الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الأعراف
…
روى عكرمة عن ابن عباس في قوله: {ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم} 3 قال: ولم يستطع أن يقول: من فوقهم؛ لأنه قد علم أن الله سبحانه من فوقهم4.
3 سورة الأعراف، الآية:17.
4 شرح العقيدة الطحاوية، ص (379) . والأثر أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (3/396) من طريق إبراهيم بن الحكم بن أبان عن أبيه عن عكرمة. وإبراهيم هذا ضعيف. انظر التقريب برقم (166) . وأبوه قال عنه الحافظ ابن حجر صدوق عابد وله أوهام. التقريب برقم (1438) . وأخرجه الطبري في تفسيره برقم (14382) عن عكرمة عن ابن عباس بلفظ "ولم يقل من فوقهم؛ لأن الرحمة تنزل من فوقهم" وفي سند الطبري حفص بن عمر العدني ضعيف. انظر التقريب برقم (1420) . والأثر أورده ابن قدامة في إثبات صفة العلو ص (106) بسند اللالكائي ولفظه، وأورده السيوطي في الدر المنثور (3/73) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير واللالكائي.
.. قوله تعالى: {ثم استوى على العرش} 1كيف استوى؟ فقال2: الاستواء معلوم والكيف مجهول3. ويُروى هذا الجواب عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفاً4 ومرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم5.
قال تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين} 6 يخبر سبحانه أنه استخرج ذريّة بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو.
وقد وردت أحاديث في أخذ الذرية من صلب آدم عليه السلام، وتمييزهم إلى أصحاب اليمين، وإلى أصحاب الشمال، وفي بعضها الإشهاد عليهم بأن الله ربهم7.
1 سورة الأعراف، الآية:54.
2 يعني الإمام مالكاً رحمه الله تعالى.
3 أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (3/398) ، والبيهقي في الأسماء والصفات (2/150) من طريق عبد الله بن وهب. وأورده السيوطي في الدر المنثور (3/91)، وعزى إخراجه إلى اللالكائي والبيهقي. قال الحافظ ابن حجر في الفتح (13/407) : بسند جيد. يعني سند البيهقي.
4 أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (3/397)، وأورده السيوطي في الدر (3/91) ونسب أخراجه إلى ابن مردويه واللالكائي. وقال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوي (5/365) : وقد رُوي هذا الجواب عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفاً ومرفوعاً، ولكن ليس إسناده مما يعتمد عليه.
5 شرح العقيدة الطحاوية، ص (372، 373) وأشار إلى قول مالك أيضاً في ص (96) .
6 سورة الأعراف، الآية:172.
7 قول المؤلف: "وقد وردت أحاديث
…
الخ" هو كلام شيخه ابن كثير في تفسيره (2/262) .
فمنها: ما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنعمان1 يعني عرفة أخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرها بين يديه، ثم كلمهم قُبُلاً 2 قال:{ألست بربكم قالوا: بلى، شهدنا} .. إلى قوله: {المبطلون} . ورواه النسائي أيضاً، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم في المستدرك، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه3.
وروى الإمام أحمد أيضاً عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه سُئل عن هذه الآية، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها، فقال:"إن الله خلق آدم عليه السلام، ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية، قال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية قال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون" فقال رجل: يا رسول الله، ففيم العمل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل
1 نَعْمَان: بالفتح ثم سكون وآخره نون، هو واد بين مكة والطائف، بين أدناه ومكة نصف ليلة في قول الأصمعي. انظر معجم البلدان (5/339) .
2 أي: عياناً ومقابلةً، لا من وراء حجاب، ومن غير أن يولي أمرهم أو كلامهم أحداً من ملائكته. انظر النهاية في غريب الحديث (4/8)"قبل".
3 أخرجه الإمام أحمد في المسند (1/272) ، والنسائي في التفسير (1/506) وابن جرير في تفسيره برقم (15338)، والحاكم في المستدرك (2/593) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الذهبي: صحيح. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/25) : رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.
