الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1 - الفقيه والسلطان
((أمثل منذر بن سعيد في خيره وفضله وعلمه لا أمَّ لك يُعزل لإرضاء نفس ناكبة عن الرشد سالكة غير القصد؟ هذا ما لا يكون)).
أمير الأندلس عبد الرحمن الناصر [أزهار الرياض، المقري: 2/ 279]
((وأما أنا في نفسي فلا يضرني التهديد ولا أكبر منه، ولا يمنعني ذلك من نصيحة السلطان، فإني أعتقد أن هذا واجب عليَّ وعلى غيري، وما ترتب على الواجب فهو خير وزيادة عند الله تعالى)).
الإمام النووي [تحفة الطالبين في ترجمة الإمام محيي الدين، ابن العطار: 104]
((وبالجملة: إنما فسدت الرعية بفساد الملوك، وفساد الملوك بفساد العلماء، فلولا القضاة السوء والعلماء السوء لقلَّ فساد الملوك خوفًا من إنكارهم)).
أبو حامد الغزالي [إحياء علوم الدين: 3/ 573]
((وعلى الإجمال إذا كانت هنالك أية ثقافة فقهية وسياسية تعود إلى العصور ما قبل الحديثة وحافظت على مبدأ سلطة الشرع وسيادته حفاظًا جيدًا فإنما هي ثقافة الإسلام)).
د. وائل حلاق [نشأة الفقه الإسلامي: 263]
الكلام عن علاقة الفقيه بالسلطان من ضرورة الحديث عن إصلاح الفقيه، فإن كلًا منهما له سلطة تختص به، وهاتان السلطتان بينهما عموم وخصوص نسبي، والنزاع حاصل قديمًا وحديثًا في هذا القدر المشترك بينهما، وقد طرأ هذا الإشكال بعد أن انفكت السلطتان عن محلهما الواحد في عهد الخلافة الراشدة يوم كان الخليفة فقيهًا في الوقت نفسه، فلم تكن الحالة الفقهية والحالة العامة من ورائها تشهد تضاربًا واختلافًا كالذي نشأ بعد انفكاك السلطتين. فإن انفكاكهما إنما حصل بسبب ابتعاد صاحب السلطان عن مراسم الشريعة، وبعده عن معالم الخلافة الراشدة، وهذا ما يستلزم معارضة الفقهاء لهذا الابتعاد الذي لم يكن يلزم حالة مطردة بل كان يتفاوت زيادة ونقصًا بحسب الظرف والحال.
ولئن كانت السلطتان متحدتين في الخلفاء الراشدين-وقد رأينا فقهاء السياسة الشرعية ينصون على اشتراط الاجتهاد في
الإمام الأعظم
(1)
-فإن الواقع التاريخي يشهد أن هذا الاتحاد بينهما لم يكن هو الغالب في التاريخ الممتد، بل ربما اقترب الحال كثيرًا من النموذج الراشد حتى وصف به، كما وصف به عهد عمر بن عبد العزيز (ت 101 هـ)
(2)
، وربما اختلفت درجة القرب حتى لربما كان الفقهاء يديرون أو يشاركون في جهاز الدولة
(3)
، بل ربما كان السلطان نفسه فقيهًا كما قد جرى في مرات كثيرة
(4)
، غير أنه ظل بعيدًا عن أن يوصف حكمه بشرط الرشد المذكور. وربما ابتعد السلطان في أحواله الخاصة أو الأحوال العامة عن نهج الشريعة، لكن الالتزام بمرجعيتها كان أساسًا ظاهرًا في تاريخ الدول والممالك الإسلامية إلى مشارف العصور الحديثة.
(1)
يقول الإمام الشاطبي (ت 790 هـ): (إن العلماء نقلوا الاتفاق على أن الإمامة الكبرى لا تنعقد إلا لمن نال رتبة الاجتهاد والفتوى في علوم الشرع) الاعتصام (3/ 42)، وقال الإمام الجويني (ت 478 هـ):(ولم يؤثر في اشتراط ذلك خلاف) الغياثي (84).
وانظر: الأحكام السلطانية للماوردي (5)، الأحكام السلطانية لأبي يعلى (20).
(2)
روي عن سفيان الثوري (ت 161 هـ) مثلًا أنه قال: ((الخلفاء خمسة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز)) سنن أبي داود، كتاب السُّنِّة، باب في التفضيل (4607).
(3)
انظر على سبيل المثال: دور فقهاء الأندلس في الحياة السياسية والاجتماعية بالأندلس في عصري الإمارة والخلافة، د. خليل الكبيسي (159)، فقهاء المالكية وآثارهم في مجتمع السودان الغربي، سحر مرجان (135).
(4)
انظر على سبيل المثال: ما قيل في ترجمة أبي عنان (ت 759 هـ) من سلاطين بني مرين في: سلوة الأنفاس ومحادثة الأكياس بمن أقبر من العلماء والصلحاء بفاس، الكتاني (3/ 347)، ودور الفقيه عبد الله بن ياسين (ت 451 هـ) في قيام دولة المرابطين في: الأثر السياسي للعلماء في عصر المرابطين، محمد محمود بن بيه (57).
وكان للفقهاء في هذا التاريخ الطويل سلطة لم يزعموا قط أنها سلطة إلهية يستمدونها من السماء على النحو الذي يصف به النصارى رهبانهم، بل كانت هذه السلطة سلطة بيان الشريعة التي أمر الله الناس بالرجوع إلى أهل الذكر في السؤال عنها. ولم تكن هذه السلطة مكتسبة بتعيين السياسي أو بإرادته، بل كان لها شروطها العلمية والإيمانية والتربوية التي يكون بها الفقيه إمامًا للناس، ويشهد له بذلك أقرانه من الفقهاء الذين بلغوا درجة عالية كذلك في العلم والتزكية، بسلسلة وراثية يمتد بها العلماء ليكونوا ورثة للأنبياء.
وبعيدًا عن الخوض في مفهوم السلطة
(1)
، فإن سلطة الفقهاء تعني نفوذ أمرهم وكلمتهم في الناس، وذلك أن الشريعة مشتملة على الأمر والنهي والهداية العامة، والفقهاء هم المختصون ببيان أحكام الشريعة للناس، كما في قول الله جل جلاله:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]. وبما أن أحكام الشريعة شاملة للحياة بشتى مناحيها ومجالاتها، فالنتيجة الطبيعية لهذا أن يكون لبيان الفقهاء واجتهادهم أثر ونفوذ في الحياة العامة.
