الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 - الفقيه والمثقف
((كل مسلم فقيه؛ إذ يطلب من كل مسلم التفقه في الدين على قدر حاجته، حتى لا يأتي أعماله وهو جاهل بأحكامها قوانين وأخلاقًا، فلا تنفعه في عالمه الغيبي فضلًا عن عالمه المرئي))
طه عبد الرحمن [روح الدين: 418]
((والواقع أن الثقافة الحية لا تقبل بضم خبرات جديدة إلى مخزونها المعرفي أو الخيالي، إلا إذا لم تكن هذه الخبرات تتعارض مع خبرات جديدة إلى مخزونها المعرفي أو الخيالي، إلا إذا لم تكن هذه الخبرات تتعارض مع خبرات سابقة وراسخة تضمن توازناتها الكبرى))
د. برهان غليون [اغتيال العقل: 335]
يتحدث كثير من الكتاب عما يدعونه بـ (الأزمة بين الفقيه والمثقف) أو (القطيعة بين الفقيه والمثقف)، غير أنهم لا يحددون مرادهم بكل من (الفقيه) و (المثقف)، وهذا من الإشكالات المزمنة في السجالات العربية المعاصرة، حيث نجد نقاشات مطولة حول موضوعٍ ما دون تحديد مفاهيمه وضبط اصطلاحاته، أو ما يعبر عنه الفقهاء بـ (تحرير محل النزاع)، مع أن افتعال معركة أو أزمة دون تحديد أطرافها أمر لا يليق أبدًا بأي باحث جاد، ويزداد الأمر سوءًا إذا كان هذا الباحث ينطلق من صورة ملازمة لذهنه فيجعل منها حالة عامة. ولا يمكن في هذا السياق إثبات دعوى القطيعة أو الأزمة إلا بعد تحديد مراد المتكلم بالفقيه والمثقف والأزمة التي يقصدها.
وأول ما يتوجب بحثه هنا هو تحديد معنى اسم (المثقف) ومفهوم (الثقافة) الذي يعاني من هلامية كبيرة في المعنى في البيئة التي كانت فيها نشأته، فضلًا عن بيئات استوردته كمفهوم جاهز
(1)
. ونشأة هذا الاسم لا يمكن عزلها عن صراع السلطات في أوروبا في مطلع ما تسميه أوروبا بالعصور الحديثة، يوم كان في الناس سلطتان غالبتان وهما سلطة الملوك والنبلاء من جهة
(1)
انظر: الثقافة بين تأصيل الرؤية الإسلامية واغتراب منظور العلوم الاجتماعية، د. محمد الذوادي (43).
وسلطة الإكليروس ورجال الدين النصارى من الجهة الأخرى، ثم لما راجت سوق العلم والمعرفة وبدأت بواكير ما عرف لاحقًا بالنهضة فقد ظهرت طبقة واعية لا ترضى بهذا التسلط، وقد صنعت بنفسها آليات الصراع واستطاعت بمرور الزمن التغلب على تلك السلطتين وصناعة مفاهيم وأفكار جديدة أثرت ولا تزال تؤثر في العالم الجديد
(1)
، وهذه الطبقة لم تتخذ لها اسمًا محددًا منذ البداية بل مرت بعدة أسماء حتى استقر لها اسم المثقف مع بقاء خلاف طويل في تعريفه على وجه التحديد
(2)
، ولكن يبقى من سمات المثقف أن لديه من المعرفة العامة والمتخصصة ما يخوله الاعتناء بشؤون الناس العامة ليمارس نوعًا من الضغوط الإصلاحية حسب رؤيته التي يراها.
لكن المؤسف في هذا الصدد أن هذا المصطلح عندما أريد له أن يدخل في نسيج الفكر العربي فقد نقل بخصوصيته الأوروبية دون تنقيح يلائم اللغة العربية التي يشكل الإسلام عنصرها الأول، ومما يؤكد هذا أتم التأكيد ما حصل من المقابلة بين المثقف
(1)
تعود جذور المعاني التي يشتمل عليها اسم (المثقف) في أوروبا إلى أزمنة قديمة بعض الشيء، لكن نشأة اسم (المثقف) مرتبطة بما عرف بقضية (دريفوس) في فرنسا، ليعبر عن المفكر أو الفيلسوف أو رجل الآداب الذي لا تشغله اهتماماته المعرفية والفلسفية عن الاهتمام بشؤون الناس والدفاع عن القيم الإنسانية، على النحو الذي يدعوه شيشرون خطيب الرومان بـ (حب النوع البشري). انظر: المثقف والسلطة، محمد الشيخ (14)، المثقفون في الحضارة العربية، د. محمد عابد الجابري (23).
