الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 - إصلاح التأليف
((وقد تجد الرجل يطلب الآثار وتأويل القرآن ويجالس الفقهاء خمسين عامًا وهو لا يعد فقيهًا ولا يجعل قاضيًا، فما هو إلا أن ينظر في كتب أبي حنيفة وأشباه أبي حنيفة، ويحفظ كتب الشروط في مقدار سنة أو سنتين، حتى تمر ببابه فتظن أنه من بعض العمال، وبالحرَا ألا يمر عليه من الأيام إلا اليسير حتى يصير حاكمًا على مصر من الأمصار أو بلد من البلدان)).
[الحيوان، الجاحظ: 1/ 87]
((ولا يتمكن من التصنيف من لم يدرك غور ذلك الذي صنَّف فيه)).
الوزير ابن هبيرة
[الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب: 2/ 157]
((فإنك لتنظر الرجل وهو ابن القرن الرابع عشر فتحسه في معارفه وعلمه وتفكيره من أهل القرن التاسع أو العاشر، مما هو معلول لوقوف تقدم التآليف عند الحد الذي تركه الواقفون)).
[أليس الصبح بقريب، الطاهر بن عاشور: 140]
إصلاح التعليم منوط بأمرين اثنين، أحدهما إعداد المعلم، والثاني تأليف الكتاب، وربما لا يكون من المبالغة القول بأن جودة التآليف وقوتها وفصاحتها وبيانها قد تتدارك من ضعف المعلم ما لا يتداركه المعلم الجيد من ضعف التآليف. فإن قوة الكتاب تجبر المعلم على الارتقاء إلى مستواه، بينما يؤدي ضعف الكتاب إلى ضياع جزء من وقت المعلم الجيد في تصحيحه وتدارك أغلاطه
(1)
.
ومن المفترض أن يقدم بين يدي كل عمل في الإصلاح أن تستبدل مناهج تعليمية جيدة ومناسبة في مضمونها وشكلها بالمناهج التعليمية الرديئة التي يكثر اعتمادها في الكثير من الجامعات والمعاهد الشرعية، فإن الكثير من المناهج التي باتت تعتمد في التدريس في العصور الأخيرة يذهب أكثر وقت الأستاذ والطالب في حل ألفاظها وإدراك محترزاتها، ولو كان هذا الوقت الذاهب يفني في تنمية الملكة الفقهية لهان الخطب، ولكن هذه المؤلفات المنتقدة ضعيفة البيان ركيكة اللغة مختلة التركيب والأساليب، فذهاب الوقت فيها ليس من قبيل ممارسة كتب الفقه المحكمة التي تربي على الاحتراز في العبارة ودقة الصياغة، بل
(1)
انظر: أليس الصبح بقريب، ابن عاشور (138)، وحي الرسالة، أحمد حسن الزيات (2/ 185).
هو من قبيل تصحيح أخطاء المؤلف وتقويمها، مع أن في كتب المتقدمين ما هو أفصح بيانًا وأغزر علمًا وأكثر بركة وأقل خطأً وأعظم استخراجًا لملكة التفقه في دارسيها
(1)
. يقول الشاطبي (ت 790 هـ): (فلذلك صارت كتب المتقدمين وكلامهم وسيرهم أنفع لمن أراد الأخذ بالاحتياط في العلم على أي نوع كان وخصوصًا علم الشريعة الذي هو العروة الوثقى والوزر الأحمى)
(2)
.
والقصد أن إصلاح التآليف الفقهية من الأهمية بالذروة العالية، حتى إن بعض من تكلم في إصلاح الأزهر ذكر أنه يكاد ينحصر في إصلاح هذه الكتب التي تدرس فيه
(3)
. مما يجعل من إعداد المناهج الفقهية التي تدرس في المعاهد والكليات الشرعية أمرًا بالغ الأهمية وبالغ الصعوبة في الوقت نفسه؛ لما يترتب عليها من الأثر الذي يتعدى المتفقه إلى المجتمع الذي سيتولى وظائفه الدينية بعد تخرجه، وإذا كانت المناهج التي تلقاها فاسدة لا تلاقي الغاية من التعليم ولا تؤهله لتلك الوظائف ولا تستخرج منه المهارة والملكة فكيف يرجى الصلاح من بعد؟
ولذا فإن أهل العلم ينبهون إلى خطورة التأليف وصعوبته وأنه ليس يحسنه كل أحد، وربما كان العالم حسن الفقه وحسن التعليم وممن يشار إليهم بالبنان غير أنه لا يحسن التأليف، فإن
(1)
انظر: التعليم والإرشاد، بدر الدين الحلبي (222)، وقد ذكر أمثلة لذلك.
(2)
الموافقات (1/ 153).
(3)
انظر: تاريخ الإصلاح في الأزهر، عبد المتعال الصعيدي (170).