ولما كان أخص صفات الحكم بعد الخلافة الراشدة أنه (مُلك)، فإن من صفات المُلك كـ (مُلك) أنه عقيم
(2)
، وصاحب السلطة السياسية لا يرضى منازعته في هذه السلطة، ولكنه مع ذلك محتاج إلى الفقهاء الذين لا بد له منهم في الوظائف الدينية
(1)
انظر تلخيصَا لذلك في: ميشال فوكو المعرفة والسلطة، عبد العزيز العيادي (43).
(2)
انظر: مجمع الأمثال، الميداني (3/ 329).
والخطط الشرعية، وهو محتاج إليهم كذلك لأنهم من يمنحه المشروعية التي هو بأمس الحاجة إليها في مجتمع مسلم. وبذا كانت العلاقة بين الفقيه والسلطان تتأرجح بين هذين المحددين، سواء من طرف الفقيه أو من طرف السلطان، وكانت طبيعة الموازنة بينهما تؤثر في طبيعة الدولة ذاتها.
وكانت سلطة الفقهاء وتأثيرهم في العامة أمرًا ظاهرًا وملحوظًا للسلطان نفسه، وكان يتفهمهما تارة ويضيق بها ذرعًا تاراتٍ أخرى، مما حدا بعض المعاصرين أن يصف الفقهاء بأنهم:(ممثلو الشعب أو سلطة الشعب)
(1)
، وبسبب وجاهة الفقيه ومكانته في الناس فإن الحصول على رضاه كان مقدمة للحصول على رضا الناس
(2)
، وربما (انتهى السلطان والعامة إلى رأيه)
(3)
.
ويحكي لنا القاضي عياض (ت 544 هـ) في ترجمة الفقيه المالكي أبي إبراهيم إسحاق بن إبراهيم بن مسرة التجيبي (ت 352 هـ) أن خبر وفاته أتى الحكم المستنصر وقد فتح له حصن من الحصون في الأندلس فقال: (لا أدري بأي الفرحتين أُسرُّ، بأخذ الحصن أو بموت إسحاق)، ثم عقَّب القاضي عياض بقوله:(لخوفه منه وطوع العامة له)
(4)
.
(1)
انظر: مالك تجارب حياة، أمين الخولي (284).
(2)
انظر: دور فقهاء الأندلس في الحياة السياسية والاجتماعية بالأندلس في عصري الإمارة والخلافة، د. خليل الكبيسي (91).
(3)
قالها ابن عبد البر في يحيى بن يحيى الليثي. انظر: الانتقاء (106).
(4)
ترتيب المدارك (6/ 134).
وكان الفقهاء يدركون هذه المكانة ويعرفون قدرهم ومكانتهم لدى العامة ولا يسمحون للسلاطين بالمزايدة عليهم فيها من خلال إغرائهم بالمناصب الرسمية أو تهديدهم بفقدها.
يذكر ابن حزم (ت 456 هـ) أن الحاجب المنصور (ت 392 هـ) أراد أن يتسمى بالخلافة فاعترض عليه القاضي ابن زرب (ت 381 هـ) فغضب المنصور، فلما قام القاضي للخروج وسلم عليه، قال: اخرجوا بين يدي الفقيه-يشير إلى عزله عن القضاء-فقال ابن زرب: (لا بأس هذا ما لا تقدرون على عزلنا عنه)
(1)
.
وبسبب هذه السلطة والمكانة التي وجدت جذورها المستقلة في المجتمع من خلال الجوامع والمدارس والأوقاف وغيرها من مؤسسات المجتمع المستقلة، فقد كان السلاطين يحاولون التأثير على هذه المكانة بوسائل مختلفة، ومنها ما يأتي
(2)
:
1 -
استقطاب الفقهاء واستمالتهم بالمناصب الرسمية أو الهبات والأعطيات.
2 -
محاولة تقييد وظائف الفقهاء وتحديد أدوارهم والإشراف عليها وردها إلى المساحة التي يتيحها السلطان لهم.
ومن المهم التنبه إلى أن الفقهاء وإن تكلموا عن تقنين القضاء والإشراف على الفتوى، إلا أن من الضروري عند تحقيق
(1)
رسالة نقط العروس ضمن رسائل ابن حزم (2/ 87)، وانظر: فقهاء الأندلس والمشروع العامري، فوزي العتيبي (204).
(2)
انظر: الفقهاء والخلفاء، د. سلطان بن حثلين (154).
المناطات ألا يتخذ ذلك وسيلة إلى التلاعب بالشريعة وردها إلى أهواء السلاطين وإخضاعها لرغباتهم
(1)
.
3 -
العمل على إحواج الفقهاء إلى السلطان والتضييق على موارد رزقهم من أوقاف أو غيرها، أو إيقاف وخفض حقوقهم المالية من بيت المال، ونحو ذلك. كما جرى من وقف العطاء عن طائفة من فقهاء المدينة التي كانت تُعدُّ من مراكز معارضة الأمويين
(2)
، وكتدخل محمد علي باشا (ت 1265 هـ) في شؤون الأوقاف وإلغائه لنظام الالتزامات مما أثر سلبًا على مركز العلماء
(3)
.
4 -
تفريق الفقهاء وبث الخلاف بينهم لإضعاف كلمتهم، وإشغالهم باليسير من الخلاف عن جليله، وتفريق الناس من حولهم وتمزيق أواصرهم؛ لئلا ينتهض كيان له قوة مهددة لكيان السلطان، ولذا فهو يحاول صرف الكافة عن الاشتغال بالأمور العامة التي من شأنها توليد رابطة جامعة
(4)
. ومن ذلك أن هشام بن عبد الملك صلى بالبقيع على سالم بن عبد الله بن عمر (ت 106 هـ) وهو أحد فقهاء المدينة السبعة، فلما رأى هشام كثرتهم بالبقيع أمر بأن يضرب على الناس بعثٌ بأربعة آلاف إلى
(1)
انظر: فوضى الإفتاء، د. أسامة الأشقر (74) و (124).
(2)
انظر: تهذيب الكمال، الحافظ المزي (8/ 11).
