المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة النور (24): الآيات 11 الى 22] - تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن - جـ ١٢

[القرطبي]

فهرس الكتاب

- ‌[تفسير سورة الحج]

- ‌[سورة الحج (22): آيَةً 1]

- ‌[سورة الحج (22): آية 2]

- ‌[سورة الحج (22): الآيات 3 الى 4]

- ‌[سورة الحج (22): آية 5]

- ‌[سورة الحج (22): الآيات 6 الى 7]

- ‌[سورة الحج (22): الآيات 8 الى 10]

- ‌[سورة الحج (22): آية 11]

- ‌[سورة الحج (22): آية 12]

- ‌[سورة الحج (22): آية 13]

- ‌[سورة الحج (22): آية 14]

- ‌[سورة الحج (22): آية 15]

- ‌[سورة الحج (22): آية 16]

- ‌[سورة الحج (22): آية 17]

- ‌[سورة الحج (22): آية 18]

- ‌[سورة الحج (22): الآيات 19 الى 21]

- ‌[سورة الحج (22): آية 22]

- ‌[سورة الحج (22): آية 23]

- ‌[سورة الحج (22): آية 24]

- ‌[سورة الحج (22): آية 25]

- ‌[سورة الحج (22): آية 26]

- ‌[سورة الحج (22): آية 27]

- ‌[سورة الحج (22): الآيات 28 الى 29]

- ‌[سورة الحج (22): الآيات 30 الى 31]

- ‌[سورة الحج (22): الآيات 32 الى 33]

- ‌[سورة الحج (22): آية 34]

- ‌[سورة الحج (22): آية 35]

- ‌[سورة الحج (22): آية 36]

- ‌[سورة الحج (22): آية 37]

- ‌[سورة الحج (22): آية 38]

- ‌[سورة الحج (22): آية 39]

- ‌[سورة الحج (22): آية 40]

- ‌[سورة الحج (22): آية 41]

- ‌[سورة الحج (22): الآيات 42 الى 44]

- ‌[سورة الحج (22): آية 45]

- ‌[سورة الحج (22): آية 46]

- ‌[سورة الحج (22): آية 47]

- ‌[سورة الحج (22): آية 48]

- ‌[سورة الحج (22): الآيات 49 الى 51]

- ‌[سورة الحج (22): آية 52]

- ‌[سورة الحج (22): آية 53]

- ‌[سورة الحج (22): آية 54]

- ‌[سورة الحج (22): آية 55]

- ‌[سورة الحج (22): الآيات 56 الى 57]

- ‌[سورة الحج (22): الآيات 58 الى 59]

- ‌[سورة الحج (22): آية 60]

- ‌[سورة الحج (22): آية 61]

- ‌[سورة الحج (22): آية 62]

- ‌[سورة الحج (22): آية 63]

- ‌[سورة الحج (22): آية 64]

- ‌[سورة الحج (22): آية 65]

- ‌[سورة الحج (22): آية 66]

- ‌[سورة الحج (22): آية 67]

- ‌[سورة الحج (22): الآيات 68 الى 69]

- ‌[سورة الحج (22): آية 70]

- ‌[سورة الحج (22): آية 71]

- ‌[سورة الحج (22): آية 72]

- ‌[سورة الحج (22): آية 73]

- ‌[سورة الحج (22): آية 74]

- ‌[سورة الحج (22): الآيات 75 الى 76]

- ‌[سورة الحج (22): آية 77]

- ‌[سورة الحج (22): آية 78]

- ‌[سورة المؤمنون

- ‌[سورة المؤمنون (23): الآيات 1 الى 11]

- ‌[سورة المؤمنون (23): الآيات 12 الى 14]

- ‌[سورة المؤمنون (23): الآيات 15 الى 16]

- ‌[سورة المؤمنون (23): آية 17]

- ‌[سورة المؤمنون (23): آية 18]

