المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الأولموقع الفقه في خطة الإصلاح - إصلاح الفقيه فصول في الإصلاح الفقهي

[هيثم بن فهد الرومي]

الفصل: ‌الفصل الأولموقع الفقه في خطة الإصلاح

‌الفصل الأول

موقع الفقه في خطة الإصلاح

((وكيف يستقيم أن يكون الإسلام شريعة ثم لا يكون له حكومة تنفذ تلك الشريعة؟))

الطاهر بن عاشور

[نقد علمي لكتاب الإسلام وأصول الحكم: 25]

((قلما تغلغل الشرع في حياة أمة وفي فكرها هذا التغلغل العميق مثلما فعل في الأدوار الأولى من المدنية الإسلامية)).

هملتون جب [دراسات في حضارة الإسلام: 263]

((إننا نكاد نجزم بأن الجبر العربي يدين في وجوده للفقه والفقهاء)).

د. محمد عابد الجابري [تكوين العقل العربي: 99]

((ولا يمكن أن يكتب تاريخ الموسيقى بعيدًا عن تاريخ الكنيسة في الغرب)).

عصام الزفتاوي [رؤية للموسيقى من منطلق حضاري إسلامي، مجلة المسلم المعاصر: 95: 95]

((عناصر الحضارة مظهر خارجي لروح الأمة)).

غوستاف لوبون [السنن النفسية لتطور الأمم: 73]

ص: 33

الإصلاح يعني: استقامة الأشياء وإقامتها وفق المصلحة ومقاومة الفساد والإفساد، ويدخل في ذلك إصلاح الأديان والأبدان والعقول والأعراض والأموال، فهذه أمور أصلحها الله جل جلاله ببعث الرسل وإنزال الكتب ونهى عن إفسادها {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [الأعراف: 56]

(1)

.

والنظرة إلى معنى الإصلاح لا بد أن تكون نظرة عامة شاملة لا تلتفت إلى جانب من الإصلاح فتقصر اسمه عليه، ولا تسمي الإفساد إصلاحًا، فإن اسم الإصلاح اسم حسن والجميع يدعونه لأنفسهم، حتى الذين يمارسون الفساد بأبشع صوره ينسبون أنفسه إلى الإصلاح.

يقول الله جل جلاله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 11، 12]، وقال جل جلال: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى

(1)

انظر: سنن الله في الأمم من خلال آيات القرآن الكريم، د. حسن الحميد (307).

ص: 34

وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26].

وهذه المنازعة في اسم الإصلاح تُحتِّم علينا أن نرجع إلى تحقيق اسم الصلاح والإصلاح في القرآن الكريم، وأن نعتمده أصلًا تبنى عليه خطة الإصلاح الشاملة والمتكاملة، وأن نرفض أي مفهوم آخر لاسم الإصلاح؛ لأنه لن يكون إصلاحًا شاملًا، بل إنه مهما اشتمل عليه من حقائق الإصلاح فإنه يبقى إصلاحًا ناقصًا غير تام. فإن الصلاح كل الصلاح لا يكون إلا في اتباع أمر الله تعالى وشرعه، وهذا الصلاح صلاح حقيقي في الأنفس والحياة والسياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والأخلاق والبر والبحر، وهذا المعنى من المعاني القطعية في كتاب الله، كما في قول الله جل جلاله:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96]، وقوله جل جلاله:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة: 56، 66]، وقوله جل جلاله:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]. وأما الذي يتنكب سبيل القرآن في بيان حقيقة الإصلاح ويضع لاسم الإصلاح شروطًا مدنية دنيوية لا تضع أمر الدين والآخرة في حسبانها فلا يمكن أن يوصف بالاسم المطلق

ص: 35

للإصلاح، وينبغي لفقهاء الشريعة أن يبينوا هذا الأمر ويوضحوه فإنه من محكمات الدين ولا يأخذهم عنه الحديث الملجلج.

إن من أعظم الفساد الذي دخل على حياة المسلمين في عصورهم الحديثة ما اجترحته يد المحتل الأوروبي من جريمة إقصاء الشريعة عن الحكم والإدارة في بلدان المسلمين وإحلال القوانين الوضعية مكانها، ومن حل المؤسسات القديمة وإبطال الأوقاف أو تجميدها، ومن فرض الأنظمة الأوروبية في السياسة والتعليم والقضاء والإدارة. لقد دمر المحتلون الغزاة البنية التحتية التي قامت عليها حضارة المسلمين ومعاشهم على نحو انتقلت فيه الحياة العامة من فوضى منظمة إلى تنظيم فوضوي لم يجن منه المسلمون إلا لمزيد من الفساد والظلم والأمية والتبعية، وأصبحت أرضهم الثرية منجمًا للمحتل ينهب خيراتها ثم يجعل منها سوقًا لمنتجاته، ويفرض عليها من قوانينه وأنظمته وعملائه ما يكبلها به عن الحركة ويعيقها عن النهوض، وإذا ما ارادت النهضة فإنه يلزمها بنموذجه في النهضة، وهو ذات النموذج الذي به تمكن من إعاقتها وأسرها، فليس من مصلحة المحتل ولا من أهدافه أن يدعم التنمية الاقتصادية والحياة الكريمة في البلاد التي احتلها، بل ذلك يتعارض تعارضًا مباشرًا مع أهدافه ومصالحه

(1)

.

(1)

انظر: الإسلام وأوضاعنا القانونية، د. عبد القادر عودة (134)، خرافة التقدم والتأخر، جلال أمين (27)، الفقه الإسلامي بين النظرية والتطبيق، د. محمد سراج (8)، الفقيه والأزمنة المعاصرة، معتز الخطيب، ضمن بحوث ندوة التقنين والتجديد في الفقه الإسلامي المعاصر (902)، مفهوم الفقه الإسلامي، نظام الدين عبد الحميد (9) ومضات فكر، الفاضل بن عاشور (1/ 150).

ص: 36

إن الشريعة لهي روح الأمة وحياتها وبها تكون نهضتها وحضارتها، والذين ينادون أمتهم للعودة إلى شريعتها هم المصلحون حقًا، وهم الذين يريدون لها أن تتصالح مع ذاتها لتنسجم أجزاؤها وتهتدي في ظلمات التيه الذي أوردها موارد الفرقة والشتات. وما لم يصدر نظام الأمة وقانونها من دينها وشريعتها فستظل محاولات الإصلاح فيها محاولات ترقيعية شكلية جزئية ليس لها روح جامعة

(1)

.

ومن أمثلة الفساد الناتج عن فرض قانون لا يلائم مزاج الأمة وطبيعتها ما جرى من استبدال القانون الفرنسي بالشريعة الإسلامية في مصر وغيرها، ومما جاء فيه في قانون العقوبات على سبيل المثال تعريف جريمة الزنى بأنها خيانة العلاقة الزوجية، وما يجري من زنى خارج هذا الإطار فإنه لا يكون جريمة إلا إذا كان أحد الطرفين قاصرًا أو وقع الزنى بغير رضاه، وهذا التعريف للزنى في القانون الفرنسي يخالف تعريف الزنى لدى المسلمين وهو الوطء في غير حلال مطلقًا، ولا شك أن التعريف الفرنسي بالإضافة إلى مخالفته للتعريف الفقهي فإنه مصادم لمزاج المسلمين وقميهم وفطرتهم وطبيعتهم الراسخة، وما لم يوجد سبيل صحيح لتطبيق الحكم الشرعي الملائم لمزاجهم الراسخ فسيفضي ذلك إلى فساد عريض، ومن ذلك ما يسمى في

(1)

انظر: حتى لا تظل الشريعة نصًا شكليًا، د. علي حسنين حماد (24).

ص: 37

بعض البلدان العربية بـ (جرائم الشرف)، وهي جريمة أخرى نتجت من العبث بهوية الأمة وأخلاقها الراسخة

(1)

.

وما هذا المثال إلا صورة مصغرة لما يؤول إليه الوضع العام عندما تهجر الشريعة التي لا يستقيم نظام الأمة إلا بها، ويستورد قانون نشأ وترعرع في بيئة مخالفة في الدين واللغة التاريخ والقيم.

