الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 - الفقيه والمجتمع
((قدمت دمشق وما أنا بشيء من العلم أعلم مني بكذا-لبابٍ ذكره من أبواب العلم-قال: فأمسك أهلها عن مسألتي حتى ذهب)).
مكحول [جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر: 533]
((الناس في العادة إنما يعتمدون قول من اشتهر بالعلم وقلما يعتمدون غيرهم، وربما يستخفُّ بعضهم بما يسمعه ممن لم يشتهر بالعلم)).
قاضي بغداد محمد بن سماعة
[الاكتساب في الرزق المستطاب لمحمد بتلخيص ابن سماعة: 44]
((وله من الطرف الآخر محبون من العلماء والصلحاء، ومن الجند والأمراء، ومن التجار والكبراء، وسائر العامة تحبه؛ لأنه منتصب لنفعهم ليلًا ونهارًا بلسانه وقلمه)).
قالها الحافظ الذهبي في شيخ الإسلام ابن تيمية
[الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب: 4/ 506]
((وأما قواعد أهل الأندلس في ديانتهم فإنها تختلف بحسب الأوقات والنظر إلى السلاطين، ولكن الأغلب عندهم إقامة الحدود وإنكار التهاون بتعطيلها، وقيام العامة في ذلك وإنكاره إن تهاون فيه أصحاب السلطان، وقد يلج السلطان في شيء من ذلك ولا ينكره، فيدخلون عليه قصره المشيد ولا يعبأون بخيله ورجله حتى يخرجوه من بلدهم، وهذا كثير في أخبارهم. وأمّا الرجم بالحجر للقضاة والولاة للأعمال إذا لم يعدلوا فكلّ يوم)).
[نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، المقري: 1/ 219]
علم الفقه علم يحتم على الفقيه أن يكون مخالطًا لمجتمعه ومشاركًا له، فهو ليس من العلوم التجريدية البحتة التي يمكن للمتخصص إحكامها من طريق النظر العقلي المحض، بل هو علم يقوم على مباشرة الفقيه لأسباب الحياة ومعرفته بأحوال الناس، ولولا ذاك ما صح أن يؤمر الناس بالرجوع إليه في معرفة أحكام الشريعة. والناظر في أدلة الفقه الأصلية يجدها ذات صلة بواقع الناس ومعاشهم؛ كدليل (المصلحة) ودليل (العرف) ودليل (سد الذرائع) ودليل (الاستحسان)، فضلًا عن العملية الاجتهادية التي يسميها الأصوليون (تحقيق المناط) والتي تعني تطبيق القاعدة التشريعية على الواقع العملي الذي يتمكن الفقيه من معرفته بالمخالطة لا بالعزلة
(1)
.
ولذلك فإن الفقهاء كانوا ينبهون على ضرورة معرفة الناس
(1)
انظر: الجوانب التربوية في أصول الفقه الإسلامي، د. مصطفى البغا (154) و (186).
وعوائدهم، ويؤكدون أن معرفة واقعهم شرط من شروط الإفتاء.
ويمكن شرح ذلك والتمثيل له من خلال كلام فقيه من فقهاء المالكية أفاض في بيان أهمية دخول الفقهاء للأسواق وممارستهم لها ومعرفتهم بما يدور فيها؛ لان إصلاح أحوال الناس لا يتأتى إلا بالمخالطة. فنجد الفقيه المالكي أبا عبد الله ابن الحاج (ت 737 هـ) ينبه في كتابه ((المدخل)) أنه لا ينبغي للفقيه الذي يبحث في مسائل البيوع والأحكام في الربويات وغير ذلك في الدروس ويستدل ويجيز ويمنع ويكره، أن يخرج من درسه ليستعمل في قضاء حاجته من السوق صبيًا صغيرًا أو غيره ممن لا علم له بالأحكام الشرعية، مع ما قد عُلم من جهل أكثر البياعين بالأحكام الشرعية، ومن اشتمال السوق على مفاسد وأشياء لا يجوز شراؤها جملة، وسبب وجود هذه المفاسد ترك السؤال من العامة من جهة، وترك تفقد العلماء بالتنبيه على هذه المفاسد عند مبدأ أمرها من الجهة الأخرى، فاستحكمت المفاسد ومضت عليها العوائد الرديئة
(1)
. ثم يقول بعد ذكر أمثلة لتفقد العلماء وسؤالهم: (فانظر رحمنا الله تعالى وإياك إلى بركة تفقد العلماء للحوادث التي تحدث في زمانهم كيف يتلقونها بهذا التلقي الحسن الجميل، فلو بقي العلماء على طرف من ذلك لكانت هذه المواد تنحسم أو يقل فاعلها، ولكن السكوت من العلماء وعدم السؤال من العامة لهم أوجب ذلك وصار متزايدًا وفقنا الله لمرضاته
…
(1)
انظر: المدخل، ابن الحاج (2/ 68 - 71).