- ‌[سورة المؤمنون (23): آية 19]

- ‌[سورة المؤمنون (23): آية 20]

- ‌[سورة المؤمنون (23): الآيات 21 الى 27]

- ‌[سورة المؤمنون (23): آية 28]

- ‌[سورة المؤمنون (23): آية 29]

- ‌[سورة المؤمنون (23): آية 30]

- ‌[سورة المؤمنون (23): الآيات 31 الى 32]

- ‌[سورة المؤمنون (23): الآيات 33 الى 35]

- ‌[سورة المؤمنون (23): آية 36]

- ‌[سورة المؤمنون (23): آية 37]

- ‌[سورة المؤمنون (23): الآيات 38 الى 41]

- ‌[سورة المؤمنون (23): الآيات 42 الى 44]

- ‌[سورة المؤمنون (23): الآيات 45 الى 48]

- ‌[سورة المؤمنون (23): آية 49]

- ‌[سورة المؤمنون (23): آية 50]

- ‌[سورة المؤمنون (23): آية 51]

- ‌[سورة المؤمنون (23): الآيات 52 الى 54]

- ‌[سورة المؤمنون (23): الآيات 55 الى 56]

- ‌[سورة المؤمنون (23): الآيات 57 الى 60]

- ‌[سورة المؤمنون (23): آية 61]

- ‌[سورة المؤمنون (23): آية 62]

- ‌[سورة المؤمنون (23): الآيات 63 الى 65]

- ‌[سورة المؤمنون (23): الآيات 66 الى 67]

- ‌[سورة المؤمنون (23): آية 68]

- ‌[سورة المؤمنون (23): آية 69]

- ‌[سورة المؤمنون (23): آية 70]

- ‌[سورة المؤمنون (23): آية 71]

- ‌[سورة المؤمنون (23): آية 72]

- ‌[سورة المؤمنون (23): الآيات 73 الى 74]

- ‌[سورة المؤمنون (23): آية 75]

- ‌[سورة المؤمنون (23): آية 76]

- ‌[سورة المؤمنون (23): آية 77]

- ‌[سورة المؤمنون (23): آية 78]

- ‌[سورة المؤمنون (23): آية 79]

- ‌[سورة المؤمنون (23): الآيات 80 الى 89]

- ‌[سورة المؤمنون (23): الآيات 90 الى 92]

- ‌[سورة المؤمنون (23): الآيات 93 الى 94]

- ‌[سورة المؤمنون (23): آية 95]

- ‌[سورة المؤمنون (23): آية 96]

- ‌[سورة المؤمنون (23): الآيات 97 الى 98]

- ‌[سورة المؤمنون (23): الآيات 99 الى 100]

- ‌[سورة المؤمنون (23): آية 101]

- ‌[سورة المؤمنون (23): الآيات 102 الى 103]

- ‌[سورة المؤمنون (23): الآيات 104 الى 105]

- ‌[سورة المؤمنون (23): الآيات 106 الى 108]

- ‌[سورة المؤمنون (23): الآيات 109 الى 111]

- ‌[سورة المؤمنون (23): الآيات 112 الى 114]

- ‌[سورة المؤمنون (23): آية 115]

- ‌[سورة المؤمنون (23): آية 116]

- ‌[سورة المؤمنون (23): الآيات 117 الى 118]

- ‌[سورة النور]

- ‌[سورة النور (24): آية 1]

- ‌[سورة النور (24): آية 2]

- ‌[سورة النور (24): آية 3]

- ‌[سورة النور (24): الآيات 4 الى 5]

- ‌[سورة النور (24): الآيات 6 الى 10]

- ‌[سورة النور (24): الآيات 11 الى 22]

- ‌[سورة النور (24): آية 23]

- ‌[سورة النور (24): آية 24]

- ‌[سورة النور (24): آية 25]

- ‌[سورة النور (24): آية 26]

- ‌[سورة النور (24): آية 27]

