناس بالوعظ والتعليم والندب والاستحباب، ومثل هذه القواعد لا تكون قواعد إلزامية إلا إذا جرت ضرورة لذلك، وسبيل تقرير ذلك الاجتهاد، والفقهاء وإن كانت عنايتهم في مدونات الفقهاء ذاهبة إلى الجانب القضائي الحقوقي، غير أن جانب الأخلاق والمكارم والآداب والمندوبات غير مهمل بدوره، ولكن مظان هذه غير مظان تلك، وهذا على سبيل العموم
(1)
.
قال الشيخ محمد أنور الكشميري (ت 1352 هـ) في شرحه لحديث أنس رضي الله عنه: ((حجم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو طيبة، فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بصاع من تمر، وأمر أهله أن يخففوا عنه ن خراجه))
(2)
: (واعلم أن هذا باب لا يدخل فيه القضاء، وقلَّ من
(1)
انظر: الفقه الإسلامي بين النظرية والتطبيق، د. محمد سراج (27)، نقاط التجاذب والخلاف في الفقه الإسلامي، كولسون، مجلة المسلم المعاصر (3: 163).
(2)
متفق عليه من حديث أنس، أخرجه البخاري في كتاب البيوع باب من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم في البيوع والإجارة والمكيال والوزن وسننهم على نياتهم ومذاهبهم المشهورة (2210) واللفظ له، وأخرجه مسلم في كتاب المساقاة باب حل أجرة الحجامة (4121).
توجه إلى هذا الباب أحد، مع أنه يوجد في الأحاديث كثيرًا، فيكون أمرًا صحيحًا في الخارج، ثم لا يتأتى على قواعد الفقه، وذلك لأن الناس كثيرًا ما يتعاملون فيما بينهم ويسامحون فيه ولا يتنازعون بشيء. وقد يجوز ذلك في نظر الشارع أيضًا، إلا أن الفقهاء لا يتعرضون إليه لكونه من الديانات عندهم، وجُلُّ أحكامهم من باب القضاء. ومن لا خبرة له بذلك يظنها خلاف الفقه، ولا يدري أن ما ذكر في الفقه هو حكم القضاء وذلك في الديانة، وقد أوضحنا الفرق بينهما
…
وبالجملة باب المسامحات والمروءات مفقود من الفقه، مع كونه أهم)
(1)
، وقال في سياق آخر:(وهذا الاعتراض ساقط؛ لأن هذا من باب المسامحات والإغماض دون المماكسة والتنازع، وليس في الفقه إلا باب التنازع. والسر فيه أن باب المسامحات لا يأتي فيه التكليف ولا يجبر عليه أحد، إنما هو معاملة الرجل مع الرجل على رضاء نفسه، فلم يذكروا في الفقه إلا أحكام القضاء، وهي التي مما يجبر عليها الناس، وقليلًا ما ذكروا أبواب الديانات. والناس إذا لم يروا مسألة في الفقه يزعمونها منفية عندهم، مع أن الفقهاء إنما تكلموا فيما في دائرة التكليف. والتي ليست كذلك لم يتعرضوا لها، وإن كانت جائزة فيما بينهم)
(2)
.
(1)
فيض الباري على صحيح البخاري (3/ 483).
(2)
فيض الباري (3/ 575).
إن الفقيه لا يكون فقيهًا بمجرد اختياره لتخصص الفقه في المدارس والمعاهد والجامعات الشرعية وتخرجه فيها، ولا يكون فقيهًا باختيارٍ سياسي أو إداري ليتولى منصبًا دينيًا أو خطة شرعية، بل الفقيه هو العالم الشرعي مكتمل الآلة والمكنة، الذي يعيش في عصره ويتمكن من إدارة الحياة وصناعتها بفقهه، ومن تمام عملية الإصلاح الفقهي أن يعاد النظر إلى الفقيه بهذا الاعتبار، وهذا ما دفع الشاطبي (ت 790 هـ) إلى تفضيل علم الفقه، واعتبار (العلماء حكامًا على الخلائق أجمعين قضاءً أو فتيا أو إرشادًا؛ لأنهم اتصفوا بالعلم الشرعي الذي هو حاكم بإطلاق)
(1)
، فالفقيه في الإسلام يقابل الفلاسفة الأوروبيين الكبار الذين قامت الحضارة الغربية الحديثة على أكتافهم باختلاف مذاهبهم ومدارسهم.