وقد رجح الإمام ابن كثير في تفسيره (2/262) وقف هذا الحديث على ابن عباس. وناقش حكمه هذا الشيخان الفاضلان أحمد شاكر والألباني بما يفيد أن الحديث قد ثبت مرفوعاً، وأن الروايات الموقوفة لا تقدح في رفعه. انظر جامع البيان (13/223) حاشيته. وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (4/158-162) .
الجنة، حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة، فيدخل به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار، حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل به النار". ورواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن أبي حاتم، وابن جرير، وابن حبان في صحيحه1.
وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما خلق الله آدم مسح ظهره، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصاً2 من نور، ثم عرضهم على آدم، فقال: أي رب من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك؟ فرأى رجلاً منهم، فأعجبه وبيص ما بين عينيه، فقال: أي ربِّ من هذا؟ قال: هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له: داود، قال: ربِّ كم عمره؟ قال: ستون سنة، قال: أي ربِّ زده من عمري أربعين سنة. فلما انقضى عمر آدم، جاء ملك الموت، قال: أو لم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: أو لم تعطها ابنك داود؟ قال فجحد فجحدت ذريته، ونسي آدم، فنسيت ذريته، وخطىء آدم، فخطئت ذريته". ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ورواه الحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه3.
1 أخرجه الإمام أحمد في المسند (1/44، 45) ، وأبو داود في سننه برقم (4703)، والترمذي في سننه برقم (3075) وقال: هذا حديث حسن، ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر. وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم بن يسار وبين عمر رجلاً مجهولاً. وأخرجه النسائي في تفسيره (1/504) وقال محققه: إسناده ضعيف. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (5/1612)، وابن حبان في صحيحه مع الإحسان برقم (6166) . وقال محققو المسند:(1/400) صحيح لغيره.
2 الوبيص البريق. انظر النهاية في غريب الحديث (5/146)"وبص".
3 أخرجه الترمذي في سننه برقم (3076) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وقد رُوي من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرجه الحاكم في المستدرك (2/355) وقال: هذا حديث صحيح على شرك مسلم ولم يخرجاه. وقال الذهبي: على شرط مسلم. وأخرجه أيضاً ابن أبي عاصم في السنة برقم (205، 206) مختصراً. وأخرجه ابن حبان في صحيحه مع الإحسان برقم (6167) .
وروى الإمام أحمد أيضاً عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء، أكنت مفتدياً به؟ قال: فيقول: نعم، قال: فيقول: قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك بي". وأخرجاه في الصحيحين أيضاً1.
وفي ذلك أحاديث أُخر أيضاً كلها دالَّةٌ على أن الله استخرج ذرية آدم من صلبه، وميز بين أهل النار وأهل الجنة2
…
وأما الإشهاد عليهم هناك، فإنما هو في حديثين موقوفين على ابن عباس وابن عمرو رضي الله عنهم. ومن ثَمَّ قال قائلون من السلف والخلف: إن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد، كما تقدم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه3.
ومعنى قوله "شهدنا": أي قالوا: بلى شهدنا أنك ربنا. وهذا قول ابن عباس4 وأبي بن كعب5. وقال ابن عباس أيضاً: أشهد بعضهم على بعض6.
1 أخرجه الإمام أحمد في المسند (3/127) ، والبخاري في صحيحه مع الفتح برقم (3334) ، ومسلم في صحيحه برقم (2805) .
2 قول المؤلف: "وفي ذلك
…
الخ" نحوه قال ابن كثير في تفسيره (2/265) .
3 قول المؤلف: (وأما الإشهاد عليهم
…
الخ" هو كلام شيخه ابن كثير في تفسيره (2/265) .
4 أخرجه ابن جرير في جامع البيان برقم (15340) وقال محمود شاكر: بإسناد صحيح.
5 أخرجه ابن جرير في جامع البيان برقم (15363) وقال محمود شاكر: إسناده صحيح.
6 أخرجه ابن جرير في جامع البيان برقم (15339) ضمن أثر عن ابن عباس وفيه "وأشهدهم على أنفسهم". وقال محمود شاكر: إسناده صحيح.