التأليف صناعة أخرى لها مهاراتها وأدواتها، ولذا قال الشهاب المقَّري (ت 1041 هـ):(احذر أيها الناظر شرح الله صدري وصدرك أن يقع في نفسك أن عجز هؤلاء السادات عن صناعة التأليف والحذق في التصنيف وعدم الاقتدار على الترجيح والاختيار وعدم القيام بمواد مدارك المحققين والنظار يوجب قدحًا في مناصبهم أو وصمًا في مراتبهم)
(1)
.
وعند التأمل في طرق تدوين الكتب الأولى في مذهب أبي حنيفة نعلم شدة العناية ودقة التحرير في كتابتها، وربما أقاموا في المسألة ثلاثة أيام من المباحثة والنظر قبل تدوينها
(2)
. وهذه العناية البالغة كانت طريقة معهودة عند الفقهاء، حتى ذكر أن نهاية المحتاج للرملي (ت 1004 هـ) قرئت على صاحبها إلى آخرها في أربعمائة من العلماء فنقدوها وصححوها
(3)
. ومن هنا يعلم أن تأليف المدونات الفقهية من كمالات العلم الذي يصل إليه المنتهي، فهي ثمرة لإعداد الفقيه النابه الذي يعرف كيف يؤلف الكتاب وكيف يدرسه
(4)
.
ولأجل هذه الدقة في التصنيف فإن العلماء كانوا يحذرون من التسرع في نسبة الأقوال إلى الكتب دون استيعاب مرادات
(1)
أزهار الرياض (3/ 31).
(2)
انظر: تدوين مذهب الأحناف، محمد مفيض الرحمن الشاتغامي (83)، فقه أهل العراق وحديثهم، الكوثري (68).
(3)
انظر: الفوائد المكية، السقاف (37).
(4)
انظر: منهاج تدريس الفقه، د. مصطفى صادقي (170)، وحي الرسالة، أحمد حسن الزيات (2/ 185).
مؤلفيها، يقول ابن حمدان الحراني الحنبلي (ت 695 هت): (اعلم أن أعظم المحاذير في التأليف النقلي إهمال نقل الألفاظ بأعيانها والاكتفاء بنقل المعاني، مع قصور التأمل عن استيعاب مراد المتكلم الأول بلفظه وربما كانت بقية الأسباب متفرعة عنه؛ لأن القطع بحصول مراد المتكلم بكلامه أو الكاتب بكتابته مع ثقة الراوي، يتوقف عليه انتفاء الإضمار والتخصيص والنسخ والتقديم والتأخير والاشتراك والتجوز والتقدير والنقل والمعارض العقلي.
فكل نقل لا نأمن معه حصول بعض الأسباب ولا نقطع بانتفائها نحن ولا الناقل ولا نظن عدمها ولا قرينة تنفيها، فلا نجزم فيه بمراد المتكلم بل ربما ظنناه أو توهمناه، ولو نقل لفظه بعينه وقرائنه وتاريخه وأسبابه انتفى هذا المحظور أو أكثره)
(1)
.
وبإزاء تلك الجهود التأليفية الكبيرة فإننا لا نجد في أكثر الكتب المتأخرة هذه الدرجة من العناية والاهتمام، وهذا ما يدعو الكثيرين إلى المناداة بهجرها والرجوع إلى ينابيع الفقه الأولى وما جرى مجراها مما يجمع بين عمق فقه الأوائل وفصاحتهم وحسن ترتيب المتأخرين واحترازهم، مع وجوب الالتفات إلى أمرين اثنين، أولهما موافقة أغراض المؤلفين في مصنفاتهم وعدم ابتغاء الغرض التعليمي فيما لم يؤلف لأجل التعليم، وثانيهما أن الفقه من شأنه التجدد في مسائله وظروفه، والوقوف عند نتاج عصر معين يقعد بالأفهام عن الأزمنة التي تعيشها، والرجوع إلى كتب
(1)
صفة الفتوى والمفتي والمستفتي (105).
المتقدمين لا يعني بحال أن يُكتفى بها عن نوازل العصر وحوادثه، وإنما الغرض اقتفاء طريقتهم في التفقه واكتساب الدربة منها، ومع ذلك فمن الواجب أن تستحدث مؤلفات عصرية مناسبة، ويراعى فيها التدرج الملائم لمستويات الطلبة، وتكون امتدادًا لكتابات الفقهاء المتسلسلة في العصور المتوالية ويستدرك فيها من المسائل والترتيبات الموضوعية ما يتصل به القديم بالحديث والماضي بالحاضر، وتكون جارية على مذاهب منضبطة تخرج بها من حالة الاضطراب والفوضى القائمة في الكثير من المناهج الجامعية المعاصرة
(1)
.