- ‌[سورة النور (24): آية 28]

- ‌[سورة النور (24): آية 29]

- ‌[سورة النور (24): آية 30]

- ‌[سورة النور (24): آية 31]

- ‌[سورة النور (24): آية 32]

- ‌[سورة النور (24): الآيات 33 الى 34]

- ‌[سورة النور (24): آية 35]

- ‌[سورة النور (24): الآيات 36 الى 38]

- ‌[سورة النور (24): آية 39]

- ‌[سورة النور (24): آية 40]

- ‌[سورة النور (24): الآيات 41 الى 42]

- ‌[سورة النور (24): الآيات 43 الى 44]

- ‌[سورة النور (24): الآيات 45 الى 46]

- ‌[سورة النور (24): آية 47]

- ‌[سورة النور (24): الآيات 48 الى 50]

- ‌[سورة النور (24): آية 51]

- ‌[سورة النور (24): آية 52]

- ‌[سورة النور (24): آية 53]

- ‌[سورة النور (24): آية 54]

- ‌[سورة النور (24): آية 55]

- ‌[سورة النور (24): آية 56]

- ‌[سورة النور (24): آية 57]

- ‌[سورة النور (24): آية 58]

- ‌[سورة النور (24): آية 59]

- ‌[سورة النور (24): آية 60]

- ‌[سورة النور (24): آية 61]

- ‌[سورة النور (24): آية 62]

- ‌[سورة النور (24): آية 63]

- ‌[سورة النور (24): آية 64]

الفصل: ‌[سورة النور (24): الآيات 11 الى 22]

الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ- اللِّعَانُ يَفْتَقِرُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: عدد الألفاظ- وهو أربع شهادات على ما تقدم. والمكان- وَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ بِهِ أَشْرَفَ الْبِقَاعِ بِالْبُلْدَانِ، إِنْ كَانَ بِمَكَّةَ فَعِنْدَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ، وَإِنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَعِنْدَ الْمِنْبَرِ، وَإِنْ كَانَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ فَعِنْدَ الصَّخْرَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي سَائِرِ الْبُلْدَانِ فَفِي مَسَاجِدِهَا، وَإِنْ كَانَا كَافِرَيْنِ بُعِثَ بِهِمَا إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَعْتَقِدَانِ تَعْظِيمَهُ، إِنْ كَانَا يَهُودِيَّيْنِ فَالْكَنِيسَةُ، وَإِنْ كَانَا مَجُوسِيَّيْنِ فَفِي بَيْتِ النَّارِ، وَإِنْ كَانَا لَا دِينَ لَهُمَا مِثْلُ الْوَثَنِيِّينَ فَإِنَّهُ يُلَاعِنُ بَيْنَهُمَا فِي مَجْلِسِ حكمه. والوقت- وَذَلِكَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ. وَجَمْعُ النَّاسِ- وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ أَرْبَعَةُ أَنْفُسٍ فَصَاعِدًا، فَاللَّفْظُ وَجَمْعُ النَّاسِ مَشْرُوطَانِ، وَالزَّمَانُ وَالْمَكَانُ مُسْتَحَبَّانِ. التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ- مَنْ قَالَ: إِنَّ الْفِرَاقَ لَا يَقَعُ إِلَّا بِتَمَامِ الْتِعَانِهِمَا، فَعَلَيْهِ لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ تَمَامِهِ وَرِثَهُ الْآخَرُ. وَمَنْ قَالَ: لَا يَقَعُ إِلَّا بِتَفْرِيقِ الْإِمَامِ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ ذَلِكَ وَتَمَامِ اللِّعَانِ وَرِثَهُ الْآخَرُ. وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: إِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ أَنْ تَلْتَعِنَ الْمَرْأَةُ لَمْ يَتَوَارَثَا. الْمُوَفِّيَةُ ثَلَاثِينَ- قَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ: تَفْرِيقُ اللِّعَانِ عِنْدَنَا لَيْسَ بِفَسْخٍ، وَهُوَ مذهب المدونة: فإن اللعان حكم تفريقه حُكْمُ تَفْرِيقِ الطَّلَاقِ، وَيُعْطَى لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ. وَفِي مُخْتَصَرِ ابْنِ الْجَلَّابِ: لَا شي لَهَا، وَهَذَا عَلَى أَنَّ تَفْرِيقَ اللِّعَانِ فَسْخٌ.