إن شرائع الإسلام روح وحياة وأحكام ذات شعب متفاوتة، امتزجت بتصورات المسلمين ووجدانهم وأنظمة دولتهم وأشكال حضارتهم، ولا يمكن في بدائه العقول وطبائع الأشياء أن تنجح فيهم دعوة إصلاح لا تكون صادرة عن هذه الشرائع، وحتى تكون محاولات الإصلاح هذه إسلامية فعليها أن تحافظ على ثوابت الشريعة وتنطلق من قواعدها الأساسية ونظامها الشامل

(2)

.

ونحن في هذا الزمان بأشد الحاجة إلى حركة اجتهادية نشطة تواكب المد الحضاري الكبير الذي تنهال أشكاله على الأمة من كل اتجاه؛ لأن استعمال هذه الأشكال دون فحص عن روحها التي أنتجتها من أسباب طروء الخلل على روح الأمة المستورِدة.

وأما ظن بعض الناس أن الحضارة مادة مشتركة لا روح لها فهذا من الخلل الكبير، بل بين الحضارة وبين دين الأمة وثقافتها ارتباط وثيق، ويمكن التمثيل لهذا بفن العمارة في الحضارة

(1)

انظر: الإسلامية نظام مجتمع ومنهج حياة، أنور الجندي (69).

(2)

انظر: الاجتهاد الفقهي المعاصر بين جدلية المرجع والواقع، بشري الشقوري، مجلة الإحياء المغربية (20: 83).

ص: 38

الإسلامية وغيرها من الحضارات، فالعمارة سياق فكري لا يشذ عن مجمل السياقات الفكرية، وهي منبثقة من قيم الحضارة وتراثها وخصوصيتها وبيئتها، ونقلها إلى حضارة أخرى؛ يعني: نقل شيء من روحية تلك الحضارة

(1)

. وإذا ما تأملنا في بناء المدن الإسلامية القديمة وجدنا الأثر الكبير للتصورات الشرعية والأحكام الفقهية في إنشائها وتصميمها، كمركزية المسجد الجامع وتنظيم عرض الطرقات واشتمالها على المرافق والمنشآت الضرورية كالمدارس والأسواق والحمامات، بالإضافة إلى دور الأوقاف في إدارة الحياة الاجتماعية فيها، بل ربما كان الوقف سببًا في إنشاء المدينة ذاتها، مثل ما حصل في إنشاء مدينة سراييفو وتيرانا وغيرهما

(2)

. كما أن هناك الكثير من الأحكام الفقهية التي تنظم العمران وتلائم روح الدين وطبيعة المجتمع في الوقت نفسه، كإقرار حق الشفعة الذي يعطي الجار أولوية في شراء حصة شريكه من العقار بمثل ثمنها

(3)

، مما يضفي نوعًا من الانسجام الاجتماعي في الجوار

(4)

، وكطائفة من الأحكام الفقهية

(1)

انظر: العمارة الإسلامية سجالات في الحداثة، علي ثويني (253).

(2)

انظر: الأوقاف والمجتمع، د. عبد الله السدحان (30)، الوقف في العالم الإسلامي ما بين الماضي والحاضر، محمد الأرناؤوط (103)، ويروي الجزنائي في كتابه: جنى زهرة الآس في بناء مدينة فاس (22): أن الإمام إدريس عندما عزم على بناء مدينة فاس رفع يديه إلى السماء ودعا: ((اللَّهُمَّ اجعلها دار علم وفقه يتلى بها كتابك وتقام بها سُنَّتك وحدودك واجعل أهلها متمسكين بالسُّنَّة والجماعة ما أبقيتها)).

(3)

انظر: الكافي، ابن قدامة (3/ 527).

(4)

انظر: دراسة التحيز في التصميم المعماري، م. سهير حجازي، ضمن بحوث: إشكالية التحيز في الفن والعمارة (100).

ص: 39

التي تنظم عملية البناء ذاتها كضابط تعدد الطوابق وسعة الطرق وتدبير مجاري المياه وإصلاح المراحيض وتدبير الضوء والهواء واحترام الخصوصيات والحفاظ على الحرمات وغير ذلك من الأحكام

(1)

.

والمقصد هنا بيان أثر الفقه في صناعة الحياة الاجتماعية واستقرارها، ودوره في صياغة الهوية الذاتية للأمة وتعزيزها، بل لقد كان الفقهاء حريصين على عدم الإخلال بالموازنات الاجتماعية حتى على مستوى المذاهب الفقهية المستقرة في البلدان، وقد اشتهر عن الإمام مالك (ت 179 هـ) قوله للمنصور (ت 158 هـ) لما هم بحمل الناس على كتاب واحد: (يا أمير المؤمنين لا تفعل، فإن الناس قد سبقت لهم أقاويل وسمعوا أحاديث ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم وعملوا به ودانوا له من اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم، وإن ردهم عما اعتقدوه شديد، فدع الناس وما هم عليه وما اختار أهل كل

(1)

يتناول الفقهاء أحكام البنيان في مؤلفات مستقلة، كما يتطرقون إليها في مناسباتها من الكتب والأبواب الفقهية المختلفة؛ كباب الصلح وغيره، وانظر: أثر الفقه الإسلامي في التهيئة العمرانية للمدن العريقة، عبد الرزاق وورقية، مقال منشور في موقع (الألوكة) في الشبكة العالمية. ومن طريف الموافقات أن هناك شبهًا بين تكون المدينة الإسلامية ونشأة الفقه الإسلامي، كما أن هناك شبهًا بين تكون المدينة الغربية ونشأة التقنينات الغربية الحديثة، حيث تعتمد المدينة العربية التقليدية في تصميمها على عادات الاستعمال لقاطنيها وتتكون شيئًا فشيئًا لتكون ملاقية لأعراف الناس وحاجاتهم، بخلاف المدينة الغربية المعاصرة التي يعتمد تصميمها على تكوين الفكرة مقدمًا وفرضها على التشكيل. انظر: دراسة التحيز في التصميم المعماري، م. سهير حجازي، ضمن بحوث: إشكالية التحيز في الفن والعمارة (84).

ص: 40

بلد لأنفسهم)

(1)

. وقد ورث فقهاء المالكية هذا الفقه عن إمامهم وظهر أثره في فتاويهم وأقضيتهم والتزم به ملوكهم وأمراؤهم فمنعوا الناس في بلادهم من الخروج عن مذهب مالك لأجل الاستقرار الاجتماعي

(2)

، وقد ظهر مؤخرًا حرص وتأكيد سياسي على الهوية المالكية لبعض بلدان المغرب لأسباب لا تخفى على متابع

(3)

.

كما كان لفقهاء المالكية دور في مكافحة المد الشيعي والإباضي الذي عصف ببلاد الغرب زمنًا واستطاعوا الحفاظ على المذهب السني بالرغم من الاضطهاد الشديد الذي عانوه من العبيديين وغيرهم

(4)

، وقد ظهر أثر ذلك في مدونات الفقه وكتب النوازل، كما ظهر في نوع من الصرامة في الجدل الفقهي عندما

(1)

انظر: ترتيب المدارك، القاضي عياض (2/ 71).

(2)

انظر على سبيل المثال: المعيار المعرب، الونشريسي (2/ 169) و (12/ 26)، تاريخ المغرب الإسلامي والأندلس في العصر المريني، د. محمد الحريري (340)، المدارس العتيقة بالمغرب، د. جميل حمداوي (بحث منشور على الشبكة العالمية بموقع دروب)، وللدكتور محمد الروكي في ذلك رسالة صغيرة سماها:(المغرب مالكي.. لماذا؟)، وقد فسر كولسون ما يسمى قفل باب الاجتهاد بأن الغرض منه كان استقرار النظام الاجتماعي والوقوف عند السوابق كما يوجد في باقي بلاد العالم، فالقانون ينبغي أن يستقر ما دام موافقًا لنظام المجتمع، انظر: نقاط التجاذب والخلاف في الفقه الإسلامي، كولسون، مجلة المسلم المعاصر (3: 150).

(3)

انظر: إشكالية الوظيفة الدينية في الدولة المعاصرة، امحمد جبرون (12).