(3)
انظر: الفكر العربي في عصر النهضة، ألبرت حوراني (64)، مقدمة في التاريخ الاقتصادي العربي، د. عبد العزيز الدوري (95).
(4)
انظر: إحياء الفروض الكفائية، د. عبد الباقي عبد الكبير (94).
السواحل
(1)
. ومنه أن أمير الأندلس عبد الرحمن بن الحكم (ت 238 هـ) ضاق ذرعًا بيحيى بن يحيى الليثي (ت 234 هـ) والفقهاء الضالعين معه في كل ما يشير به ولا يخالفون عن أمره، فكان الأمير عبد الرحمن يكره تألبهم ويقلق منهم ويسميهم سلسلة السوء، فلما ولَّى يخامر بن عثمان القضاء حفظه منهم وسماهم له هذا الاسم، فتجنبهم يخامر وأخذ حذره منهم، فلما عزله عبد الرحمن لاحقًا قال يخامر لرسول الأمير على رؤوس الناس: قل للأمير-أصلحه الله-إذ وليتني أمرتني أن أتحفظ من السلسلة السوء، واليوم تعزلني ببغيها علي! فلما بلغ الرسول قوله إلى الأمير قال: قبحه الله، ذكر أسرارنا على رؤوس الناس
(2)
.
وعلى أية حال فإن السلطان يظل بحاجة إلى الفقهاء ولا يمكنه الاستغناء عنهم في جهاز دولته، وهو مع ذلك يحاول وضعهم تحت سلطته وضبط نفوذهم بحيث يكون امتدادًا لنفوذه.
ولا بد من التنبه في هذا السياق إلى أمر بالغ الأهمية وله أثره الكبير عند محاولة تفسير مثل هذه العلاقة التاريخية، وهو أن التفسيرات التاريخية المعاصرة تكثر فيها بل تغلب عليها التحليلات المادية التي تقصي الغيب والإيمان عن التأثير في حركة التاريخ كما في كتابات الكثير من المثقفين العرب، ولا ريب أن استبعاد البعد الإيماني سيجعل هذه التحليلات بادية الضعف في أمة
(1)
انظر: الطبقات، ابن سعد (7/ 199).
(2)
انظر: المقتبس من أنباء أهل الأندلس، ابن حيان (202)، قضاة قرطبة، الخشني (55).
مسلمة ذات رسالة غيبية، وفي الوقت ذاته فإن استبعاد التفسيرات المادية الصحيحة قد يفرز في أحوال كثيرة تفسيرات تتسم بالبساطة والسذاجة، ومن المهم تقدير كل حالة بحسب زمانها ومكانها وأحوالها وأشخاصها، ومن الخلط الكبير ههنا أن تستنسخ الآليات التي أفرزتها العقلية الأوروبية المادية لتطبق على بيئات مغايرة تمامًا. ومن أمثلة ذلك التأثر بالنظرة الميكافيلية التي ترى أن القوى المحركة للتاريخ هي المصلحة المادية والصراع حول السلطة فحسب، ولئن نجح هذا النوع من التفسير في تحليل الكثير من أحداث التاريخ الأوروبي، فإن استصحابه لتحليل التاريخ الإسلامي سينطوي على فساد كبير وخطأ واضح.
والحكام والسلاطين في تاريخ المسلمين القديم مع ما قد يصدر عنهم من ظلم وبغي وعسف وقهر وأكل للأموال بالباطل، فيحفظ التاريخ لهم أيضًا-من حيث العموم-أنهم:(حضروا المساجد مع الرعية وفتحوا لهم الأبواب. يكرمون الزائر، ويحترمون العالم، ويجلون الفقيه. يسمعون منهما النصح والإرشاد، ويتقبلون المحاسبة والإنكار. أما الجهاد في سبيل الله فقد كان رائدهم، لم يتخلوا عنه في أحلك الظروف التي مرت بهم)
(1)
، فهم في هذا كآحاد المسلمين الذين يخلطون عملًا صالحًا وآخر سيئًا، غير أن آثار أعمالهم تعم وتعظم أثرها في الخير والشر
(2)
.
(1)
انظر: الإسلام بين العلماء والحكام، عبد العزيز البدري (15) وما بعدها، فقد ذكر أمورًا لا بد من مراعاتها عند النظر في هذا الموضوع.
(2)
أفاض العز بن عبد السلام في هذا، انظر: قواعد الأحكام (1/ 198).
لابن خلدون (ت 808 هـ) كلام يحب العلمانيون العرب الاستشهاد والاحتجاج به، ومفاده أن العلماء من بين البشر أبعد عن السياسة ومذاهبها، فهم متعودون في سائر أنظارهم الأمور الذهنية والأنظار الفكرية لا يعرفون سواها، والسياسة يحتاج صاحبها إلى مراعاة ما في الخارج وما يلحقها من الأحوال ويتبعها
(1)
. والاحتجاج بكلام ابن خلدون على المبدأ العلماني مسألة تجاوزتها الحالة العلمية الحديثة، وإن كانت شغلت الناس في وقت مضى لما طرح علي عبد الرازق (ت 1386 هـ) كتابه حول الإسلام وأصول الحكم. وابن خلدون نفسه كان فقيهًا قاضيًا ومارس السياسة طويلًا كما يعرف من سيرته، وقصده بهذا الكلام لا يمت بصلة إلى مرادات من يستشهد بكلامه من العلمانيين
(2)
.
(1)
انظر: المقدمة (5/ 290).
(2)
حكم الطاهر ابن عاشور بخطأ ما سماه: (نظرية ابن خلدون) القاضية على طبع العالم بالبعد عن السياسة، وذكر لكلامه شواهد تاريخية واقعية، انظر: أليس الصبح بقريب (199)، وانظر كذلك: علماء الإسلام في الماضي قوة حاضرة في جل الأنظمة، إبراهيم حركات، ضمن مجموع ((التاريخ والفقه: أعمال مهداة إلى المرحوم محمد المنوني)) (93).
ومع ذلك فلا تزال كتابات كثيرٍ من المثقفين سواء من العلمانيين أو من غيرهم تتهم الفقهاء بأنهم لم يكن لهم حضور سياسي في مجتمعاتهم، وأن نشاطهم بات ينحصر في الوعظ والإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الصعيد الخاص، وعدم التعرض لواقع الحياة إلا بطريق التورية
(1)
.