فإذا كان ذلك كذلك فيتعين على العالم أن يتصرف بنفسه في قضاء مآربه إن قدر خيفة من المفاسد أن تدخل عليه ولوجوه أخرى نذكر بعضها، وإن كانت بينة جلية لغير العالم فكيف العالم؟ فمنها: إذا خرج من بيته لشيء مما ذكر فينوي بذلك اتباع السُّنِّة في الخروج إلى السوق واتباع السُّنِّة في قضاء حاجته بيده لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يباشر ذلك بنفسه الكريمة، ثم يضيف إلى ذلك نية التواضع مع إخوانه المسلمين ونية الاقتداء بهم وإرشادهم وتعليمهم وتهذيبهم ودفع المضار عنهم وسلامتهم من دخول الربا عليهم
…
فإذا كان العالم يباشرهم في ذلك انحسمت مادة المفاسد وقلَّ وقوعها ببركة العلم الذي يدور بينهم
…
والخروج إلى السوق من شعار الصلحاء والأولياء والعلماء المتقدمين رحمة الله عليهم أجمعين. قال مالك رحمه الله تعالى: كان ذلك من شأن الناس يخرجون إلى السوق ويقعدون فيه. انتهى. وما سمي السوق سوقًا إلا لنفاق السلع فيه في الغالب، وأكبر سلع المؤمن التي يطلب ربحها تعلمه وتعليمه وإرشاده لنفسه ولغيره، وذلك في الغالب موجود في الأسواق لكثرة وجود إخوانه فيها، وفيهم العالم بما يحاوله والجاهل بذلك، ألا ترى أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا في الأسواق يتَّجِرون وفي حوائطهم يعملون؟ وعلى هذا استمر علماء الأمة وسلفها.
فإن قال قائل: كيف يمكن تعليم العلم في الأسواق؟ وذلك امتهان لحق العلم ونقص لحرمة العالم واستهانة بقدرهما! وأهل الأسواق مع ذلك لا يسألون في الغالب، وبذل العلم إنما يجب
إذا سئل عنه لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].
فالجواب أن يقال: إن العالم يتعين عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا خفاء في أن ترك السؤال وترك التعليم المنكر البين، فيتعين على العالم أن ينهى عن ذلك وأن ينصح إخوانه المسلمين مع التلطف لهم وامتثال أمر الله تعالى فيهم، ومن جملة ذلك: تعليم جاهلهم والتعليم في الأسواق أكثر بيانًا من غيرها لوجود العلم والعمل معًا؛ لأن العلم الذي يتعلمه البائع إنما هو في الغالب في السلع التي في دكانه والغالب أنه لا ينساه)
(1)
.
وعلى كلٍّ فالفقهاء يؤكدون دومًا على أهمية مراعاة العوائد والأعراف عند تنزيل الأحكام، وعلى عدم الاكتفاء بما هو مدون في كتب الفقه دون اعتبار واقع الناس وحالهم
(2)
، ولا بد في هذا السياق من التنبه إلى الفرق بين مدونات الفقه التجريدية وبين مدوناته التطبيقية التي تتمثل في كتب الفتاوى والنوازل والمسائل والأجوبة
(3)
، فإن كتب الفتاوى لا تكتفي بذكر الحكم أو القاعدة
(1)
انظر: المدخل، ابن الحاج (2/ 81 - 84)، وقد ذكر بعد ذلك قصة شيخ المالكية أبي بكر الطرطوشي وسبب مقامه بمصر، كمثالٍ على الفقيه العامل الذي يخالط الناس ويصبر عليهم، وينشر العلم والفقه فيهم.