(1)
الاعتصام (3/ 439).
والفقهاء الذين هم بهذه المثابة قلة بالقياس إلى من ينتسبون أو ينسبون إلى هذا الاسم، فإن لهذا الاسم شرطًا صعبًا يجعله بالمحل الأرفع الذي لا تمتهنه صنائع الذين ليس لهم منه إلا اسمه. وهذا معنى يؤكده أهل العلم على الدوام؛ لأنهم يرون آثار إهماله في فساد الأحوال والتصورات.
بل إن من أهل العلم من يرى أنه لا يكون المرء فقيهًا (حتى يكتهل ويكمل سنه ويقوي نظره، ويبرع في حفظ الرأي ورواية الحديث ويبصره ويميز طبقات رجاله، ويحكم عقد الوثائق ويعرف عللها، ويطالع الاختلاف ويعرف مذاهب العلماء والتفسير ومعاني القرآن. فحينئذٍ يستحق أن يسمى فقيهًا، وإلا فاسم الطالب أليق به)
(1)
، وهذه الحال المذكورة من أحوال الرسوخ في العلم، فإن طول ممارسة الفقه ووظائفه تجعل منه حالة راسخة ينشأ منها ما يدعوه العلماء فقه النفس، وهي حالة استقرار علمي ونفسي تحمل صاحبها على الأناة والاستيثاق والاستقصاء وتقدير العواقب؛ (لأن الشيخ قد زالت عنه ميعة الشباب وحدته وعجلته وسفهه واستصحب التجربة والخبرة، فلا يدخل عليه في علمه الشبهة، ولا يغلب عليه الهوى، ولا يميل به الطمع، ولا يستزله الشيطان استزلال الحدث. ومع السن الوقار والجلالة والهيبة، والحدث قد يدخل عليه هذه الأمور التي أمنت على الشيخ، فإذا دخلت عليه وأفتى هلك وأهلك)
(2)
.
(1)
ترتيب المدارك، القاضي عياض (6/ 151).
(2)
الفقيه والمتفقه، الخطيب البغدادي، باب في فضل العلم والعلماء (560).
فالتوسع في العلم بامتداد الزمان لا تقتصر آثاره على الجانب العلمي والمعرفي للفقيه، بل تمتد إلى الجانب السلوكي والتربوي، وإلى الطبيعة النفسية للفقيه ذاته.
قال أيوب السختياني (ت 131 هـ): (أجسر الناس على الفتيا أقلهم علمًا باختلاف العلماء، وأمسك الناس عن الفتيا أعلمهم باختلاف العلماء)
(1)
، وقال ابن أبي زيد القيرواني (ت 386 هـ):(وإنما ينظر في الخلاف ويحكي أقوال العلماء من اتسع في العلم، ولا يحل أن يؤمر الضعيف بتعلم مسائل الخلاف، وإدخال الحمية على الأئمة في صدره، وليبدأ بإحكام فرائضه، فما أثبح هذا الأثر في الإسلام)
(2)
.
وهذه الشرائط التي يذكرها الأصوليون للفقيه المجتهد يمكن تصنيفها إلى أربعة أنواع
(3)
:
1 -
دراسة مصادر الاجتهاد.
2 -
دراسة السوابق الفقهية.
3 -
دراسة لغة النص التشريعي.
4 -
دراسة بيئة المجتمع الذي يعيش فيه المجتهد.
وهذه الشروط تضم إلى ملكة الفهم والاستنباط ملكة القدرة على التنزيل على الوقائع وتحقيق المناطات، والفقيه يفتقر في هذا
(1)
جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر، باب من يستحق أن يسمى فقيهًا (1525).
(2)
الذب عن مذهب مالك، ابن أبي زيد (1/ 308).
(3)
انظر: مقدمة في دراسة الفقه الإسلامي، د. محمد الدسوقي ود. أمينة الجابر (56).