ومن أكبر الإشكاليات في هذا النوع من الطرح أنه يستورد مناهج وأدوات بحثية، بل أطرًا ومفاهيم أجنبية لقراءة تاريخ حضارة ذات دين وثقافة مختلفين تمامًا عن سياق تلك الأدوات والمفاهيم. فمفاهيم مثل:(الفقه) و (السياسة) و (الحياة العامة) و (المشاركة) و (المجتمع) و (العلماء) و (السلاطين) في سياقنا الحضاري والثقافي لها معانيها التي تختلف عنها في سياق الحضارة والفكر الغربي الذي تستورد منه هذه الأدوات التحليلية.
وإذا ما تفهمنا وقوع مستشرقين نشأوا في السياق الغربي في أخطاء كبيرة في فهم الحضارة الإسلامية ومكوناتها، فإن من الصعب أن نتفهم وقوع باحثين عرب في مثل هذه الأخطاء، إلا أن يكونوا واقعين تحت سطوة الاستلاب الحضاري الذي لا
(1)
انظر: الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية، د. عبد المجيد الصغير (302)، القطيعة بين المثقف والفقيه، يحيى محمد (77).
يسمح للناقل بنقد الفكرة، بل تقتصر مهمته بالترويج لها والبحث في التراث العريض عن شواهد تؤيدها
(1)
.
وعلى أية حال فإن منطق الشريعة يستلزم مشاركة الفقهاء في أعلى مستويات الدولة؛ لأن شرط إسلامية الدولة قيامها على أساس التزام أحكام الشريعة وسياساتها، والفقهاء هم المتخصصون من الناحية العلمية ببيان أحكام الشريعة، ومشاركتهم لا تحمل معنى الكهنوت عند النصارى، بل هي نتيجة ضرورية لرد الأمر إلى أهله الذين هم أهل التخصص
(2)
، فطبيعة (الاجتهاد) في تدبير الأمر في النص التشريعي، واستنباط ما يغطي حاجات المجتمع في وقائعه المتجددة حق مشترك بين من توفرت فيهم مؤهلات علمية معينة ترفعهم إلى مقام التخصص العلمي الدقيق
(3)
.
والإسلام الذي هو آخر الأديان وأعظمها منهاج حياة ونظام إصلاح، يرقى بالحياة البشرية والمجتمعات الإنسانية إلى أعلى مستوى يمكن أن تصل إليه من الصلاح. وبيان الفقهاء لسبيل الإصلاح ومشاركتهم فيه ليس استغلالًا للدين ولا انتهازية ولا (إسلامًا سياسيًا) ولا (إسلاموية) ولا غير ذلك من المصطلحات
(1)
من المهم الرجوع هنا إلى ما ذكرته د. مني أبو الفضل في اثني عشر تنبيهًا في: نحو إعادة بناء علوم الأمة الاجتماعية والشرعية (51 - 65).
(2)
انظر: الإسلام بين العلماء والحكام، عبد العزيز البدري (28)، السلطة الثقافية والسلطة السياسية، د. علي أومليل (50).
(3)
انظر: خصائص التشريع الإسلامي في السياسة والحكم، د. فتحي الدريني (90).
التي يخترعها بعض المستشرقين ثم يرددها بعض المفتونين، من الذين لا يدركون حقيقة الفرق بين الراهب النصراني والفقيه المسلم، ومن الذين تشبعت عقولهم بالتصورات الأوروبية الفاسدة لمفهوم الدين وعلاقته بالحياة.
والنظرة التي تفصل بين الفقه والسياسة ليست نظرة فاسدة في التحليل الشرعي فحسب، بل هي فاسدة في تصورها الحضاري والتاريخي والاجتماعي للدول والمجتمعات الإسلامية، فإن الفقه أكبر مكونات حضارة المسلمين وعليه تقوم، وقد علم من شواهد التاريخ الحديث أن تفكيك المؤسسات الدينية والفقهية خلال القرن التاسع عشر والعشرين أدى إلى القضاء على سلطة الشرع التي كانت تسود البلدان الإسلامية، مما أدى إلى الإخلال بالعلاقات والموازنات التاريخية التي تستند عليها حياة المسلمين ومعاشهم، ولم يعرف المسلمون في تاريخهم تسلطًا وجبروتًا سياسيًا كالذي عاينوه بعد انهيار الموازنات القديمة ونشأة الديكتاتوريات الحديثة
(1)
.
أما عند التتبع التاريخي لمشاركة الفقهاء السياسية فإن قراءة أي مصدر من المصادر التي تختص بذكر طبقات الفقهاء وتراجمهم وأخبارهم سواء كانت من المصادر المتقدمة أو المتأخرة سوف تطلعنا على مشاركتهم في جميع المناصب السياسية بمستوياتها التنفيذية والتشريعية والقضائية حسب
(1)
انظر: نشأة الفقه الإسلامي وتطوره، د. وائل حلاق (279).
الاصطلاح والتقسيم المتأخر. ويمكن الرجوع في هذا أيضًا إلى الدراسات المعاصرة التي تعني بدراسة أثر الفقهاء في الحياة السياسية والشؤون العامة، ومن ذلك ما يأتي:
1 -
أثر العلماء في الحياة السياسية في الدولة الأموية، د. خالد إسماعيل نايف الحمداني.
2 -
أثر الفقهاء في الحياة العامة في العصر العباسي، د. خالد إسماعيل نايف الحمداني.
3 -
أثر العلماء في الحياة السياسية في العراق القرنين الثالث والرابع الهجريين، عبود الشمري.
4 -
العلماء والسلطة: دراسة عن دور العلماء في الحياة السياسية والاقتصادية في العصر العباسي الأول، عبد الحكيم سيف الدين.
5 -
دور الفقهاء في الحياة السياسية والاجتماعية بالأندلس في عصري الإمارة والخلافة، د. خليل الكبيسي.
6 -
الأثر السياسي للعلماء في عصر المرابطين، محمد بن بيه.
7 -
فقهاء الأندلس والمشروع العامري، فوزي العتيبي.
8 -
دور العلماء في الحياة السياسية والإدارية والاجتماعية في سلطة غرناطة، حسين الدليمي.
9 -
فقهاء المالكية وآثارهم في مجتمع السودان الغربي، سحر مرجان.