(2)
انظر: فقه الواقع وأثره في الاجتهاد، ماهر حصوة (73).
(3)
ومن هذا ما يسميه بعض الفقهاء الفرق بين فقه الفتيا وعلم الفتيا أو فقه القضاء وعلم القضاء، انظر: الأشباه والنظائر، ابن نجيم (460).
التجريدية بل تراعي الجانب الواقعي عند التنزيل من خلال الالتفات إلى الأصول والمعاني الشرعية التي من شأنها أن تختلف، كاعتبار الحاجة والضرورة والعرف وعموم البلوى ونحوها، ولذا فإن كتب الفتاوى والنوازل أصبحت تعتبر في الكثير من الأحيان من ضمن المصادر التاريخية التي يكشف بها الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للحقبة التي كتبت فيها
(1)
.
والفقهاء عندما يعايشون الناس ويخالطونهم ويفتونهم ويوجهونهم فهم يعدون ذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمفهوم يقتضي تعليم الناس وإرشادهم وتفقيههم في دينهم وحثهم على البر والإحسان وقضاء الحوائج والمشاركة الإيجابية الفاعلة في الحياة بوجه عام، أما النهي عن المنكر فيقتضي منهم تنبيههم إلى ما يقعون فيه من خطأ أو ظلم على الصعيد الشخصي أو على الصعيد العام، فكانوا بذلك يمارسون شيئًا أشبه بالتصحيح والنقد الذاتي لحركة المجتمع وإصلاح أحواله، وبذلك أحبهم الناس ونالوا لديهم مكانة كبرى ووجاهة عظمى
(2)
.
(1)
انظر: الاجتهاد بتحقيق المناط وسلطانه في الفقه الإسلامي، عبد الرحمن زايدي (558)، فقه النوازل عند المالكية، د. مصطفى الصمدي (210). وللدكتور صالح العلي بحث في (أهمية كتب الفقه في دراسة التاريخ) نشره في مجلة القضاء العراقية في العدد الثاني لعام (1954 م).
(2)
انظر: دور الفقهاء في الحياة السياسية والاجتماعية بالأندلس في عصري الإمارة والخلافة، د. خليل الكبيسي (209)، آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي، جمع د. أحمد طالب الإبراهيمي (1/ 283).
قال الحافظ ابن رجب (ت 795 هـ) في ترجمة الحافظ عبد الغني المقدسي (ت 600 هـ): (سمعت أبا الثناء محمود بن سلامة الحراني بأصبهان قال: كان الحافظ بأصبهان يصطف الناس في السوق فينظرون إليه، وسمعته يقول: لو أقام الحافظ بأصبهان مدة وأراد أن يملكها لملكها؛ يعني: من حبهم له ورغبتهم فيه)
(1)
.
فالفقهاء شديدو الحرص على تحصيل مصالح الناس العامة وحفظها وتقديمها على المصالح الخاصة والشخصية، ولا نكاد نحصي من يذكر في ترجمته أنه كان متصديًا لنفع الناس بعلمه ونصحه وماله وجاهه ووقته، ولأن الفقهاء من الناس فهم موجودن في كافة الطبقات الاجتماعية
(2)
، واهتماماتهم متفاوتة وهم مع ذلك يسعون في نفع الناس بما يستطيعون، ولهم مجالس مفتوحة في جوامعهم ومدارسهم وبيوتهم يقصدها الناس في كافة شؤونهم، ومن يستعرض كتب النوازل يجد أن الفقهاء كانوا على وعي بمسؤوليتهم الاجتماعية
(3)
، ولذا كان للفقه عند عامة الناس
(1)
الذيل على طبقات الحنابلة (3/ 18).
(2)
انظر: مهن الفقهاء في صدر الإسلام وأثرها على الفقه والفقهاء، د. محمد التميم (190).
(3)
انظر: علماء الإسلام في الماضي قوة حاضرة في جل الأنظمة، إبراهيم حركات، ضمن مجموع ((التاريخ والفقه: أعمال مهداة إلى المرحوم محمد المنوني)) (100)، وراجع في معرفة شيء من أثر المجالس العلمية للفقهاء: كيف ربى المسلمون أبناءهم، محمد شعبان أيوب (257).