[سورة النور (24): الآيات 11 الى 22]

إِنَّ الَّذِينَ جاؤُا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلا جاؤُا

ص: 195

عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (13) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)

وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هَذَا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)

ص: 196

«فيه ثمان وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً»

: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ)" عُصْبَةٌ" خَبَرُ" إِنَّ". وَيَجُوزُ نَصْبُهَا عَلَى الْحَالِ، وَيَكُونُ الْخَبَرُ" لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ". وَسَبَبُ نُزُولِهَا مَا رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ مِنْ حَدِيثِ الْإِفْكِ الطَّوِيلِ فِي قِصَّةِ عَائِشَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهَا، وَهُوَ خَبَرٌ صَحِيحٌ مَشْهُورٌ، أَغْنَى اشْتِهَارُهُ عَنْ ذِكْرِهِ، وَسَيَأْتِي مُخْتَصَرًا. وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا، وَحَدِيثُهُ أَتَمُّ. قَالَ: وَقَالَ أُسَامَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ أَخِيهِ سُلَيْمَانَ مِنْ حَدِيثِ مَسْرُوقٍ عَنْ أُمِّ رُومَانَ أُمِّ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: لَمَّا رُمِيَتْ عَائِشَةُ خَرَّتْ مَغْشِيًّا عَلَيْهَا. وَعَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مَسْرُوقُ بْنُ الْأَجْدَعِ قَالَ حَدَّثَتْنِي أُمُّ رُومَانَ وَهِيَ أُمُّ عَائِشَةَ قَالَتْ: بَيْنَا أَنَا قَاعِدَةٌ أَنَا وَعَائِشَةُ إِذْ وَلَجَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَتْ: فَعَلَ اللَّهُ بفلان وفعل [بفلان] فقالت أم رومان: وما ذاك؟ قالت إننى فِيمَنْ حَدَّثَ الْحَدِيثَ! قَالَتْ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَتْ كَذَا وَكَذَا. قَالَتْ عَائِشَةُ: سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتْ نَعَمْ. قَالَتْ: وَأَبُو بَكْرٍ؟ قَالَتْ نَعَمْ! فَخَرَّتْ مَغْشِيًّا عَلَيْهَا، فَمَا أَفَاقَتْ إِلَّا وَعَلَيْهَا حُمَّى بِنَافِضٍ «2» فَطَرَحْتُ عَلَيْهَا ثِيَابَهَا فَغَطَّيْتُهَا: فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (مَا شَأْنُ هَذِهِ؟) فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخَذَتْهَا الْحُمَّى بِنَافِضٍ. قَالَ:(فَلَعَلَّ فِي حَدِيثٍ تُحُدِّثَ بِهِ) قَالَتْ نَعَمْ. فَقَعَدَتْ عَائِشَةُ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ، لَئِنْ حَلَفْتُ لَا تصدقونني! ولين قلت لا تعذروننى! مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَيَعْقُوبَ وَبَنِيهِ «3» ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ. قَالَتْ: وَانْصَرَفَ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عُذْرَهَا. قَالَتْ: بِحَمْدِ اللَّهِ لَا بِحَمْدِ أَحَدٍ وَلَا بِحَمْدِكَ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُمَيْدِيُّ: كَانَ بَعْضُ مَنْ لَقِينَا مِنَ الْحُفَّاظِ الْبَغْدَادِيِّينَ يَقُولُ: الْإِرْسَالُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَبْيَنُ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ أُمَّ رُومَانَ تُوُفِّيَتْ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَسْرُوقٌ لَمْ يُشَاهِدِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِلَا خِلَافٍ. وَلِلْبُخَارِيِّ مِنْ حديت عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَقْرَأُ:" إِذْ تَلَقَّوْنَهُ

(1). يلاحظ أن المسائل سبع وعشرون في جميع الأصول.

