المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌1 - إصلاح التعليم - إصلاح الفقيه فصول في الإصلاح الفقهي

[هيثم بن فهد الرومي]

الفصل: ‌1 - إصلاح التعليم

‌1 - إصلاح التعليم

((الدراسة صلاة)).

ابن مسعود

[جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر، باب تفضيل العلم على العبادة: 94]

((ليكن أول ما تبدأ به من إصلاحك بنيَّ إصلاحك نفسك، فإن أعينهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما استحسنت والقبيح عندهم ما استقبحت)).

عتبة بن أبي سفيان [البيان والتبيين، الجاحظ: 2/ 73]

((يا بنُيَّ اطلب العلم وأنا أكفيك من مغزلي، يا بني إذا كتبت عشرة أحاديث فانظر هل ترى في نفسك زيادة في مشيتك وحلمك ووقارك فإن لم تر ذلك فاعلم أنه يضرك ولا ينفعك)).

من وصية أم سفيان الثوري لولدها [تاريخ جرجان، السهمي: 449]

((من هنا يعلم أن إطلاق اسم المدرس على المقتصر على نقل تقاييد الرسالة والمدونة، من غير فتش ولا تنزيل ولا كشف واستظهار بغيرها مجاز لاح قيقة، وهذا الوصف كاد أن يعم أهل الوقت أو عمهم، فنسأل الله العظيم المغفرة من التطفل وتعاطي ما ليس في المقدور)).

[أزهار الرياض، الشهاب المقَّري: 3/ 35]

((ومذاكرة حاذق في الفن ساعة أنفع من المطالعة والحفظ ساعات بل أيامًا)).

[شرح النووي على صحيح مسلم: 1/ 48]

ص: 171

صلاح الأمة مرهون بما تختزنه من الفضائل الاجتماعية، وسبيل رسوخ هذه الفضائل في الأمم إنما يكون بطريق التربية والتعليم، وإصلاح التعليم مدخل إلى سائر الإصلاحات النافعة والتدابير التي تنهض بالأمة وتقودها إلى سبيل الرشاد، فالتعليم مدخل للاجتهاد وبه تتجدد الأمة وتعيش زمانها وتنبض الحياة في علومها ومعارفها، لتكون في عداد الأمم الحية المؤثرة في العالم. ومن أهم المهمات للأمة التي تتوخى درب النهضة الراشدة والحياة الكريمة أن تنظر في تعليمها وسبل إصلاحه وتطويره، فإن من طبع التعليم أن يكون متجددًا لأن الحياة متجددة ولا بد للتعليم أن يجاري الحياة، فإذا ما تخلف عن مجاراتها انكفأ على الماضي وجعل من الوسائل غايات وأقام لها الحصون ونصب لها الحُرَّاس، وانقلب العلم عائقًا عن التصورات الصحيحة للواقع بدلًا من قيادة تصورات الواقع إلى الصحة والصواب.

ص: 172

إن الأمة متى كانت في حال عزة ومنعة وقوة كان تعليمها بمثابة الوقود لفاعليتها ونهضتها، وكذلك كان حال التعليم الفقهي في الأدوار الأولى للحضارة الإسلامية، يوم أن كان الفقه حيًا والحياة نضاخة بالأسئلة التي تستفز الفقهاء للبحث والاجتهاد والتجدد، فإن العلم ما لم يُستخرج بالسؤال والحاجة له فإنه ينسى، وقد قال عروة بن الزبير (ت 94 هـ) مرةً لابنه هشام:(إني والله ما يسألني الناس عن شيء حتى لقد نسيت)

(1)

، ولما كانت الحضارة في إقبال والدين في انتشار وامتداد كان الاجتهاد الفقهي في أوجه، وفي تلك الأدوار نهض الأئمة العظام وتأسست المذاهب الكبرى في فهم الشريعة والاجتهاد فيها، وكانت حركة التعليم والتفقه والتفقيه على أحسن أحوالها؛ لأن الفقه كان على أحسن أحواله، ولا يمكن في بدائه التجارب والسنن أن يوجد ذلك النجاح والإبداع في المجال التشريعي ما لم يكن ثمت نجاح وإبداع في المجال التعليمي والتربوي

(2)

.