(4)

انظر: الأثر السياسي للعلماء في عصر المرابطين، محمد محمود بن بية (295)، وهذه المقاومة العلمية والفقهية من قبل علماء السُّنِّة للمذهب الشيعي تكررت في أمكنة وأزمنة مختلفة، كالعراق زمن البويهيين، ومصر أيام العبيديين، وغير ذلك.

انظر مثلًا: الحياة العلمية في العراق خلال العصر البويهي، د. رشاد معتوق (395).

ص: 41

يتعلق الخلاف الفروعي بطائفة مخالفة في الأصول، وربما زالت هذه الصرامة وخفَّت حدتها بعد زوال الهيمنة السياسة للطائفة المخالفة

(1)

.

ويشرح الشيخ عبد الله كنون (ت 1409 هـ) في كتابه ((النبوغ المغربي)) كيف أسهم الفقهاء قبل ذلك في تثبيت الإسلام ونشره في بلاد المغرب أول مرة، وأن المغاربة لم يعادوا الإسلام في أول الأمر ولم يقاوموه تلك المقاومة العنيفة، إلا لجهلهم بحقيقته وعدم إحاطة علمهم بمحاسنه ومزاياه. وقد فطن لذلك الولاة العرب بعد حين، فرتبوا لهم الفقهاء والقراء يلقنونهم العربية ويبصرونهم بالدين، فأنزل عمر بن عبد العزيز (ت 101 هـ) فإفريقية والمغرب عشرة من الفقهاء يعلمون الناس القرآن ويفقهونهم في الدين، وكذلك فعل موسى بن نصير (ت 97 هـ) فرتب عددًا من القراء والفقهاء للغرض نفسه، فلما اكتنهوا كنه الإسلام وعرفوا حقيقته وتمرسوا بتعاليمه السامية وآدابه العالية، أصبحوا من أكبر دعاته وأحمى أنصاره، فجاهدوا في سبيله الجهاد الأكبر وبذلوا النفس والنفيس لإبلاغ دعوته إلى أقاصي البلاد، فهم الذين فتحوا الأندلس وسهلوا طريقها للعرب، ومازالوا بعد ذلك حاميتها وذادتها إلى آخر العهد بها، وهم الذين اقتحموا مجاهل إفريقية وحملوا إليها الهداية الإسلامية والثقافة العربية

(2)

.

(1)

انظر: الفكر التشريعي وأسس استمرار الإسلام، د. المبروك المنصوري (167).

(2)

انظر: النبوغ المغربي (1/ 41).

ص: 42

فالفقه له دوره الكبير في صناعة الحياة الاجتماعية وتنظيمها على هيئة تصبح بمرور الزمن من الأحوال الراسخة التي يصعب نقلها، ولما حاول العثمانيون تغليب المذهب الحنفي في تونس على المذهب المالكي السائد فيها، وإدخال اللغة التركية في الزيتونة نجم من ذلك فوضى واختلال

(1)

.

وإذا كان هذا الرسوخ والاستقرار الاجتماعي يمكن أن يصيبه نوع من الخلل في حالة فرض مذهب فقهي على بلاد يغلب فيها مذهب آخر مع أنها مذاهب فقهية شرعية معتبرة، فكيف إذًا هي الحال عندما يفرض قانون أجنبي (غريب الوجه واليد واللسان) على بلاد وبيئة تختلف تمامًا عن بيئة القانون وبلاده؟

إن المجتمعات الإسلامية مجتمعات مؤمنة، وللدين والأخلاق وأصول الاعتقاد الأثر الأكبر في صياغة تصوراتها ووجدانها، وليست سلطة القانون الإلزامية وحدها هي من يحملها على الخير والصلاح، بل إن حالة التدين الجماعي وواعظ الله في قلب كل مؤمن والاحتساب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتربية الوالدين وحقوق النصيحة، كل أولئك من المؤثرات الكبيرة في استقامة المجتمع وصلاحه، وإذا عزلت هذه المؤثرات عن دورها وجرى استيراد قانون أجنبي لا يتلاءم معها فهذا من أسباب الفساد المشرعة مهما وصفت تلك القوانين باسم الإصلاح.

(1)

انظر: التفكير الإصلاحي في تونس في القرن التاسع عشر إلى صدور قانون عهد الأمان، رشاد الإمام (184).

ص: 43

إن الفقه لا يعمل وحده دون منظومة من التدين والأخلاق والوازع النفسي والجماعي، ولو أخذت فرنسا أو سويسرا بأحكام الشريعة فإنها لن تحقق ذات الآثار التي تحققها في مجتمع مسلم مؤمن

(1)

، وبهذا ندرك جيدًا أن تطبيق شرع الله جل جلاله ليس مجرد مسألة فقهية أو قانونية، بل هو حل نفسي واضح وعودة إلى الذات، وهو حجر الزاوية للخروج من حالة التيه والشتات واستعادة الهوية التي عبث بها المحتل ووكلاؤه

(2)

.

(1)

انظر: الفقه الإسلامي ومدارسه، مصطفى الزرقا (15)، هوامش على دفتر الفقه، د. عبد الحليم عويس، مجلة المسلم المعاصر (6: 119).

(2)

انظر: نشأة الفقه الإسلامي وتطوره، د. وائل حلاق (21).

ص: 44

الإصلاح شعار الأنبياء به بعثوا وبه تنزلت الكتب ونصبت الشرائع، وشريعة الإسلام مشتملة على جلب المصالح كلها وعلى درء المفاسد بأسرها، وفيها الخير كله والصلاح كله، وهذه المصالح منها ما يعرفه الذكي والبليد ومنها ما يختص بمعرفته الأذكياء ومنها ما يختص أهل العلم والإيمان بمعرفته كما قال الله جل جلاله:((والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا))، فإن العالم المؤمن يهتم بمعرفة حكم الله وشرعه فيكون بحثه أتم واجتهاده أكمل، كما أن العالم المؤمن يوازن بين المصالح والضروريات فلا يأخذه الالتفات إلى أحدها والانشغال به عن بقية المصالح، فإن من الناس من يلتفت إلى مصالح الدنيا ويهمل مقاصد الآخرة مع أنها مقدمة عليها، ولذا شرع الجهاد مع ما فيه من فوات مصالح الدنيا. وقد فصَّل الفقهاء في مراتب المصالح وأفاضوا في دقائق قواعد الموازنات والمفاضلات، والمصالح في جملتها ترجع إلى خمسة مصالح وهي الدين والنفس والعقل والعرض

ص: 45

والمال، وقد جاءت الشريعة بحفظ هذه المصالح من جهة إقامتها وإنشائها ومن جهة حراستها والحفاظ عليها، وتفاصيل الفقه وفروعه ترجع مآلاتها إلى هذا المعنى

(1)

.

وهذه المصالح لا تنافي قضايا العقول ولا تأتي بما يخالفها، فإن هذه الشريعة الخاتمة شريعة كمال وجمال وما جاء فيها من الشرائع فهي شرائع موافقة لمصلحة البشر وفيها الرحمة والخير والنعمة التامة. قال القرطبي (ت 671 هـ) في قول الله تعالى:{وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3]: (أي: بإكمال الشرائع والأحكام)

(2)

ولئن شرع الله جل جلاله على بعض الأمم شرائع فيها عنت ومشقة على سبيل العقوبة لهم، فإن هذه الأمة أمة مرحومة لم يكلفها الله تعالى فوق طاقتها ولم يحمل عليها إصرًا كما حمله على الذين من قبلها ولم يشرع لها إلا ما فيه مصلحتها ونفعها في الدنيا والآخرة

(3)

، وأما ما قد يعرض لبعض العقول من الاعتراض على بعض الشرائع فإن وقوع هذا لا بد منه، فإن الفساد يتطرق إلى العقول كما يتطرق إلى الأبصار والأسماع فيرى الشيء بخلاف ما هو عليه.

قال مسكويه (ت 421 هـ): (ليس يجوز أن ترد الشريعة من قبل الله تعالى بما يأباه العقل ويخالفه، ولكن الشاك في هذه

(1)

انظر: قواعد الأحكام، العز بن عبد السلام (1/ 38)، الموافقات، الشاطبي (2/ 18)، الجواب الصحيح، ابن تيمية (5/ 441).

(2)

الجامع لأحكام القرآن (7/ 293).

(3)

انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (19/ 25) و (20/ 199).