10 -
الحركة الفقهية ورجالها في السودان الغربي من القرن الثامن إلى القرن الثالث عشر، د. عبد الرحمن ميغا.
11 -
علماء الشام في القرن العشرين وجهودهم في إيقاظ الأمة، محمد الناصر.
12 -
علماء الإسلام تاريخ وبنية المؤسسة الدينية في السعودية بين القرنين الثامن عشر والحادي والعشرين، د. محمد ملين.
كما يمكن الرجوع إلى نوع آخر من المصادر لمعرفة خطأ القول بأن الفقهاء كانوا يتحاشون التصريح بإنكار المظالم العامة، ومعرفة أنهم كانوا هم المتصدين لإنكارها بمراتب الإنكار الثلاث، ومنها ما يأتي:
1 -
كتاب المحن، أبو العرب التميمي (ت 303 هـ).
2 -
الإسلام بين العلماء والحكام، عبد العزيز البدري (ت 1389 هـ).
3 -
الفقهاء والخلفاء، د. سلطان بن حثلين.
4 -
زهر البساتين من مواقف العلماء والربانيين، د. سيد عفاني.
إن الباحث بعد رجوعه لهذه المصادر ونظائرها لن يخامره شك في مدى مشاركة الفقهاء وتأثيرهم في الحياة العامة، وسيدرك أن الفقهاء كانوا خط الدفاع الأول عن حقوق الأمة ومقدراتها، ولذا أحبهم الناس وعظموا مكانتهم واتخذوهم مفزعًا عندما ينزل بهم شيء من المظالم العامة والخاصة.
وهذا لا يعني بكل تأكيد أن الفقهاء كانوا على درجة مثالية من الصلاح والكمال، فهم من الناس ويعتريهم ما يعتري سائر الناس من فساد النفس والحال، لكنهم أقل فئات المجتمع فسادًا والخير فيهم أكثر والشر فيهم أقل، وعندما تذكر كتب التاريخ حالة منكرة لبعضهم فإنما تذكرها لشذوذها وغرابتها؛ فإن السائد والمشهور لا تتوافر الدواعي لنقله كتوافرها لنقل الشاذ الغريب.
والناس إذا رأوا فقيهًا فاسدًا استعظموا ذلك واستهولوه-وحُقَّ لهم ذلك-ولهجت ألسنتهم بذمه والنيل منه، لكنه لا يدل بحال على أن هذه الحالة فاشية، بل تذكر لغرابتها واستنكارها.
لم يتخذ الفقهاء من السلاطين موقفًا واحدًا بل تعددت مواقفهم وطرائق تعاملهم معهم، والواقع أن اختلاف طبائع الناس كفيلة بحصول مثل هذا التنوع، وربما كان وجود مثل هذا الاختلاف الذي يؤدي إليه الاجتهاد الصحيح المنضبط مقصدًا من مقاصد الشريعة من حيث النظر الكلي لما ينتج عنه من إحداث نوع من التوازن في المجتمع، لا سيما مع وجود الإنكار من بعض الأطراف على بعضها مما يقضي باستمرار التقويم والمراجعة لهذه العلاقة والتأكيد على ربطها بالاجتهاد العلمي من جهة وبالتقوى الإيمانية من جهة أخرى
(1)
.
ويمكن القول إنهم انقسموا في ذلك إلى ثلاث اتجاهات ومواقف عريضة:
(1)
انظر: العامة والسلطة في بغداد، د. موفق نوري (140)، مع الأئمة، د. سلمان العودة (23)، السلطة والمجتمع والعمل السياسي من تاريخ الولاية العثمانية في بلاد الشام، د. وجيه كوثراني (35).
1 -
موقف التقارب والتعاون وتولي المناصب والمشاركة في صياغة القرار السياسي، وهذا كان اختيار طائفة من الفقهاء الذين يرون في المشاركة تأثيرًا إيجابيًا وتعاونًا على البر والتقوى وأداءً للنصيحة إلى أئمة المسلمين وعامتهم، أو سعيًا في تقليل الشر والفساد على أقل الأحوال، فاقتربوا من الخلفاء والسلاطين بالنصيحة والشورى، وتولوا المناصب المختلفة من إمارة ووزارة وقضاء وكتابة وشرطة وولاية على بيت المال وغير ذلك
(1)
.
وعندما ينبه الفقهاء على طاعة السلطان نجدهم يؤكدون على الدوام أن هذه الطاعة إنما تكون في المعروف، وهذا التأكيد منهم تأكيد على ضبط القانون العام الذي يحفظ للناس مصالحهم ويحجزهم عن الفوضى واختلال النظام. يقول الإمام المقَّري (ت 758 هـ):(يجب ضبط المصالح العامة، ولا تنضبط إلا بتعظيم الأئمة في نفوس الرعية، ومتى اختلف عليهم أو أهينوا تعذرت المصلحة)
(2)
.
2 -
موقف الصدام والمواجهة، وهذا كان موقف طائفة من الفقهاء الذين كانوا يبادرون إلى إسقاط شرعية الحاكم ومناجزته متى ما أداهم اجتهادهم إلى ذلك، وأمثلة ذلك كثيرة في التاريخ، فمنها ثورة القراء المشهورة على الحجاج مع ابن الأشعث سنة
(1)
انظر: أثر العلماء في الحياة السياسية في الدولة الأموية، د. عبد الله الخرعان (109)، دور الفقهاء في الحياة السياسية والاجتماعية بالأندلس في عصري الإمارة والخلافة، د. خليل الكبيسي (159).
(2)
القواعد (2/ 429).
(81 هـ)
(1)
، وثورة فقهاء الربض في الأندلس على الحكم بن هشام سنة (202 هـ) التي نقل النويري (ت 733 هـ) أنه اشترك فيها أربعة آلاف فقيه وطالب
(2)
، ومواجهات فقهاء تمبكتو مع السلطان سني علي بير سنة (873 هـ)
(3)
.