أما إذا كانت الأمة في حال ضعف وذلة فلا تكاد تفارقها حالة التخوف والحذر، ومن ذلك خوفها من الإصلاح وتهيبها من دخول الفساد باسم الإصلاح، وقد كان المتعين المبادرة إلى الإصلاح يدافع من الذات فإن الإصلاح أمر لا بد منه ولا محيد عنه، والتخوف من كل مبادرة إصلاحية لا تزيد الداء إلا تجذرًا

(1)

جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر، باب في ابتداء العالم جلساءه بالفائدة (748).

(2)

انظر: منهاج تدريس الفقه، د. مصطفى صادقي (31).

ص: 173

وتمكنًا، وهناك شواهد كثيرة تدل على أن مساعي الإصلاح في مجال التعليم الشرعي كثيرًا ما يقابلها العلماء بالتوجس والحذر من أن يكون ذلك ذريعة إلى تبديل الدين والعبث بأحكام الشريعة، ومع أن مثل ذلك قد يحدث إلا أن الحل لا يكون موقفًا سلبيًا، بل بمبادرات العلماء إلى الإصلاح وتبصرهم لفساد التعليم وأسبابه وتقديم المصالح العامة على الخاصة والمتحققة على المظنونة، وهذه النزاعات بين من يسمون دعاة التجديد ودعاة المحافظة تستهلك الكثير من الجهد والوقت والمال والعافية، ولو صرف بعضها في الإصلاح المتفق عليه لأفضى إلى خير كثير، وقد جرت في الأزهر والزيتونة وغيرهما حكايات في ذلك يطول منها العجب

(1)

.

إن إصلاح التعليم الفقهي ضرورة ملحة، والحاجة إليه ماسة وعاجلة، والتساهل في ذلك مجلبة لفساد الأحوال؛ لأن الدين قوة متجذرة في بلاد المسلمين ووجدانهم وطبائعهم وأخلاقهم، والفقه يمثل حركة هذه الأمة وعطاءها، والفقهاء هم الذين يعلمون الناس ويوجهون مسارات التدين فيهم، فإذا لم يكن الفقهاء بالقدر الذي يؤهلهم لتلك الوظائف وقلَّ الفقه فيهم فذلك إيذان بالخراب. وهذا الخراب لن يعود على الفقهاء وحدهم بل إن المجتمع كله سيتجرع مرارته وغصصه، كما أن المجتمع كله مسؤول عن دفع حالة الفساد هذه ورفعها؛ لأن الفقه الحق يحمل

(1)

انظر: أليس الصبح بقريب، ابن عاشور (104).

ص: 174

الناس على سنن التوسط والانحراف عنه بالغلو أو بالجفاء يسبغ المشروعية على أشكال مجافية لحقائق الشريعة، ورسوخ مثل هذه المفاهيم له آثاره الوخيمة على المجتمع.

لقد كانت البيئة التي نشأ فيها الفقه في أدواره الأولى بيئة ولادة تعين المتفقه وتدعم الفقيه، بحيث تنبعث في الناس النُّهمة لطلب العلم والحرص على الفقه في الدين، وما أكثر ما نجد في تراجم أئمة الفقهاء الدعم النفسي والمادي الذي يتلقونه من أبويهم لأجل الانشغال بالتعلم والتفقه

(1)

، كما أن البيئة الاجتماعية برمتها كانت مشجعة على ذلك ومحفزة له، فسوق العلم رائجة، وللفقه رونقه وبهاؤه، والأوقاف تتكفل بدعم المدارس والمعلمين والطلبة

(2)

. وفي حالة ضعف الدعم المادي فإن النفوس يقوم بها من الدافع الذاتي ومحبة العلم ما يحملها على التعلم مع ضيق الحال، ويعبر عن هذا ابن سعيد المغربي (ت 685 هـ) فيما ينقله عنه الشهاب المقري (ت 1041 هـ) فيقول: (وأما حال أهل الأندلس في فنون العلوم فتحقيق الإنصاف في شأنهم في هذا الباب أنهم أحرص الناس على التميز، فالجاهل الذي لم يوفقه الله للعلم يجهد أن يتميز بصنعة، ويربأ بنفسه أن يرى فارغًا عالةً على الناس؛ لأن هذا عندهم في نهاية القبح، والعالم عندهم معظّم من الخاصة والعامة، يشار إليه ويحال عليه، وينبه قدره وذكره عند

(1)

انظر على سبيل المثال: الجامع، الخطيب البغدادي (1/ 384).

