المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تمهيدهل نعيش نهضة فقهية - إصلاح الفقيه فصول في الإصلاح الفقهي

[هيثم بن فهد الرومي]

الفصل: ‌تمهيدهل نعيش نهضة فقهية

‌تمهيد

هل نعيش نهضة فقهية

؟

((إن الأزهر البائد على فوضاه المنظمة كان أجدى على الدين وأعود على الثقافة من هذا الخلق المسيخ الذي وقف بين الماضي والحاضر وبين الدين والسياسة موقفًا يُندي الجبين الصلب ويوجع الفؤاد المصمت)).

أحمد حسن الزيات [وحي الرسالة: 1/ 187]

((نحن أقزام محمولون على أكتاف عماليق، وإذا كنا نشاهد أكثر مما شاهدوا ونرى أبعد مما رأوا، فليس ذلك لأن بصرنا أحدّ أو لأن أجسامنا أطول، بل لأنهم يحملوننا على أكتافهم في الهواء ويرفعوننا بكل طول قاماتهم الهائل).

برنار دي شارتر [في نقد الحاجة إلى الإصلاح،

د. محمد عابد الجابري: 64]

ص: 19

برز في المجال الفقهي منذ قرن من الزمان نوع من التأليف الذي لم يكن معهودًا فيما مضى، وهو تأليف مداخل فقهية تدرس كمقررات جامعية في الغالب، وتتضمن تعريفًا بالفقه وأبرز خصائصه ومدارسه ونشاطات رجاله، وجرت عادة هذه المداخل على تحقيب تاريخ الفقه إلى أدوار ومراحل حسب السمة الغالبة لكل دورة زمنية محددة، وقد تختلف المداخل شيئًا يسيرًا في ضم بعض الأدوار أو فصلها، غير أنها تتفق من حيث العموم على أبرز الملامح الرئيسية، ولمتقدمها أثر ظاهر على متأخرها.

ومن الأمر اللافت للانتباه أن طائفة من هذه المداخل درجت على تسمية العصر المتأخر بأسماء توحي بارتفاع رتبته عن الدور السابق له، فتسمي المرحلة السابقة مرحلة الجمود والانحطاط الفقهي ونحو ذلك، ثم تصف هذا الدور الذي نعيشه بأنه عصر (نهضة فقهية)، أو (يقظة فقهية)، أو أنه عصر (تجديد الفقه)، أو (انبعاث الفقه)

(1)

، وربما غلب التحفظ والاحتراز على بعض المصادر فوصفت المرحلة: بأنها مرحلة (محاولات تجديد الفقه)، أو أنها (تباشير نهضة فقهية)

(2)

.

(1)

انظر على سبيل المثال: المدخل في الفقه الإسلامي، د. محمد مصطفى شلبي (154)، المدخل للفقه الإسلامي، د. محمد سلام مدكور (102)، المدخل لدراسة الفقه الإسلامي، د. رمضان الشرنباصي (101)، المدخل الوسيط لدراسة الشريعة، د. نصر واصل (137)، تاريخ التشريع الإسلامي، عبد العظيم شرف الدين (244)، مقدمة في دراسة الفقه، د. محمد الدسوقي (211).

(2)

انظر على سبيل المثال: تاريخ التشريع الإسلامي، د. مناع القطان (397)، المدخل لدراسة الشريعة، د. عبد الكريم زيدان (154).

ص: 20

وعند تتبع هذه التسمية فإننا نلاحظ أن أول من صنف في (تاريخ الفقه) هما الشيخان محمد الخضري (ت 1345 هـ) في كتابه ((تاريخ التشريع الإسلامي)) الذي صدر عام (1339 هـ/ 1920 م)، والشيخ محمد بن الحسن الحجوي (ت 1376 هـ) في كتابه ((الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي)) الذي صدر عام (1340 هـ/ 1921 م). وبالرجوع إلى هذين الكتابين وبالرغم من عظيم أثرهما على من جاء بعدهما فإننا لا نجد أنهما جعلا هذا الدور دورًا مستقلًا ومتميزًا عن الدور السابق عليه، بل جعلاه امتدادًا لعصور الجمود والانحطاط

(1)

. ولا بد أن نضع في اعتبارنا أن هذين الكتابين صدرا قبل ما يقرب من القرن من الزمان.

