الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من ظهوره في غيره، كما أن ظهور تأثير شعاع الشمس في بدخشان في بعض الأحجار التي تتولد منها الجواهر المعروفة أزيد من تأثيره في الأحجار التي هي غير تلك الأحجار، ولنعم ما قيل:
محال لا يساويه محال * وقول في الحقيقة لا يقال
وفكر كاذب وحديث زور * بدا منهم ومنشؤه الخيال
تعالى الله ما قالوه كفر * وذنب في العواقب لا يقال.
(البرهان السابع)
فرقة البروتستنت ترد على فرقة الكاثلك في استحالة الخبز إلى المسيح في العشاء الرباني بشهادة الحس وتستهزئ بها، فهذا الرد والهزء يرجعان إليهما أيضاً لأن الذي رأى المسيح ما رأى منه إلا شخصاً واحداً إنساناً، وتكذيب أصدق الحواس الذي هو البصر يفتح باب السفسطة في الضروريات، فيكون القول به باطلاً كالقول بالاستحالة، والجهلاء من المسيحيين من أية فرقة من فرق أهل التثليث كانوا قد ضلوا في هذه العقيدة ضلالاً بيناً، ولا يميزون بين الجوهر اللاهوتي والناسوتي كما يميز بحسب الظاهر علماؤهم، بل يعتقدون ألوهية المسيح عليه السلام باعتبار الجوهر الناسوتي ويخبطون خبطاً عظيماً،.
نقل أنه تنصر ثلاثة أشخاص وعلمهم بعض القسيسين العقائد الضرورية سيما عقيدة التثليث أيضاً، وكانوا في خدمته فجاء محب من أحبَّاء هذا القسيس وسأله عمن تنصر؟ فقال: ثلاثة أشخاص تنصروا، فسأل هذا المحب: هل تعلموا شيئاً من العقائد الضرورية، فقال: نعم، وطلب واحداً منهم ليرى محبه فسأله عن عقيدة التثليث، فقال: إنك علمتني أن الآلهة ثلاثة أحدهم الذي هو في السماء والثاني تولد من بطن مريم العذراء والثالث الذي نزل في صورة الحمام على الإله الثاني بعد ما صار ابن ثلاثين سنة، فغضب القسيس وطرده، وقال: هذا مجهول، ثم طلب الآخر منهم وسأله فقال: إنك علمتني أن الآلهة كانوا ثلاثة
وصلب واحد منهم فالباقي إلهان، فغضب عليه القسيس أيضاً وطرده، ثم طلب الثالث وكان ذكياً بالنسبة إلى الأولين وحريصاً في حفظ العقائد فسأله فقال: يا مولاي حفظت ما علمتني حفظاً جيداً وفهمت فهماً كاملاً بفضل الرب المسيح أن الواحد ثلاثة والثلاثة واحد وصلب واحد منهم ومات فمات الكل لأجل الاتحاد، ولا إله الآن وإلا يلزم نفي الاتحاد (أقول) لا تقصير للمسؤولين فإن هذه العقيدة يخبط
فيها الجهلاء هكذا ويتحير علماؤهم، ويعترفون بأنا نعتقد ولا نفهم، ويعجزون عن تصويرها وبيانها، ولذا قال الفخر الرازي في تفسيره ذيل تفسير سورة النساء:"واعلم أن مذهب النصارى مجهول جداً" ثم قال: "لا نرى مذهباً في الدنيا أشدّ ركاكة وبعداً من العقل من مذهب النصارى" وقال في تفسير سورة المائدة: "ولا نرى في الدنيا مقالة أشد فساداً وأظهر بطلاناً من مقالة النصارى" فإذا علمت بالبراهين العقلية القطعية أن التثليث الحقيقي ممتنع في ذات الله فلو وجد قول من الأقوال المسيحية دالاً بحسب الظاهر على التثليث يجب تأويله، لأنه لا يخلو إما أن نعمل بكل واحد من دلالة البراهين ودلالة القول.