(2)

انظر: التربية والتعليم في العراق حتى نهاية العصر العباسي، د. بشار عواد معروف (86).

ص: 175

الناس، ويكرم في جوار أو ابتياع حاجة وما أشبه ذلك. ومع هذا فليس لأهل الأندلس مدارس تعينهم على طلب العلم، بل يقرؤون جميع العلوم في المساجد بأجرة، فهم يقرؤون لأن يعلموا لا لأن يأخذوا جاريًا، فالعالم منهم بارع لأنّه يطلب ذلك العلم بباعث من نفسه يحمله على أن يترك الشغل الذي يستفيد منه، وينفق من عنده حتى يعلم، وكل العلوم لها عندهم حظ واعتناء)

(1)

، بل لقد كان بعض فقهاء المغاربة يرى أن بناء المدارس فيه إفساد للتعليم؛ لأنه قد يتصدر فيها غير الأكفاء بالتوارث والرئاسات والحرص على الجرايات والأوقاف لا على العلم والتعليم

(2)

.

وقد كان الفقيه في تلك البيئة الحية في أدوار الفقه الأولى تثبت أهليتُه من خلال تميزه وجدارته لا من خلال تعيين رسمي أو وراثة لمنصب علمي، وربما حاز شهادة تميزه من شيوخه في العلم والفقه فأحالوا إليه وأرشدوا إلى الأخذ عنه.

كان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: تسألوني وفيكم عمرو بن أوس؟

(3)

.

وقدم ابن عمر رضي الله عنه مكة فسألوه فقال: تسألوني وفيكم ابن أبي رباح؟

(4)

.

وكان ابن عباس رضي الله عنه يقول لأهل البصرة: تسألوني وفيكم

(1)

نفح الطيب، المقري (1/ 220).

(2)

انظر: نيل الابتهاج بتطريز الديباج، أحمد بابا التنبكتي (414).

(3)

انظر: السُّنِّة، عبد الله بن الإمام أحمد (2/ 500).

(4)

انظر: طبقات الحفاظ، السيوطي (46).

ص: 176

جابر بن زيد؟

(1)

، وسأله رجل مصري عن مسألة فقال رضي الله عنه: تسألوني وفيكم ابن حجيرة؟ يعني: عبد الرحمن بن حجيرة الخولاني

(2)

، وكان رضي الله عنه بعدما عمي إذا أتاه أهل الكوفة يسألونه قال: تسألوني وفيكم ابن أم دهماء؟ يعني: سعيد بن جبير

(3)

.

وسأل سائل عطاء بن أبي رباح عن مسألة فقال: ممن أنت؟

فقال: من أهل البصرة، فقال عطاء: تسألوني وفيكم قتادة

(4)

.

واستفتى رجل سعيد بن جبير فقال: أتستفتوني وفيكم إبراهيم؟ يعني: النخعي

(5)

.

وهذه العناية الظاهرة بالعلم والفقه نتيجة لمعرفة أثر الفقه في المجتمع والحياة واستحضار ما يترتب على كفاءة الفقيه وعدم كفاءته من الأحوال الصالحة والفاسدة، ولذا فقد كان أهل العلم يشددون في شرط الأستاذ والطالب على حدٍّ سواء، ويؤكدون على أهمية التزام منهجية منضبطة في التفقه والتعلم يتلقاها المتفقه عن الشيوخ الأكابر الذين يتعاهدون ملكة الفقه في نفوس طلابهم ويرعونها حتى تنضج وتعود كالخلق الراسخ فتمتد بذلك أسباب الوراثة العلمية الراشدة

(6)

.

(1)

انظر: حلية الأولياء، أبو نعيم (3/ 86).

(2)

انظر: أخبار القضاة، وكيع (633).