إلى العلم بطبيعة الحياة التي يريد تنزيل الأحكام عليها، وهذا ما يُحتِّم عليه أن يكون مشاركًا في العلوم التي لا يتمكن من استخراج الأحكام إلا بها، وهذا كان دأب الفقهاء المجتهدين، ومن طالع سيرهم وتراجمهم ناله العجب من تنوع معارفهم وسعة اطلاعهم وكثرة مشاركتهم تعلمًا وتعليمًا وتأليفًا.
يقول ابن الجوزي (ت 597 هـ): (على أنه ينبغي للفقيه ألا يكون أجنبيّاً عن باقي العلوم فإنه لا يكون فقيهًا، بل يأخذ من كل علم بحظ ثم يتوفر على الفقه فإنه عز الدنيا والآخرة)
(1)
.
ويقول الإمام القرافي (ت 684 هـ): (وكم يخفى على الفقيه والحاكم الحق في المسائل الكثيرة بسبب الجهل بالحساب والطب والهندسة. فينبغي لذوي الهمم العلية أن لا يتركوا الاطلاع على العلوم ما أمكنهم:
فلم أر في عيوب الناس شيئًا
…
كنقص القادرين على التمام)
(2)
وقال الشيخ حسن العطار (ت 1250 هـ) في شكوى موجعة: (من تأمل ما سطرناه وما ذكره من التصدي لتراجم الأئمة الأعلام على أنهم كانوا مع رسوخ قدمهم في العلوم الشرعية والأحكام الدينية لهم اطلاع عظيم على غيرها من العلوم، وإحاطة تامة بكلياتها وجزئياتها حتى في كتب المخالفين في العقائد والفروع،
(1)
صيد الخاطر (290).
(2)
الفروق (4/ 23)، وانظر: الفتوى في الإسلام، جمال الدين القاسمي (142)، والبيت المذكور لأبي الطب المتنبي، انظر: ديوانه (476).
يدل على ذلك النقل عنهم في كتبهم والتصدي لدفع شبههم، وأعجب من ذلك تجاوزهم إلى النظر في كتب غير أهل الإسلام، فإني وقفت على مؤلف للقرافي رد فيه على اليهود شبهًا أوردوها على الملة الإسلامية، لم يأت في الرد عليهم إلا بنصوص التوراة وبقية الكتب السماوية، حتى يظن الناظر في كتابه أنه كان يحفظها عن ظهر قلب، ثم هم مع ذلك ما أخلوا في تثقيف ألسنتهم وترقيق طباعهم من رقائق الأشعار ولطائف المحاضرات، ومن نظر ما دار بين المصنف رحمه الله وبين عصريه الأديب الصلاح الصفدي من المراسلات البليغة والأشعار الرقيقة علم أنه رحمه الله ممن يخضع له رقاب البلغاء وتجري في مضماره سوابق الأدباء، وكذا ما دار بين سلطان المحدثين الحافظ ابن حجر العسقلاني ومن عاصره من فحول الأدباء من لطائف الأشعار والنكات الأدبية، وكذا العلامة الدماميني، بل وبين الحافظ السيوطي والسخاوي من المناقضات وما ألفه من المقامات، وفيما انتهى إليه الحال في زمن وقعنا فيه، علم أن نسبتنا إليهم كنسبة عامة زمانهم، فإن قصارى أمرنا النقل عنهم بدون أن نخترع شيئًا من عند أنفسنا، وليتنا وصلنا إلى هذه المرتبة بل اقتصرنا على النظر في كتب محصورة ألفها المتأخرون المستمدون من كلامهم، نكررها طول العمر ولا تطمح نفوسنا إلى النظر في غيرها، حتى كأن العلم انحصر في هذه الكتب، فلزم من ذلك أنه إذا ورد علينا سؤال من غوامض علم الكلام تخلصنا عنه بأن هذا كلام الفلاسفة ولا ننظر فيه، أو مسألة أصولية قلنا لم نرها في جمع الجوامع فلا