وقيل: "شهدنا" من قول الملائكة، والوقف على قوله "بلى". وهذا قول مجاهد والضحاك والسدي1. وقال السدي أيضاً: هو خبر من الله تعالى عن نفسه وملائكته أنهم شهدوا على إقرار بني آدم2.والأول أظهر، وما عداه احتمال لا دليل عليه، وإنما يشهد ظاهر الآية للأول3.
واعلم أن من المفسرين من لم يذكر سوى القول بأن الله استخرج ذرية آدم من ظهره وأشهدهم على أنفسهم ثم أعادهم، كالثعلبي والبغوي4 وغيرهما.
1 أخرجه ابن جرير في جامع البيان من طريق مجاهد والضحاك في حديث مرفوع برقم (15354) وشيخ الطبري (عبد الرحمن بن الوليد الجرجاني) لم أقف له على ترجمة، وكذلك قال الشيخ محمود شاكر. وقد تكلم ابن كثير على هذا الحديث في تفسيره (2/263) وقال وقفه أصح.
2 أخرجه ابن جرير في جامع البيان برقم (15373) بإسناد رجاله ثقات غير شيخ الطبري فلم أقف له على ترجمة أجزم فيها بأنه شيخ الطبري. وقد قال أحمد شاكر: وما بنا من حاجة إلى ترجمته من جهة الجرح والتعديل، فإن هذا التفسير الذي يرويه عن عمرو بن حماد معروف عند أهل العلم بالحديث، وما هو إلا رواية كتاب، لا رواية حديث بعينه. انظر جامع البيان (1/156) حاشيته.
3 يعني بالأول قول ابن عباس: إن بني آدم قالوا: بلى شهدنا أنك ربنا. ويؤيد صحة هذا القول أن جميع الأقوال الأُخر لم تسلم أسانيدها من علة، غير قول ابن عباس الآخر: أشهد بعضهم على بعض، فهو موافق لهذا القول بحمد الله؛ لأن شهادة بعضهم على بعض تفيد أنهم هم الذين شهدوا على أنفسهم بأن الله ربهم. وقد ذكر السجاوندي في علل الوقوف (2/522، 523) وقفين ، الأول: على (شهدنا)، والثاني: على (بلى) ووصف الثاني بالبعد. قلت: قَوْلَيْ ابن عباس مع من وافقه تتركب على الوقف الأول. وبقية الأقوال تتركب على الوقف الثاني.
4 انظر الكشف والبيان (4/54) مخطوط، صورة مكروفلم بالجامعة الإسلامية برقم (9786) ، ومعالم التنزيل (2/211، 212) وممن اقتصر على هذا القول شيخ المفسرين ابن جرير، والنسائي، وابن أبي حاتم، وهود بن محكم، وأبو جعفر النحاس. انظر مؤلفات هؤلاء على الترتيب: جامع البيان (13/222-249) ، وتفسير النسائي (1/504-506) ، وتفسير ابن أبي حاتم (5/1612-1615) ، وتفسير كتاب الله العزيز (2/58) ، ومعاني القرآن الكريم (3/101، 103) .
ومنهم من لم يذكره، بل ذكر أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها الله فيهم، كالزمخشري1 وغيره.
ومنهم من ذكر القولين، كالواحدي والرازي والقرطبي2 وغيرهم، لكن نسب الرازي القول الأول إلى أهل السنة، والثاني إلى المعتزلة3. ولا ريب أن الآية لا تدل على القول الأول أعني أن الأخذ كان من ظهر آدم وإنما فيها أن الأخذ من ظهور بني آدم4، وإنما ذكر الأخذ من ظهر آدم والإشهاد عليهم هناك في بعض الأحاديث، وفي بعضها الأخذ والقضاء بأن بعضهم إلى الجنة، وبعضهم إلى النار، كما في حديث عمر رضي الله عنه، وفي بعضها الأخذ وإراءة آدم إيّاهم من غير قضاء ولا إشهاد، كما في حديث أبي هريرة. والذي فيه الإشهاد على الصفة التي قالها أهل القول الأول موقوف على ابن عباس وابن عمرو5،
1 انظر الكشاف (2/129) . وانظر أيضاً أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي (1/376) ، ومدارك التنزيل للنسفي (2/85) ، وإرشاد العقل السليم لأبي السعود (3/290) فإن هؤلاء لم يذكروا إلا هذا القول.