إن الاكتفاء بكتب السابقين في المناهج التعليمية دون تطبيق لقواعد الفقه ومهاراته على النوازل العصرية لا يخرج لنا فقهاء بقدر ما يخرج لنا حفظة نصوص ومتون لا يحسنون تفعيلها، وهؤلاء وأمثالهم ينتقدهم شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728 هـ) بأنهم يغلطون إذا لم يجدوا المسألة في مختصراتهم
(2)
. ويتفاقم الوضع عندما تكون تلك الكتب من الكتب المعضلة المستغلقة
(3)
. ومن
(1)
انظر: أليس الصبح بقريب، ابن عاشور (149)، تاريخ الإصلاح في الأزهر، عبد المتعال الصعيدي (172)، التعليم والإرشاد، بدر الدين الحلبي (42)، مقررات فقه القضايا المعاصرة بين الواقع والمأمول، د. عامر بهجت (55)، ومن المهم مطالعة الركائز التي ذكرها د. عامر في الفصل الثاني من هذا البحث لأجل إعداد منهج فقهي عصري مناسب.
(2)
انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (28/ 486).
(3)
انظر: التعليم والإرشاد، بدر الدين الحلبي (140) وما بعدها، ففيها نقد مطول لهذه الظاهرة مع التمثيل لها.
المشكلات التي يكثر أن تعاني منها المدارس الشرعية أن يقدم الاهتمام بهذه الكتب على الاهتمام بالعلم ذاته، كأن الكتاب وحي منزل لا محيد عنه ولا يتخرج الفقيه إلا به
(1)
.
ومن آثار هذا الخلل أن الكثير من النتاج الفقهي المعاصر بات مقتصرًا على إعادة دراسة المسائل القديمة والاختيار والترجيح بينها وعرض أدلتها، أو على تحقيق المخطوطات الفقهية، أو دراسة أعلام الفقهاء ودراسة منهجهم وجمع اختياراتهم، أو دراسة أعلام الفقهاء ودراسة منهجهم وجمع اختياراتهم، وأكثر ذلك يتم دون إبداع فقهي حقيقي، بل إننا إذا استثنينا أساليب الصياغة الأكاديمية الشكلية الحديثة فإن أي فقيه في القرن الخامس أو السادس يمكن أن يكتب ما هو أفضل منها استدلالًا وترجيحًا وأكثر انضباطًا وتقعيدًا، مع أن هؤلاء الباحثين لو امتلكوا الملكة والمهارة لكان بمقدورهم الإبداع والتجديد ولو ظلوا في دائرة القديم بما تجدد في الزمان من أدوات وآليات ووسائل يمكن الاستفادة منها
(2)
.
وقد قال الأبي (ت 827 هـ) في شرحه لحديث أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له))
(3)
: (وكان شيخنا أبو عبد الله-يعني: ابن عرفة-يقول:
(1)
انظر: المدارس الدينية في باكستان، د. مصباح الله عبد الباقي (230).
(2)
انظر: تراثنا الفقهي وضرورة التجديد، عبد الحي عمور (182)، منهاج تدريس الفقه، د. مصطفى صادقي (260).
(3)
صحيح مسلم، كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته (1631).
إنما تدخل التآليف في ذلك إذا اشتملت على فوائد زائدة وإلا فذلك تخسير للكاغد. ويعني: بالفائدة الزائدة على ما في الكتب السابقة عليه، وأما إذا لم يشتمل التأليف إلا على نقل ما في الكتب المتقدمة فهو الذي قال فيه إنه تخسير للكاغد)
(1)
.
ونحن متى أردنا النهوض بالتأليف الفقهي المعاصر سواء على مستوى المناهج التدريسية أو الرسائل والبحوث الأكاديمية أو الكتب والمؤلفات المستقلة، فمن الضروري أن تعزز سبل التواصل والتكامل البحثي في المجال الفقهي على النحو الذي يوفر الجهود ويركزها وينسق بينها، بحيث يمهد بعضها لبعض ويخدم بعضها بعضًا، بدلًا من الحالة القائمة من التكرار والفوضوية والجهود المبعثرة وإعادة اختراع العجلة في البحوث والرسائل والموضوعات المتقاربة
(2)
. وربما كان من المناسب في هذا تفعيل دور علم (تاريخ الفقه) وتطويره وإعادة ترتيبه بحيث يغدو مادة تقويمية ونقدية لعلم الفقه بوجه عام، مما يسهم في عملية تطويره وتقويم معطياته وتدارك ما يطرأ في مسيرته من نقائص وثغرات وسلبيات
(3)
. فإن الاشتغال الدؤوب بالمادة
(1)
إكمال إكمال المعلم بفوائد مسلم (4/ 345).
(2)
انظر: تراثنا الفقهي وضرورة التجديد، عبد الحي عمور (183).
(3)
ينتشر في كتابات الشيعة المعاصرين استخدام مصطلح (فلسفة الفقه) للتعبير عن هذا المعنى، ويعرفونها بأنها:(الحقل المعرفي الذي يتخذ من الفقه موضوعًا له فيبحث حول مبادئ وأسس القضايا الفقهية بحثًا نظريًا وتحليليًا ويبين دور العلوم والعوامل المختلفة في عملية الاستنباط الفقهي بنظرة تاريخية)، فإذا كان غرض الفقيه الوصول إلى الحكم الشرعي فإن غرض الفيلسوف في الفقه فهم ملابسات وصول الفقيه على حكم شرعي معين. انظر: فلسفة الفقه، محمد مصطفوي (12 - 18)، المشهد الثقافي في إيران فلسفة الفقه ومقاصد الشريعة، إعداد: عبد الجبار الرفاعي (19)، مدخل إلى فلسفة الفقه، مهدي مهريزي (129).