3 -
موقف المعارضة السلمية أو ما يمكن أن يسمى في زماننا بـ (جماعات الضغط)
(4)
، وهذا كان موقف طوائف كثيرة من الفقهاء الذين كانوا يرفضون مبدأ المشاركة والمعاونة دون أن يستلزم ذلك إسقاط شرعية الحاكم، ولعلهم كانوا يرون في المعارضة السلمية السلبية ضغوطًا تدفع الحاكم إلى مزيد من الإصلاح، وتنبه عامة الناس إلى أن هذا الحاكم أو ذاك لا يمثل النموذج الراشد للحكم، ولا تنطبق عليه من أحكام الطاعة مثل ما ينطبق على الخليفة الراشد. وكان لهذه المعارضة أشكال، منها انتقاد السلطة والإنكار عليها، وعدم تنفيذ الأوامر والرغبات، والاستعفاء من المناصب والبعد عنها، ومجانبة السلطان واعتزاله.
وهذه الأساليب كان لها أثرها على السلطة، فهي وإن لم تعدم من ينفذ لها ما يرفض الفقهاء تنفيذه، إلا أن رفضهم هذا يحد من تسلطها وفرديتها إذا ما أرادت أن تكون كذلك
(5)
.
(1)
انظر: الفقهاء والخلفاء، د. سلطان بن حثلين (41).
(2)
انظر: نهاية الأرب، النويري (23/ 218).
(3)
انظر: فقهاء المالكية وآثارهم في مجتمع السودان الغربي، سحر مرجان (138).
(4)
انظر: مدخل إلى علم السياسة، موريس دوفرجيه (140).
(5)
انظر: دور الفقهاء في الحياة السياسية والاجتماعية بالأندلس في عصري الإمارة والخلافة، د. خليل الكبيسي (142)، مصالح الإنسان مقاربة مقاصدية، عبد النور بزا (388)، مهن الفقهاء في صدر الإسلام وأثرها على الفقه والفقهاء، د. محمد التميم (198).
وعند النظر في سيرة الأئمة الأربعة المتبوعين فإنه يمكن ملاحظة أنهم كانوا أقرب إلى هذا الموقف من بقية المواقف
(1)
، بل إن هذا الموقف كان موقفًا سائدًا عند كثير من الفقهاء الكبار، وقصصهم في ذلك مشهورة جدًا، ولها دلالتها الظاهرة على حرص هؤلاء الأئمة على النصيحة الإيجابية من جهة، وعلى الإنكار من جهة أخرى، وعلى تفطنهم ويقظتهم تجاه أي محاولة لاستغلال مكانتهم أو علمهم من قبل السلطة. ولعل من المناسب ذكر شواهد تدل على هذا المعنى، فمن ذلك ما يأتي:
مرض فقيه مصر يزيد بن أبي حبيب (ت 128 هـ) فعاده الحوثرة بن سهيل أمير مصر فقال: يا أبا رجاء، ما تقول في الصلاة في الثوب وفيه دم البراغيث؟ فحول يزيد وجهه ولم يكلمه، فلما قام نظر إليه يزيد وقال: تقتل كل يوم خلقًا وتسألني عن دم البراغيث؟!
(2)
.
وقال أبو جعفر المنصور (ت 158 هـ) لسفيان الثوري (ت 161 هـ): عظني يا أبا عبد الله، فقال: وما عملت فيما علمت فأعظك فيما جهلت؟
(3)
.
(1)
انظر: مع الأئمة، د. سلمان العودة (23)، السلطة الثقافية والسلطة السياسية، د. على أومليل (47)، مقدمة في التاريخ الاقتصادي العربي، د. عبد العزيز الدوري (42).
(2)
انظر: تذكرة الحفاظ، الذهبي (1/ 122).
(3)
انظر: العقد الفريد، ابن عبد ربه (3/ 109).
ويروى أن الإمام مالكًا (ت 179 هـ) لم يكن يخضب، فقال له بعض ولاة المدينة: ألا تخضب؟ فقال له: ما بقي عليك من العدل إلا أن أخضب؟
(1)
.
وعلى كلِّ فإنه لا بد من إدراك أنه إذا كان للفقهاء منطقهم فإن للخلفاء والسلاطين موقفهم ومنطقهم أيضًا، وكان هذا المنطق يعمل على الموازنة بين شرعية الدولة وقيامها بوظائفها الدينية وبين ما تدعو إليه طبيعة الملك من الاستئثار بالقرار ونفوذ الرأي والتسلط على المال والثروة، وهذه الموازنة تتطلب أن تبقى للشريعة هيبة محفوظة ورهبة قائمة، كما أن الموازنات الاجتماعية ذات الطبيعة الراسخة في البيئات الإسلامية كانت تتضمن قيودًا تحجز الحاكم عن إرسال يده كيفما يشاء، وكان الخلفاء والملوك والسلاطين يدركون هذا جيدًا، وإن غاب إدراكه عن كثير من المعاصرين الذين يُخلِّطون جدّاً عندما يقيسون الماضي إلى الحاضر.
ومن الإشارات التي توضح هذا على سبيل المثال العابر، ما اشتهر من قول المأمون (ت 218 هـ): لولا مكان يزيد بن هارون لأظهرت القرآن مخلوق
(2)
.
وذكر في ترجمة الإمام عبد الله بن المبارك (ت 181 هـ) أنه قدم مرة إلى الرقة وبها هارون الرشيد، فلما دخلها انجفل الناس
(1)
انظر: الذخيرة، القرافي (13/ 282).
(2)
انظر: تاريخ الإسلام، الذهبي (14/ 457).
يهرعون إليه وازدحموا حوله، فأشرفت أم ولد للرشيد من قصر هناك، فقالت: ما للناس؟ فقيل لها: قدم رجل من علماء خراسان يقال له: عبد الله بن المبارك، فانجفل الناس إليه. فقالت: هذا هو الملك، لا ملك هارون الرشيد الذي يجمع الناس عليه بالسوط والعصا والرغبة والرهبة
(1)
.
ويقول الحافظ ابن كثير (ت 774 هـ) عن الإمام الأوزاعي (ت 157 هـ): (كان الأوزاعي في الشام معظمًا مكرمًا، أمره أعز عندهم من أمر السلطان، وهمَّ به بعض الولاة، فقال له أصحابه: دعه عنك فوالله لو أمر الشاميين أن يقتلوك لقتلوك. ولما مات جلس عند قبره بعض الولاة فقال: رحمك الله، فوالله لقد كنت أخاف منك أكثر مما أخاف من الذي ولاني)
(2)
.