(2)

. أي برعشه.

(3)

. إذ قال في محنته: والله المستعان

إلخ.

ص: 197

بِأَلْسِنَتِكُمْ" وَتَقُولُ: الْوَلْقُ الْكَذِبُ. قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: وَكَانَتْ أَعْلَمَ بِذَلِكَ «1» مِنْ غَيْرِهَا لِأَنَّهُ نَزَلَ فِيهَا. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ مَعْمَرُ «2» بْنُ رَاشِدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ: كَانَ حَدِيثُ الْإِفْكِ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَذَلِكَ سَنَةَ سِتٍّ. وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: سَنَةَ أَرْبَعٍ. وأخرج البخاري من حديت مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ قَالَ لِي الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ: أَبَلَغَكَ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ فِيمَنْ قَذَفَ؟ قَالَ: قُلْتُ لَا، وَلَكِنْ قَدْ أَخْبَرَنِي رَجُلَانِ مِنْ قَوْمِكَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَأَبُو بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ لَهُمَا: كَانَ عَلِيٌّ مُسَلِّمًا «3» فِي شَأْنِهَا. وَأَخْرَجَهُ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُخَرَّجِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مِنْ حَدِيثِ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَفِيهِ: قَالَ كُنْتُ عِنْدَ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَقَالَ: الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ؟ فَقُلْتُ لَا، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةُ وَعَلْقَمَةُ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ كُلُّهُمْ يَقُولُ سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ: وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ عبد الله بن أبى [بن سلول «4»]. وَأَخْرَجَ «5» الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ: وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (بِالْإِفْكِ) الْإِفْكُ: الْكَذِبُ. وَالْعُصْبَةُ: ثَلَاثَةُ رِجَالٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَعَنْهُ أَيْضًا مِنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ. ابْنُ عُيَيْنَةَ: أَرْبَعُونَ رَجُلًا. مُجَاهِدٌ: مِنْ عَشَرَةٍ إِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ. وَأَصْلُهَا فِي اللُّغَةِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ الْجَمَاعَةُ الَّذِينَ يَتَعَصَّبُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ. وَالْخَيْرُ حَقِيقَتُهُ: مَا زَادَ نَفْعُهُ عَلَى ضَرِّهُ. وَالشَّرُّ: مَا زَادَ ضَرُّهُ عَلَى نَفْعِهِ. وَإِنَّ خَيْرًا لَا شَرَّ فِيهِ هُوَ الْجَنَّةُ. وَشَرًّا لَا خَيْرَ فِيهِ هُوَ جَهَنَّمُ. فَأَمَّا الْبَلَاءُ النَّازِلُ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ فَهُوَ خَيْرٌ، لِأَنَّ ضَرَرَهُ مِنَ الْأَلَمِ قَلِيلٌ فِي الدُّنْيَا، وَخَيْرُهُ هُوَ الثَّوَابُ الْكَثِيرُ فِي الْأُخْرَى. فَنَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى عَائِشَةَ وَأَهْلَهَا وَصَفْوَانَ، إِذِ الْخِطَابُ لَهُمْ فِي قَوْلِهِ:" لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ"، لِرُجْحَانِ النَّفْعِ وَالْخَيْرِ عَلَى جَانِبِ الشَّرِّ. الثَّالِثَةُ- لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعَائِشَةَ مَعَهُ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهِيَ غَزْوَةُ الْمُرَيْسِيعِ، وَقَفَلَ وَدَنَا مِنَ الْمَدِينَةِ آذَنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ قَامَتْ حِينَ آذنوا بالرحيل

(1). أي بالذي قرأت به.

