الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا} يَعْنِي: مُتَكَبِّرًا {فَخُورًا} يَعْنِي: يَعُد مَا أُعْطِيَ، وَهُوَ لَا يَشْكُرُ اللَّهَ، عز وجل. يَعْنِي: يَفْخَرُ عَلَى النَّاسِ بِمَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنْ نِعَمِهِ، وَهُوَ قَلِيلُ الشُّكْرِ لِلَّهِ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَاقِدٍ أَبِي رَجَاءٍ الْهَرَوِيِّ قَالَ: لَا تَجِدُ سَيِّئَ الْمَلَكَةِ إِلَّا وَجَدَّتَهُ مُخْتَالًا فَخُورًا -وَتَلَا {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا] } وَلَا عَاقًّا إِلَّا وَجَدَّتَهُ جَبَّارًا شَقِيًّا -وَتَلَا {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} [مَرْيَمَ: 32] .
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ، مِثْلَهُ فِي الْمُخْتَالِ الْفَخُورِ. وَقَالَ:
حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا الْأُسُودُ بْنُ شَيْبَان، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّير قَالَ: قَالَ مُطَرِّف: كَانَ يَبْلُغُنِي عَنْ أَبِي ذَرٍّ حَدِيثٌ كُنْتُ أَشْتَهِي لِقَاءَهُ، فَلَقِيتُهُ فَقُلْتُ: يَا أَبَا ذَرٍّ، بَلَغَنِي أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَكُمْ:"إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ ثَلَاثَةً ويُبْغض ثَلَاثَةً"؟ قَالَ: أَجَلْ، فَلَا إِخَالُنِي (1) أَكْذِبُ عَلَى خَلِيلِي، ثَلَاثًا. قُلْتُ: مَنِ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ يُبْغِضُ اللَّهُ؟ قَالَ: الْمُخْتَالُ الْفَخُورُ، أَوَلَيْسَ تَجِدُونَهُ عِنْدَكُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْمُنَزَّلِ؟ ثُمَّ قَرَأَ الْآيَةَ:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا} (2)[النِّسَاءِ: 36] .
وَحَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا وُهَيْبُ عَنْ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي تَمِيمَةَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَلْهُجَيم قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوْصِنِي. قَالَ:"إِيَّاكَ وإسبالَ الْإِزَارِ، فَإِنَّ إِسْبَالَ الْإِزَارِ مِنَ المَخِيلة، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ المَخِيلة"(3) .
{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا
(37) }
(1) في ر: "إخالك".
(2)
ورواه أحمد في مسنده (5/176) من طريق يزيد عن الأسود بن شيبان بأطول منه وأتم.
(3)
ورواه أحمد في مسنده (5/64) من طريق وهيب بن خالد به.
{وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا
(38)
وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39) }
يَقُولُ تَعَالَى ذَامًّا الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِأَمْوَالِهِمْ أَنْ يُنْفِقُوهَا فِيمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ -مِنْ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْأَقَارِبِ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ، وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى، وَالْجَارِ الجُنُب، وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنَ الْأَرِقَّاءِ -وَلَا يَدْفَعُونَ حَقَّ اللَّهِ فِيهَا، وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ أَيْضًا. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَأ مِنَ الْبُخْلِ؟ ". وَقَالَ: "إِيَّاكُمْ والشّحَ، فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، أَمَرَهُمْ بالقطيعةِ فقطعوا، وأمرهم بالفجور فَفَجَرُوا"(1) .
(1) رواه أبو دواد في السنن برقم (6698) مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه.