(3)

انظر: الطبقات الكبرى، ابن سعد (8/ 375).

(4)

انظر: الأسامي والكنى، الحاكم الكبير (3/ 55).

(5)

انظر: الطبقات الكبرى، ابن سعد (8/ 389).

(6)

انظر: الموافقات، الشاطبي (1/ 142)، وانظر الفصل الذي عقده ابن خلدون في: أن الرحلة في طلب العلوم ولقاء المشيخة مزيد كمال في التعليم، المقدمة (5/ 289).

ص: 177

لقد كان العلماء يشددون في شرط المدرس ويشترطون له الشروط والصفات والمؤهلات الصعبة ويعقدون له امتحانات التدريس

(1)

؛ وذلك لعلمهم بخطورة هذه الوظيفة ومدى ما يترتب عليها من النفع والضرر العام

(2)

. وجاء في سيرة سحنون (ت 240 هـ): أنه كان يعزل الصفرية والإباضية المغيرية أن يكونوا أئمة للناس أو معلمين لصبيانهم

(3)

.

ومن أعظم شروط المعلم حسن خلقه وموافقة عمله لعلمه، فإن قوام الأمة بأخلاقها وإذا ضعفت الفضيلة في معلميها أسرع الداء إلى عامتها، وإذا ذهب وقت التعليم عن الطلبة ولم يتلقوا فيه فضائل الأخلاق فمن العسير أو المتعذر تلقينها لهم من بعد

(4)

. وهذه الأخلاق الزاكية متى اجتمعت مع العلوم الراسخة أثمر ذلك معنى البركة في العلم والتعلم، وامتد أثر ذلك إلى ملاقاة التعليم لغاياته ومقاصده، وقد ذكر في ترجمة الفقيه الحنبلي

(1)

هذا الامتحان يختلف من مدرسة لأخرى ومن مكان لمكان وزمان لزمان، وربما جرى الاستغناء عنه عند اشتهار الفقيه واستفاضة علمه وفضله أو تزكيته من شيوخه، واشتراطه مهم عند ضعف الحركة التعليمية؛ ويكثر أن يضعه أهل العلم عندما يلاحظون تطرق الضعف والفتور العلمي إلى الجامع أو المدرسة. انظر: تاريخ الإصلاح في الأزهر، عبد المتعال الصعيدي (34)، وربما جرى هذا الامتحان في بعض الأحيان من قبل السلاطين، كما في امتحان السلطان أبي الحسن المريني لفقهاء تونس. انظر: منهاج تدريس الفقه، د. مصطفى صادقي (159).

(2)

انظر: النقد الذاتي، علال الفاسي (377)، إعداد مدرس التربية الإسلامية، د. محمد الزحيلي (56).

(3)

انظر: ترتيب المدارك، القاضي عياض (4/ 60).

(4)

انظر: أليس الصبح بقريب، ابن عاشور (108).

ص: 178

ابن سطور البرزبيني (ت 486 هـ): أنه كان (مبارك التعليم، لم يدرس عليه أحد إلا أفلح وصار فقيهًا)

(1)

. والفقهاء الربانيون لا يتخذون من تعليم الفقه حرفة أو مهنة أو مصدرًا للكسب، بل هي لديهم رسالة وأمانة وعهد وميثاق متصل بالنبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، ولذا فهمتهم مجتمعة على أن يفقه الناس عنهم ويتلقوا ما لديهم من العلم فيعملوا به فتصلح به أحوالهم، وقد كان الإمام الشافعي (ت 204 هـ) يقول لتلميذه الربيع بن سليمان:(يا ربيع لو قدرت أن أطعمك العلم لأطعمتك إياه)

(2)

، وكان القاضي أبو يوسف يقول لأصحابه:(لو استطعت أن أشاطركم ما في قلبي لفعلت)

(3)

.

(1)

الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب (1/ 167).

(2)

انظر: جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر، باب في ابتداء العالم جلساءه بالفائدة (753).

(3)

انظر: حسن التقاضي في سيرة الإمام أبي يوسف القاضي، الكوثري (19).