ص: 46

المواضع لا يعرف شرائط العقل وما يأباه، فهو أبدًا يخلطه بالعادات ويظن أن تأبِّي الطباع من شيء هو مخالفة العقل. وقد سمعت كثيرًا من الناس يتشككون بهذه الشكوك وحضرت خصوماتهم وجدالهم فلم يتعدوا ما ذكرته)

(1)

.

والفقهاء في ممارساتهم الفقهية المختلفة يتدربون ويتفقهون على إدراك المصالح واعتبارها، وهذه المصالح التي يتطلبونها مصالح بينت الشريعة أصولها وسبل الاهتداء إليها، ولئن اختلفت القوانين الحديثة في المرجعية المعيارية التي تبني عليها القوانين فإن مبنى هذه الشريعة على محكمات الدين وأصوله، وهذا ما يعصم مسار الإصلاح بعمومه من المتاهات التي ضلت فيها عقول الذين لا يؤمنون بالدين ولا يحتكمون إلى شرع الله وأمره، فإن صحة التصورات ومتانة البناء الأخلاقي ورسوخه قاعدة تبتني عليها الأحكام والشرائع، وأهدى العقول هي العقول التي تتصالح مكوناتها الاعتقادية والأخلاقية والقانونية، وشريعة الإسلام أقوم الشرائع في هذا وأعدلها؛ لأنها شريعة الله الذي له الخلق والأمر، والذي فرض أمره ونهيه على مقتضى ما أجرى به خلقه من السنن، وجبل عليه الناس من الطبائع

(2)

.

إن طبيعة الفقه طبيعة إصلاحية، وهو لا يكتفي بالفعل

(1)

الهوامل والشوامل (354)، وانظر: الموافقات، الشاطبي (3/ 208).

(2)

انظر: استثمار النص الشرعي على مدى التاريخ الإسلامي، أبو الطيب مولود السريري (235)، الخطاب الديني بين تحديث الدخلاء وتجديد العلماء، د. محمد نعيم ساعي (165).

ص: 47

السلبي كحال القوانين التي تفصل بين الناس عندما يتنازعون ويتخاصمون، بل يمارس دوره الإيجابي الفعال في الإصلاح، وكذلك الدولة التي تقوم بالشريعة فإنها ليست ذات غاية سلبية بحيث تقتصر مهمتها على حماية الناس من العدوان وحفظ حرياتهم أو الدفاع عن الدولة نفسها، بل غاية الدولة في الإسلام إيجابية تدعو إلى الخير وتنهى عن الشر وتتمثل قول الله جل جلاله:{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج: 41]

(1)

. وإطلاقات الفقهاء في أن من أغراض الخلافة أو الإمامة أو الدولة حراسة الدين

(2)

، ليس مقصودهم منها الجانب السلبي للحراسة والمفهوم السلبي للدولة بقصر وظيفتها على الرعاية والتمكين، بمعنى حماية الحريات الفردية بمفهومها التقليدي وتمكين الأفراد من ممارستها وفق ما تمليه عليهم رغباتهم، فإن مفهوم الدولة ووظائفها في الإسلام يؤخذ من الشريعة ذاتها، ومن ذلك حراسة الدين بحفظه ونشره والدعوة إليه وإنفاذ شرائعه، واستخدام القوة في تحقيق هذه المقاصد العليا، وهذه جوانب إيجابية توضح رسالة الدولة وغايتها الإصلاحية في الإسلام، حيث تقيم المجتمع كله على أسس إسلامية في الحكم والإدارة والسياسة، وفي العلوم والفنون والآداب، وفي الاجتماع والاقتصاد

(3)

.

(1)

انظر: نظرية الإسلام السياسية، المودودي (41).

(2)

انظر على سبيل المثال: الأحكام السلطانية، الماوردي (3).

(3)

انظر: الإسلام وأوضاعنا القانونية، د. عبد القادر عودة (105)، خصائص التشريع الإسلامي في السياسة والحكم، د. فتحي الدريني (179)، نظرية الإسلام السياسية، المودودي (41).

ص: 48

إن الإصلاح في الإسلام إصلاح شمولي، ولا يمكن الفصل في منهاج الشريعة بين إصلاح الإنسان وإصلاح الدين وإصلاح العلاقة مع الله جل جلاله، والرؤى التي تحاول الفصل هي رؤى متأثرة بمفاهيم أجنبية للإصلاح لا يتم بها الصلاح الحقيقي، ولذا فإننا نلحظ أن الإصلاح فيها يشتمل على نوع من الفساد يلازمه أو يقتضيه، وتظل فلسفات البشر تلاحق متوالية الفساد هذه في غفلة عن القانون الرباني الذي لا يجري الصلاح التام إلا به.

يشير إدغار موران في كتابه ((هل نسير إلى الهاوية)) إلى أن هناك صلة متينة لا تنفك عراها بين المسلسلات السالبة والمسلسلات الموجبة، فالتوحيد التقني والاقتصادي الذي أحدثه الغرب يؤدي على الصعيد العام إلى تشرذم وعنصرية، والليزر يقتل ويشفي، والتقنيات المتناهية في الصغر تبشر وتنفر، والتقدم العلمي أدى إلى إنتاج السلاح النووي وانتشار أسلحة القتل الجماعي، وعولمة السوق الاقتصادية صنعت جزرًا صغيرة للثراء والرخاء توازيها مناطق للبؤس تتكون في مدن الصفيح حول التجمعات السكنية في أنحاء المعمورة، بالإضافة إلى تفكك أشكال التكافل التقليدية وتفشي الفساد والجريمة والمخدرات، فتزوال أشكال من التعاسة البشرية لتخلفها أشكال أخرى، وتحدث أشكال جديدة من الاحتقار لتخلف أشكالًا قديمة منه

(1)

.

(1)

انظر: هل نسير إلى الهاوية (158 - 163).

ص: 49

ويتساءل هشام جعيط: (القاهرة مدينة يحلو فيها العيش أكثر من نيويورك أو لوس أنجلس. لكن الإشكال الكبير هو التالي: إذا ما نمت بلداننا وصارت في مستوى أوروبا مثلًا، ألا يقع تغيير في تضامن العائلة وتستفحل الفردية كما في أوروبا وأكثر من ذلك في أمريكا؟ ألم تكن الحضارة الغربية قبل حينٍ هي أيضًا متضامنة محترمة للشيوخ والآباء ثم تطورت إلى القسوة والفردانية؟ هذا ما أراه محتملًا فيما يخصنا؛ أي: أن تأخرنا يحمينا في بعض الجوانب، لكن لن يقينا تقدمنا مما جرى في الغرب)

(1)

.

وهذا الإشكال الذي يسميه كبيرًا مشكل جدًا؛ لأنه يتعامل مع الإنسان تعاملًا ميكانيكيًا موغلًا في المادية ويستبعد الفروقات الدينية الإيمانية من التأثير. وربما حصل شيء من هذه النتائج المتشابهة أو كثير منها ولكن علينا أن نتذكر جيدًا أن هذه التأثيرات لا تجري في مجتمعات تحكمها الشريعة بل في مجتمعات أقصيت الشريعة فيها عن الحكم، ومن الطبيعي أن ينتقل الفساد إذا وجدت أسبابه، ولكن هذا لا يعني أن هذه حتمية وصيرورة جبرية لا بد منها، فإن هذه آثار للعلمانية لكنها ليست آثارًا للإسلام.

لقد عبر محمد أسد (ت 1992 م) عن مخاوفه من أن يزول الاستقرار والتماسك الروحي الذي شاهده في بلاد العرب عندما تجتاحها المؤثرات الأوروبية

(2)

، وقد تحقق بالفعل جزء من تلك المخاوف، ولكن كل هذا يجري في بيئات غرس الاحتلال

(1)

أزمة الثقافة الإسلامية (36).

(2)

انظر: الطريق إلى الإسلام (115).

ص: 50

الأوروبي فيها الشتات والتمزق والضياع من خلال إحلال أنظمته وقوانينه فيها، أما حين تعود إلى ذاتها وشريعتها فسيعود إليها استقرارها وتوازنها وتكامل مكوناتها.