ولما مرت جنازة سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام (ت 660 هـ) بالظاهر بيبرس وشاهد كثرة الخلق الذين معها، قال لبعض خواصه: اليوم استقر أمري في الملك؛ لأن هذا الشيخ لو كان يقول للناس اخرجوا عليه لانتزع الملك مني
(3)
.
ومهما يكن من أمر فإن الخلفاء والسلاطين كانوا حريصين بدورهم على الموازنة، وهم ملوك مسلمون مذعنون لأحكام الشرع بالجملة، وكانت الشريعة مرجعيتهم العليا وإن اتفق لهم من
(1)
انظر: البداية والنهاية، ابن كثير (13/ 611).
(2)
انظر: البداية والنهاية، ابن كثير (13/ 454).
(3)
انظر: طبقات الشافعية الكبرى، ابن السبكي (8/ 215).
شهوات الملك والرئاسة ما يخرج بهم عن أحكامها. وإذا نقلت كتب التاريخ جملة من مخالفاتهم للشرع فلأن ذلك كان أولى بالتدوين من ذكر إذعانهم له لأنه هو الأصل. وكانوا مع ذلك يعلمون أن الفقهاء أهم الوسائط بينهم وبين عامة الناس لما لهم فيهم من المكانة والكلمة، فهم الذين يعيشون حياتهم ويواسونهم ويلامسون همومهم ويدافعون عن حقوقهم، وكتب الطبقات والتراجم مليئة جدًا بالشواهد التي تؤكد ذلك
(1)
.
(1)
انظر: المعرفة والسلطة في المغرب، ديل إيكلمان (3)، نشأة الفقه الإسلامي وتطوره، د. وائل حلاق (251 - 262).
عندما نتتبع تاريخ الفقه والقضاء والفتيا في الإسلام، وفي القرون التي كانت فيها الشريعة هي المرجعية العليا للدول والممالك الإسلامية على وجه الخصوص، فإننا لا نجد مسوغًا ولا برهانًا واقعيًا يشير إلى أن السلاطين كانوا يتدخلون في الصناعة الفقهية ذاتها. ومما يدعو إلى العجب أن الكثير ممن يرسلون الأحكام ويقفزون إلى النتائج يرددون هذا الكلام بوعي أو بغير وعي دون أن يقدموا برهانًا يسوغ مثل هذه الأحكام الخطيرة الجائرة.
فمن جهة المدارس فإن معظم المدارس في تاريخ المسلمين كانت مدارس خيرية أهلية ليست مرتبطة بإرادة سياسية، خلافًا لما جرى عليه الحال بعد نشأة الدول الحديثة، وكان اختيار المدرسين تأهيلهم وتنظيم أرزاقهم يتم بتنظيم أهلي خيري أو وقفي لا علاقة له بالسياسي. وربما طمح بعض الملوك والوزراء الذين اشتهروا بمحبة العلم أو غيرهم إلى دعم هذه المدارس، غير أنه
لم يكن لهم تأثير على الصناعة العلمية داخلها من حيث العموم، بل إن تاريخ هذه المدارس يشهد أن الساسة كانوا يعانون الأمرَّين إذا ما حاولوا التدخل في الشأن التعليمي وتوجيه مساره، ويواجهون مقاومة عنيفة جدًا من الفقهاء القائمين على تلك المدارس، وبغض النظر عن إطلاق حكم شامل على هذا الموقف مما يسمى أحيانًا بـ (الإصلاحات) إلا أنه يدل دلالة واضحة على استقلال هذه المؤسسات التعليمية وعدم خضوعها لإرادة من خارجها
(1)
.
أما ما يتعلق بالقضاء، فإننا بالرجوع إلى المصادر التي تتناول تراجم القضاة وسيرتهم القضائية، كـ:(أخبار القضاة) لوكيع (ت 306 هـ)، و (قضاة قرطبة) لأبي عبد الله الخشني (ت 361 هـ)، و (المرقبة العليا فيمن يستحق القضاء والفتيا) لأبي الحسن النباهي المالقي (ت بعد 793 هـ) وغيرها، نلاحظ أن الخلفاء كانوا حريصين بشكل واضح على استقلالية القضاء، كما أن السمة الغالبة للقضاة كانت الصلاح وإن وجد خلاف ذلك، ولا يعني هذا بحال أن الخلفاء والملوك كانوا مبرأين من التدخل لمصلحتهم في أحوال كثيرة، بل إن هذا من السمات التي تمتاز بها طبيعة الملك عن طبيعة الخلافة الراشدة، لكنه لم يكن الأصل، وتحفظ لنا كتب التراجم حالات كثيرة حكم فيها القضاة
(1)
انظر: أليس الصبح بقريب، ابن عاشور (104)، الدارس في تاريخ المدارس، النعيمي (1/ 5)، الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية، د. عبد المجيد الصغير (228)، كيف ربى المسلمون أبناءهم، محمد شعبان أيوب (113) و (251).
على الخلفاء والسلاطين أنفسهم
(1)
. وكان الخلفاء والملوك يعلمون جيدًا أن هيبة القضاء من هيبة الملك، وأن فساد القاضي لن يقتصر ضرره عليه وحده.
يذكر وكيع (306 هـ) أن عبد الملك بن مروان بلغه أن قاضيًا له ارتشى، فكتب إليه:
إذا رشوة حلت ببيت تولجت
…
لتدخل فيه والأمانة فيه
سعت هربا منها وولت كأنها
…
تولي حليم عن جواب سفيه
(2)
كما أن من المهم الإشارة إلى أن صلاح القاضي وفطنته لا تسمح لأحد أن يجعله وسيلة إلى أغراضه الشخصية، ولا تحصي كتب طبقات القضاة الأمثلة التي عزل فيها القضاة أنفسهم إذا شعروا بتقييد سلطتهم القضائية، بل لقد ذكر في ترجمة الأستاذ أبي حامد الإسفراييني شيخ الشافعية وقاضي بغداد (ت 406 هـ) أنه وقع من الخليفة ما أوجب أن كتب إليه الشيخ أبو حامد: اعلم أنك لست بقادر على عزلي عن ولايتي التي ولانيها الله تعالى، وأنا أقدر أن أكتب رقعة إلى خراسان بكلمتين أو ثلاث أعزلك عن خلافتك. وأبو حامد هذا هو الذي قال فيه أبو إسحاق
(1)
طالع تنبيهًا مهمًا ذكره د. وائل حلاق بهذا الصدد، نشأة الفقه الإسلامي وتطوره (260).