ص: 179

من عجائب هذا الزمان أن الكثير من أهله يشكون فشوَّ الضعف في الذين يتولون الوظائف والخطط الدينية من إفتاء وقضاء وتعليم ووعظ وسوى ذلك، ويتذمرون من فساد التصورات والأحوال الذي ينشأ من ذلك الضعف، ومع ذلك فتنتشر في الناس قناعة مفادها أن الكليات والمعاهد الشرعية والإنسانية بوجه عام هي كليات من لا كلية له، وأن الدراسة فيها ميسَّرة وسهلة أو يجب أن تكون كذلك على أقل تقدير، واجتماع هاتين الحالتين المتناقضتين من العجائب، فإننا إذا تيقنا الأثر الكبير لكفاءة الفقيه وأهليته في صلاح الحياة العامة فإن من اللازم الشرعي والعقلي أن يشدد في شرط الذين يهيأون لهذه الوظائف، وإذا كان الناس يشددون في شرط الطبيب الذي يعالج الأبدان فإن التشديد في شرط الفقيه الذي يسهم في تشكيل التصورات العامة للمجتمع أولى وأحرى. وما طول شكوى الناس من بعض الوعاظ والأئمة والمفتين غير المؤهلين لهذه الوظائف إلا ثمرة من ثمرات التساهل في هذا الشرط أول مرة.

ص: 180

لقد كان شرط الفقيه عند العلماء فيما مضى صعبًا لعلمهم بعظم مسؤوليته، والواقع يشهد أنه كلما جرى التشديد في شرط الفقيه كانت الأحوال العامة أصلح وأسد، ومتى جرى التساهل فيه ساءة الحال تبعًا. ومن صور هذا التشديد ما حكاه الونشريسي (ت 914 هـ) في فتاوى بعض علماء المغرب أن الدارس إذا سكن في المدرسة عشرة أعوام ولم تظهر نجابته أخرج منها جبرًا لأنه يعطل الحبس

(1)

.

فالتعلم والتفقه عندهم لم يكن أمرًا شكليًا خاضعًا لإجراءات ورسوم محضة، بل كان تعليمًا مصحوبًا بالتدريب الفقهي الذي يتأكد من فهم المتفقه واستيعابه، كما ينمي الملكة في نفس التلميذ ويتعاهدها ويختبرها. قال حماد بن أبي سليمان (ت 120 هـ):(كنت أسأل إبراهيم عن الشيء فيعلم أني لم أفهمه فيقيس لي حتى أفهم) قال الخطيب (ت 463 هـ) معلقًا: (وأحسب أن إبراهيم أخذ هذه الطريقة عن علقمة بن قيس)، وذكر بعده: أن علقمة بن قيس (ت 62 هـ) كان يقول لإبراهيم النخعي (ت 96 هـ): (إذا أردت أن تعلم الفرائض فأمت جيرانك)

(2)

. وكان لهم تمييز بين المتفقهين وسواهم من حملة العلم، قال أنس بن سيرين (ت 120 هـ):(أتيت الكوفة فرأيت فيها أربعة آلاف يطلبون الحديث وأربعمائة قد فقهوا)

(3)

.

(1)

انظر: المعيار المعرب، الونشريسي (7/ 7).

(2)

الفقيه والمتفقه، باب آداب التدريس (946).

(3)

انظر: المحدث الفاصل بين الراوي والواعي، الرامهرمزي (560).

ص: 181

ومن أمثلة التدريب الفقهي ما كان يفعله أبو حنيفة (ت 150 هـ) مع أصحابه في مدارسة المسائل، حيث يذكر في المسألة احتمالًا ويؤيده بالأدلة ثم يسألهم معارضته، فإذا سلموا له نقضه بنفسه حتى يقنعهم بصواب الثاني، ثم يطلب المعارضة فإذا سلموا له نقضه بثالث ثم رجح بينها بأدلة ناهضة

(1)

. وكان أصحابه يتناظرون بينهم ويتطارحون الفقه حتى تعلو أصواتهم. قال سفيان بن عيينة (ت 198 هـ): (مررت بأبي حنيفة في المسجد وإذا أصحابه حوله قد ارتفعت أصواتهم، فقلت: ألا تنهاهم عن رفع الصوت في المسجد؟ قال: دعهم فإنهم لا يتفقهون إلا بهذا)

(2)

.