إن الذين يقيسون مفاهيم الفقه والحضارة الإسلامية ويحاكمونها إلى مفاهيم فلاسفة السياسة الغربيين يتجنون عليها كثيرًا ويخطئون في فهمها ولا يتصورون مدى الفرق بين المنهج الإسلامي والرؤية الغربية للإنسان والدين والحياة، ولا يدركون الأثر الكبير للحقائق والمفاهيم الإسلامية العملية كـ:(الزكاة) و (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) و (النفقات) و (الأوقاف) و (الاحتساب) و (البر) و (الصلة) وغيرها من الأسماء والحقائق الشرعية التي لها بالغ الأثر في حياة المسلمين. ويخطئون أيضًا عندما يتصورون أن للتقدم والتطور والحضارة صيرورة لا تتخلف ولا تختلف، مع أن المسلمين صنعوا حضارة عظيمة وكانوا مؤمنين في الوقت نفسه. لقد نظر هؤلاء إلى التصور الغربي لمفاهيم مثل:(الدولة) و (الحضارة) و (التقدم) فجعلوا منها قيمًا مطلقة عالمية مع أن جزءًا كبيرًا مما تتكون منه هذه المفاهيم مختص بالذين أنتجوها.

إن مفهومًا كمفهوم (النهي عن المنكر) أو (الاحتساب) أو (النصيحة) على سبيل المثال لهو من المفاهيم المؤثرة في تحقيق الصلاح، وثمت فرق كبير بين المجتمع والحضارة التي تشتمل على هذا المعنى والمجتمعات الذي لا تشتمل عليه، وعند النظر في تاريخ المسلمين نلحظ: أن الاحتساب كان شعيرة إصلاحية عامة في شتى المجالات دون أن يقتصر على الشعائر التعبدية أو

ص: 51

منكرات اللباس والمظهر أو أي مجال آخر محدود، فإذا أضيف إلى ذلك الإيمان بما وعد الله به المؤمنين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر من الحياة الطيبة والمعاش الصالح فإننا نعلم شيئًا من الفرق بين بيئة مؤمنة وأخرى كافرة

(1)

.

لقد شرع الله جل جلاله لنا من الدين ما فيه الصلاح التام لأحوالنا، وشرط تحقق النتائج بتمامها أن نمتثل لشروطها، فإن الفقه لن يؤتي ثماره التامة ما لم يُفعَّل في بيئته، أما إذا عزلناه عن التأثير وأقمنا له المجامع والمؤتمرات والفعاليات دون تكوين وتوليد وترسيخ آليات لتطبيقه في كافة شؤون الحياة فإننا لن ننعم بآثاره، ولا يعني ذلك أنه لن يجدي نفعًا ألبتة فإنه خير على كل حال، ولكن تمام هذا الخير في امتثال شروطه.

يقول الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ): (فلو أن قومًا غير مسلمين عملوا في سيرتهم وشؤون رعيتهم بمثل ما أمر الله به المسلمين من الصالحات بحيث لم يعوزهم إلا الإيمان بالله ورسوله، لاجتنوا من سيرتهم صورًا تشبه الحقائق التي يجتنيها المسلمون؛ لأن تلك الأعمال صارت أسبابًا وسننًا تترتب عليها آثارها التي جعلها الله سننًا وقوانين عمرانية، سوى أنهم لسوء معاملتهم ربهم بجحوده أو بالإشراك به أو بعدم تصديق رسوله يكونون بمنأى عن كفالته وتأييده إياهم ودفع العوادي عنهم، بل يكلهم إلى أعمالهم وجهودهم على حسب المعتاد)

(2)

.

(1)

انظر: المجتمع العربي من سيادة العلم إلى وحل الخرافة، يحيى بن جنيد (97).

(2)

التحرير والتنوير (18/ 284).

ص: 52

لقد كانت سيرة الأئمة الفقهاء مثالًا حيًا ونموذجًا قائمًا على دعاة الإصلاح الذين يتمثلون الإصلاح في أنفسهم ثم يسعون بما حولهم نحو الصلاح، ولم تكن جهودهم الإصلاحية مقتصرة على التعليم والنصح والوعظ والتوجيه، بل كانوا يتولون المهام الإصلاحية المتنوعة على أكمل وجه، ولأجل هذا أحبهم الناس وكانت لهم عندهم تلك المكانة والوجاهة لما عاينوا من آثارهم الحميدة، فقد كانوا رعاة للمحرومين وحماة لهم، وأمناء على أموال الصدقات، وعرفاء على الأعمال العمومية، وكانوا يبذلون جاههم لخدمة الناس والشفاعة لهم عند أصحاب النفوذ، ويشعرون بالمسؤولية نحو الإنسان البسيط، وكانوا مفزعًا للضعيف والمظلوم وذي الحاجة

(1)

.

وعند تتبع سير الفقهاء لا نجد مساعيهم في الإصلاح

(1)

انظر: نشأة الفقه الإسلامي وتطوره، د. وائل حلاق (251).

ص: 53

مختصة بنوع أو مجال محدد كالمجال الديني على سبيل المثال، بل كانت مساعي متنوعة في السياسة والاجتماع والاقتصاد والثقافة والأخلاق. فجهودهم في إصلاح اعتقادات الناس وتصوراتهم مشهورة ومستفيضة، ومن أمثلتها المشتهرة موقف الإمام أحمد (ت 241 هـ) في فتنة القول بخلق القرآن ومقامه الكبير فيها، وهذا الموقف وغيره يدل على حرص الفقهاء الشديد على الحفاظ على صلاح التصورات العامة لما يتبني عليها من آثار عميقة في الواقع، فأعمال العاملين تجري على حسب معتقداتهم وأفكارهم، ولذلك كان من أسلوب الإسلام في الأمر بالأعمال الصالحة والنهي عن أضدادها أن يبتدئ بإصلاح العقائد والتصورات

(1)

.

ومن أمثلة ذلك أن الفقيه المالكي أبا عبد الله الحفار (ت 811 هـ) سئل عن قراءة كتب الوعظ في المساجد فقال: (يشترط في ذلك أن يكون الواعظ من الكتاب أو مما يلقيه الواعظ من حفظه أن يكون صحيحًا لا ترده القواعد العلمية؛ لأن الكتب الموضوعة في الوعظ قد اشتملت على باطل كثير وعلى أمور شنيعة ومناكر فاحشة تضاف إلى الرسل والأنبياء، وعلى قصص باطل ترده القواعد العلمية، فمن أخذ في هذه الطريقة فليتخير ما يحفظ إن كان يعظ من كتاب، وهذا يحتاج إلى حظ وافر من الطلب)

(2)

، واهتمام الفقهاء بهذا تغني شهرته عن الإفاضة فيه،

(1)

انظر: أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، ابن عاشور (108).

(2)

المعيار المعرب، الونشريسي (7/ 111)، وانظر: المعيار المعرب (6/ 70).

ص: 54

فقد كانوا موجهين للجماهير بمختلف شرائحهم الاجتماعية؛ لأن الفقه هو مادة التدين وهو شديد الحضور في المجال التربوي للأمة المؤمنة، وهذا ما يجعل من مركزهم شديد الخطر في الموقف الإصلاحي

(1)

.

وكان للفقهاء كذلك الدور الأكبر في الإصلاح الاجتماعي على مستوى الأسرة أو ما هو فوقها من الروابط الاجتماعية المختلفة، وفي إصلاح العادات والأخلاق الاجتماعية وتهذيبها، وكان هذا الإصلاح بالمخالطة والوعظ والتأديب والتربية والنصيحة المباشرة لا بمجرد التصنيف في الآداب والأخلاق

(1)

انظر: التوحيد والوساطة في التربية الدعوية، د. فريد الأنصاري (129). وربما يُورد هنا أن إصلاح العقائد ليس من وظائف الفقيه بالاصطلاح المتأخر للفقه فما وجه إدخال إصلاحها فيما يهتم به الفقيه، فيقال هنا إن ثمت جوابين:

فأما الجواب الأول: فأنه قد مر بنا أن اسم الفقيه لا يمكن أن يتحقق معناه كمال التحقق إلا في فهم الدين بوجه عام ومن ذلك علم الحلال والحرام وأصول الدين وغيرهما، والفقيه الذي هو المجتهد لا يتوصل إلى منهجية اجتهادية عامة ما لم يكن له تضلع في ذلك كله، وهذا أمر قد سبق بيانه.