أصل لها، أو نكتة أدبية قلنا هذا من علوم أهل البطالة هكذا، فصار العذر أقبح من الذنب، وإذا اجتمع جماعة منا في مجلس فالمخاطبات مخاطبات العامة والحديث حديثهم، فإذا جرى في المجلس نكتة أدبية ربما لا نتفطن لها، وإن تطفنا لها بالغنا في إنكارها والإغماض عن قائلها إن كان مساويًا، وإيذائه بشناعة القول إن كان أدنى، ونسبناه إلى عدم الحشمة وقلة الأدب، وأما إذا وقعت مسألة غامضة من أيِّ علم كان عند ذلك تقوم القيامة وتكثر القالة، ويتكدر المجلس وتمتلئ القلوب بالشحناء وتغمض العيون على القذى، فالمرموق بنظر العامة الموسوم بما يسمى العلم إما أن يتستر بالسكوت حتى يقال إن الشيخ مستغرق، أو يهذو بما تمجه الأسماع وتنفر عنه الطباع:
وقالوا سكرنا بحب الإله
…
وما أسكر القوم إلا القصع
فحالنا الآن كما قال ابن الجوزي في مجلس وعظه ببغداد:
ما في الديار أخو وجد نطارحه
…
حديث نجد ولا خل نجاريه
وهذه نفثة مصدور فنسأل الله السلامة واللطف)
(1)
.
والفقيه محتاج في تنزيل الأحكام إلى معرفة طبائع الناس وعوائدهم، وأحوال اجتماعهم ووجوه سياستهم، وطرائق إيصال الهدى والخير إليهم، ومعرفة طرق تحصيل المصالح وتكثيرها، وطرق درء المفاسد وتقليلها ما أمكن، ولذا وصف أبو حامد الغزالي (ت 505 هـ) الفقيه بأنه: (العالم بقانون السياسة، وطريق
(1)
حاشية العطار على جمع الجوامع (2/ 247).
التوسط بين الخلق إذا تنازعوا بحكم الشهوات. فكان الفقيه معلم السلطان ومرشده إلى طريق سياسة الخلق وضبطهم؛ لينتظم باستقامتهم أمورهم في الدنيا)
(1)
.
أما الخِلْو من كل ذلك فهو حامل فقه وليس بفقيه، وأني للعريِّ من قوانين السياسة أن يسوس الحياة بقوانين الدين؟ وكيف يتهيأ لمن يعتزل الحياة أن يفهمها فضلًا عن أن يفتي فيها؟
يقول خير الدين التونسي (ت 1307 هـ): (وأنت إذا أحطت خبرًا بما قررناه علمت أن مخالطة العلماء لرجال السياسة بقصد التعاضد على المقصد المذكور من أهم الواجبات شرعًا؛ لعموم المصلحة وشدة مدخلية الخلطة المذكورة في اطلاع العلماء على الحوادث التي تتوقف إدارة الشريعة على معرفتها، ومعلوم أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وبيان ذلك أن إدارة أحكام الشريعة كما تتوقف على العلم بالنصوص تتوقف على معرفة الأحوال التي تعتبر في تنزيل تلك النصوص، فالعالم إذا اختار العزلة والبعد عن أرباب السياسة فقد سدَّ عن نفسه أبواب معرفة الأحوال المشار إليها، وفتح أبواب الجور للولاة)
(2)
.
والكثير من التصورات المغلوطة عن الفقه والفقهاء إذا تأملناها وفحصنا عن أمرها وجدناها ناتجة عن عدِّ حملة الفقه من الفقهاء، واعتبار كتاباتهم إنتاجًا فقهيًا أصيلًا، مع أن الذين هم
(1)
إحياء علوم الدين (1/ 67).
(2)
أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك (41)
بهذه الصفة لا يكادون يقدمون شيئًا جديدًا، بل جهودهم محصورة في الجمع والتكرار والترجيح على ما علم في طبقات المقلدين، وهذا ما يجعل منهم بعيدين عن حاجات الناس الفعلية، وربما أدى ذلك إلى اشتغالهم بفرضيات بعيدة عما عليه واقع الناس واحتياجهم، ولذا وجدنا من يحتد في نقد الفقهاء، لكنه يقصد بهم هؤلاء.
