الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(الثاني عشر)
في الآية السادسة والخمسين من الباب التاسع من إنجيل لوقا قول المسيح عليه السلام هكذا: "إن ابن الإنسان لم يأت ليهلك أنفس الناس بل ليخلص" ومثله في إنجيل يوحنا في الآية السابعة عشرة من الباب الثالث، وفي الآية السابعة والأربعين من الباب الثاني عشر، ووقع في الآية الثامنة من الباب الثاني من الرسالة الثانية إلى أهل تسالو نبقي هكذا:"وحينئذ سيستعلن الأثيم الذي الرب يبيده بنفخة فمه ويبطله بظهوره" فالقول الثاني ناسخ للأول، وقد علم من هذه الأمثلة الأربعة الأخيرة أعني من التاسع إلى الاثني عشر أن نسخ أحكام الإنجيل واقع بالفعل فضلاً عن الإمكان حيث نسخ عيسى عليه السلام بعض حكمه بحكمه الآخر، ونسخ الحواريون بعض أحكامه بأحكامهم، ونسخ بولس بعض أحكام الحواريون، بل بعض قول عيسى عليه السلام بأحكامه وقوله، وظهر لك أن ما نقل عن المسيح عليه السلام في الآية الخامسة والثلاثين من الباب الرابع والعشرين من إنجيل متى، والآية الثالثة والثلاثين من الباب الحادي والعشرين من إنجيل لوقا ليس المراد به أن قولاً من أقوالي وحكماً
من أحكامي لا ينسخ وألا يلزم تكذيب إنجيلهم، بل المراد بقوله كلامي هو الكلام المعهود الذي أخبر به عن الحادثات التي تقع بعده، وهي مذكورة قبل هذا القول في الإنجيلين، فالإضافة في قوله كلامي للعهد لا للاستغراق، وحمل مفسروهم أيضاً هذا القول على ما قلت في تفسير دوالي ورجرد مينت في ذيل شرح عبارة إنجيل متى هكذا: "قال القسيس بيروس: مراده أنه تقع الأمور التي أخبرت بها يقيناً، دين استاين هوب: إن السماء والأرض وإن كانتا غير قابلتين للتبديل بالنسبة إلى الأشياء الأخر لكنهما ليستا بمحكمتين مثل أحكام إخباري بالأمور التي أخبرت بها، فتلك كلها تزول وإخباري بالأمور التي أخبرت بها لا تزول، بل القول
الذي قلته الآن لا يتجاوز شيء منه عن مطلبه" فالاستدلال بهذا القول ضعيف جداً، والقول المذكور هكذا: "السماء والأرض تزولان ولكن كلامي لا يزول".
وإذا عرفت أمثلة القسمين ما بقي لك شك من وقوع النسخ بكلا قسميه في الشريعة الموسوية والعيسوية، وظهر أن ما يدعيه أهل الكتاب من امتناع النسخ باطل لا ريب فيه، كيف لا وإن المصالح قد تختلف باختلاف الزمان والمكان
والمكلفين فبعض الأحكام يكون مقدوراً للمكلفين في بعض الأوقات ولا يكون مقدوراً في بعض آخر، ويكون البعض مناسباً لبعض المكلفين دون بعض، ألا ترى أن المسيح عليه السلام قال مخاطباً للحواريين:"إن لي أموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم لا تستطيعون الآن أن تحتملوا، وأما متى جاء ذاك، روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق" كما هو مصرح به في الباب السادس عشر من إنجيل يوحنا، وقال للأبرص الذي شفاه: لا تخبر عن هذه الحال أحداً، كما هو مصرح به في الباب الثامن من إنجيل متى، وقال للأعميين اللذين فتح أعينهما: لا تخبرا أحداً عن هذا الحال، كما هو مصرح به في الباب التاسع من إنجيل متى، وقال لأبوي الصبية التي أحياها لا تخبرا أحداً عما كان، كما هو مصرح به في الباب الثامن من إنجيل لوقا، وأمر الذي أخرج الشياطين منه بأن ارجع إلى بيتك وأخبر بما صنع الله بك، كما هو مصرح به في الباب المذكور، وقد علمت في المثال السادس والثالث عشر من أمثلة القسم الأول، وفي المثال الرابع من أمثلة القسم الثاني ما يناسب هذا المقام، وكذلك ما أمر بنو إسرائيل بالجهاد على الكفار ما داموا في مصر وأمروا بعد ما خرجوا.
