الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثُمَّ نَدِمَ، فَأَرْسَلَ إِلَى قَوْمِهِ: أَنْ سَلُوا لِي (1) رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: فَنَزَلَتْ: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} إِلَى قَوْلِهِ: { [إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا] (2) فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
وَهَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، بِهِ. وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ (3) .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا حُمَيد الْأَعْرَجُ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: جَاءَ الْحَارِثُ بْنُ سُوَيد فَأَسْلَمَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ كَفَرَ الْحَارِثُ فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ:{كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} إِلَى قَوْلِهِ: { [إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ] (4) غَفُورٌ رَحِيمٌ} قَالَ: فَحَمَلَهَا إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ فَقَرَأَهَا عَلَيْهِ. فَقَالَ الْحَارِثُ: إِنَّكَ وَاللَّهِ مَا علمتُ لَصَدُوقٌ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَأَصْدَقُ مِنْكَ، وَإِنَّ اللَّهَ لَأَصْدَقُ الثَّلَاثَةِ. قَالَ: فَرَجَعَ الْحَارِثُ فَأَسْلَمَ فحَسُنَ إِسْلَامُهُ (5) .
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} أَيْ: قامتْ عَلَيْهِمُ الحُجَجُ وَالْبَرَاهِينُ عَلَى صِدْقِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ الرسولُ، وَوَضَح لَهُمُ الأمرُ، ثُمَّ ارْتَدُّوا إِلَى ظُلْمة الشِّرْكِ، فَكَيْفَ يَسْتَحِقُّ هَؤُلَاءِ الْهِدَايَةَ بَعْدَ مَا تَلَبَّسُوا بِهِ مِنَ الْعَمَايَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ:{وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}
ثُمَّ قَالَ: {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} أَيْ: يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ خَلْقُهُ {خَالِدِينَ فِيهَا} أَيْ: فِي اللَّعْنَةِ {لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} أَيْ: لَا يُفتَّر عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا يُخَفَّف عَنْهُمْ سَاعَةً وَاحِدَةً.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَهَذَا مِنْ لُطْفِهِ وَبِرِّهِ وَرَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَعَائِدَتِهِ عَلَى خَلْقِهِ: أَنَّهُ مَنْ تَابَ إِلَيْهِ تَابَ عَلَيْهِ.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ
(90)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91) }
يَقُولُ تَعَالَى مُتَوَعِّدًا ومتهدِّدًا لِمَنْ كَفَرَ بَعْدَ إِيمَانِهِ ثُمَّ ازْدَادَ كُفْرًا، أَيِ: اسْتَمَرَّ عَلَيْهِ إِلَى الْمَمَاتِ، وَمُخْبِرًا بِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ لَهُمْ تَوْبَةً عِنْدَ مَمَاتِهِمْ، كَمَا قَالَ [تَعَالَى] (6) {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ [قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا] (7) } [النساء:18] .
(1) في و: "أن أرسلوا إلي".
(2)
زيادة من جـ، ر، أ، و.
(3)
تفسير الطبري (6/572) وسنن النسائي (7/107) والحاكم في المستدرك (4/366) وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الذهبي".
(4)
زيادة من جـ، ر، أ، و.
(5)
تفسير عبد الرزاق (1/131) .
(6)
زيادة من ر، أ، و.
(7)
زيادة من جـ، ر، أ، و، وفي هـ:"الآية".
وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} أَيِ: الْخَارِجُونَ عَنِ الْمَنْهَجِ الْحَقِّ إِلَى طَرِيقِ الغَيِّ.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيع، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيع، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّ قَوْمًا أَسْلَمُوا ثُمَّ ارْتَدُّوا، ثُمَّ أَسْلَمُوا ثُمَّ ارْتَدُّوا، فَأَرْسَلُوا إِلَى قَوْمِهِمْ يَسْأَلُونَ لَهُمْ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} هَكَذَا رَوَاهُ، وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ (1) .
ثُمَّ قَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} أَيْ: مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ خَيْرٌ (2) أَبَدًا، وَلَوْ كَانَ قَدْ أَنْفَقَ مِلْءَ الْأَرْضِ ذَهَبَا فِيمَا يَرَاهُ قُرْبة، كَمَا سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعان -وَكَانَ يُقْرِي الضيفَ، ويَفُكُّ الْعَانِي، ويُطعم الطَّعَامَ-: هَلْ يَنْفَعُهُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: (3) لَا إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا مِن الدَّهْرِ: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (4) .
وَكَذَلِكَ لَوِ افْتَدَى بِمِلْءِ الْأَرْضِ أَيْضًا ذَهَبًا مَا قُبِلَ مِنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} [الْبَقَرَةِ:123]، [وَقَالَ {لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} ] (5) [الْبَقَرَةِ:254] وَقَالَ: {لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ} [إِبْرَاهِيمَ: 31] وَقَالَ {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الْمَائِدَةِ:36] ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى هَاهُنَا: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} فَعَطَفَ {وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} عَلَى الْأَوَّلِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُهُ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَحْسَنُ مِنْ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْوَاوَ زَائِدَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَقْتَضِي ذَلِكَ أَلَّا يُنْقِذَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ شَيْءٌ، وَلَوْ كَانَ قَدْ أَنْفَقَ مِثْلَ (6) الْأَرْضِ ذَهَبَا، وَلَوِ افْتَدَى نَفْسَهُ مِنَ اللَّهِ بِمِلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبَا، بوَزْن جِبالها وتِلالها وتُرابها ورِمَالها وسَهْلها ووعْرِها وبَرِّها وبَحْرِها.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حجَّاج، حَدَّثَنِي شُعْبَة، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الجَوْني، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " يُقَالُ لِلرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مَا عَلَى الأرْضِ مِنْ شَيْءٍ، أَكُنْتَ مُفْتَدِيًا بِهِ؟ قَالَ: فَيَقُولُ: نَعَمْ. قَالَ: فَيَقُولُ: قَدْ أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ، قَدْ أَخَذْتُ
(1) ذكره السيوطي في الدر المنثور (2/258) وعزاه للبزار ثم قال في آخره: "هذا خطأ من البزار".
(2)
في أ: "خيرا" وهو خطأ.
(3)
في ر، أ:"قال".
(4)
رواه مسلم في صحيحه برقم (214) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(5)
زيادة من جـ، ر، أ.
(6)
في أ: "ملء".