وإما أن نتركهما، وإما أن نرجح النقل على العقل، وإما أن نرجح العقل على النقل،
والأول باطل قطعاً ولا يلزم كون الشيء الواحد ممتنعاً وغير ممتنع في نفس الأمر، والثاني أيضاً محال وإلا يلزم ارتفاع النقيضين، والثالث أيضاً لا يجوز لأن العقل أصل النقل فإن ثبوت النقل موقوف على وجود الصانع وعلمه وقدرته وكونه مرسلاً للرسل، وثبوتها بالدلائل العقلية، فالقدح في العقل قدح في العقل والنقل معاً، فلم يبق إلا أن نقطع بصحة العقل ونشتغل بتأويل النقل، والتأويل عند أهل الكتاب ليس بنادر ولا قليل لما عرفت في الأمر الثالث من المقدمة أنهم يؤولون الآيات الغير المحصورة الدالة على جسمية الله وشكله لأجل الآيتين اللتين مضمونهما مطابق للبرهان العقلي، وكذلك يؤولون الآيات الكثيرة الغير المحصورة الدالة على المكان لله تعالى لأجل الآيات القليلة الموافقة للبرهان، وعرفت في الأمر الرابع والخامس أيضاً مثله مشروحاً لكن العجب من عقلاء الكاثلك ومَنْ تبعهم أنهم تارةً يبطلون حكم الحس والعقل معاً، ويحكمون أن الخبز والخمر اللذين حدثا بين أعيننا بعد مدة أزيد من ألف وثمانمائة سنة من عروج المسيح عليه السلام يتحولان في العشاء الرباني إلى لحمه ودمه حقيقة فيعبدونهما ويسجدون لهما، وتارةً يبطلون حكم العقل والبداهة وينبذون البراهين العقلية وراء ظهورهم، ويقولون:
التثليث الحقيقي والتوحيد الحقيقي يمكن اجتماعهما في أمر واحد شخصي في زمان واحد من جهة واحدة، والعجب من فرقة البروتستنت أنهم خالفوهم في الأولى دون الثانية، فلو كان العمل على ظاهر النقل ضرورياً وإن كان مخالفاً للحس والعقل فالإنصاف أن فرقة الكاثلك خير من فرقتهم لأنها بالغت في إطاعة ظاهر قول المسيح عليه السلام حتى اعترفت بمعبودية ما يصادمه الحس والبداهة، وكما أن أهل التثليث
يغالون في شأن المسيح عليه السلام ويوصلونه إلى رتبة الألوهية فكذلك يفرطون في شأنه وشأن آبائه فيعتقدون أنه لعن وبعد ما مات نزل جهنم وأقام فيها ثلاثة أيامٍ كما ستعرف، وأن داود وسليمان عليهما السلام وكذا الآباء الآخرون للمسيح عليه السلام في أولاد فارض الذي ولدته تامارا بالزنا من يهوذا، وأن داود عليه السلام زنى بامرأة أوريا وأن سليمان عليه السلام ارتد في آخر عمره كما عرفت.
وكان سيل من العلماء المسيحية، وكان قد حصل بعض العلوم الإسلامية أيضاً، وكان ترجم القرآن المجيد بلسانه وترجمته مقبولة عند المسيحيين وصَّى قومه في بعض الأمور، وأنقل وصيته عن ترجمته المطبوعة سنة 1836 من الميلاد: الأول: "لا يقع الجبر منكم على المسلمين، والثاني: لا تعلموهم المسائل التي هي مخالفة للعقل، لأنهم ليسوا حمقاء نغلب عليهم في هذه المسائل كعبادة الصنم والعشاء الرباني، لأنهم يعثرون كثيراً من هذه
المسائل، وكل كنيسة فيها هذه المسائل لا تقدر أن تجذبهم إلى نفسها" فانظر كيف وصى وأظهر أن مثل عبادة الصنم ومسألة العشاء الرباني مخالفة للعقل الإنصاف، إن أهل هذه المسائل مشركون يقيناً هداهم الله إلى الصراط المستقيم.