الفقهية قد يذهل عن ملاحظة التقسيمات والترتيبات الكلية، فتتكشف مع الزمن نقائص بحاجة إلى استدراك، ومن أمثلة ذلك أن اعتماد الترتيب الفقهي المعهود من زمن المزني والخرقي أدى إلى فقدان أبواب ومجالات مهمة يجري تداركها من زمن لزمن من قبل أفراد بشكل مستقل بعيدًا عن المنظومة الأصلية، ومع أن هذا فيه بعض الاستدراك النافع إلا أنه ربما أدى إلى خلل في التصورات الفقهية العامة أثناء التعلم. فإذا ما أضفنا لذلك وجوب اعتبار الطفرات النوعية في الموضوعات والمسائل الفقهية في العصر الحاضر فإننا بحاجة ماسة إلى مجهود فقهي كبير وشامل لإعادة هيكلة الأبواب والمسائل الفقهية بشكل ملائم يستوعب مقاصد الفقهاء السابقين ويمد آفاقها لتشمل الموضوعات المتجددة، حتى لقد جرى تشبيه هذا الزمان الذي نعيشه بزمان ما قبل الخلال (ت 311 هـ) والخرقي (ت 334 هـ) وأبي يعلى (ت 458 هـ) في المذهب الحنبلي، لما كانت مسائل الإمام أحمد منثورة متفرقة فنهض أولئك الفقهاء لجمعها وفحصها ودراستها وتقسيمها، فرسخ المذهب بجهودهم
(1)
. ولا ريب أن مثل هذه
(1)
انظر: مقررات فقه القضايا المعاصرة بين الواقع والمأمول، د. عامر بهجت (19)، وراجع في جهود الخلال ومن بعده: أبو بكر الخلال جامع الفقه الحنبلي ترجمة موسعة للخلال مع بيان أثره في تدوين المذهب الحنبلي، هشام يسري العربي (171).
الأعمال كما هي بحاجة إلى فقه راسخ فهي بحاجة إلى عزيمة نفس حرة لا تثنيها قالة السوء عن جليل العمل، وقد وصف الإمام مالك (ت 179 هـ) سعيد بن المسيب (ت 94 هـ) بأنه كان لا يبالي من خالفه في الناس لعلمه
(1)
.
(1)
المعرفة والتاريخ، الفسوي (1/ 476)، وانظر: أزمة التعليم الديني في العالم الإسلامي، د. خالد الصمدي وزميله (148).
3 -
المذاهب الفقهية
((اختلاف العلماء رحمة من الله تعالى على هذه الأمة، كلٍّ يتبع ما صح عنده، وكلُّ على هدى، وكلِّ يريد الله تعالى)).
مالك بن أنس [كشف الخفاء، العجلوني: 1/ 80]
((وقال أحمد بن حفص السعدي شيخ ابن عدي: سمعت أحمد بن حنبل يقول: لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق، وإن كان يخالفنا في أشياء، فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضًا)).
[سير أعلام النبلاء، الذهبي: 11/ 371]
((وما ذكرنا أولًا ظاهر الحديث ومعارضته بالثاني إلا تأدبًا مع من تقدم؛ لأنهم رضي الله عنه لهم الفضل علينا، ولا ينبغي لأحد أن يجحد فضلهم علينا فإن ذلك غباوة وجهالة، وإن كان بعض المواضع فتح فيها على من تأخر أكثر مما فتح على من تقدم فليس ذلك مما يخل بجلالة منصبهم، وإنما ذلك من طريق المن من المولى الكريم، ليبقي للمنكسر القلب بالتأخير شيئًا يجبره به)).
[بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما لها وما عليها، ابن أبي جمرة: 2/ 58]
((وصلى الشافعي رحمه الله الصبح قريبًا من مقبرة أبي حنيفة رحمه الله فلم يقنت تأدبًا معه، وقال أيضًا: ربما انحدرنا إلى مذهب أهل العراق
…
وفي البزازية عن الإمام الثاني-وهو أبو يوسف رحمه الله-أنه صلى يوم الجمعة مغتسلًا من الحمام، وصلى بالناس وتفرقوا، ثم أخبر بوجود فأرة ميتة في بئر الحمام، فقال: إذًا نأخذ بقول إخواننا من أهل المدينة: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثًا)).
[حجة الله البالغة، الدهلوي: 1/ 270]
الاختلاف بين البشر سنة ماضية بما جبلهم الله عليه من التفاوت في العقول والأذواق والطبائع والأخلاق، وحسم مادة هذا الاختلاف ليس من مقاصد الشارع في وضع الشريعة، ولو شاء الله ألا يختلف الناس لأنزل الشريعة على وجه لا يقبل الاختلاف، ولجعل عامة النصوص قطعية في دلالتها وثبوتها، ولكن الشريعة ذاتها جاءتنا على وجه يحتمل الاختلاف ولا يقطع مادته بالكلية.