(2)
انظر: السلطة الثقافية والسلطة السياسية، د. علي أومليل (239).
والفقيه، مع أن شرط اسم المثقف متحصل في الفقيه، ولكن الربط بين الفقيه ورجل الدين النصراني في أوروبا-مع كون سلطة المثقف نشأت لتكون مناهضة لسلطة رجال الدين-جعل بعض الكتاب يفترضون القطيعة بين المثقف والفقيه، وكل ذلك يؤكد أن مرجعية هذا الصراع المفتعل مرجعية أوروبية، حيث نشأ المثقف ليكون ندًا لرجل الدين ورجل السياسة فأصبح تحديد مفهوم المثقف من قبيل ما يسميه المناطقة التعريف بالضد لا التعريف بالحد أو الرسم، وهذا ما أدى إلى الاختلاف الكبير في تحديد المراد به
(1)
.
وهذه الأزمة المفترضة إنما تكون واقعة بالفعل في حالة اختلاف المرجعية بين كل من الفقيه والمثقف، ويحصل ذلك عندما لا يستورد اسم المثقف فحسب بل تستورد المفاهيم التي أنتجته، والتي سيكون فيها بالتأكيد ما يتعارض مع مرجعية الفقيه التي هي شريعة الإسلام، وستكون غايات الإصلاح ومقاصده لدى المثقف مختلفة عن غايات الإصلاح لدى الفقيه والتي هي رسالة الأمة وهويتها، الأمرَ الذي يُشعر المثقف بالاغتراب والشتات في بلده وبين أهله؛ لأن مرجعيته مرجعية مناهضة للوحي والشرع الذي به قوام الأمة وحياتها، ومشروعه الثقافي لا يقوم على اعتبار أصول الديانة وأحكام الشريعة بل على إقصائها أو معاداتها، ومن
(1)
انظر: الحضارة الثقافة المدنية دراسة لسيرة المصطلح ودلالة المفهوم، د. نصر عارف (26)، المثقفون في الحضارة العربية، د. محمد عابد الجابري (19).
توابع ذلك إقصاء حملة الشريعة ومعاداتهم والإزراء بهم وبمشاريعهم الإصلاحية، بل إن هناك الكثير من الشواهد الواقعية التي تؤكد أن بعض من يسمون بالمثقفين يبادرون بالانحياز إلى الطغاة والظلمة عندما يكون خيار الأمة الرجوع إلى هويتها ودينها، ولا ريب أن مثل هؤلاء عناصر فاسدة لا تستحق اسم المثقف.
أما حينما يكون المثقف منطلقًا في رؤيته ومفاهيمه وأفكاره من دين الإسلام فإنه لا مجال لافتعال هذا الصراع، بل دوره مع الفقهاء حينئذٍ يقوم على التكامل لا على الصراع، بل إن المثقف نفسه-إذا ما اعتبرنا أصحاب التخصصات المختلفة ممن يساهم في الإصلاح العام مثقفًا-كان تكوينه في ظل حضارتنا الإسلامية يتشكل بالقرب من الفقيه، حيث يلتقي الجامع بالجامعة وحيث تشكل مبادئ العلوم الشرعية جزءًا أساسيًا من ثقافته
(1)
.
وإذا ما رجعنا لنتأمل طبيعة النخبة العربية الإسلامية في مشارف ما يسمى بعصر النهضة العربية بين ثلاثينات القرن التاسع عشر وثلاثينات القرن العشرين، فإننا نجد أن سوادها الأعظم كان ممن يغلب عليهم سمة الفقه، سواء كان هذا من جهة التكوين العلمي أو الوظيفة أو اللغة المستعملة، كما أن مراكز التكوين
(1)
انظر: مثقف فقيه وفقيه مثقف، د. زكي الميلاد، مقال بجريدة عكاظ، العدد (2174)، بتاريخ:(14/ 5/1428 هـ).
الكبرى التي كانت تتخرج فيها هذه النخب كانت المدارس والمعاهد الشرعية كالأزهر والزيتونة والقرويين
(1)
.