[وقال المعلم ميخائيل مشاقة في الفصل الثالث من القسم الثاني من كتابه
المسمّى بـ (أجوبة الإنجيليّين على أباطيل التقليديّين) المطبوع سنة 852 م في بيروت في الصفحة 71 و 72: "إن الشريعة الموسوية ثلاثة أقسام وهي: الشريعة الأدبيّة، والشريعة الطقسيّة، والشريعة السياسيّة، فالشريعة الأدبيّة ينحصر ملخّصها في وصايا الله العشر، ولا يُعفى أحد من حفظها، وهي الناموس الذي أشار إليه السيد المسيح بقوله: "ما جئت لأجل نقْضِ الناموس بل لأكمّل وإنّ السماء والأرض تزولان وحرف واحد من الناموس لا يتغيّر حتى يكون كلّه"، والدليل على ذلك هو أنّ السيد المسيح بعد قوله هذا أخذ يفسر لهم الوصايا ويكمّلها بقوله: قيل للأولين: لا تقتل، وأنا أقول لكم: من غضب على أخيه فقد وجبت عليه الدينونة، وقيل للأوّلين: لاتزن، وأنا أقول لكم: من نظر إلى امرأة إلى أن يشتهيها فقد زني بها في قلبه، وإنّه قيل للأولين: لا تحنث في يمينك، وأنا أقول لكم لا تحلفوا البتة وليكن كلامكم (نعم. نعم) و (لا. لا) ، وأما الشريعتان الأخريان فلم يعلم بهما بل حلّهما بتّة بمنعه الطلاق وعدم إجازته رجم الزانية، مع أشياء كثيرة كتب الرسلُ في حلّها كالختانة وتمييز المطاعم إلى غير ذلك من الأمور الطقسيّة والسياسيّة، فالشريعة الطقسيّة تتعلّق بكيفيّة إجراء الطقوس وتقْدمة القرابين في الهيكل، وقد بطلت حين خرابه، وهي خاصّة باليهود إذْ كان الهيكل عامراً، وأمّا
الشريعة السياسيّة فهي تتعلّق بالأحكام الزمنيّة -كتوزيع المواريث وبيع العقارات وقصاص الجنايات- وكانت خاصّة بدولة اليهود، فعندما زال حكمهم لم يبقوا ملتزمين بحفظها، وبالجملة: إنّ أحكام الشريعتين الطقسيّة والسياسية لا يلتزم بها المسيحيون؛ لأنّها كانت خاصّة باليهود مدة حكمهم وعمارة الهيكل فزالتا بزوالهما" انتهى كلامه بعبارته.
وعلم من كلامه أمران:
الأوّل: أنّ المراد بالناموس في قول المسيح المنقول في الباب الخامس من إنجيل متّى: الأحكام العشرة فقط، وهي عبارة عن الشريعة الأدبية وهو الحق.
والثاني: أنّ المسيح أبقى الشريعة الأدبية فقط وكمّلها، ونسخ وأبطل يقينا الشريعتيْن الباقيتيْن اللتيْن هما عبارتان من غير الأحكام العشرة.
وأقول: إنّ حكم السبت من هذه الأحكام العشرة أيضاً منسوخ في الشريعة العيسوية، فحصل لهم الفراغ عن جميع أحكام التوراة ما عدا الأحكام التسعة، وهذه الأحكام التسعة باقية في الشريعة المحمّدية أيضاً، فلا يلزم علينا اعتراض مّا بالنسبة إلى نسخ أحكام التوراة، وظهر أنّ تمسّك بعض القسيسين بقول المسيح المذكور على عدم نسخ أحكام التوراة فهو ناشيء عن جهله أو تغليطه وعدم ديانته] .