وَقَوْلُهُ: {وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} فَالْبَخِيلُ جَحُود لِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ لَا تَظْهَرُ عَلَيْهِ وَلَا تَبِينُ، لَا فِي أَكْلِهِ (1) وَلَا فِي مَلْبَسِهِ، وَلَا فِي إِعْطَائِهِ وَبَذْلِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ الإنْسَاَن لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ. وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} [الْعَادِيَاتِ: 6، 7] أَيْ: بِحَالِهِ وَشَمَائِلِهِ، {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [الْعَادِيَاتِ: 8] وَقَالَ هَاهُنَا: {وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} وَلِهَذَا توعَّدهم بِقَوْلِهِ: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} وَالْكَفْرُ هُوَ السَّتْرُ وَالتَّغْطِيَةُ، فَالْبَخِيلُ يَسْتُرُ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَيَكْتُمُهَا وَيَجْحَدُهَا، فَهُوَ كَافِرٌ لِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: "إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَنْعَمَ نِعْمَةً عَلَى عبدٍ أحبَّ أَنْ يَظْهَرَ أثرُها عَلَيْهِ"(2) وَفِي الدُّعَاءِ النَّبَوِيِّ: "وَاجْعَلْنَا شَاكِرِينَ لِنِعْمَتِكَ، مُثِنِينَ بِهَا عَلَيْكَ قَابِلِيهَا -وَيُرْوَى: قَائِلِيهَا-وَأَتْمِمْهَا عَلَيْنَا"(3) .
وَقَدْ حَمَلَ بعضُ السَّلَفِ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى بُخْلِ الْيَهُودِ بِإِظْهَارِ الْعِلْمِ الَّذِي عِنْدَهُمْ، مِنْ صِفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكِتْمَانِهِمْ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا قَالَ:{وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْآيَةَ مُحْتَمِلَةٌ لِذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ السِّيَاقَ فِي الْبُخْلِ بِالْمَالِ، وَإِنْ كَانَ الْبُخْلُ بِالْعِلْمِ دَاخِلًا فِي ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ فَإِنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى الْأَقَارِبِ وَالضُّعَفَاءِ، وَكَذَا الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ:{والَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ} فَذَكر الْمُمْسِكِينَ الْمَذْمُومِينَ وَهُمُ الْبُخَلَاءُ، ثُمَّ ذَكَرَ الْبَاذِلِينَ الْمُرَائِينَ الَّذِي يَقْصِدُونَ بِإِعْطَائِهِمُ السُّمْعَةَ وَأَنْ يُمدَحوا بِالْكَرَمِ، وَلَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ، وَفِي حديث الَّذِي فِيهِ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ هُمْ أَوَّلُ مَنْ تُسَجَّرُ بِهِمُ النَّارُ، وَهُمْ: الْعَالِمُ وَالْغَازِي وَالْمُنْفِقُ، وَالْمُرَاءُونَ بِأَعْمَالِهِمْ، يَقُولُ صَاحِبُ الْمَالِ: مَا تَرَكْتُ مِنْ شَيْءٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهِ إِلَّا أَنْفَقْتُ فِي سَبِيلِكَ. فَيَقُولُ اللَّهُ: كَذَبْتَ؛ إِنَّمَا أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ. أَيْ: فَقَدْ أَخَذْتَ جَزَاءَكَ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ الَّذِي أَرَدْتَ بِفِعْلِكَ.
وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِعَدِيّ: "إِنَّ أَبَاكَ رامَ أَمْرًا فَبَلَغَهُ".
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدعان: هَلْ يَنْفَعُهُ إنفاقُه، وإعتاقُه؟ فَقَالَ:"لَا إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ".
وَلِهَذَا قَالَ: {وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ [وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا] (4) } أَيْ: إِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى صَنِيعِهِمْ هَذَا القبيحِ وَعُدُولِهِمْ عَنْ فِعْلِ الطَّاعَةِ عَلَى وَجْهِهَا الشيطانُ؛ فَإِنَّهُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ، وَقَارَنَهُمْ فَحَسَّنَ لَهُمُ الْقَبَائِحَ {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} وَلِهَذَا قال الشاعر (5)
(1) في أ: "مأكله".
(2)
رواه الترمذي في سننه برقم (2819) مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه، ولفظة: "إن اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عبده.
(3)
رواه أبو داود في سننه برقم (969) مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه.
(4)
زيادة من أ، وفي هـ:"الآية".
(5)
الشاعر هو عدي بن زيد، والبيت في تفسير الطبري (8/358) .