ومن المواقف التي تشرح هذا المعنى ما جرى للخليفة المأمون (ت 218 هـ) مع رجل خراساني ارتد عن دين الإسلام إلى النصرانية، فاجتمع به المأمون وقال له: أخبرني ما الذي أوحشك مما كنت به آنسًا من ديننا؟ فوالله لأن أستحييك بحق أحب إلى من أن أقتلك بحق، وقد صرت مسلمًا بعد أن كنت كافرًا ثم عدت كافرًا بعد أن صرت مسلمًا، وإن وجدت عندنا دواء لدائك تداويت به وإن أخطأك الشفاء وتباعد عنك كنت قد أبليت العذر في نفسك ولم تقصر في الاجتهاد لها، فإن قتلناك قتلناك في الشريعة وترجع أنت في نفسك إلى الاستبصار واليقين، ولم تفرط في الدخول من باب الحزم. قال المرتد: أوحشني منكم ما رأيت من كثرة الاختلاف في دينكم. قال المأمون: لنا اختلافان: أحدهما كاختلافنا في الأذان وتكبير الجنائز وصلاة العيدين
والتشهد والتسليم من الصلاة ووجوه القراءات واختلاف وجوه الفتيا وما أشبه ذلك، وهذا ليس باختلاف وغنما هو تخيير وتوسعة وتخفيف من السُّنِّة، فمن أذن مثنى وأقام مثنى لم يأثم ومن ربَّع لم يأثم. والاختلاف الآخر كنحو اختلافنا في تأويل الآية من كتاب الله جل جلاله وتأويل الحديث عن نبينا صلى الله عليه وسلم مع اجتماعنا على أصل التنزيل واتفاقنا على عين الخبر، فإن كان إنما أوحشك هذا فينبغي أن يكون اللفظ بجميع التوراة والإنجيل متفقًا على تأويله كما يكون متفقًا على تنزيله، ولا يكون بين اليهود والنصارى اختلاف في شيء من التأويلات، ولو شاء الله أن ينزل كتبه مفسرة ويجعل كلام أنبيائه ورسله لا يختلف في تأويله لفعل، ولكنا لم نجد شيئًا من أمور الدين والدنيا وقع إلينا على الكفاية إلا مع طول البحث والتحصيل والنظر، ولو كان الأمر كذلك لسقطت البلوى والمحن وذهب التفاضل والتباين، ولما عرف الحازم من العاجز ولا الجاهل من العالم وليس على هذا بنيت الدنيا. قال المرتد: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن المسيح عبد الله وأن محمدًا صادق وأنك أمير المؤمنين حقًا
(1)
.
وهذا الاختلاف الحاصل في الشريعة لا يحجز الناس عن كمال التدين، فإن الناس إما مجتهد وإما غير مجتهد، فالمجتهد وظيفته الاجتهاد والبيان والفتيا، وغير المجتهد وظيفته سؤال أهل الذكر والعمل بما يفتونه به، كما قال الله جل جلاله: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ
(1)
انظر: العقد الفريد، ابن عبد ربه (2/ 223)، عيون الأخبار، ابن قتيبة (2/ 154).
إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]. والاجتهاد والتقليد كلاهما مبنيان على حسن المعاملة لله جل جلاله وأن يكون الإنسان صادقًا في تدينه وتعبده لله تعالى، والله جل جلاله يقول:((يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)). فإذا فعل الإنسان ما كلف به وغلب على ظنه موافقته للصواب وكان مطمئن القلب صادقًا في معاملته لله جل جلاله نجا، وقد قال الإمام تقي الدين السبكي (ت 756 هـ):(ومبنى الاجتهاد والتقليد على انشراح الصدر)
(1)
.
وقال نجم الدين الطوفي (ت 716 هـ): (فكل من حسن ظنه بمذهب تعبد به واتخذه دينًا)
(2)
.
وقال بدر الدين الحلبي (ت 1362 هـ): (وغلبة الظن كافية في الخروج من عهدة التكاليف الفرعية الشرعية)
(3)
.
وقد جرى عمل المسلمين فيما يشبه الإجماع العملي على الأخذ بهذه المذاهب المستقرة في الأمصار والمتلقاة عن أئمة الهدى، وأن يجري الناس على ما يذهب إليه فقهاؤهم الثقات من أهل العلم والديانة، ولا يضرهم أن يختلف هؤلاء مع غيرهم، والفقهاء منذ القديم يؤكدون هذا المعنى، وقد روي عن عمر بن عبد العزيز (ت 101 هـ): أنه كتب إلى الأمصار ليقضي كل قوم بما اجتمع عليه فقهاؤهم
(4)
، وقال الحافظ ابن عبد البر (ت 463 هـ):
(1)
السيف المسلول على من سب الرسول صلى الله عليه وسلم (387).