رونق ووجاهة، وكانت (سمة الفقيه عندهم جليلة) كما يصف الشهاب المقَّري أهل الأندلس
(1)
.
فمن ذلك ما ذكر في ترجمة الفقيه الشافعي بهاء الدين محمد الحواري (ت 889 هـ): من أنه كان دائم البشر حسن المعاشرة، متصديًا لنفع المسلمين إفتاءً وتدريسًا وإصلاح ذات البين
(2)
.
ومنه ما ذكر في ترجمة قاضي مالقة محمد بن عسكر الغساني (ت 636 هـ): من أنه كان معظمًا عند الخاصة والعامة، حسن الخلق جميل العشرة رحيب الصدر، مسارعًا إلى قضاء الحوائج، محسنًا إلى من أساء إليه، نفاعًا بجاهه سمحًا بذات يده
(3)
.
كما وُصف الفقيه ابن أبي زمنين (ت 398 هـ) بأنه كان أمةً في الخير معينًا على النائبة، مواسيًا بجاهه وماله
(4)
.
ووصف أبو الوليد بن رشد الجد (ت 520 هـ): بأن الناس كانوا يلجؤون إليه ويعولون في مهماتهم عليه، وكان حسن الخلق سهل اللقاء، كثير النفع لخاصته وأصحابه جميل العشرة لهم حافظًا لعهدهم كثيرًا لبرهم
(5)
.
(1)
نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب (1/ 221).
(2)
انظر: تاريخ البصروي (97).
(3)
انظر: الإحاطة في أخبار غرناطة، لسان الدين بن الخطيب (2/ 172).
(4)
انظر: الديباج المذهب، ابن فرحون (2/ 232).
(5)
انظر: الصلة، ابن بشكوال (3/ 840).
وذكر الحافظ أبو حفص البزار (ت 749 هـ) في ترجمة شيخ الإسلام بن تيمية (ت 728 هـ): أنه كان إذا رآه أرباب المعايش يتخبطون من حوانيتهم للسلام عليه، وهو مع هذا يعطي كلًا منهم نصيبًا وافرًا من السلام وغيره، وإذا رأى منكرًا في طريقه أزاله أو سمع بجنازة سارع إلى الصلاة عليها أو تأسف على فواتها، وربما ذهب إلى قبر صاحبها بعد فراغه من سماع الحديث فصلى عليه، ثم يعود إلى مسجده فلا يزال تارة في إفتاء الناس وتارة في قضاء حوائجهم، حتى يصلي الظهر مع الجماعة ثم كذلك بقية يومه، وكان مجلسه عامًا للكبير والصغير والجليل والحقير والحر والعبد والذكر والأنثى، قد وسع على كل من يرد عليه من الناس، يرى كل منهم في نفسه أن لم يكرم أحدًا بقدره، كما كان يعود المرضى كل أسبوع خصوصًا الذين بالمارستان، وكان هذا دأبه على الدوام
(1)
.
وذكر في ترجمة الفقيه والقاضي الحنفي كمال الدين بن الحمراوي (ت 976 هـ): أنه كان من رؤساء دمشق وأعيانها المعدودين، وكان جوادًا له في كل يوم أول النهار وآخره مائدة توضع بألوان الأطعمة، وكان ذا مهابة وحشمة ووجاهة لا ترد شفاعته في قليل ولا كثير، وكان ينفع الناس بجاهه، وكان يكرم القادمين إلى دمشق من أعيان أهل البلاد ويقربهم ويحتفل لضيافتهم، وكان يتردد إليه الفضلاء والأعيان
(2)
.
(1)
انظر: الأعلام العلية (39).
(2)
انظر: الكواكب السائرة، الغزي (3/ 39).
وأمثلة ذلك كثيرة جدًا لا تكاد تحصى، وكانوا يعلمون أن من يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير ممن لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم
(1)
، وأن القاعدة الاجتماعية هي بوابة الإصلاح الشامل، وطالما كان عامة الناس لهم ردءًا وسندًا فيما هم بسبيله من الإصلاح وكانوا عونًا لهم على الصدع بكلمة الحق في مشاهد الظلم والجور.