وأما الجواب الثاني: فهو أن مسائل الاعتقاد مفتقرة بدورها إلى فقه في تحقيقها على الوقائع فيما يتعلق بأفعال المكلفين والحكم عليها، فإن قواعد العقائد وإن علمت بالاستدلال لها واستقراء كلام السلف فيها إلا أن تحقيق هذه القواعد وتنزيلها من قبيل مسائل الفقه التي تحتاج إلى فهم عميق للقاعدة وفهم للواقعة ومعرفة بسبيل التنزيل، وليست كالمعادلات الحسابية التي تؤدي إلى نتائجها بالضرورة، بل هي قضايا فقهية تحتاج إلى فقه في تنزيلها ولا يكون ذلك متاحًا لكل أحد، والغفلة عن هذا المعنى من أسباب الفوضى التي تحصل في أمثال هذه المسائل لا سيما مسائل الإيمان والكفر والأسماء والبدعة والتعامل مع المخالف وما يترتب عليها من الأحكام.

ص: 55

النظرية فحسب كشأن الفلاسفة، بل هم مخالطون للناس ومتصلون بكافة الشرائح الاجتماعية، مما يجعل لكلمتهم عميم النفع وكبير الأثر

(1)

.

وأما دور الفقهاء في الإصلاح السياسي فقد تقدم بيانه وأمثلته أكثر من أن تحصى، سواء كان دورًا بالمعنى الإيجابي أو بالمعنى السلبي، وقد تقدم ذكر مثل هذا، وكان دورهم في إصلاح السياسة يتراوح- كما سيأتي بيانه-بين المشاركة فيها أو المعارضة لها أو ممارسة الضغوط الإصلاحية دون مشاركة، وكان لهذه المواقف أثر كبير على الأمراء والسلاطين، وفي التاريخ شواهد جمة تدل على ذلك، والكثير من هذه المواقف لا تدل على مشاركة الفقيه فحسب، بل تدل على اشتهار طائفة الفقهاء بهذا بحيث إنهم غدوا ملجأً للناس عندما تضيق بهم الحال، ومن أمثلة ذلك أن السلطان عبد الحق المريني (ت 869 هـ) ولَّى حاكمين يهوديين على فاس على وجه العقوبة، فشرع اليهوديان في أخذ أهل فاس بالضرب والمصادرة على الأموال واعتز اليهود بالمدينة، فاجتمع الناس عند خطيب القرويين الفقيه أبي فارس عبد العزيز بن موسى الورياكلي (ت 880 هـ)، وكانت له صلابة في الحق وجلادة عليه بحيث

(1)

انظر أمثلة لذلك في: دور فقهاء الأندلس في الحياة السياسية والاجتماعية بالأندلس في عصري الإمارة والخلافة، د. خليل الكبيسي (207)، فقهاء المالكية وآثارهم في مجتمع السودان الغربي، سحر مرجان (212)، وانظر: دور القادة الدينيين في تغيير السلوكيات الخطرة، مجلة الإحياء المغربية (25: 15).

ص: 56

يلقي نفسه في العظائم ولا يبالي، وقالوا له: ألا ترى إلى ما نحن فيه من الذلة والصغار وتحكم اليهود في المسلمين والعبث بهم حتى بلغ حالهم إلى ما سمعت؟ فنجع كلامهم فيه، وللحين أغراهم بالفتك باليهود وخلع طاعة السلطان عبد الحق وبيعة الشريف أبي عبد الله الحفيد فأجابوه إلى ذلك واستدعوا الشريف المذكور فبايعوه والتفت عليه خاصتهم وعامتهم، فقلب الورياكلي بذلك سلطان المرينيين رأسًا على عقب

(1)

. وليس الشأن في هذه الحكاية وأمثالها في فعل الفقيه، بل في مسارعة العامة إليه لما نابهم ما نابهم، والناس لا يفزعون في مثل ذلك إلا لمن يرونهم من أهل الأمانة والقوة، وفي هذا دلالة ظاهرة على قدرة الفقهاء على الإصلاح العام إذا ما وقفوا أنفسهم له وكان الناس في ذلك لهم سندًا وردءًا.

كما تحفظ شواهد التاريخ للفقهاء مواقفهم المشهودة في درء فتن الانقسام والاحتراب داخل المجتمعات الإسلامية، وإسهامهم في إصلاح ذات البين بين الملوك والقبائل والعشائر والأسر، وفي وقف القلاقل والحروب بين الطوائف المتنازعة، ومن الأمثلة المشهورة في ذلك مساعي الفقيه المالكي أبي الوليد الباجي (ت 474 هـ) في الإصلاح بين ملوك الطوائف في الأندلس

(1)

انظر: الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، الناصري (4/ 98)، وقد كان الشيخ زروق (ت 899 هـ) ينتقد فعل الورياكلي هذا ويترك الصلاة خلفه لأجله، وليس المقام مقام تحقيق موقف بقدر ما هو إشارة إلى أثر الفقهاء وتجاوب العامة معهم، انظر: جذوة الاقتباس، ابن القاضي (452).

ص: 57

ومحاولاته الحثيثة لرأب الصدع وجمع كلمة المسلمين في تلك الأزمنة الحرجة

(1)

.

فالفقيه الحق ليس بالذي يعتزل الناس في مجلسه ومحرابه، بل هو الذي يتصدى لجعل الفقه واقعًا حيًا يعيشه الناس ويعاينون آثاره المباركة، وهو الذي يحرس الثغر ويأمر بالمعروف وينكر المنكر ويتصدى لنصرة المستضعفين وينشر العلم ويعين على نوائب الحق وينفع الناس على كل أحواله

(2)

.

صاغ شيخ الإسلام في الدولة العثمانية أبو السعود أفندي (ت 982 هـ) تقنينات جنائية شرعية لتطبيقها في البلاد المفتوحة من شرق أوروبا فانخفضت معدلات ارتكاب الجريمة في تلك الأقاليم

(3)

، وكذلك الفقه حينما ينهض به الفقهاء ويفعلونه في واقع الحياة يؤتي أكله وتظهر آثاره، أما حين ينزوي الفقيه للبحث والتأليف في مسائل الأقدمين ويتخذ الحياة ظهريًا فستتخذه الحياة ظهريًا كذلك.

(1)

انظر: الحياة العلمية في عصر ملوك الطوائف في الأندلس، د. سعد البشري (573).

(2)

انظر: علماء الإسلام في الماضي قوة حاضرة في جل الأنظمة، إبراهيم حركات، ضمن مجموع ((التاريخ والفقه: أعمال مهداة إلى المرحوم محمد المنوني)) (110).

(3)

انظر: الفقه الإسلامي بين النظرية والتطبيق، د. محمد سراج (180).

ص: 58

الإصلاح وظيفة للأمة كلها لا تختص بها منهم طائفة دون أخرى بل الجميع فيها مساهم مشارك، وهذا من مقتضى خيرية هذه الأمة التي تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، ومع أن تدبير الشؤون العامة ورعاية المصالح العامة من قبيل فروض الكفايات إلا أنها بحاجة إلى أن يقوم كلٌّ بوظيفته في سبيل الإصلاح، وربما اختص إنسان بشيء من فروض الكفايات حتى انتهى فرض عين عليه بتخصصه فيه

(1)

، وتبقى فروض الأعيان الأصلية التي افترضها الله جل جلاله على عباده من أكبر أسباب الصلاح بمفهومه الإيماني الشامل، ومتى قام كل إنسان بما هو واجب على مثله كان الصلاح عامًا في الناس، فالفقه الحي هو الفقه الذي يوقد في القلوب جذوة التدين والارتباط برب السماء لا الوقوف عند الرسوم والوسائط، وقد جاء في الحديث المتفق

(1)

انظر: إحياء الفروض الكفائية سبيل تنمية المجتمع، د. عبد الباقي عبد الكبير (21).

ص: 59

عليه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راعٍ ومسؤول عن رعيته، الإمام راعٍ ومسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده ومسؤول عن رعيته)) قال: وحسبت أن قد قال: ((والرجل راعٍ في مال أبيه ومسؤول عن رعيته، وكلكم راعٍ ومسؤول عن رعيته))

(1)

.