2 انظر الوسيط (2/424-426) ، والتفسير الكبير (15/39، 41) ، والجامع لأحكام القرآن (7/314) ، وممن ذكر القولين أيضاً السمرقندي في تفسير القرآن (1/579، 580) ، وابن عطية في المحرر الوجيز (7/198، 200) .
3 انظر التفسير الكبير (15/39، 41) فقد نسب الأول للمفسرين وأهل الأثر، والثاني لأصحاب النظر وأرباب المعقولات. وهو معنى ما نسب إليه المؤلف.
4 انظر التوفيق بين الآية والحديث في التفسير الكبير (15/43) ، ولباب التأويل (2/310) .
5 أما حديث ابن عباس فقد تقدم الكلام عليه، وأنه قد ثبت مرفوعاً. وأما حديث عبد الله ابن عمرو فأخرجه ابن جرير في تفسيره برقم (15354) ورقم (15355) ورقم (15356) الأول منها مرفوعاً، والآخران موقوفان. وتكلم ابن جرير عليه وكذلك ابن كثير بما يفيد عدم صحة رفعه. انظر جامع البيان (13/250) وتفسير القرآن العظيم (2/263) .
بعد ذلك الأحاديث الواردة في ذلك إلى آخر كلامه1.
وأقوى ما يشهد لصحة القول الأول حديث أنس المخرج في الصحيحين، الذي فيه:"قد أردت منك ما هو أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئاً، فأبيت إلا أن تشرك بي"2.
ولكن قد رُوي من طريق أُخرى: "قد سألتك أقل من ذلك وأيسر فلم تفعل، فيرد إلى النار"3. وليس فيه (في ظهر آدم) وليس في الرواية الأولى إخراجهم من ظهر آدم على الصفة التي ذكرها أصحاب القول الأول. بل القول الأول متضمن لأمرين عجيبين:
أحدهما: كون الناس تكلموا حينئذ، وأقروا بالإيمان، وأنه بهذا تقوم الحجة عليهم يوم القيامة.
والثاني: أن الآية دلت على ذلك، والآية لا تدل عليه لوجوه:
أحدها: أنه قال: {من بني آدم} ، ولم يقل: من آدم.
الثاني: أنه قال: {من ظهورهم} ولم يقل: من ظهره، وهذا بدل بعض، أو بدل اشتمال4، وهو أحسن.
الثالث: أنه قال: {ذريتهم} ولم يقل: ذريته.
الرابع: أنه قال: {وأشهدهم على أنفسهم} أي جعلهم شاهدين على أنفسهم، ولابد أن يكون الشاهد ذاكراً لما شهد به، وهو إنما يذكر شهادته بعد خروجه إلى هذه الدار، كما تأتي الإشارة إلى ذلك، لا يذكر شهادة قبله.
1 انظر المرجع نفسه (7/314-316) .
2 تقدم تخريجه قريباً.
3 انظر فتح الباري (11/403) فقد قال الحافظ: "في رواية ثابت (قد سألتك أقل من ذلك فلم تفعل فيؤمر به إلى النار") .
4 انظر الدر المصون (5/511) .
الخامس: أنه سبحانه أخبر أن حكمة هذا الإشهاد إقامة الحجة عليهم، لئلا يقولوا يوم القيامة:{إنا كنا عن هذا غافلين} والحجة إنما قامت عليهم بالرسل والفطرة التي فُطروا عليها، كما قال تعالى:{رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} 1.
السادس: تذكيرهم بذلك، لئلا يقولوا يوم القيامة:{إنا كنا عن هذا غافلين} ، ومعلوم أنهم غافلون عن الإخراج لهم من صلب آدم كلهم، وإشهادهم جميعاً ذلك الوقت، فهذا لا يذكره أحد منهم.