وهنا يبرز تساؤل: هل جدَّ خلال هذا القرن من الزمان ما جعل المداخل الفقهية التي ألفت فيه تصفه بأنه عصر نهضة وتجديد؟ أم أن الخضري والحجوي أدركا بداية الأنشطة الفقهية المستجدة ولم يعتبراها مع ذلك نهضة فقهية حقيقية تستحق أن تفرد بدور مستقل واسم جديد؟ والسؤال الذي هو أهم من هذا وذاك: هل نعيش بالفعل نهضة فقهية حقيقية وتجديدًا فقهيًا يجعلنا نسم عصرنا بأنه عصر اليقظة والانبعاث؟ أم أن هذه أوهام وتطلعات صنعها حب الإنسان ورغبته الدفينة في أن يفتح لنفسه آفاق الأمل؟

(1)

انظر: تاريخ التشريع الإسلامي، محمد الخضري بك (363)، الفكر السامي، الحجوي (4/ 391).

ص: 21

وأهمية هذا السؤال تكمن في أن أولى خطوات الإصلاح هي تقويم الحال الراهنة، ورصد المزايا والمآخذ، والإيجابيات والسلبيات، والمنجزات والإخفاقات، رصدًا كاشفًا لما عليه الحال حقيقة دون مبالغة في الوصف مدحًا أو قدحًا، ولكل من هاتين المبالغتين ما يدفع لها من الناحية النفسية غير أن الإنصاف يقتضي مراغمة النفس وحملها على تصوير الحقائق دون مغالطة ولا تشويه.

وبالرجوع إلى المصادر التي تصف هذا الدور بأنه دور تجديد فإننا نجدها تستدل على ذلك بجملة من الأنشطة الفقهية التي استجدت فيه لتكون شاهدًا يؤكد صحة هذه الأسماء المفترضة، ومن هذه الأنشطة ما يأتي:

الدعوة إلى الاجتهاد الجماعي، ونشوء المجامع الفقهية.

انعقاد المؤتمرات والملتقيات الفقهية وما يحصل بسببها من نقاشات فقهية ومن التقاء الفقهاء وتعارفهم وتواصلهم.

إنشاء الجامعات والكليات والمعاهد الشرعية والفقهية.

التجديد في أسلوب تدريس الفقه والإفادة من المناهج التعليمية الحديثة في تطوير التعليم الفقهي وتحديث أدواته ووسائله.

التجديد في أسلوب التأليف الفقهي من خلال المناهج التي تؤلف لدراسي الفقه في المعاهد والجامعات، ومن خلال البحوث الأكاديمية والرسائل العلمية، واستحداث أنواع جديدة في

ص: 22

الكتابة الفقهية كالموسوعات والفهارس الفقهية والكتابة في النظريات الفقهية، والإخراج الجديد لكتب الفقه ومخطوطاته وتعميم نشرها والاستفادة منها.

التحرر من أسر التعصب المذهبي والانفتاح بين المذاهب الفقهية والاهتمام بالفقه المقارن، ويتبع ذلك أيضًا الاهتمام بدراسة القانون والمقارنة بينه وبين الفقه.

قيام مؤسسات ومراكز بحثية تهتم بالدراسات الفقهية المعاصرة، وتسعى إلى تقريب الأحكام الفقهية إلى المؤسسات التشريعية وغيرها، ونرى تأثير مثل هذه المحاولات في مجالي الاقتصاد والطب كمثال واضح.

استمداد القوانين من الفقه وتنظيمها في تقنينات عصرية.

هذه أبرز العوامل التي تذكر كأسباب تجعل من هذا العصر عصر نهضة وتجديد من حيث الجملة

(1)

. فهل هذه الأسباب متحققة الوقوع على وجهٍ صالحٍ بالفعل؟ هذا من جهة، ومن جهة أخرى فهل هذه الأسباب ترتفع بهذا العصر عن العصر السابق لتصح تسميته بأنه عصر يقظة وانبعاث؟

(1)

انظر: المدخل في الفقه الإسلامي، د. محمد مصطفى شلبي (156)، المدخل الوسيط لدراسة الشريعة، د. نصر واصل (137)، المدخل لدراسة الفقه الإسلامي، د. رمضان الشرنباصي (101)، المدخل للفقه الإسلامي، د. محمد سلام مدكور (102)، المدخل الفقهي العام، مصطف الزرقا (1/ 248)، مقدمة في دراسة الفقه، د. محمد الدسوقي (216).