(2)
أخبار القضاة (693).
الشيرازي (ت 476 هـ): (وانتهت إليه رئاسة الدنيا والدين ببغداد)
(1)
.
أما ما يذكره بعض الباحثين من وصف ما قام به العباسيون ابتداءً من إجراءات لتنظيم القضاء كاستحداث منصب (قاضي القضاة) وغيره، بأنه تضييق لسلطات الفقهاء وتقييد لها
(2)
، فهذا وصف عجيب، فإن تنظيم القضاء وترتيبه لم يزل من شأن الدول؛ لأنه من الوظائف التي تستند إلى السلطان والقوة ليخضع لها الناس في فصل المنازعات، ولو فرط العباسيون فيها لكان ذلك نقصًا يلحقهم، ولا يمكن اعتبار هذه الإجراءات تدخلًا في سلطة القضاة إلا إذا أثر ذلك في تقييد مجالات التقاضي أو في طبيعة الأحكام، وهذا ما يحتاج إلى برهان مستقل. والواقع أن أول من ولاه العباسيون منصب قاضي القضاة هو القاضي أبو يوسف (ت 182 هـ) الفقيه الكبير وتلميذ أبي حنيفة، والقاضي أبو يوسف من الأئمة الفقهاء الكبار الذين استفاض في الأمة حسن سيرتهم والثناء عليهم، وليس مثله من يكون أداة للسلطان في تنفيذ أغراضه. ولكن هذه الطريقة في التحليل من آثار المغالاة في التحليل المادي مما سبقت الإشارة إليه.
وأما من ناحية المادة الفقهية التعليمية التي تشكل لب المدونات الفقهية في المذاهب المتبوعة فإن آلية الاجتهاد فيها وصياغة أحكامها لم يكن للخلفاء والملوك مدخل فيها ألبتة.
(1)
انظر: طبقات الفقهاء، الشيرازي (124).
(2)
انظر: الفكر الأصولي، د. عبد المجيد الصغير (230).
يقول د. وائل حلاق: (لم يكن الفقه الإسلامي قط آلية بيد الدولة-إن جاز استعمال مصطلح الدولة في غير سياقه التاريخي-على خلاف الثقافات التشريعية الأخرى في العالم مهما كان مستوى تعقدها. وبمعنى آخر، لم ينبثق الفقه الإسلامي من آلة السلطة السياسية، وإنما ظهر باعتباره مؤسسة مستقلة أنشأها رجال أتقياء وطوروها، وهم الذين شرعوا في دراسة الفقه وبلورتها باعتباره نشاطًا دينيًا. ولم يكن بإمكان السلطة الإسلامية الحاكمة-أي: الجهاز السياسي-أن يحدد مطلقًا أحكام الشرع. وهذه الحقيقة الهامة تعني بوضوح أن الجهاز الحاكم إذا كان في الثقافات الفقهية الأخرى مصدر السلطة التشريعية ومركز نفوذها، فإن هذا الجهاز كان في الإسلام غائبًا عن الساحة الفقهية غائبًا كبيرًا إن لم يكن تامًا)
(1)
.
وهذا التقرير يشمل الفتوى أيضًا، فإنها كانت بمعزل عن السلطة السياسية، بل إن تقنين الفتوى مسألة مستحدثة، ومنصب المفتي لم يكن معروفًا قبل الدولة العثمانية، وإن كان ربما حصل إشراف عام يمنع من التلاعب بالفتوى من قبل الجهال وغير المتأهلين مما بينه الفقهاء وشرحوه
(2)
، غير أن الحال الغالبة أن الدولة لم تكن تتدخل في شأن الفتيا ولم يكن لها منصب
(1)
نشأة الفقه الإسلامي وتطوره، د. وائل حلاق (278).
(2)
انظر: فوضى الإفتاء، د. أسامة الأشقر (30) و (74). ولا يدخل في هذا تسمية مفتين بأعيانهم في بعض الأحوال أو بعض الأبواب، بل كان مثل هذا موجودًا لأجل اعتبارات تنظيمية، لكنه لم يتخذ طابعًا رسميًا عامًا، انظر: الفقيه والمتفقه، الخطيب البغدادي، باب القول فيمن تصدى لفتاوى العامة (1039).
رسمي
(1)
. بل إن من العلماء من فسَّر ترك طائفة من أكابر الفقهاء التصريح باعتبار دليل المصلحة مع اعتبارهم كلهم له بأنه كان (خوفًا من اتخاذ أئمة الجور إياه حجة لاتباع أهوائهم وإرضاء استبدادهم في أموال الناس ودمائهم، فرأوا أن يتقوا ذلك بإرجاع جميع الأحكام إلى النصوص ولو بضرب من الأقيسة الخفية، فجعلوا مسألة المصالح المرسلة من أدق مسالك العلة في القياس ولم ينوطوها باجتهاد الأمراء والحكام)
(2)
.
وهذا الذي تقدم بيانه لا يعني بطبيعة الحال أنه لم يجر استغلال لبعض الفقهاء وفتاويهم وأقضيتهم من قبل بعض الخلفاء أو السلاطين والملوك، بل إن حصول مثل هذا مستفيض مشهور، بل ربما غلب على بعض الملوك والدول، لكنه لم يكن غالبًا في تاريخ المسلمين بمجموع دولهم وممالكهم التي كانت تتخذ من الشريعة مرجعيتها العليا ومصدر مشروعيتها، حتى تبدل الحال في العصور الحديثة عندما أخذت المبادئ العلمانية والقوانين الوضعية بالتسلل إلى بلاد المسلمين فآل الحال إلى ما قد عُلم
(3)
.
(1)
انظر على سبيل المثال: الحياة العلمية والاجتماعية في مكة في القرنين السابع والثامن للهجرة، طرفة العبيكان (92)، المدارس العتيقة بالمغرب، د. جميل حمداوي (بحث منشور على الشبكة العالمية بموقع دروب).
(2)
تفسير المنار، رشيد رضا (7/ 197)، وانظر: تعليل الأحكام، د. محمد مصطفى شلبي (؟؟ /382).
(3)
انظر: العلاقة بين السلطة السياسية والفقهية، مصطفى أبو عمشة، مقال في موقع (المركز العربي للدراسات والأبحاث) على الشبكة العالمية.