الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخاتمة
إصلاح الأحوال العامة لهذه الأمة له ارتباط وثيق بإصلاح فهمها وإصلاح عملها بالشريعة التي هي روحها ومنهاج حياتها، والفقه-بمفهومه الشامل-هو الذي جعل للأمة وجودًا مستقلًا وجعل لحضارتها طابعًا خاصًا متفردًا. ومن لازم الإيمان بشمولية الدين وحفظه الإيمان بقابلية فقه الشريعة للتجدد والاستمرار والفاعلية، على نحوٍ يحتفظ معه بخصائصه ومكوناته ومقوماته الذاتية، دون مسخ لهياكله وأصوله التي قام بها وقامت بها من ورائه حياة المسلمين ومعاشاتهم، حتى أصبح القاصي منهم والداني مشاركًا بوجه من الوجوه في صناعة هذا الفقه وتشكله، وحتى أصبحت أية محاولة للإصلاح لا تضع الفقه في اعتبارها محاولة محكومًا عليها بالفشل شرعًا وعقلًا وعادةً.
ومن المهمات الأولى في سبيل إصلاح الحياة بالفقه إصلاح الفقيه الذي يتولى هذه المهمة الجليلة، والفقيه إن لم يكن صحيح التصور مؤهلًا مالكًا لأدوات الإصلاح فقد يصدر عنه الفساد باسم
الصلاح، والزلة إذا كان الفقيه مصدرها فإن آثارها تتفاقم، ولذا فقد استفاض في كلام أهل العلم التحذير من زلة العالم الذي يضل بخطئه خلق كثير.
ومن ضرورة الحديث عن ((إصلاح الفقيه)) أن يعلم الفرق بين مفهوم (الفقيه) بمعناه المتخصص عند المتأخرين، و (الفقيه) بمفهومه العام عند السلف الأول الذي يقابل العالم العامل البصير بالشريعة القادر على إصلاح الحياة بهداها، ومن تمام إدراك هذا المعنى أن تعلم وظائف الفقيه وواجباته، لئلا يجري الخلط في هذه الوظائف بتخليه عن بعضها أو إضافة ما ليس منها إليها.
ولما كانت وظائف الفقيه تحتم عليه مخالطة الناس بأطيافهم وطبقاتهم المختلفة من ساسة ونخبة مثقفة وعامة، فإن من المهم إدراك علاقات الفقيه المتعددة بتلك الأطياف وأثرها على أدائه لوظائفه، فإن الفقه ليس فكرًا مجردًا ولا تنظيرًا محضًا، بل هو واقع يعيشه الفقيه فيؤثر فيه ويتأثر به، وما لم يكن الفقيه قادرًا على إقامة التوازن في علاقاته فلربما أدى به ذلك إلى خلل في أداء وظائفه. وتنوع طبائع الفقهاء وتعدد اجتهاداتهم في ذلك كفيلة بتوليد نوع من التكامل العفوي الذي يقيم أشكالًا من التوازن في الحياة.
ولا بد من التأكيد قبل ذلك وبعده على أهمية الاعتناء بتأهيل الفقيه المقتدر على القيام بأعباء تلك الوظائف بشكل منهجي من خلال إصلاح التعليم الذي يتخرج الفقيه من خلاله،
وإصلاح التآليف التي تكون في الكثير من الأحوال المؤثر الأكبر في صلاح التعليم أو في فساده، ومن خلال التأكيد على أهمية التزام الفقيه بمنهجية علمية منضبطة من المنهجات التي توارثتها الأمة وحررتها عبر قرون طويلة؛ لما في أخذه بها من امتداد لوراثة علمية راشدة جرت عليها أحوال الأمة وانتظمت بها حياتها.
إن ((إصلاح الفقيه)) ليس مجرد مفردة من مفردات الإصلاح، وليس عملية فرعية تسجل على هامش مشروع آخر، ولكنه مشروع ضخم من مشاريع الأمة الكبرى ومقدمة لسائر المشروعات التي تطمح وتهدف إلى نهضة الأمة ورفعتها، وهو يعود على مجموعها بالفائدة الكبيرة والنفع العام، والواجب أن يسهم في نجاحه كل من له قدرة على ذلك، وهذا من فروض الكفايات التي تأثم الأمة بتركها، وربما تتعين على من سد فيها مسدًا لا يسده غيره.
وبالعموم فإن من الواجب على الأمة أن يكون ((إصلاح الفقيه)) من أولوياتها تأهيلًا وتعليمًا وإعدادًا وتزكية، ومن الواجب عليها أن تعلم أن التساهل في تأهيل الفقيه سيعود عليها بالضرر الوخيم، وأن وقوع الخلل في أداء الفقيه لوظائفه لا يتحمله الفقيه وحده، بل يتحمله المحيط والمجتمع والبيئة التي تساهلت مع ضعيف الإعداد أو ضعيف النفس والتزكية الإيمانية حتى تسنم ذرى هذا المقام العالي.
(جعلنا الله ربنا من القائمين بحقوق العلم العاملين به،
المرتفعين في الدنيا والآخرة بسببه، وأوضح لنا به المحجة ولا جعله علينا حجة، بل كما كان الفقهاء من السلف الصالح أهل نسك وعبادة وورع وزهادة، أرادوا الله بعلمهم وصانوا العلم فصانهم، وتدرعوا من الأعمال الصالحة ما زانهم، ولم يشنهم الحرص على الدنيا وخدمة أهلها، بل أقبلوا على طاعة الله تعالى التي خلقوا من أجلها)
(1)
.
والله المسؤول جل جلاله أن يصلح لنا العلم والعمل، وأن يلهمنا الهدى والسداد، وأن يجعل أعمالنا كلها صالحة، وأن تكون لوجهه خالصة، وأن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه، وألا يجعله ملتبسًا علينا فنضل.
والحمد لله أولًا وآخرًا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
(1)
خطبة الكتاب المؤمل للرد إلى الأمر الأول، أبو شامة المقدسي (88).