ص: 23

عندما نتأمل مليًا في هذه المظاهر التي تذكر فإن من الممكن أن نجعلها على ثلاثة أقسام:

القسم الأول: مظاهر متحققة ونافعة بالفعل، ولها أثرها الواضح في النهوض بحالة الفقه المعاصر. ومن أمثلة ذلك تيسر سبل التقاء الفقهاء وتواصلهم باختلاف بلدانهم ومذاهبهم، من خلال المجامع الفقهية والملتقيات الفقهية المختلفة من ندوات ومؤتمرات ونحوها، وما يترتب على ذلك من اجتهاد جماعي ومن تفهم للآراء وقربٍ لزوال اللبس الذي ينشأ عن بعد الشقة وتسلسل الوسائط.

القسم الثاني: مظاهر متحققة من جهة الوجود إلا أن سبب وجودها لم يكن منبعثًا من بنية الفقه ذاته، بل هو إفادة من مظاهر النهضة الحديثة وأدوات الحداثة المعاصرة على وجهٍ قد يكون فيه نفع غير مكتمل، أو على وجهٍ يترتب عليه نوع آخر من الفساد.

ومثال الأول: ما سبق ذكره من نشأة الجامعات والكليات والمعاهد الشرعية والفقهية، فإنها بالرغم مما ترتب عليه من الخير الكثير إلا أن هذا النفع قل أن تترتب عليه نهضة في بنية الفقه ذاته بتحسين وظائفه ومقاصده العليا، فالتآليف وطرائق التدريس والبحث لم يتناسب تقدمها تناسبًا طرديًا مع تقدم الوسائل والأدوات الحديثة، بل ظلت من حيث العموم على ذات المنوال الذي كانت عليه فيما يسمى بعصور الانحطاط، بل إنها في أحوال كثيرة تكون أقل كفاءة من حيث جودة المخرجات وسِداد

ص: 24

الوظائف، فما يؤلفه فقيه من فقهاء ما يسمى بعصر الانحطاط يعكف عليه الجماعة من الباحثين السنوات ذوات العدد ليخرجوه في النهاية إخراجًا هزيلًا. ثم يوصف إخراج التراث الفقهي بأنه مظهر من مظاهر النهضة، فأي العصرين أولى باسم النهضة بهذا الوجه من النظر؟

ومثال الثاني: ما ذكر في المظاهر من التحرر من أسر التعصب المذهبي، فإن التعصب أمر مقيت وترتبت عليه فتن ومفاسد لا تزيغ عنها عين متصفح لكتب طبقات الفقهاء. وقد خف هذا التعصب كثيرًا في العصر الحديث حتى بات الفقيه يتعجب من بعض الحكايات المنقولة وينسبها إلى المبالغة. غير أن هذا التحرر أفرز ظاهرة أخرى مقيتة تمثلت في ازدراء فقه المذاهب والنظر إليه على أنه مبتوت الصلة بالأدلة الشرعية المعتبرة، وأن كلام الفقهاء يغلب عليه الحشو والتكلف والافتراض والتعقيد والعزلة عن الحياة الخارجية التي يعيشها الناس، إلى مزاعم أخرى نتجت عن هجران المدونات الفقهية وعدم تصور ما تضمنته من أحكام ومسائل واستدلالات واستنباطات وامتداد منهجي، وهذه النظرة تمثل في حقيقتها كسرًا للعمود الفقري الذي به تقوم كافة علوم الشريعة، ولذا فإن كثيرًا من المتفقهة الذين يسلكون هذه السبيل يخرجون من النظام إلى الفوضى من حيث أرادوا الخروج من الفوضى إلى النظام. وبهذا نلاحظ أن بعض هذه المظاهر كان من المفترض أن تؤدي لنهضة فقهية لو كان لها من يرشِّدها لئلا تضطرب في وجوه الفساد من طرف إلى طرف.