وكان له عناية بالغة بأصحابه، حتى قال الموفق المكي (ت 568 هـ):(فوضع أبو حنيفة رحمه الله مذهبه شورى بينهم لم يستبد فيه بنفسه دونهم اجتهادًا منه في الدين ومبالغة في النصيحة لله ورسوله والمؤمنين، فكان يلقي المسائل مسألة مسألة يقلبهم ويسمع ما عندهم ويقول ما عنده، ويناظرهم شهرًا أو أكثر حتى يستقر أحد الأقوال فيها، ثم يثبتها القاضي أبو يوسف في الأصول حتى أثبت الأصول كلها)

(3)

. وكان من ثمرة هذه العناية والاهتمام أن كان هؤلاء الأصحاب محل ثقته حتى قال لهم مرةً: (أنتم مسارُّ قلبي وجلاء حزني، وأسرجت لكم الفقه ألجمته، وقد تركت الناس يطؤون أعقابكم ويلتمسون ألفاظكم، ما منكم واحد

(1)

انظر: حسن التقاضي في سيرة الإمام أبي يوسف القاضي، الكوثري (13).

(2)

انظر: مناقب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه، الذهبي (35).

(3)

مناقب الإمام الأعظم أبي حنيفة، الموفق المكي (2/ 133).

ص: 182

إلا وهو يصلح للقضاء. فسألتكم بالله وبقدر ما وهب الله لكم من جلالة العلم لما صنتموه عن ذل الاستئجار، وإن بلي أحد منكم بالقضاء فعلم من نفسه خربة سترها الله عن العباد لم يجز قضاؤه ولم يطب له رزقه، فإن دفعته ضرورة إلى الدخول فيه فلا يحتجبن عن الناس، وليصل الخمس في مسجده وينادي عند كل صلاة: من له حاجة؟ فإذا صلى العشاء نادى ثلاثة أصوات: من له حاجة؟ ثم دخل إلى منزله، فإن مرض مرضًا لا يستطيع الجلوس معه أسقط من رزقه بقدر مرضه، وأيما إمام غلَّ فيئًا أو جار في حكم بطلت إمامته ولم يجز حكمه)

(1)

. وهذا التعاهد للتلاميذ والحرص عليهم والاهتمام بهم من أعظم أسباب رسوخ الفقه وانتقاله من الأكابر إلى الأصاغر بطريقة منهجية معتبرة، وكانت قدرة الفقيه على تربية طلابه وتعليمهم سببًا في بقاء فقهه وانتشاره.

مرَّ الشعبي (ت 105 هـ) يومًا بإبراهيم النخعي (ت 96 هـ) فقام له إبراهيم عن مجلسه، فقال له الشعبي: أما إني أفقه منك حيًا وأنت أفقه مني ميتًا، وذاك أن لك أصحابًا يلزمونك فيحيون علمك

(2)

.

وقد ورث تلامذة أبي حنيفة شيئًا من طريقته في التعليم وصبره على الطلاب، فقد حكى الحسن بن زياد (ت 204 هـ) فقال: كنت أختلف إلى زفر (ت 158 هـ) وإلى أبي يوسف (ت 182 هـ) في الفقه، وكان أبو يوسف أوسع صدرًا بالتعليم من

(1)

انظر: مناقب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه، الذهبي (28).

(2)

انظر: سير أعلام النبلاء، الذهبي (4/ 526).

ص: 183

زفر، فكنت أبدأ بزفر فأسأله عن المسألة التي تشكل على فيفسرها لي فلا أفهمها، فإذا أعييته قال: ويحك! ما لك صناعة؟ ما لك ضيعة؟ ما أحسبك تفلح أبدًا. قال: فأخرج من عنده وقد فترت واغتممت، فآتي أبا يوسف فيفسرها لي، فإذا لم أفهمها قال لي: ارفق، ثم يقول لي: أنت الساعة مثلك حين بدأت؟ فأقول له: لا، قد وقفت منها على أشياء وإن كنت لم أستتم ما أريد، فيقول لي: فليس من شيء ينقص إلا يوشك أن يبلغ غايته، اصبر فإني أرجو أن تبلغ ما تريد. قال: فكنت أعجب من صبره

(1)

.