يقول مالك بن نبي (ت 1393 هـ): (وفي هذه المرحلة أيضًا لا يهتم أحد بالمشكلات الواقعية كما كان يفعل أئمة الفقه الإسلامي، بل يكون الاهتمام منصبًا على مشكلات خيالية. على ما كان عليه فقهاء عصر الانحطاط، حيث لم يعودوا يكبون على المشكلات التي يثيرها نمو المجتمع، بل على حالات خيالية محضة؛ كالبحث في جنس الملائكة، أو كالتوضؤ من وطء البهيمة)
(1)
.
ويقول محمد أسد (ت 1992 م): (إن شريعة الإسلام ليست مقصورة على ما تحويه بطون كتب الفقه المطولة التي شغلت نفسها بتفاصيل التفاصيل، وليست هي موضوعًا لخطب الجمعة فحسب، ولكنها منهاج حي يدفع بموكب الحياة البشرية إلى الأمام)
(2)
. والخبير بطبقات الفقهاء وأخبارهم ممن تدور عليهم رحي الفقه في كل زمان، يعلم أن هذه المسائل المذكورة وأضرابها لم تكن من شواغلهم يومًا ما، بل لقد كانوا معايشين
(1)
ميلاد مجتمع (40).
(2)
منهج الإسلام في الحكم (173).
لأحوال الناس واهتماماتهم، ولسوف يأتي مزيد بيان لهذا المعنى لاحقًا.
ومشاركة الفقيه لا تعني مطالبته بتشتيت همته بين العلوم، ولا أن يكون صاحب معرفة موسوعية، بل القصد أن يكون له من الاطلاع والمعرفة ما يتمكن به من التسلط على ما تقوم به حاجة إليه في اشتغاله واجتهاده، فيتعامل مع سائر العلوم بطريقة وظيفية تمكنه من الانتفاع بها والإفادة منها
(1)
.
إن التساهل في شرط الفقيه لهو من أكبر أسباب الهزال والضعف في الإنتاج الفقهي، ومن أكبر أسباب انتقاص الفقهاء والتعدي على مكانتهم والجرأة على وظائفهم. وقديمًا شكا القاضي الجرجاني (ت 392 هـ) فقال في عزة وتوجع:
ولم أقضِ حقَّ العلم إن كان كلَّما
…
بدا طمعٌ صيَّرتُه لي سُلَّما
إذا قيل هذا منهل قلت قد أرى
…
ولكنَّ نفس الحر تحتمل الظما
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي
…
لأَخم من لاقيت لكن لأُخدما
أأشقى به غرسًا وأجنيه ذلةً
…
إذا فاتِّباع الجهل قد كان أحزما
ولو أنَّ أهل العلم صانوه صانهم
…
ولو عظموه في النفوس لعَظَّما
ولكن أهانوه فهان ودنسوا
…
محياه بالأطماع حتى تجهما
وعقَّب التاج السبكي (ت 771 هـ) على هذه الأبيات فقال: (وهكذا فليكن وإلا فلا أدب كل فقيه)
(2)
.
(1)
انظر: منهاج تدريس الفقه دراسة تاريخية تربوية، د. مصطفى صادقي (249).
(2)
طبقات الشافعية الكبرى (3/ 461)، وقد تتبع الشيخ عبد الفتاح أبو غدة روايات هذه القصيدة العصماء، وساقها في مساق واحد في كتابه: صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل (352).
فالمراد أن شرط الفقيه شرط صعب لا يتحصل لأي أحد، ولو جرى الالتزام بهذا الاشتراط لما تولى الخطط الدينية إلا الأكفاء المؤهلين لها، غير أن من الفقهاء من تساهل واسترسل مع أحوال الضعف العامة التي تمر بها الأمة.