ص: 25

القسم الثالث: مظاهر ليست متحققة، بل هي آمال وأمنيات نتجت من ملاحظة أمثلة يسيرة ثم ارتكاب مغالطة التعميم على الصعيد الفقهي العام، مع أنها استثناء من الأصل وليست قاعدة يمكن جعلها مظهرًا للنهضة والتجديد. ومن الأمثلة الظاهرة لذلك ما ذكر من استمداد التقنينات من الفقه، فإن هذه التقنينات في مجملها لم تجد سبيلها إلى التطبيق إلا في نطاق محدود، بل إن من أبرز سمات هذا العصر الذي نعيشه إقصاء الشريعة عن الحكم، وتظل هذه التقنينات حبيسة الأدراج ما لم توجد عزيمة صادقة على تطبيقها.

ومن أمثلة هذا القسم أيضًا ما تقدم ذكره من تجديد في أسلوب تدريس الفقه والإفادة من المناهج التعليمية الحديثة في تطوير التعليم الفقهي وتحديث أدواته ووسائله، فإن واقع التعليم الفقهي لا يساعد على إدراج ذلك ضمن مظاهر التجديد، بل إن كثيرًا من المراقبين يتحدثون عما يسمى بأزمة التعليم الديني، وأنه لم يكن محل جدل ونقاش كما هو عليه اليوم

(1)

، وهذا الكلام لا يخلو من مصداقية على الرغم من اختلاف زاوية الرؤية من مراقب لآخر.

عند التأمل في جميع ما مضى فإننا لا نجد المسببات الكافية التي تحملنا على اعتبار هذا الدور دورًا متميزًا على سابقه إلى النحو الذي يغدو به عصر نهضة وتجديد وانبعاث بل هو

(1)

انظر: أزمة التعليم الديني في العالم الإسلامي، د. خالد الصمدي وزميله (13).

ص: 26

امتداد له، وعنده الموازنة بين هذين الدورين فإننا لن نعدم نقاط قوة وضعف في كل منهما، ولن نعدم تقدمًا في بعض الأنشطة الفقهية وتراجعًا في بعضها. ومن الدلائل على الأزمة التي نعيشها في هذا الدور أننا لا نجد للحركة الفقهية مخرجات ذات كفاءة عالية تستقيم بها الخطط الفقهية من تعليم وقضاء ودعوة وإفتاء وخطابة وصلاة، بل إن أصوات المصلحين تعالت ولم تزل تتعالى بالدلالة على أشكال من أشكال الفساد وتتبرم من آثارها ونتائجها.

يقول الشيخ بدر الدين الحلبي (ت 1362 هـ): (فإذا استفتيت اليوم عشرة من الفقهاء في حادثة شرعية ليست من مسائل المتون التي هي من فتاوى الأئمة وتدوينهم أجابك كل واحد من العشرة بجواب غير جواب الآخر، وربما ذكر لك كل واحد منهم نصًا من الكتاب الذي اعتمد عليه وأفتاك بما رأى فيه. وانضم إلى هذا فساد التطبيق في بعض المحاكم الشرعية، فكان حال القانون الشرعي كحال القانون الوضعي سواء بسواء لا يختلف عنه بشيء غير أن القائمين بأحدهما منسوبون إلى الشرع، والقائمون بالآخر غير منسوبين إليه. وما قد يوجد في القانون الشرعي من الفروع التي توافق مذاهب الأئمة فلعله لا يخلو منها القانون الوضعي وإن لم يذكر على أنه من القوانين السماوية، وإنما وضع لظن واضعه أن المصلحة فيه، وأصبحت مصالح العباد مهجورة، والحقوق مهددة، والمستجير بأحدهما كالمستجير من الرمضاء بالنار.

وشرح الحالة الحاضرة بأزيد مما أشرنا إليه مشكل جدًا، والبصير

ص: 27

إذا التفت عن يمينه مرة وعن شماله أخرى عرف مقدار الشر والفساد الواقعين على رؤوس العباد)

(1)

.

ويقول الأستاذ محمد كرد علي (ت 1372 هـ): (وهناك كثيرون تولوا الأعمال العلمية العظيمة كالقضاء والإفتاء، وكانوا على جانب من الجهل المخيف. أدركت منهم مفتيًا سخيفًا كان يدعي له مريدوه أنه عفيف لا يرتشي، وأنا أعرف أن أحد أقربائي قد رشاه بمقدار من الأرز والسكر والسمن فحكم له بما أراد، وكان إلى هذا جاهلًا لا يعرف إلا ما تعلمه من فقه المحاكم

وهذا الشيخ كان ممن يتقرب إلى العوام بلعن رجال الإصلاح وتكفيرهم وتبديعهم؛ لأنهم هم الذين يظهرون حقائق أمثاله للملأ ويعرفونهم أنهم طبول فارغة)

(2)

.