(2)

. الذي في البخاري" النعمان بن راشد".

(3)

. قوله:" مسلما" بكسر اللام المشددة من التسليم، أي ساكتا في شأنها. وقيل: بفتح اللام، من السلامة من الخوض فيه.

(4)

. من ك. [ ..... ]

(5)

. في ك: وأخرجه.

ص: 198

فَمَشَتْ حَتَّى جَاوَزَتِ الْجَيْشَ، فَلَمَّا فَرَغَتْ مِنْ شَأْنِهَا أَقْبَلَتْ إِلَى الرَّحْلِ فَلَمَسَتْ صَدْرَهَا فَإِذَا عِقْدٌ مِنْ جَزْعِ ظَفَارٍ قَدِ «1» انْقَطَعَ، فَرَجَعَتْ فالتمسته فحبسها ابتغاؤه، فوجدته وانصرفت فلم تَجِدْ أَحَدًا، وَكَانَتْ شَابَّةً قَلِيلَةَ اللَّحْمِ، فَرَفَعَ الرجال هودجها ولم يشعروا بزوالها مِنْهُ، فَلَمَّا لَمْ تَجِدْ أَحَدًا اضْطَجَعَتْ فِي مَكَانِهَا رَجَاءَ أَنْ تُفْتَقَدَ فَيُرْجَعَ إِلَيْهَا، فَنَامَتْ فِي الْمَوْضِعِ وَلَمْ يُوقِظْهَا إِلَّا قَوْلُ صَفْوَانَ بْنِ الْمُعَطَّلِ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ تَخَلَّفَ وَرَاءَ الْجَيْشِ لِحِفْظِ السَّاقَةِ. وَقِيلَ: إِنَّهَا اسْتَيْقَظَتْ لِاسْتِرْجَاعِهِ، وَنَزَلَ عَنْ نَاقَتِهِ وَتَنَحَّى عَنْهَا حَتَّى رَكِبَتْ عَائِشَةُ، وَأَخَذَ يَقُودُهَا حَتَّى بَلَغَ بِهَا الْجَيْشَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، فَوَقَعَ أَهْلُ الْإِفْكِ فِي مَقَالَتِهِمْ، وَكَانَ الَّذِي يَجْتَمِعُ إِلَيْهِ فِيهِ وَيَسْتَوْشِيهِ «2» وَيُشْعِلُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ الْمُنَافِقُ، وَهُوَ الَّذِي رَأَى صَفْوَانَ آخِذًا بِزِمَامِ نَاقَةِ عَائِشَةَ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا نَجَتْ مِنْهُ وَلَا نَجَا مِنْهَا، وَقَالَ: امْرَأَةُ نَبِيِّكُمْ بَاتَتْ مَعَ رَجُلٍ. وَكَانَ مِنْ قَالَتِهِ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَمِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ وَحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ. هَذَا اخْتِصَارُ الْحَدِيثِ، وَهُوَ بِكَمَالِهِ وَإِتْقَانِهِ فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَهُوَ فِي مُسْلِمٍ أَكْمَلُ. وَلَمَّا بَلَغَ صَفْوَانَ قَوْلُ حَسَّانَ فِي الْإِفْكِ جَاءَ فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ ضَرْبَةً عَلَى رَأْسِهِ وَقَالَ:

تَلَقَّ ذُبَابَ السَّيْفِ عَنِّي فَإِنَّنِي

غُلَامٌ إِذَا هُوجِيتُ لَيْسَ بِشَاعِرِ

فَأَخَذَ جَمَاعَةٌ حَسَّانَ وَلَبَّبُوهُ «3» وَجَاءُوا بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَهْدَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَرْحَ حَسَّانَ وَاسْتَوْهَبَهُ إِيَّاهُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَسَّانَ مِمَّنْ تَوَلَّى الْكِبْرَ، عَلَى مَا يَأْتِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَانَ صَفْوَانُ هَذَا صَاحِبَ سَاقَةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته لشجاعته، وكان من خيار الصحابة [رضى الله عنه وعنهم «4»]. وَقِيلَ: كَانَ حَصُورًا لَا يَأْتِي النِّسَاءَ، ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ. وَقِيلَ: كَانَ لَهُ ابْنَانِ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُهُ الْمَرْوِيُّ مَعَ امْرَأَتِهِ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي ابْنَيْهِ:(لَهُمَا أَشْبَهُ بِهِ مِنَ الْغُرَابِ بِالْغُرَابِ). وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: وَاللَّهِ مَا كشف كنف أنثى قط، يريد بزنى. وَقُتِلَ شَهِيدًا رضي الله عنه فِي غَزْوَةِ أَرْمِينِيَّةَ سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ فِي زَمَانِ عُمَرَ، وَقِيلَ: بِبِلَادِ الرُّومِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ فِي زمان معاوية.

(1). الجزع (بفتح الجيم وسكون الزاي): خرز معروف في سواده بياض كالعروق. وظفار (كخضار): مدينة باليمن.

(2)

. يستوشبه: يستخرجه بالبحث والمسألة ثم يفشيه ويشيعه ويحركه.

(3)

. لبب فلان فلانا: أخذ بتلبيبه، أي جمع ثيابه عند صدره ونحره في الخصومة ثم جره.

(4)

. من ك.

ص: 199

الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) يَعْنِي مِمَّنْ تَكَلَّمَ بِالْإِفْكِ. وَلَمْ يُسَمَّ مِنْ أَهْلِ الْإِفْكِ. إِلَّا حَسَّانُ وَمِسْطَحٌ وَحَمْنَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ: وَجُهِلَ الْغَيْرُ، قَالَهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، وَقَالَ: إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا عُصْبَةً، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِي مُصْحَفِ حَفْصَةَ:" عُصْبَةٌ «1» أَرْبَعَةٌ". الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ) وَقَرَأَ حُمَيْدٌ الْأَعْرَجُ وَيَعْقُوبُ:" كُبْرَهُ" بِضَمِّ الْكَافِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَهُوَ وَجْهٌ جَيِّدٌ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: فُلَانٌ تَوَلَّى عُظْمَ كَذَا وَكَذَا، أَيْ أَكْبَرَهُ. رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ حَسَّانُ، وَأَنَّهَا قَالَتْ حِينَ عَمِيَ: لَعَلَّ الْعَذَابَ الْعَظِيمَ الَّذِي أَوْعَدَهُ اللَّهُ بِهِ ذَهَابُ بَصَرِهِ، رَوَاهُ عَنْهَا مَسْرُوقٌ. وَرُوِيَ عَنْهَا أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَحَكَى أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ عَائِشَةَ بَرَّأَتْ حَسَّانَ مِنَ الْفِرْيَةِ، وَقَالَتْ: إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ شَيْئًا. وَقَدْ أَنْكَرَ حَسَّانُ أَنْ يَكُونَ قَالَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ:

حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ

وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ «2»

حَلِيلَةُ خَيْرِ النَّاسِ دِينًا وَمَنْصِبًا

نَبِيِّ الْهُدَى وَالْمَكْرُمَاتِ الْفَوَاضِلِ

عَقِيلَةُ حَيٍّ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ

كِرَامِ الْمَسَاعِي مَجْدُهَا غَيْرُ زَائِلِ

مُهَذَّبَةٌ قَدْ طَيَّبَ اللَّهُ خِيَمَهَا «3»