قال السعد التفتازاني (ت 791 هـ): (ظاهر كلام القوم أنّه لا يتصوّر فقيه غير مجتهد ولا مجتهد غير فقيه على الإطلاق. نعم لو اشتُرط في الفقه التهيؤ لجميع الأحكام وجُوِّز في مسألة دون مسألة تَحَقَّق مجتهدٌ ليس بفقيه. هذا وقد شاع اطلاق الفقيه على من يعلم الفنّ وإن لم يكن مجتهدًا)
(1)
، وقال ولي الله الدهلوي (ت 1176 هـ):(فكان لا يتولى القضاء ولا الإفتاء إلا مجتهد، ولا يسمى الفقيه إلا مجتهدًا)
(2)
.
ومع هذا فإن التشدد في شرط الفقيه له أثره الكبير في تحسن وظائفه. يقول الشيخ محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ): (ومن المقرر الثابت الذي يلاحظه الدارسون لتاريخ الفقه أنه كلما شُدِّد في شروط الإفتاء في مذهب ومنعه من غير القادرين، كان ذلك سبيلًا لتنمية المذهب وتوجيه فروعه إلى النواحي المنتجة في الحياة، فإذا كانت الروح العامة في مذهب من المذاهب لا تسوغ الإفتاء والتخريج والاجتهاد فيه إلا لمن بلغ درجة الاجتهاد
(1)
حاشية التفتازاني على شرح العضد (3/ 579).
(2)
حجة الله البالغة (1/ 261).
المطلق، كانت الفتوى مجدية على المذهب، فتنميه وتغذيه وتعطيه أرسالًا من الأحكام الجديدة الحية المستمدة من روح الشرع الإسلامي ومقاصده وغايته، ومن قانون الحياة المستمر في تغيير أطواره وتقلب أحواله، حتى ينتهي إلى النهاية التي قدرها مكون الأكوان ورب السماوات والأرض)
(1)
.
بل إن التشدد في شرط الفقيه له أثره الكبير في رفع مستوى التعليم والتأليف الفقهي، ومن ثم إصلاح الشأن الفقهي العام، وقد قرر أهل العلم أن جملةً من فساد التآليف الفقهية يحصل عندما يتصدى لها حامل الفقه غير الفقيه. فحامل الفقه كثيرًا ما يخطئ في تحقيق نسبة الأقوال والأدلة لاشتغال نظره بالجزئيات عن إدراك الكليات والمعاني العامة التي تتعلق بها أنظار الفقهاء الكبار. ومن المعلوم أن الأئمة الفقهاء لا يصدرون إلا عن قواعد وأصول تؤلف نظامًا متسقًا متناسقًا؛ لأن الشريعة متسقة منتظمة فلا بد أن تكون مناهج الاجتهاد فيها كذلك، وما خرج عن ذلك فليس بفقه.
قال الإمام القرافي (ت 684 هـ): (المقدمة الثانية: فيما يتعين أن يكون على خاطر الفقيه من أصول الفقه وقواعد الشرع واصطلاحات العلماء، حتى تخرَّج الفروع على القواعد والأصول، فإن كل فقه لم يخرَّج على القواعد فليس بشيء)
(2)
.
(1)
ابن حنبل، أبو زهرة (327).
(2)
الذخيرة (1/ 55).
ومن أمثلة ذلك ما يجري من بعض الفقهاء من تضعيف الأقوال والترجيح بينها بناءً على ما يذكره متأخرو الفقهاء في مصنفاتهم من الاستدلال لمذاهب أئمتهم، فيصححون ويضعفون بناءً عليها، مع أن دليل إمام المذهب ربما كان غير ما يذكره أصحابه، والفقيه الممارس لأقوال الإمام والخبير بها ربما عرف مذهبه أو دليله من أصوله، وقد سبق قول شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728 هـ):(إذ الرجل قد يكون يرى مذهب بعض الأئمة، وصار ينقل أقواله في تلك المسائل، وربما قرَّبها بدليل ضعيف من قياس أو ظاهر)
(1)
. وقد أشار الإمام البيهقي (ت 458 هـ) إلى هذا المعنى في كتابه ((بيان خطأ من أخطأ على الشافعي)) ونقله عن الإمام مسلم بن الحجاج (ت 261 هـ) في كتابه ((الانتفاع بأهب السباع)).