ومن شواهد هذا: أنه لما بنى الوزير عميد الدولة بن جهير (ت 493 هـ) سور بغداد أظهر العوام في الاشتغال ببنائه المنكرات، فكتب أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي (ت 513 هـ) إليه كتابًا مطولًا جاء فيه: (ثم كيف تطالب الأجناد بتقبيل عتبة ولثم ترابها؟ وتقيم الحدّ في دهليز الحريم صباحًا ومساءً على قدح نبيذٍ مختلف فيه، ثم تمرح العوام في المسكر المجمع على تحريمه؟ هذا مضاف إلى الزنى الظاهر بباب بدر، ولبس الحرير على جميع المتعلقين والأصحاب
…
ثم لا تلمنا على ملازمة البيوت والاختفاء عن العوام لأنهم إن سألونا لم نقل إلا ما يقتضي الإعظام لهذه القبائح والإنكار لها والنياحة على الشريعة)
(2)
، فابن عقيل هنا يكاشف الوزير بما يشبه التهديد أنه لن يغش العامة ولن يلبِّس عليهم مراعاة لأحد، بل إن لم تُجْدِ مثل هذه النصيحة فإنه لن يدخر وسعًا في
(1)
روى الترمذي (2507) وابن ماجه (4032) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((المسلم إذا كان مخالطًا الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم)).
(2)
انظر: الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب (1/ 327).
بيان الحق دون تلبيس، لأن التلبيس نوع من أنواع الكتمان، وقد قرن الله بينهما في قوله جل جلاله:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 71]
(1)
، والعالم لا يرضى بغش الناس والتدليس عليهم، بل واجبه النصيحة والبيان، وقد قال الإمام الشافعي (ت 204 هـ): سمعت سفيان بن عيينة (ت 198 هـ) يقول: إن العالم لا يماري ولا يداري، ينشر حكمة الله فإن قبلت حمد الله وإن ردت حمد الله
(2)
.
(1)
انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (19/ 194).
(2)
انظر: تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر (41/ 528).
إن بث العلم في الناس وتثبيتهم على الخير والهدى بعد الصلاح الذاتي للعالم والفقيه لهو من أعظم أسباب الصلاح والإصلاح، ومما تحيله الطبائع أن يصلح الناس في مجموعهم والفساد فاشٍ في أفرادهم، ولكن إذا صلح فقهاؤهم وأهل الرأي فيهم ثم دعوهم إلى الخير فما أقربهم أن يتابعوهم عليه، وقد كان من كلام نبي الله شعيب عليه السلام:{وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88]، وقال أبو العتاهية:
لن يصلح الناس وأنت فاسد
…
هيهات ما أبعد ما تكابد
(1)
وقد علم أن من سُنَّة الله تعالى: (أن كل قوم بالغوا في الفساد وغيروا طريقتهم في إظهار عبودية الله تعالى فإن الله يزيل عنهم النعم)
(2)
، ومن هنا يتبين لنا أن من الخلل الكبير الطمع في
(1)
ديوان أبي العتاهية (494).
(2)
مفاتيح الغيب، الرازي (19/ 23).
صلاح الشؤون العامة وحسن تدبيرها مع الغفلة عن الصلاح الذاتي لأفراد المجتمع.
وقد وجد من العلمانيين العرب من يسخر بالفقهاء ويهزأ باشتغالهم بقضايا يسيرة
(1)
، وهذا جهل منهم بطبيعة الحياة وعلاقة الفقه بها، وهذه الأمور التي يراها أولئك وغيرهم يسيرة لا تستحق العناية والاهتمام تشكل بمجموعها تصورات وأشكالًا وشعائر وأحكامًا فيها إظهار للعبودية لله تعالى والتزام بشرعه وأمره واتباع لدينه، والدين لم يأت للإصلاح السياسي فحسب، بل جاء لصلاح الدنيا والآخرة. وهذا النَّفَس الممقوت من السخرية والاستهزاء ليس أمرًا جديدًا، فقد سخر بعض المشركين مما ورد في الشريعة من تفاصيل آداب قضاء الحاجة، فقال بعض المشركين لسلمان الفارسي رضي الله عنه: قد علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة! فقال سلمان رضي الله عنه: أجل لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول أو أن نستنجي باليمين أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار أو أن نستنجي برجيع أو بعظم
(2)
. فدين الإسلام دين شامل لا يتعالى على واقع الناس وحياتهم، وليس صياغة فلسفية نظرية تجريدية للحياة، بل إن أعمال الإيمان والتقوى تعايش
(1)
انظر على سبيل المثال: خواطر الصباح يوميات (1974 - 1981 م)، العروي (8)، الجمر والرماد، هشام شرابي (95).