إن المثقف في أي حضارة لا يمكنه الإسهام فيها إسهامًا فاعلًا ما لم تتصالح أهدافه مع أهدافها، وإذا ما قرر إدوارد سعيد مثلًا أن الوحي كارثة إذا ما سعى المثقف إلى التنظير بموجبه
(2)
، أو أن المثقف الحقيقي كائن علماني
(3)
، فالواجب على المثقف المسلم أن يتعامل مع هذه المقالة على أنها متصالحة مع الحضارة التي ينتمي إليها قائلها وليست قاعدة كلية مطلقة؛ لأن المثقف المسلم لو غدا كائنًا علمانيًا فإنه يفقد جذوره التي تمكنه من أداء وظيفته التي لأجلها وجد مفهوم (المثقف)، وإذا كان المثقف الأوروبي في حالة خصومة مع ما يسميهم رجال الدين فلأنهم كانوا يتحكمون في العقول باسم الدين ويمنحون طائفة من البشر حق التشريع المعصوم
(4)
، ويزعمون أن المسيح عليه السلام قال لبطرس: ((وأنا أقول لك أيضًا: أنت بطرس، وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها. وأعطيك مفاتيح ملكوت السماوات، فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطًا في
(1)
انظر: التدوين والتقنين قراءة في التجربة الفقهية المعاصرة، سعيد بنسعيد العلوي، ضمن بحوث ندوة التقنين والتجديد في الفقه الإسلامي المعاصر (881)، بين الفقيه والمثقف، رفيق عبد السلام، مقال بجريدة الشرق الأوسط، العدد (11585)، بتاريخ:(7/ 9/1431 هـ).
(2)
انظر: صور المثقف (94).
(3)
انظر: صور المثقف (121).
(4)
انظر: النقد الذاتي، علال الفاسي (115).
السماوات، وكل ما تحله على الأرض يكون محلولًا في السماوات))
(1)
، فكان رهبان النصارى يُشرِّعون لهم في دينهم ما لم يأذن به الله وينسبونه إلى دين الله تعالى وهم يتابعونهم على ذلك، حتى قال الله جل جلاله عنهم:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]، وكانوا بهذه العصمة المدعاة ينسبون إلى الدين ما ليس منه، حتى إذا كشف علماء الطبيعة والفلك وغيرهم خطأهم امتحنوهم وعذبوهم ونصبوا لهم محاكم التفتيش الظالمة، فصدوا بذلك عن سبيل الله كثيرًا. وكل هذا لم يحصل في دين الإسلام، حيث يأمر الدين بالعلم ويكون الفقيه في أحوال كثيرة عالمًا متفننًا في الكثير من العلوم الشرعية والطبيعية والطبية وغيرها. كما أنهم لم ينسبوا لأنفسهم حق ابتداء التشريع ألبتة، بل هم يؤكدون دومًا أن (لا مساغ للاجتهاد في مورد النص)
(2)
.
وبالتالي فحالة الخصومة بين رجل الدين والمثقف إن افترضنا أن لها ما يبررها في التاريخ الأوروبي، فإن استصحابها في دين المسلمين وثقافتهم لا يجد له من شواهد التاريخ ما يؤيده ويسانده. حتى الذين ذهبوا لافتعال شواهد تاريخية ما يؤيده ويسانده. حتى الذين ذهبوا لافتعال شواهد تاريخية تتمثل في صراع المعتزلة مع أهل السُّنِّة في مسألة خلق القرآن نسوا أو تناسوا أن المعتزلة لم ينسبوا أنفسهم إلى غير المرجعية الدينية،
(1)
إنجيل متى (16: 19).
(2)
انظر: شرح القواعد الفقهية، أحمد الزرقا (147).
وإن كان أهل السُّنِّة يحكمون عليهم بأنهم أخطأوا في مصادر ومناهج الاستدلال لعقائدهم وآرائهم.
وما يقال هنا في شأن المثقف الذي يتنكر لدين الإسلام وشريعته يقال أيضًا في بعض المثقفين الذين لا يتنكرون لهويتهم ودينهم ولكنهم يسلكون مسلكًا توفيقيًا بحيث ينتقون من مقاصد الدين وغاياته ما يرونه متلائمًا مع المرجعيات الأجنبية التي يسمونها: (روح العصر وحضارته) أو (مرجعية الواقع)
(1)
، ثم يعودون على أحكام الشريعة بالانتقاء والتأويل بالرد إلى هذه المقاصد المنتقاة، مع الإزراء بالفقهاء الذين لا يعتنون بالمقاصد حق العناية وتقتصر عنايتهم على التفاصيل والجزئيات.