يقول الحافظ البيهقي: (وقال مسلم: ثم أقبل صاحب الوضع في جلود السباع والميتة يعطف على الشافعي محمد بن إدريس، يعبره بالرواية عن أقوام فيقول: لو أن الشافعي اتقى حديث فلان وفلان من الضعفاء، لكان ذلك أولى به من اتقائه حديث عكرمة الذي أجمع عامة أهل العلم على الاحتجاج بحديثه. قال مسلم: والشافعي لم يكن اعتماده في الحجة للمسائل التي ذكر في كتبه تلك الأحاديث في أثر جواباته لها، ولكنه كان ينتزع الحجج في أكثر تلك المسائل من القرآن والسُّنِّة
(1)
الاستقامة (1/ 55). وانظر: أثر الحديث الشريف في اختلاف الأئمة الفقهاء، محمد عوامة (141).
والأدلة التي يستدل بها، ومن القياس إذ كان يراه حجة، ثم يذكر الأحاديث قوية كانت أو غير قوية، فما كان منها قويًا اعتمد عليه في الاحتجاج به، وما لم يبلغ منها أن يكون قويًا ذكره عند الاحتجاج بذكر خامل فاتر، وكان اعتماده حينئذٍ على ما استدل به من القرآن والسُّنِّة والقياس. والدليل على أن ما قلنا من مذهب الشافعي لذكر الأحاديث الضعاف، أنه كما قلنا: إن مذهبه ترك الاحتجاج بالتابعين تقليدًا، وأنه يعتمد في كتبه لمسائل من الفروع ويتكلم فيها بما يصح من الجواب عنها من دلائل القرآن والسُّنِّة والقياس، ثم يأتي على أثرها بقول ابن جريج عن عطاء، وعمرو بن دينار وغيرهما من آراء التابعين بما يوافق قوله، لئلا يرى من ليس بالمتبحر في العلم ممن ينكر بعض فتواه في تلك الفروع أن ما يقول في العلم لا يقوله غيره فيذكر تلك الآراء عن التابعين لهذا، إلا أنه لا يعتد بشيء من أقوالهم حجة يلزم القول به عنه تقليدًا. قال الشيخ رحمه الله: وتصدير بعض أبواب المختصر بأحاديث لا يحتج بها واقع من جهة المزني رحمه الله، فأما الشافعي رحمه الله فإنه إنما أوردها على الجملة التي ذكرها إمام أهل النقل مسلم بن الحجاج رحمه الله
(1)
. فإذا كان هذا الأمر بما وقع من الإمام المزني (ت 264 هـ) وهو إمام فقيه كبير، فالتوقي من حصول مثله ممن هو دونه أولى وألزم.
(1)
بيان خطأ من أخطأ على الشافعي (332). وانظر: أثر الحديث الشريف في اختلاف الأئمة الفقهاء، محمد عوامة (149).
وبالإضافة إلى هذه الشرائط التي لا بد من توفرها ليكون الفقيه فقيهًا على الحقيقة، فإن هناك صفاتٍ وشروطًا لا يُحكم الفقهاء القيام بوظائفهم إلا بها. وقد ذكر الشيخ محمد الخضر حسين (ت 1377 هـ) من ذلك أربع صفات
(1)
:
الصفة الأولى: استقلال الفكر، فإن من يغوص في فهم حقائق الشريعة ببصيرة نقية ونظر قائمة بنفسه، لا يعجزه أن يبينها للناس في أسلوب ينهض بحجتها ويكشف عن وجه حكمتها.
الصفة الثانية: الاستقامة، فالعالم محل القدوة، والعلم لا يدخل في قبيل الفضيلة إلا لأنه أساس العمل.
الصفة الثالثة: النظر في شؤون الاجتماع ومجاري السياسة، وقد سبقت إشارة لهذا.
الصفة الرابعة: قوة الإرادة؛ لأن من وظيفته مراقبة سير الأمة، فإذا اعترضها خلل أرشد إلى إصلاحه، ومن تصدى لذلك لاقى أذى وعنتًا لا يطيقه إلا ذو عزيمة وإرادة.