إن الفهم ورسوخ العلم في قلب المتعلم هو الثمرة المرجوة بالتعليم لا مجرد حفظ المسائل وعدها، وترتُّبُ الآثار النافعة للفقه موقوف على تشبع الدارس بروح الفقه وفهمه لمسائله لا على مجرد التلقين، وقيام أحوال الناس على قواعد الشريعة المستقرة مفتقر إلى فقهاء مقتدرين متضلعين بروح الشريعة وغاياتها، لا إلى حفظة نصوص فقهية يجمعونها ثم لا يحسنون تنزيلها ويقصرون الفقه عليها وينزعون اسم الفقه عمن خالفها، فيفضي بهم ذلك إلى فساد الدين والدنيا. وإن من أهم ما ينبغي إصلاحه في تعليم الفقه ألا يكون معيار التقويم كميًا فحسب، فيقاس نجاح الدارس بعدد الساعات التي اجتازها أو المقررات التي درسها، بل ينبغي أن تضاف إلى ذلك العناصر التدريبية كالتخريج الفقهي والقياس والترجيح المستند إلى القواعد الأصولية

(1)

انظر: حسن التقاضي في سيرة الإمام أبي يوسف القاضي، الكوثري (19).

ص: 184

المعتبرة والتمثيل والاستنتاج والربط والتحليل والجمع والفرق والمناظرة وغيرها من الملكات الفقهية التي من خلالها يعلم مدى فقه الدارس وفهمه وقدرته على الانتفاع بعلمه

(1)

. وهذه الملكات وأشباهها لا تتلقى بالتلقين المحض، بل هي مفتقرة إلى فقهاء يدربون المتفقهين ويربونهم عليها، ولذا قد كان من عادة المتفقهين في الماضي ملازمة الشيوخ وطول صحبتهم متى آنسوا الفائدة من ذلك بالتزود من علومهم وهديهم. قال الإمام مالك (ت 179 هـ):(كان الرجل يختلف إلى الرجل ثلاثين سنة يتعلم منه)

(2)

، وهذا الاختلاف وطول الملازمة لا تغني عنه مطالعة الكتب فإن الملكة قلما تنتقل بذلك، وإذا قال أصحاب التراجم في ترجمة أحد الفقهاء (تفقه بفلان) فإنهم لا يعنون مجرد الدراسة عنده فحسب، بل هم يشيرون بذلك إلى اكتساب الملكة والمهارة، وهذا معنى قول القائل:(كان العلم في صدور الرجال، ثم انتقل إلى الكتب ومفاتحه بأيدي الرجال)

(3)

. وقد ذكر في ترجمة ابن أبي الخيار العبدري القرطبي (ت 529 هـ) أن أبا القاسم بن الحاج قرأ عليه المدونة تفقهًا وعرضًا أعوامًا

(4)

، وقال المازري (ت 536 هـ) في إشارة إلى تجربة شخصية له في التدريب:

(1)

انظر: مقررات فقه القضايا المعاصرة بين الواقع والمأمول-ورقة منشورة على الشبكة العالمية، د. عامر بهجت (52).

(2)

انظر: حلية الأولياء، أبو نعيم (6/ 320).

(3)

انظر: الموافقات، الشاطبي (1/ 147).

(4)

انظر: التكملة لكتاب الصلة، ابن الأبار (1/ 350).

ص: 185

(ورأيت أن أملي تلخيصًا في الفرائض يستقل به الفقيه إذا اقتصر عليه وتدرب في التصرف فيه أغناه عن جميع مسائل الفرائض المستفتي عنها، وقد حفظته لجماعة ودربتهم عليه بإلقاء المسائل فاكتفوا به عن مطالعة الفرائض)

(1)

، كما يذكر أيضًا أنه كان من الطريقة المتبعة عند الفقهاء أن تقرأ عليهم كتب الحديث لأجل التدريب على كيفية الاستنباط منها، فيقول:(وكثيرًا ما يعول فقهاء الزمان على قراءة من يقرأ كتبهم بين أيديهم، ولكن أكثر فقهاء الزمان كثيرًا ما تقرأ عليهم بعض كتب الحديث ليستمع كلامهم على فقهها، ويتعلم منهم كيفية الاستنباط من أحاديثها)

(2)

.