والواقع أنه لا يمكن النظر إلى هذا النوع من الفساد بمعزل عن الفساد العام، فإن الفقه في حقيقته وطبيعته واقع وحياة لا مجرد فكر وتنظير.

والفساد الذي يتطرق إلى الحياة العامة ستمتد آثاره إلى الممارسات والنتائج الفقهية بطبيعة الحال، فإن الشريعة إذا استبعدت من الحكم تطرق إلى الحركة الفقهية الركود والجمود، وإن السياسي إذا فسد اختار الفاسد من حملة الفقه فإن (السلطان

(1)

التعليم والإرشاد (41).

(2)

أقوالنا وأفعالنا (257).

ص: 28

سوق، وإنما يجلب إلى كل سوق ما ينفق فيها)

(1)

، ولا تسل عن ضيعة الأمر يومئذٍ، والأمر كما قال ابن المبارك (ت 181 هـ):

وهل بدَّل الدين إلا الملوك

وأحبار سوء ورهبانها

وباعوا النفوس فلم يربحوا

ولم تغل في البيع أثمانها

(2)

وبالإضافة إلى ذلك فإنه لا يتصور في طبائع الأشياء أن يحصل تطور تشريعي في وضع اقتصادي واجتماعي ساكن وراكد، أما إذا دبت الحياة والحركة في المجتمع فإن القانون يبدأ حينئذٍ في التشريع لها، فالركود القانوني والتشريعي مردود في حقيقة الأمر إلى ركود المجتمع وسكون الحياة

(3)

. وهذا أمر ملاحظ لمن سبر أحوال الدول، فإن الحركة العلمية تضعف بضعف الدولة، ومن أمثلة ذلك سكون حركة العلم في مصر بعد سقوط دولة المماليك وتحول مصر من دولة متبوعة إلى ولاية تابعة للدولة العثمانية في إسلامبول (إسطنبول)، فانحطت مكانتها بزوال دولتها ولم يظهر فيها من العلماء كالذين ظهروا في فترة المماليك، لا سيما بعد أن صارت اللغة التركية لغة الدواوين، فضعفت العربية ضعفًا شديدًا، وضعفت علومها وآدابها وطغت العامية عليها

(4)

.

(1)

رسائل الجاحظ (1/ 213)، وأصل العبارة لأبي حازم الأعرج عندما قال لسليمان بن عبد الملك:(إنما أنت سوق فما نفق عندك حمل إليك من خير أو شر فاختر أيهما شئت). انظر: العقد الفريد (3/ 108).

(2)

شعب الإيمان، البيهقي (9/ 423).

(3)

انظر: تحويل المرجعية التشريعية في مصر في القرنين التاسع عشر والعشرين، طارق البشري، مجلة الأزهر، الجزء 11، السنة 85، (ص 2393).

(4)

انظر: تاريخ الإصلاح في الأزهر، عبد المتعال الصعيدي (7).

ص: 29

ولا ريب أن أزمنة الضعف هذه تورث فتورًا عامًا تتسرب أدواؤه إلى كافة مجالات الحياة، بما في ذلك حركة العلم والفقه ذاته. وقد بعث الشيخ محمود شكري الآلوسي (ت 1342 هـ) إلى صديقه الشيخ جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) رسالة جاء فيها:(والعبد الفقير يعتذر إليكم من قلة المخابرة تلك المدة المديدة، لما هو فيه من الغوائل والمشاغل الظاهرة والباطنة، فإن القلب قد اعتل لما عرى المسلمين وبلادهم من البلاء، وما صحَّ جسمٌ إذا اعتل قلب، حتى لم يبق لي ميل لمطالعة كتاب ولا سماع مسألة علمية ولا مكالمة مع أحد، فالبلاء قد أحيط بالمسلمين وبلادهم، والخطر أحاط بنا، لا سيما العراق، ونرى الأوغاد هم الذين يسلطون عدوهم، وما ندري ما الله صانع)

(1)

.