فهؤلاء المشتملون على هذه الصفات هم الفقهاء الذين بأمثالهم تصلح أحوال الناس، وتستقيم للأمة شؤونها، وتكف عادية السفهاء عن أهل الفضل فيها. أما إذا انزوى هؤلاء وتصدى لوظائفهم من هو ضعيف في علمه أو من هو ضعيف في إرادته وصدقه، فبذلك يَخُبُّ الفساد إلى العالَم. وقد قال ابن المبارك (ت 181): (تعوذوا بالله من فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل،
(1)
انظر: الدعوة إلى الإصلاح (144).
فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون)
(1)
، وقال الأوزاعي (ت 157 هـ):(ويل للمتفقهين لغير العبادة، والمستحلين الحرمات بالشبهات)
(2)
، وقال الإمام الشافعي (ت 204 هـ):(تفقهوا مع فقهكم هذا بمذاهب أهل الإخلاص، ولا تفقهوا بما يودِّيكم إلى ركوب القلاص، فإن عيسى ابن مريم إذا نزل لكم يطلب يا معشر الفقهاء)
(3)
.
ففقهاء الزور هؤلاء ممن يتصدرون بغير علم، أو ممن يتصدرون لغرض دنيوي، من أسباب فساد الدين والدنيا.
ومقاومتهم والتصدي لهم واجب على أهل الفقه والإيمان أولًا، ثم على الأمة التي لا يجوز لها أن تسمح لأحد أن يتلاعب بدينها، كما لا تسمح لأحد أن يتلاعب بصحتها أو أرزاقها
(4)
.
ومن عظيم فساد هؤلاء بغضهم للإصلاح وأهله، وممانعتهم له ووقوفهم ضد رجاله؛ لأنهم أعداؤهم والكاشفون عن حقيقتهم.
يقول الراغب الأصفهاني (ت 502 هـ): (وصلاح العالم بمراعاة أمر هذه السياسات لتخدم العامة الخاصة وتسوس الخاصة العامة، وفساده في عكس ذلك. ولما تركت مراعاة المتصدي للحكمة والوعظ، وترشح قوم للزعامة في العلم من غير استحقاق منهم لها
(1)
جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر، باب ذم الفاجر من العلماء وذم طلب العلم للمباهاة والدنيا (1161).
(2)
الفقيه والمتفقه، الخطيب البغدادي، باب إخلاص النية (812).
(3)
الفقيه والمتفقه، الخطيب البغدادي، باب إخلاص النية (813).
(4)
انظر: وظيفة الفقيه، محمد خليل الزروق، مقال في موقع (الرقيم) في الشبكة العالمية.
فأحدثوا بجهلهم بدعًا استغروا بها العامة واستجلبوا بها منفعة ورياسة، ووجدوا من العامة مساعدة لمشاكلتهم لهم وقرب جوهرهم منهم:
فكل قرين إلى شكله
…
كأنس الخنافس بالعقرب
وفتحوا بذلك طرقًا منسدة ورفعوا بها ستورًا مسبلة، وطلبوا منزلة الخاصة فوصلوا إليها بالوقاحة وبما فيهم من الشَّرَه، فبدعوا العلماء وكفروهم اغتصابًا لسلطانهم ومنازعة في مكانهم، فأغروا بهم أتباعهم حتى وطؤوهم بأخفافهم وأظلافهم، فتولد من ذلك البوار والجور العام)
(1)
ومن جميل كلام الأستاذ أحمد حسن الزيات (ت 1388 هـ) قوله في هؤلاء: (إن من أول وسائل الإصلاح للدين والدنيا أن يكسح هؤلاء من معاهد العلم ومقاعد التعليم كما تكسح الأوحال من الطريق، فإن الباني لا يبني وفي يديه مسطرين وفي أيديهم معول، وإن الغارس لا يغرس وفي يده مشتل وفي أيديهم منجل.
ولولا أبو جهل وابن سلول وشيعتهما من عدو الله، لما قال الرسول الصادق الصابر الشجاع وهو يلوذ بأحد الجدر: اللَّهُمَّ إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس)
(2)
.
(1)
الذريعة إلى مكارم الشريعة (251).
(2)
وحي الرسالة (4/ 70).