فالعبء الإصلاحي واقع على الأمة بمجموعها ولكلِّ دوره فيه، فأما التصدي لما هو من قبيل الشأن العام الذي لا يختص بأحد دون أحد فهو من الكفايات التي إذا قام بها البعض ارتفع الإثم عن البقية، وإذا قصر الجميع نزل الإثم بهم، ولا تختص هذه الكفايات بالفقهاء بل الفقهاء لهم دورهم المحدد الذي هو من وظيفة الفقيه كالاجتهاد والبيان والنصيحة والتعليم والإرشاد، فأما ضروب الكفايات المختلفة فهي واجبة على من هو قادر عليها ومتخصص فيها في أي مجال كان، ومما تمتاز به حضارة المسلمين أنها قد تلاقت فيها جميع التخصصات، واستغرق العمل الفقهي خلال القرون الأولى طاقات الأمة الفكرية إلى حد لا نظير له، وأسهم في مناقشة القضايا التشريعية الفقهاء والمحدثون واللغويون والمؤرخون والأدباء وعلماء الأصول وأهل الحساب

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الجمعة، باب الجمعة في القرى والمدن (893)، ومسلم في كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر والحث على الرفق بالرعية والنهي عن إدخال المشقة عليهم (1829).

ص: 60

وسواهم، وامتزج الفقه بعلوم الأمة وصنائعها ووظائفها ومؤسساتها، على نحو يمكن تقريبه بامتداد الإدارات القانونية في المؤسسات الحديثة بحيث تختص كل إدارة بطبيعة عمل الدائرة التي هي فيها، ونحن إذا قلنا بوجوب تحكيم الشريعة في كافة أعال الدولة فمن ضرورة ذلك مشاركة الفقيه وقربه من هذه الأعمال بالآليات والإجراءات التي يقتضيها الحال والزمان

(1)

.

لقد كان الفقهاء في السابق يطالبون الفقيه أن يكون له اطلاع ومشاركة ذات تنوع في المعارف والفنون المختلفة، ومما يعيب الفقيه لديهم أن يكون منقطعًا إلى الفقه عن تحقيقه في واقع الحياة باطلاعه على معاشات الناس وأحوالهم وعلومهم التي بها قيام أمرهم، ولئن كان في العصور المتأخرة من يطالب الفقيه بشيء قريب من ذلك

(2)

، إلا أن تنوع العلوم والمعارف ودقة التخصصات في هذا الزمان بلغت مبلغًا تجهد متابعته المتخصص نفسه فضلًا عن سواه، ومع ذلك فلا أقل من أن يقف الفقيه على أرض صلبة من المعرفة الإنسانية والطبيعية والطبية ولو بالقدر الذي يكفل له فهمًا عامًا لأحوال الاجتماع والحياة، ثم بالقدر الذي يتعلق بالحالات والوقائع التي يتصدى لبيان الحكم الشرعي لها

(3)

، وعليه أن يكون دائم الاستحضار للواقع وما يقتضيه من

(1)

انظر: تكوين العقل العربي، د. محمد عابد الجابري (97).

(2)

انظر على سبيل المثال: مناهج الألباب المصرية، رفاعة الطهطاوي (248).

(3)

انظر: العلماء بين عزلة التخصص وتكامل المعرفة، د. علي القريشي، مجلة المسلم المعاصر (89: 101).

ص: 61

وجوب جريان الأحكام على وفقه، وأن يكون عالمًا بأحوال زمانه وأحوال أهله، وجوالب المضار والمنافع، وأن يعلم درجات المضار والمنافع الموجودة في مواطن فتواه

(1)

، لا سيما في فتاوى النوازل العامة وقضايا الأمة الكبرى التي يتوخى فيها أن تكون رافعة حضارية وعملية بحثية تقود الرأي وتستبصر مآلات الأمة والمخاطر المحدقة بها

(2)

.

لقد كان من أبرز سمات حضارتنا التي علتها تذوق طعم الانسجام الداخلي وتآلف المكونات ما جرى من التكامل بين فرقاء المعرفة، بحيث كان العلماء بكافة تخصصاتهم يهتدون ببصائر الوحي ويسعون لغاية واحدة، وكان الناس جميعًا- بما فيهم العلماء المتخصصون في المعارف الطبيعية والطبية والفلكية وغيرها-يفزعون إلى أهل الذكر لسؤالهم فيما يشكل عليهم، ومن طالع كتب العلماء المسلمين بشتى تخصصاتهم لم تغب عنه فيها النبرة الإيمانية المستهدية بهدايات الشريعة

(3)

.

كما أن كتب الفقهاء ومدوناتهم حافلة بهذا التكامل في تحقيق المصالح والذرائع والمناطات وغير ذلك، وكثيرًا ما يحيل

(1)

انظر: استثمار النص الشرعي على مدى التاريخ الإسلامي، أبو الطيب مولود السريري (240).

(2)

انظر: فتاوى الأمة وأصول الفقه الحضاري الأزمة ومقدمات الحل، د. سيف الدين عبد الفتاح إسماعيل، ضمن أعمال ندوة (العلوم الإسلامية أزمة منهج أم أزمة تنزيل) التي نظمتها الرابطة المحمدية للعلماء (544).

(3)

انظر: فلسفة التربية الإسلامية، د. ماجد الكيلاني (386).

ص: 62

الفقهاء إلى أهل الخبرة بوصفهم المختصين بكشف الحكم النهائي بعد بيان قاعدته وكيفية تطبيقه من قبل الفقهاء أنفسهم.

يقول ابن مودود الموصلي (ت 683 هـ) في بيان ضابط تعلم الكلب ونحوه في الصيد: (ويرجع في معرفة التعليم إلى أهل الخبرة بذلك ولا تأقيت فيه)

(1)

.

وقال الكمال بن الهمام (ت 861 هـ): (والمرجع في كونه عيبًا أو لا لأهل الخبرة بذلك، وهم التجار أو أرباب الصنائع إن كان المبيع من المصنوعات، وبهذا قالت الأئمة الثلاثة)

(2)

.

وقال القرافي (ت 684 هـ) في بعض أمثلة كتاب الوثائق: (وذلك بعد أن ثبت عند سيدنا قاضي القضاة فلانٍ شهادةُ من يضع خطه آخره من العدول والمهندسين المندوبين لتقويم الأملاك وهم أهل الخبرة بذلك، أن قيمة الدار المذكورة جميع الثمن المذكور وأن ذلك قيمة المثل يومئذٍ، لا حيف فيها ولا شطط ولا غبينة ولا فرط، وأن الحظ والمصلحة في البيع بذلك. وتؤرخ ثم يكتب شهود القيمة والمهندسون خطوطهم بأن الثمن المذكور قيمة يومئذٍ)

(3)

.

وقال النووي (ت 676 هـ): (يعرف كون المريض مأيوسًا منه بقول مسلمين عدلين من أهل الخبرة)

(4)

.

(1)

الاختيار لتعليل المختار (5/ 5).

(2)

شرح فتح القدير (6/ 329).

(3)

الذخيرة (10/ 362).

(4)

المجموع (7/ 100).

ص: 63

ويقول الزركشي (ت 794 هـ): (ظهور الحمل يعرف بقول أهل الخبرة في الآدمي وغيره)

(1)

.

وقال الموفق بن قدامة (ت 620 هـ): (وإن اختلفا في التعدي وعدمه فالقول قول الراعي؛ لأنه أمين. وإن فعل فعلًا اختلفا في كونه تعديًا رجع إلى أهل الخبرة)

(2)

.

وقال المجد بن تيمية (ت 652 هـ): (ولا يقتص لما فيه القود منه إذا رجى عوده في مدة يقولها أهل الخبرة)

(3)

.