(2)
شرح مختصر الروضة (3/ 686).
(3)
التعليم والإرشاد (47).
(4)
سنن الدرامي، باب اختلاف الفقهاء (652).
(فكل قوم ينبغي لهم امتثال طريق سلفهم فيما سبق إليهم من الخير، وسلوك منهاجهم فيما احتملوا عليه من البر، وإن كان غيره مباحًا مرغوبًا فيه)
(1)
، وقال ولي الله الدهلوي (ت 1176 هـ):(إذا اختلفت مذاهب الصحابة والتابعين في مسألة فالمختار عند كل عالم مذهب أهل بلده وشيوخه؛ لأنه أعرف بصحيح أقاويلهم من القسيم وأوعى للأصول المناسبة لها، وقلبه أميل إلى فضلهم وتبحرهم)
(2)
.
وهذا ما مضى عليه الناس منذ الأزمنة الأولى حتى استقرت المذاهب الأربعة وبقيت وانقرض ما عداها. وللإمام الذهبي (ت 748 هـ) كلام مطوَّل ذكر فيه طبقات المجتهدين المقلَّدين من التابعين فمن بعدهم قال في آخره: (ولم يبق اليوم إلا هذه المذاهب الأربعة، وقلَّ من ينهض بمعرفتها كما ينبغي فضلًا عن أن يكون مجتهدًا)
(3)
.
وهذه المذاهب الأربعة التي استقر عليها عمل المسلمين في بلدانهم منذ قرون متطاولة ليست إلا طرائق ومناهج في فهم الشريعة، وهي متصلة بفقهاء الصحابة والذين جاءوا من بعدهم ممن تختلف مناهجهم في الفقه والنظر، وكلهم معظم للشريعة وقَّاف عند حدود الله تعالى معظم لكتاب الله جل جلاله وسُنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا يظن بأحد منهم أن يرد الحق وهو يعلم أنه حق، ولا أن يترك
(1)
التمهيد (1/ 10).
(2)
حجة الله البالغة (1/ 249).
(3)
سير أعلام النبلاء (8/ 92).
السُّنِّة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يظن ثبوتها وبقاء مقتضاها، ولهم في ذلك مناهج ومسالك تتشكل منها قاعدة تفسيرية كبرى يفهمون الشريعة في ضوئها ويردون مختلف الحديث ومتشابهه إلى محكماتها. قال الإمام القرافي (ت 684 هـ):(فما من عالم إلا وترك جملة من أدلة الكتاب والسُّنِّة لمعارض راجح عنده)
(1)
. وما من إمام من أئمة الهدى الذين استفاض في الأمة قبولهم والأخذ بفقههم والثناء الحسن عليهم إلا وقد أخذ بالرأي وعمل به؛ فإن الشريعة مفتقرة إلى فقه وفهم في حسن تلقيها والبناء عليها، وإذا تقررت مشروعية الاختلاف فلا بد أن تكون الشريعة منتظمة ومستقيمة بالرغم من هذا الاختلاف، وهذا ما يقتضي أن تكون هذه المذاهب مستقيمة ومنتظمة كذلك، ولا تستقيم هذه المذاهب ما لم تصدر عن منهجية منضبطة شاملة تفتقر إلى الرأي في استقامتها وانضباطها، ولذا قال محمد بن الحسن (ت 189 هـ):(لا يستقيم العمل بالحديث إلا بالرأي، ولا يستقيم العمل بالرأي إلا بالحديث)
(2)
.
وكان يزيد بن هارون (ت 206 هـ) مرة في مجلسه فذكر إبراهيم النخعي (ت 96 هـ) فقال قائل: حدثنا عنه صلى الله عليه وسلم، فقال يزيد: يا أحمق، هذا تفسير أحاديثه صلى الله عليه وسلم، وماذا تصنع بالحديث إذا لم تعلم معناه؟ ولكن همتكم السماع ولو كانت همتكم العلم لنظرتم
(1)
الذخيرة (5/ 23).
(2)
أصول السرخسي (2/ 113).
في كتب الإمام-يعني: أبا حنيفة-وأقاويله. فزبر الرجل وأخرجه ن مجلسه
(1)
.