السابع: قوله تعالى: {أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم} 2 فذكر حكمتين في هذا الأخذ والإشهاد: ألا يدعوا الغفلة، أو يدعوا التقليد، فالغافل لا شعور له، والمقلد متبع في تقليده لغيره. ولا تترتب هاتان الحكمتان إلا على ما قامت به الحجة من الرسل والفطرة.
الثامن: قوله: {أفتهلكنا بما فعل المبطلون} 3 أي: لو عذبهم بجحودهم وشركهم لقالوا ذلك، وهو سبحانه إنما يهلكهم لمخالفة رسله وتكذيبهم، فلو أهلكهم بتقليد آبائهم في شركهم من غير إقامة الحجة عليهم بالرسل، لأهلكهم بما فعل المبطلون، أو أهلكهم مع غفلتهم عن معرفة بطلان ما كانوا عليه، وقد أخبر سبحانه4 أنه لم يكن ليهلك القرى بظلم وأهلها غافلون، وإنما يهلكهم بعد الإعذار والإنذار بإرسال الرسل.
1 سورة النساء، الآية:165.
2 سورة الأعراف، الآية:173.
3 سورة الأعراف، الآية:173.
4 في قوله تعالى: {ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون} سورة الأنعام، الآية:131.
التاسع: أنه سبحانه أشهد كل واحد على نفسه أنه ربه وخالقه، واحتج عليه بهذا الإشهاد في غير موضع من كتابه، كقوله:{ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} 1، فهذه هي الحجة التي أشهدهم على أنفسهم بمضمونها، وذكرتهم بها رسله، بقولهم:{أفي الله شك فاطر السماوات والأرض} 2.
العاشر: أنه جعل هذا آية، وهي الدلالة الواضحة البينة المستلزمة لمدلولها، بحيث لا يتخلف عنها المدلول، وهذا شأن آيات الرب تعالى، فإنها أدلة معينة على مطلوب معين، مستلزمة للعلم به فقال تعالى:{وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون} 3، وإنما ذلك بالفطرة التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، فما من مولود إلا يُولد على الفطرة، لا يولد مولود على غير هذه الفطرة، هذا أمر مفروغ منه، لا يتبدل ولا يتغير. وقد تقدمت الإشارة إلى هذا. والله أعلم.
وقد تفطن لهذا ابن عطية4 وغيره، ولكن هابوا مخالفة ظاهر تلك الأحاديث التي فيها التصريح بأن الله أخرجهم وأشهدهم على أنفسهم ثم أعادهم. وكذلك حكى القولين الشيخ أبو منصور الماتريدي في شرح التأويلات، ورجح القول الثاني، وتكلم عليه ومال إليه5.
1 سورة لقمان، الآية:25.
2 سورة إبراهيم، الآية:10.
3 سورة الأعراف، الآية 174.
4 انظر المحرر الوجيز (7/198، 200) .
5 شرح العقيدة الطحاوية، ص (302-314) ولم أستطع الوقوف إلا على أوّل الكتاب المذكور، الذي ليس فيه سورة الأعراف. وما قاله المؤلف من تضعيف للقول الذي فسر به أهل الأثر الآية الكريمة تابع فيه هو وشيخه ابن كثير الإمام ابن القيم وتأثرا بما قال في كتابه الروح، ص (161-168) فإن ابن القيم على غير عادته رام فيه تضعيف القول الذي فسر به رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية، وذكر عليه هذه الاعتراضات العشرة، وتناول بعض =
_________
الأحاديث بالنقد. وهذه الاعتراضات العشرة أكثرها من كلام المعتزلة، كما في نقل الرازي عنهم في التفسير الكبير (15/39-41) ومن قبله نقل أبو الليث في بحر العلوم (1/580) إلا أنه لم يصرح أن المخالف هم المعتزلة.