(2)
رواه مسلم في كتاب الطهارة باب الاستطابة (629)، وذكر الاستهزاء ورد عند ابن ماجه (316)، والدارقطني (144)، وانظر كلام الطيبي على جواب سلمان رضي الله عنه في: الكاشف عن حقائق السنن، الطيبي (3/ 782).
الناس في دقيق الأمور وخطيرها. أما الفصل بين أشكال الحياة المختلفة وتعلق الإيمان بها فهو من آثار العلمانية البغيضة التي تسربت إلى بعض الفهوم الفاسدة، والإسلام الذي جاء بالتصورات والعقائد الكبرى والأخلاق الكاملة والشعائر الإيمانية العظيمة، جاء أيضًا بهذه التفصيلات التي يستهزئ بها من لم يتصور طبيعة دين الإسلام، وإذا انسحبت التصورات الإيمانية عن هذه التفصيلات فإن هذا بداية انسحابها عن الحياة بجملتها.
ووسطية دين الإسلام وشموله وتوازنه تحجز المسلم عن الاشتغال بالجزئيات عن الكليات لكنها لا تتعالى عليها وتُحقِّر من شأنها، وذات الفصل بين الأمرين وإن افترضته التصورات الذهنية إلا أن الممارسات الواقعية تحيله، فإن الإيمان شعب متفاوتة وهي بمجموعها تصبغ حياة المؤمن بالصبغة الإيمانية لتكون صلاته ونسكه ومحياه ومماته لله رب العالمين.
وقد مضت الإشارة إلى أن اهتمام الفقهاء بتفصيلات الأحكام كان نتيجة مباشرة لكثرة سؤال الناس عنها وتعرضهم لها، ومع ذلك فلم تزل عادة الفقهاء توجيه الناس وإرشادهم إلى ما هو خير وأبقى، وكانوا شديدي الملاحظة للتغيرات الاجتماعية من خلال فحص أسئلة الناس.
يروى عن الإمام مالك (ت 179 هـ) أنه قال: (لم يكن الناس فيما مضى يسألون عن هذه الأمور كما يسأل الناس اليوم، ولم يكن العلماء يقولون: حرام ولا حلال، أدركتهم يقولون: مكروه
ومستحب). قال أبو حامد الغزالي (ت 505 هـ): (ومعناه: أنهم كانوا ينظرون في دقائق الكراهة والاستحباب فأما الحرام فكان فحشه ظاهرًا)
(1)
.
والعالم الفقيه يسعى بفقهه إلى إصلاح أحوال الناس واهتماماتهم، وتوجيههم إلى معالي الأمور وكبير العزائم، ويصرفهم في أجوبته إلى ما هو أنفع لهم وأليق بهم، ولا يكون متلقيًا سلبيًا في فتاويه وأجوبته، بل يكون فاعلًا إيجابيًا فإن الإسلام يرفض مبدأ سياسة الأمر الواقع بمعناه السلبي
(2)
، والفقيه حينما يتعلم العلم فإنه لا يتعلمه ليكون ناطقًا بلسان أحد، وكما أنه لا يسمح للضغوطات السياسية أن تؤثر عليه وتصرفه عن غاية الإصلاح فعليه أن يحذر من الضغوطات الاجتماعية كذلك، فإن الساسة إن كانت لهم ضغوطهم فإن لعامة الناس ضغوطًا قد تحول بين الفقيه وبين تصور حقائق الأمور. وفي الوقت ذاته فإن على الفقيه أن يتفطن لمحاولات إبعاده وعزلته عن عامة الناس الذين هم قاعدة الصلاح والإصلاح تحت أي ذريعة، والكثير ممن هم معزولون عنهم لا يسرهم استئثار الفقيه بالتأثير فيهم وهم غائبون في عوالمهم النظرية التي لا تلامس اهتمامات العامة، وسيأتي مزيد شرح لهذا في موضع لاحق.
(1)
إحياء علوم الدين (1/ 298).
(2)
انظر: خصائص التشريع الإسلامي، د. فتحي الدريني (100).