إن المقاصد التي يتحدث عنها هؤلاء إنما عرفت باستقراء ما يدعونه بالتفاصيل والجزئيات كما عرف في أبواب طرق كشف مقاصد الشارع، ولكن ما وقعوا فيه من الانتقاء الفروعي أفضى بهم إلى الانتقاء على مستوى المقاصد والأصول، فإن الشريعة كلٌّ واحد في فروعها وأصولها ومقاصدها، وإذا ما اختار إنسان أن ينتقي منها ما يراه متفقًا مع (روح العصر وحضارته) فإن هذا الانتقاء لن يظل على مستوى الفروع فحسب، ونقاش مثل هؤلاء ينبغي ألا يقتصر على الفروع، بل لا بد أن يشمل المقاصد التي يدعون فهمها واحتكارها؛ لأن سلوك سبيل الانتقاء يُخِلُّ بمنهاج
(1)
انظر على سبيل المثال: القطيعة بين المثقف والفقيه، يحيى محمد (101)، خطاب المثقف وخطاب الفقيه، حسين العودات، مقال بجريدة البيان الإماراتية، بتاريخ: 26/ 11/2011 م.
الشريعة وانتظامها، وإذا خرج إنسان بالشريعة عن انتظامها خرج بها إلى الفوضى، والفوضى لا ضابط لها وكل ما يفترضه من الضوابط سينازعه عليه آخرون حتى لا يبقى من الشريعة إلا اسمها.
إن المثقف المسلم لا بد أن يستمد تصوراته ومفاهيمه ومنطلقاته من الدين والشريعة حتى يكون مثقفًا مسلمًا، أما إذا هيمنت عليه عاطفة دينية صادقة مع مبادئ أجنبية غريبة فهو ممن يصدق عليهم وصف أبي الأعلى المودودي (ت 1399 هـ) بأن (القلوب مسلمة، ولكن الأذهان غير مسلمة)
(1)
.
والعلاقة بين المثقف والفقيه لا بد أن تكون قائمة على التكامل والتوافق؛ لأن مرجعيتهما واحدة وأصولهما متفقة وإن كانت وظيفتهما مختلفة، فالفقيه معنيٌّ ببيان الأحكام ونسبة الأفعال إلى الحل أو الحرمة بمستوى من المستويات، وأما المثقف فهو معنى بتحليل الظواهر ووصفها ليتمكن الفقيه من أداء وظيفته
(2)
. أما ما قد يحصل من خلاف بينهما بعد اتفاق الأصول فهو مما قد يقع مثله بين الفقهاء أنفسهم، والتعامل مع هذا الخلاف يتم وفق ما وضحه وبينه العلماء في قواعد وآداب إدارة الخلاف.
يقول الشيخ محمد البشير الإبراهيمي (ت 1385 هـ): (وقد
(1)
نحن والحضارة الغربية (134).
(2)
انظر: نحو إعادة بناء علوم الامة الاجتماعية والشرعية، د. مني أبو الفضل (16).
كانت الحالة قبل أعوام أدهى وأمر مما هي الآن، إذ كان أمر الدين في الأمة موكولًا إلى طائفة من الفقهاء الجامدين، لا يفهمون من حقائق الدين ولا من أسراره شيئًا ولا يعلمون من لغته إلا قشورًا، فكانوا يسيئون الظن بالمثقفين ثقافة أوروبية ويحكمون عليهم بالخروج من الدين ويشوهون سمعتهم عند الأمة. يتولد من ذلك في نفوس جمهور الأمة نفور مستحكم منهم وسوء ظن بأعمالهم، وذهب خيرهم في شرهم وحقهم في باطلهم، فلا يرضون على أعمالهم ولو كانت صالحة لقيام التهمة، ولا يثقون بأقوالهم ولو كانت سديدة لعروض الشبهة. ولكن منذ قامت الحركة الإصلاحية على أيدي رجال مثقفين ثقافة إسلامية حقيقية عالية، عارفين بمقتضيات الحياة في كل عصر قادرين على تطبيق الدين مع الاجتماع مع الحضارة، عارفين بأقدار الرجال وقيم معارفهم، مطلعين على أسباب التقدم والانحطاط، مشاركين في معارف العصر، وناهيكم بإمام النهضة الجزائرية عبد الحميد بن باديس رحمه الله، فمنذ ذلك الحين خفت تلك النزعة البغيضة بخذلان الداعين إليها، وتولد في الأمة شعور جديد بقيمة المثقفين بالثقافة الأوروبية وبأنهم من أبناء الأمة، وأن الواجب الانتفاع من آرائهم والاستفادة من مواهبهم)
(1)
.
(1)
آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي، جمع د. أحمد طالب الإبراهيمي (2/ 127).