والمقصود ههنا تأكيد ما جرى ذكره مرارًا من أن طبيعة الفقه في الإسلام ممتزجة بالحياة إلى أبعد مدى، وأهل الفقه ببيانهم وعامة الناس بسؤالهم وخبرتهم الجزئية وتفقههم فيما هم بصدد ممارسته، كلهم يسهمون في جعل الحياة مصبوغة بصبغة الشريعة روحًا وأخلاقًا وهداية؛ لتكون سائر معارف الأمة ذات وحدة روحية غائية لأن (المعرفة دونما هدف أخلاقي لا يمكن أن تؤدي إلا إلى الفوضى والغموض)

(4)

. وإذا كان العلماء في التخصصات الطبيعية والتجريبية يقولون: (إن المعرفة المعزولة التي تحصلها طائفة من المتخصصين في حقل ضيق لا قيمة لها ألبتة إلا إذا أدمجت في سائر حقول المعرفة)

(5)

، فكيف إذًا حال

(1)

المنثور في القواعد (2/ 84).

(2)

المغني (8/ 124).

(3)

المحرر (2/ 129).

(4)

الطريق إلى الإسلام، محمد أسد (70).

(5)

العلم في منظوره الجديد، روبرت م. أغروس وزميله (105).

ص: 64

العلوم والمعارف المؤثرة في طبيعة حياة أمة تسعى أن تكون صلاتها ونسكها ومحياها ومماتها لله رب العالمين؟

إن ما عرف بـ (المصارف الإسلامية) في واقعنا الراهن على سبيل المثال ليس منتجًا تفرد به الفقهاء وحدهم، بل لقد شاركهم القانونيون والخبراء الماليون الذين درسوا مسائل المعاملات والشركات والموجبات والعقود في الفقه وبنوا عليها

(1)

.

وكان الفقهاء في الماضي يلزمون التجار وأهل السوق أن يتعلموا من الفقه ما يحترزون به من مقارفة المال الحرام، وربما أقاموا من السوق من لا يفقه أحكام المعاملات. وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يطوف في الأسواق يضرب بعض التجار بالدرة ويقول:((لا يبيع في سوقنا إلا من تفقه، وإلا أكل الربا شاء او أبى))، قال قوام السُّنِّة الأصبهاني (ت 535 هـ) معقبًا:(قالوا: وليجعل بكوره إلى العالم قبل غدوه إلى السوق فيسأله عن وجوه المعاملة، ثم ينصرف فيدخل فيما هو فيه من تجارة أو صناعة)

(2)

، وذكر عن الإمام مالك (ت 179 هـ): أنه كان يأمر الأمراء فيجمعون التجار والسوقة ويعرضونهم عليه، فإذا وجد أحدًا منهم لا يفقه أحكام المعاملات ولا يعرف الحلال من

(1)

انظر: مصائر المذاهب الفقهية، د. رضوان السيد، ضمن بحوث ندوة التقنين والتجديد في الفقه الإسلامي المعاصر (873).

(2)

الترغيب والترهيب، قوام السُّنِّة الأصبهاني (1/ 453/810)، وانظر: الفقيه والمتفقه، الخطيب البغدادي، باب وجوب التفقه في الدين على كافة المسلمين (164)، نهاية الرتبة في طلب الحسبة، الشيزري (61).

ص: 65

الحرام أقامه من السوق وقال له: تعلم أحكام البيع والشراء ثم اجلس في السوق فإن من لم يكن فقيهًا أكل الربا شاء أم أبى

(1)

.

إن من الواجب على المسلم أن يخدم دينه في المجال الذي يعمل فيه أو حيثما أفضت به أسباب الحياة؛ لأن في هذه الخدمة إكمالًا لتعيده وإتمامًا لتقربه، وقد تؤهله درايته الواسعة بمجال عمله أن يكون أقدر على توسيع آفاق دينه، وهو في ذلك ردء للفقيه الذي يتعذر عليه الإحاطة بأحكام أكثر المجالات

(2)

.

ويبقى الفقه بالاصطلاح الخاص بناءً محكمًا مشيدًا رفع الفقهاء مناراته باختلاف مذاهبهم وتعاقب أزمنتهم، وهو ليس مجرد فروع منثورة يحفظها الفقهاء أو يتدربون على التخريج عليها، بل هو ملكة ترسخ في فؤاد المتفقه مع طول ممارسته للنصوص والأحكام الشرعية وفتاوى الأئمة واستنباطاتهم، ليتوصل من خلالها إلى فهم الشريعة بأصولها ومقاصدها وقواعدها ونظرياتها وبنيتها التشريعية، وهذه درجة عالية لا تتأتى للمتخصصين في أي علم آخر. وأهل الخبرة وإن كان لهم دورهم الكبير في الوصول إلى النتائج النهائية للعملية الفقهية إلا أن الفقيه يبقى بمثابة البوصلة التي ترشد إلى درب السداد. ومتى وقع الخلط بين وظائف الفقيه ووظائف أهل الخبرة أفضى ذلك إلى

(1)

انظر: حاشية الرهوني على شرح الزرقاني لمختصر خليل (5/ 3)، المدخل، ابن الحاج (1/ 157).

(2)

انظر: روح الدين، طه عبد الرحمن (417 - 419).

ص: 66

غلط كبير في فهم حقائق الشريعة أو في تنزيلها على وقائع الحياة

(1)

.

وبهذا التلاحم والانسجام بين الفقه والحياة تتجلى جماليات الشريعة والطبيعة على حدِّ سواء، فالشريعة باتساقها وانتظامها، والطبيعة بإحكامها وخلقها البديع، كلتاهما من أكبر دلائل توحيد الله جل جلاله، والله سبحانه جميل يحب الجمال، فأنزل شريعة الجمال والكمال بما فيها من إتقان وصلاح تام للحياة وما حوته من آداب ومكارم ومندوبات وارتفاقات لا يوجد لها مثال في القوانين البشرية، كما خلق الخلق على مقتضى النظام والإحكام وأودع فيه من أسرار الجمال ما هو زائد عن مجرد حد الضرورة الذي تحصل به الحياة، وهذا ما لا تفسره النظريات المادية الملحدة

(2)

.

وهذه الأمة أمة التوحيد، وحدت الله تعالى في خلقه وأمره:{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54 - 56] وبهذا التوحيد تهيأ لها الانسجام الذي مكنها من أن تبلغ أعمالها من الرشد والفعالية ما تجاوز نفعه خاصة دائرتها إلى محيط البشرية كلها، وشارة التوحيد ماثلة في كل عمل منها، سواء كان علمًا نظريًا أو أدبًا وفنًا، أو إنجازًا صناعيًا أو فنًا معماريًا. أما

(1)

انظر: الخطاب الديني بين تحديث الدخلاء وتجديد العلماء، د. محمد نعيم ساعي (165).

(2)

انظر: جمالية الدين، د. فريد الأنصاري (10)، العلم في منظوره الجديد، روبرت م. أغروس وزميله (66).

ص: 67

الذين حصروا حضارتهم بحدود المادة فمع ما قدموه من نافع الأعمال إلا أنهم لم يتهيأ لهم ذلك الانسجام، بل فشت فيهم روح التنافر والخصام والصدام، صراع بين الإنسان والطبيعة، وبين الدين والعلم، وبين الذكر والأنثى، وبين الأحياء والأموات، هذا الصراع الذي أدى إلى حالة الضياع والشعور بالعدمية والعبث الذي يغرق فيه إنسان المادة المعاصر

(1)

.

لقد كان قوم شعيب عليه السلام يقولون له: {مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هود: 91]، ولا يزال ذلك موقف المتنكبين عن هدى الأنبياء، لا يفقهون حقائق الدين ولا يقبلونها ويستكبرون عنها، والإصرار على مثل هذا الموقف لا يؤدي إلا إلى المعيشة الضنك التي لا يعصم منها إلا الإيمان بالله جل جلاله. وهذا ما يحتم على الفقيه المسلم أن ينظر إلى المعرفة الفقهية الممتزجة بمعالم الإيمان والتقوى والخلق الكامل على أنها قيمة علمية عامة؛ لأنها مؤيدة بالوحي المطلق ومسندة بالبراهين والحجج والمنهج السليم، وعليه فأحكام الفقه ذات طبيعة عالمية وهي خلاص للعالم بأسره من مشاكله وشفاء له من آلامه، وعلى الفقيه والمتفقه الالتفات إلى هذه الحقيقة وعدم الذهول عنها

(2)

.

(1)

انظر: الإيمان بالله وأثره في الحياة، د. عبد المجيد النجار (195).

(2)

انظر: منهاج تدريس الفقه، د. مصطفى صادقي (283).

ص: 68