والحق في تفسير الآية هو ما ذهب إليه أهل الأثر؛ للأسباب التالية:
1-
أن هذا التفسير قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن طعن في رواية ابن عباس المرفوعة فقوله مرجوح، كما ذُكر ذلك عند تخريج الحديث، بل قد قال ابن عطية:"تواترت الأحاديث في تفسير هذه الآية عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق عمر رضي الله عنه، وعبد الله بن عباس وغيرهما" المحرر الوجيز (7/198، 199) . وقال أبو جعفر النحاس في معاني القرآن (3/101) : "أحسن ما قيل في هذا ما تواترت به الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله جل وعز مسح ظهر آدم، فأخرج منه ذريته أمثال الذر، فأخذ عليهم الميثاق") . وقد أشار إلى تواتر الحديث تواتراً معنوياً العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (4/162) ولهذا هاب ابن عطية مخالفة الأحاديث، وليت الإمام ابن القيم فعل مثله، لا سيما وأنه من شيوخ أهل الأثر المتأخرين.
2-
أن التفسير بما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو مذهب أهل الحديث وكبراء أهل العلم، كما نقل ذلك ابن القيم في كتاب الروح، ص (163) ، بل هو قول جمهور المفسرين. انظر النكت والعيون (2/278) ، والوسيط (2/425) ، ولباب التأويل (2/310) ، والروح، ص (163) .
3-
لا تعارض ببن آية أخذ الميثاق وبين الحديث الثابت في تفسيرها، وما قد يظهر فيه من تعارض أجاب عنه العلماء، كما نقل ذلك ابن القيم نفسه عن ابن الأنباري وغيره في كتاب الروح، ص (163) ، وكذلك أجاب الرازي عن بعض الإشكالات في التفسير الكبير (15/42، 43) ، والشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (4/161-163) .
4-
تتابعت أقوال العلماء في الرد على من رد هذا التفسير، ومنهم أبو الليث في تفسير القرآن (1/580-582) ، والرازي في التفسير الكبير (15/42-43) ، والخازن في لباب التأويل (2/310) ، والشوكاني في فتح القدير (2/276) ، والهندي في فتح البيان
(3/452-454) .
…
قوله: {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} 1 قال ليث عن مجاهد: "هو الرجل يهم بالذنب، فيذكر الله فيدعه"2.
والشهوة والغضب3 مبدأ السيئات، فإذا أبصر رجع، ثم قال تعالى:{وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون} 4 أي: وإخوان الشياطين تمدهم الشياطين في الغي، ثم لا يقصرون5.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "لا الإنس تُقصر عن السيئات، ولا الشياطين تمسك عنهم"6.
1 سورة الأعراف، الآية:201.
2 لم أقف على هذا الأثر مسنداً من طريق ليث عن مجاهد. وأورده الواحدي في الوسيط
(2/438) عن ليث عن مجاهد. ونسبه جماعة من المفسرين إلى مجاهد بدون ذكر ليث. انظر معالم التنزيل (2/225) ، وزاد المسير (3/310)، والبحر المحيط (4/446) . وليث - وهو ابن أبي سُليم - الراوي عن مجاهد قال فيه الحافظ: صدوق اختلط جداً ولم يتميز حديثه فتُرك. تقريب التهذيب رقم (5685) . قلت: لكن يتقوى إن شاء الله تعالى بما عند البغوي، فإنه ذكر في مقدمة تفسيره (1/28) ، سنده إلى مجاهد من غير طريق "ليث" وإن كانت لا تسلم من ضعف.
3 قد جاء عن مجاهد من طرق تفسير الطائف بالغضب. انظر جامع البيان (13/336) . وانظر تفسير ابن أبي حاتم (5/1640) فقد ذكره عن مجاهد وغيره أيضاً.
4 سورة الأعراف، الآية:202.
5 نحو هذا التفسير أسنده ابن أبي حاتم في تفسيره (5/1641) إلى ابن عباس من طريق علي ابن أبي طلحة. والمقصود بإخوان الشياطين هم أتباعهم المستمعون لهم القابلون لأوامرهم. انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/280) .
6 أخرجه ابن جرير في جامع البيان برقم (15564) ، وابن أبي حاتم في تفسيره أيضاً برقم (8709) كلاهما من طريق علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهي طريق مشهورة بالصحة والقبول بين العلماء. انظر الإتقان (2/532، 533) ، والتفسير والمفسرون (1/77، 78) .وتفسير المؤلف في شرح العقيدة الطحاوية، ص (468، 469) .