ويقول القرافي (ت 684 هـ) في تأكيد هذا المعنى وبيان أهميته والتحذير من التساهل فيه: (فإن القواعد ليست مستوعبة في أصول الفقه، بل للشريعة قواعد كثيرة جدًا عند أئمة الفتوى والفقهاء لا توجد في كتب أصول الفقه أصلًا، وذلك هو الباعث على وضع هذا الكتاب لأضبط تلك القواعد بحسب طاقتي، ولاعتبار هذا الشرط يحرم على أكثر الناس الفتوى فتأمل ذلك فهو أمر لازم، وكذلك كان السلف رضي الله عنه متوقفين في الفتيا توقفًا شديدًا. وقال مالك رحمه الله: لا ينبغي للعالم أن يفتي حتى يراه الناس أهلًا لذلك، ويرى هو نفسه أهلًا لذلك. يريد: تثبت أهليته عند العلماء ويكون هو بيقين مطلعًا على ما قاله العلماء في حقه

(1)

المعلم بفوائد مسلم (2/ 343)، وانظر: منهاج تدريس الفقه، د. مصطفى صادقي (115) وما بعدها.

(2)

إيضاح المحصول من برهان الأصول، المازري (498).

ص: 186

من الأهلية؛ لأنه قد يظهر من الإنسان أمر على خلاف ما هو عليه، فإذا كان مطلعًا على ما وصفه به الناس حصل اليقين في ذلك. وما أفتى مالك حتى أجازه أربعون محنكًا؛ لأن التحنك وهو اللثام بالعمائم تحت الحنك شعار العلماء، حتى إن مالكًا سئل عن الصلاة بغير تحنك فقال: لا بأس بذلك، وهو إشارة إلى تأكد التحنيك، وهذا هو شأن الفتيا في الزمن القديم. وأما اليوم فقد انخرق هذا السياج، وسهل على الناس أمر دينهم فتحدثوا فيه بما يصلح وما لا يصلح، وعسر عليهم اعترافهم بجهلهم وأن يقول أحدهم: لا أدري، فلا جرم آل الحال للناس إلى هذه الغاية بالاقتداء بالجهال)

(1)

.

واستحضار مثل هذه المعاني يشعرنا بعلو مرتبة الاجتهاد والفتيا وأنها ليست مخولة لكل أحد ولو درس الفقه بأكمله، فإن الفقه ليس معرفة مجردة بل هو ملكة يزكيها العلم وينميها ويشرف الفقهاء الأكابر على رعايتها ونضجها، والعلماء إذا ذكروا أن الاجتهاد في العصور المتأخرة بات أيسر منه فيما مضى من العصور الأولى

(2)

، فإنهم لا يقصدون بذلك أنه صار يسيرًا بإطلاق بل هو بالمحل الأعلى، وقصدهم في ذلك أن الجهود العلمية التي قام بها علماء القرون الأولى من جمع السُّنِّة وتمحيصها واستقراء الأصول والقواعد ذللت الكثير من المصاعب

(1)

الفروق (2/ 546).

(2)

انظر على سبيل المثال: الروض الباسم في الذب عن سُنَّة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم، ابن الوزير (1/ 71).

ص: 187

التي كانت تواجه المجتهدين، ولكن فهم هذه القواعد والأصول بحد ذاتها لا يتم إلا باستفراغ الوسع كما يقول الأصوليون في تعريف الاجتهاد، والاجتهاد نفسه ليس بالسهل الهين الذي يبلغه الإنسان بدراسة كتاب أو كتب، بل هو قلة شامخة تبقى العين دونها حسرى، والكثير من الناس في ذلك بين مفْرط ومفرِّط، والوسط هو الحسنة بين السيئتين

(1)

.

(1)

انظر: تراجم ستة من فقهاء العالم الإسلامي، عبد الفتاح أبو غدة (41)، محتكمات الخلاف الفقهي، د. محمد هندو (17).

ص: 188