واختلاف مسالك أئمة الفقه والدين في الاجتهاد في الشريعة صادر عن علم عميق وسعة اطلاع ووراثة علمية لأئمة الفقه من الصحابة فمن بعدهم، وهذه السعة في العلم أورثتهم الأناة والتريث قبل أن تصدر عنهم الفتيا، وأخبارهم في ذلك مشهورة
(1)
ذيل الجواهر المضية، الملا علي القاري، ملحق بالجواهر (2/ 460). ويجدر التنبيه هنا إلى أمر مهم وهو: أن ثمت إشكالًا في الدراسات الفقهية المعاصرة وفي المداخل الفقهية على وجه الخصوص في تصوير طبيعة الخلاف بين أهل الحديث وأهل الرأي، أو ما يسمى مدرسة أهل الحجاز ومدرسة أهل العراق، وهذا الإشكال أدى إلى شيء من التبسيط في فهم المدارس الفقهية الأولى وإدراك مآخذها وتصور علاقتها بالمذاهب الفقهية التي استقر عليها العمل بعدها، وترتبت على ذلك بعض الإطلاقات التي لا تخلو من مجازفة، وللدكتور حميدان الحميدان بحث في هذا الموضوع بعنوان:(المدارس الفقهية في عصر التابعين: أهل الحديث وأهل الرأي، قراءة نقدية في مراجع تاريخ الفقه الإسلامي الحديثة) نشر في مجلة جامعة الملك سعود للعلوم التربوية والدراسات الإسلامية عام (1412 هـ)، ثم ضمنه في الفصل الخامس من كتابه ((دراسات في التاريخ المبكر للتشريع والفقه الإسلامي))، كما تكلم عن هذا الموضوع د. عبد المجيد محمود في كتابه ((الاتجاهات الفقهية عند أصحاب الحديث في القرن الثالث الهجري))، وأشار إليه الشيخ مصطفى الزرقا في: المدخل الفقهي العام (1/ 193)، والموضوع بحاجة إلى مزيد من البحث والفحص والتحليل بغرض فهم طبيعة المدارس الفقهية الأولى ونشأتها من جهة، ولمعالجة بعض الممارسات العلمية والسلوكية التي تنشأ من سوء فهمها من جهة أخرى، حتى يكون المتفقه مطمئن القلب وهو يتلو قول الله تعالى:{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10]، وحتى يتفهم معنى قول أبي يوسف (ت 182 هـ) لما دخل البصرة فاجتمع الفقهاء والمحدثون على بابه، فأشرف عليهم وقال:(أنا من الفريقين جميعًا ولا أقدم فرقة على فرقة). انظر: سير أعلام النبلاء، الذهبي (8/ 538).
جدًا؛ لأنهم لم يكونوا يتعجلون الفتيا قبل أن يقلِّبوا النازلة على كافة وجوهها ويضعوها في موضعها الملائم من البنيان التشريعي الذي يشكل مذهبهم ومنهجهم الاجتهادي، في الحين الذي يتجرأ فيه عليهم من تعلق بطرف من العلم فحسب فيه العلم كله.
قال عمير بن سعيد (ت 115 هـ): سألت علقمة (ت 62 هـ) عن مسألة فقال: ائت عَبيدة (ت 72 هـ) فسله، فأتيت عبيدة فقال: ائت علقمة، فقلت: علقمة أرسلني إليك، فقال: ائت مسروقًا (ت 62 هـ) فسله، فأتيت مسروقًا فسألته، فقال: ائت علقمة فسله، فقلت: علقمة أرسلني إلى عبيدة، وعبيدة أرسلني إليك، قال: فأت عبد الرحمن بن أبي ليلى (ت 83 هـ)، فأتيت عبد الرحمن بن أبي ليلى فسألته فكرهه، ثم رجعت إلى علقمة فأخبرته، قال: كان يقال: أجرأ القوم على الفتيا أدناهم علمًا
(1)
.
وهذه المعاني الأخلاقية والسلوكية لا يجوز أن تغيب عن ذهن الفقيه في تعليمه ولا المتفقه في تعلمه، فإن الغفلة عن تربية المتفقه عليها أثناء تفقهه قد تورث إعجاب كل ذي رأي برأيه مع بطر الحق الذي عند غيره وغمط أهل العلم فضلهم وسابقتهم، وهذا يعود بالضرر على العلم ذاته.
ومتى تقررت هذه المقدمات علمنا أن نقل الناس عما هم فيه من الأحوال الصالحة المستقيمة ولو في بعض المذاهب ليس
(1)
الفقيه والمتفقه، الخطيب البغدادي، باب القول في السؤال عن الحادثة والكلام فيها قبل وقوعها (642).
مما يتغياه الفقهاء، لا سيما إذا انبنت عليه وجوه معاشهم وشؤون حياتهم، وأخبار أهل العلم في ذلك مشهورة ومستفيضة.
والناس إمام عامة وإما فقهاء أو سالكون لسبيل التفقه، فالعامة يجرون في أحوال تدينهم وتعبدهم على ما مضى عليه العمل في بلادهم مما أقره الفقهاء وعلموهم إياه. يقول ولي الله الدهلوي (ت 1176 هـ):(وكان من خبر العامة أنهم كانوا في المسائل الإجماعية التي لا اختلاف فيها بين المسلمين أو جمهور المجتهدين لا يقلدون إلا صاحب الشرع، وكانوا يتعلمون صفة الوضوء والغسل والصلاة والزكاة ونحو ذلك من آبائهم أو معلمي بلدانهم فيمشون حسب ذلك، وإذا وقعت لهم واقعة استفتوا فيها أي مفت وجدوا من غير تعيين مذهب)
(1)
.