فإذا كانت الشريعة مستبعدة عن الحكم والقضاء، وكان التعليم الديني في أزمة، وكانت الفتوى تستعمل في أحيان كثيرة سلاحًا لإدارة الخصومات الفكرية والسياسية مما دفعنا إلى حالة من الفوضى الإفتائية

(2)

، وكانت الدعوة تعاني من نقص وخلل في فقه الأولويات والموازنات، فما الذي يدفعنا إلى الجزم بأننا نعيش عصر (التجديد الفقهي)؟

ولا بد من التنبيه هنا إلى أن هذه المقدمة لا تتضمن موقفًا جبريًا ولا تقريرًا لواقع فاسد، لكنها وصف لما عليه الحال، وكما

(1)

انظر: الرسائل المتبادلة بين جمال الدين القاسمي ومحمود شكري الآلوسي (223).

(2)

انظر: فوضى الإفتاء، د. أسامة الأشقر (8).

ص: 30

أن الواقع له تأثيره على الفقه فإن للفقه تأثيره الكبير على الواقع، والفقيه مأمور ببيان الحق والنصيحة للأمة على كل حال، لكن أول خطوة في طريق الإصلاح أن نعلم أننا بحاجة حقيقية إليه، وأن نملك العزيمة على القيام بأعبائه، وأن نفقه حقيقة الإصلاحٍ المنشود وأن يصدر عن وعي حقيقي بالذات، وأن يكون إصلاحًا شاملًا بمفهومه الأصلي لا بمفهومه المستعار، حتى إذا خطونا في الإصلاح خطوة عرفناها وحمدناها ودفعتنا للمضي في السبيل ذاته.

وقد مر آنفًا في التقسيم المذكور أن من مظاهر التجديد ما هو تجديد فعلي لنا أن نستبشر بمثله، وإن كان لنا أن نختصر الحال في عبارة موجزة فلتكن في قول الشيخ عمر الأشقر (ت 1433 هـ):(والمتأمل في هذا العصر يحزن أحيانًا للحال التي وصل إليها الفقه الإسلامي، ويسر أحيانًا لوجود أمور جيدة تبشر بنهضة الفقه، وعودة الحياة إليه)

(1)

.

وتقرير مثل هذه المقدمة أمر له ضرورته بين يدي الحديث عن إصلاح الفقيه؛ لأن التشخيص أول خطوات العلاج، ووصفُ بعض الفساد الذي نعيشه باسم الإصلاح فيه غش وتضييع للأمانة، وهذا ما دفع الشيخ وهبة الزحيلي أن يصف هذه المرحلة بأنها:(مرحلة العبث بالفقه الإسلامي تحت مظلة التجديد والمعاصرة)

(2)

. فإن من الناس من ظن أن الإصلاح إنما يتأتى

(1)

تاريخ الفقه الإسلامي (185).

(2)

تجديد الفقه الإسلامي، د. وهبة الزحيلي وزميله (209).

ص: 31

بهدم القديم والإعراض عنه، مع أن أولى خطوات التجديد هي قتل القديم بحثًا كما يقال. والمعهود في بابة التجديد أن يضيف إليه الفرد بعد الفرد بامتداد الزمان، غير أن هذا العصر الذي يشهد ضعفًا علميًا واضحًا شهد ظاهرة غريبة، تتمثل في تسلط أناس من غير المتخصصين في الشريعة على علوم الشريعة واعتدائهم عليها بالتبديل والتحريف وإسقاط مفاهيم ونظريات غريبة مستوردة من منظومة معرفية مختلفة في غير مجالها، ليخرجوا بعد ذلك بآراء شديدة الغرابة يستهجنها المتفقه المبتدئ فضلًا عن الفقيه المنتهي، ثم ليصفوا هذه الآراء بأنها تجديد وإصلاح

(1)

. وهذا ما يدعو إلى الحذر في التعامل مع دعاوى الإصلاح، وألا تقبل دعوى إلا بشهادة الفقهاء العدول الأثبات الذين يشهدون لها بأنها خطوة مسددة في سبيل إصلاح فقهي شامل.

(1)

انظر: آل حم الشورى الزخرف الدخان، د. محمد أبو موسى (5).

ص: 32