وأما الفقهاء والمتفقهون فقد جرت عادتهم بعد استقرار المذاهب على أن يسلك دارس الفقه بعض هذه المذاهب فيتفقه بها، لا سيما مذهب شيوخه وما جرت عليه أحوال أهل بلده؛ لأن مخالفته لذلك قد يفضي إلى زعزعة شيء من الأحوال الراسخة، وهي أحوال صالحة على وجوه معتبرة، ولو ظلت أحوال الناس تتنقل بحسب رأي كل مفتٍ يظهر فيهم أو قاض يتولى عليهم لأدى ذلك إلى فساد واضطراب، ومع ذلك فإن هذه المذاهب التي حفظتها الأمة وتناقلتها جيلًا بعد جيل تكاد تستوعب طرائق فهم الشريعة، وهؤلاء فقهاء الأمة وعلماؤها
(1)
حجة الله البالغة، الدهلوي (1/ 260).
باختلاف أزمنتهم وأمكنتهم كالمطبقين على التفقه بهذه المذاهب لا على وجه حصر الحق فيها أو الغلو في أئمتها
(1)
، بل على أنها مناهج للفهم لا تكاد طرائق المجتهدين تخرج عنها، وهذا ما أراده ابن المنيِّر (ت 683 هـ) بقوله:(إحداث مذهب زائد بحيث يكون لفروعه أصول وقواعد مباينة لسائر قواعد المتقدمين متعذر الوجود، لاستيعاب المتقدمين سائر الأساليب)
(2)
، وابن برهان (ت 518 هـ) بقوله:(أصول الأدلة وقواعد المذاهب منقولة عن السلف)
(3)
.
وهذا الفهم المطمئنُّ لطبيعة المذاهب وعلاقتها ببعضها يبعث في نفس المتفقه السكينة والثقة وحسن الظن بعلماء الأمة وفقهائها، ويحمله على التماس الأعذار والمخارج لهم فيما يخالفهم فيه مما يذهبون إليه، ويجعل من أصل الاعتصام والاجتماع الإيماني الذي جاءت به الشريعة مبدأ راسخًا في نفسه لا تخرمه موارد الخلاف السائغ، بل يقدمه عليها عند التعارض.
(1)
رد ابن أبي زيد القيرواني (ت 386 هـ) ردًا شديدًا على الذين يستدلون بقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] على إبطال اقتداء الناس بعلمائهم، وبين فساد هذا الاستدلال وقبحه. انظر: الذب عن مذهب مالك (1/ 268).
(2)
جاء النقل عنه في: البحر المحيط، الزركشي (6/ 285)، وانظر: الرد على من أخلد إلى الأرض، السيوطي (39).
(3)
الوصول إلى الأصول، ابن برهان (2/ 352)، ولمزيد بسط لهذا المعنى راجع: منهج البحث والفتوى في الفقه الإسلامي بين انضباط السابقين واضطراب المعاصرين، مصطفى بشير الطرابلسي (167).
جاء في رسالة الليث بن سعد (ت 175 هـ) إلى الإمام مالك (ت 179 هـ): (وذاكرتك أنت وعبد العزيز بن عبد الله (ت 164 هـ) بعض ما نعيب على ربيعة (ت 136 هـ) من ذلك، فكنتما لي موافقين فيما أنكرت تكرهان منه ما أكره، ومع ذلك بحمد الله عند ربيعة خير كثير وعقل أصيل ولسان بليغ وفضل مستبين وطريقة حسنة في الإسلام ومودة صادقة لإخوانه عامة ولنا خاصة، رحمة الله عليه وغفر له وجزاه بأحسن من عمله)
(1)
.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728 هـ): (ويستحب للرجل أن يقصد إلى تأليف القلوب بترك هذه المستحبات؛ لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا، كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم تغيير بناء البيت لما في إبقائه من تأليف القلوب، وكما أنكر ابن مسعود على عثمان إتمام الصلاة في السفر ثم صلى خلفه متمًا وقال: الخلاف شر)
(2)
.
ومن المهم الإشارة في ختام هذا الحديث إلى أمر لا يصح أن يغفل عنه فقيه معني بشؤون الإصلاح، وهو أن قضايا الإصلاح الكبرى لا ينبغي أن تكون من قبيل المسائل الخلافية بين المذاهب المعتبرة، بل هي من أصول الدين التي لا خلاف بين أهل الفقه والحكمة فيها، ولا يقصد من هذا بحال أن ما يسميه الفقهاء (الخلافيات) ليس لها دور وأثر في الإصلاح، فقد مضى بيان
(1)
انظر: المعرفة والتاريخ، الفسوي (1/ 690).
(2)
مجموع فتاوى ابن تيمية (22/ 407).
أثرها في موضعه، وإنما المقصود هنا أن مقاصد الإصلاح وغاياته لا يمكن أن تكون أمورًا مختلفًا فيها من الناحية الفقهية، فأما ما يتعلق بالخلافيات فلا بد من مراعاة المذاهب الفقهية المعتبرة فيها عند تقويم الترقي الإصلاحي.