وَطَهَّرَهَا مِنْ كُلِّ شَيْنٍ وَبَاطِلِ

فَإِنْ كَانَ مَا بُلِّغْتِ أَنِّي قُلْتُهُ

فَلَا رَفَعَتْ سَوْطِي إِلَيَّ أَنَامِلِي

فَكَيْفَ وَوُدِّي مَا حَيِيتُ وَنُصْرَتِي

لِآلِ رَسُولِ اللَّهِ زَيْنِ المحافل

له رتب عال على النَّاسِ فَضْلُهَا

تَقَاصَرُ عَنْهَا سَوْرَةُ الْمُتَطَاوِلِ

وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا أَنْشَدَهَا: حَصَانٌ رَزَانٌ، قَالَتْ لَهُ: لَسْتُ كَذَلِكَ، تُرِيدُ أَنَّكَ وَقَعْتَ فِي الْغَوَافِلِ. وَهَذَا تَعَارُضٌ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنْ يُقَالَ: إن حسانا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ نَصًّا وَتَصْرِيحًا، وَيَكُونُ عَرَّضَ بِذَلِكَ وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ فَنُسِبَ ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَاللَّهُ أعلم.

(1). في ك: عصيبة بالتصغير.

(2)

. الحصان: العفيفة. ورزان: ذات ثبات ووقار وعفاف. وغرثى: جائعة. ما تزن: ماتتهم. الغوافل: جمع غافلة، أي لا ترتع في أعراض الناس.

(3)

. الخيم (بالكسر): الشيمة والطبيعة والخلق والأصل.

ص: 200

وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ هَلْ خَاضَ فِي الْإِفْكِ أَمْ لَا، وَهَلْ جُلِدَ الْحَدَّ أَمْ لَا، فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ: وَهِيَ المسألة: السَّادِسَةُ- فَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَلَدَ فِي الْإِفْكِ رَجُلَيْنِ وَامْرَأَةً: مِسْطَحًا وَحَسَّانَ وَحَمْنَةَ، وَذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ وَذَكَرَ الْقُشَيْرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَلَدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ابْنَ أُبَيٍّ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، وَلَهُ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَالَّذِي ثَبَتَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّهُ ضَرَبَ ابْنَ أُبَيٍّ وَضَرَبَ حَسَّانَ وَحَمْنَةَ، وَأَمَّا مِسْطَحٌ فَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ قَذْفٌ صَرِيحٌ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَسْمَعُ وَيُشِيعُ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ «1» وَغَيْرُهُ: اخْتَلَفُوا هَلْ حَدَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَ الْإِفْكِ، عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَمْ يَحُدَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ الْإِفْكِ لِأَنَّ الْحُدُودَ إِنَّمَا تُقَامُ بِإِقْرَارٍ أَوْ بِبَيِّنَةٍ، وَلَمْ يَتَعَبَّدْهُ اللَّهُ أَنْ يُقِيمَهَا بِإِخْبَارِهِ عَنْهَا، كَمَا لَمْ يَتَعَبَّدْهُ بِقَتْلِ الْمُنَافِقِينَ، وَقَدْ أَخْبَرَهُ بِكُفْرِهِمْ. قُلْتُ: وَهَذَا فَاسِدٌ مُخَالِفٌ لِنَصِّ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل يَقُولُ:" وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ" أَيْ عَلَى صِدْقِ قَوْلِهِمْ:" فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً". وَالْقَوْلُ الثَّانِي- أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَدَّ أَهْلَ الْإِفْكِ عَبْدَ الله بن أبى ومسطح ابن أُثَاثَةَ وَحَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ وَحَمْنَةَ بِنْتَ جَحْشٍ، وَفِي ذَلِكَ قَالَ شَاعِرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ:

لَقَدْ ذَاقَ حَسَّانُ الَّذِي كَانَ أَهْلَهُ

وَحَمْنَةُ إِذْ قَالُوا هَجِيرًا وَمِسْطَحُ

وَابْنُ سَلُولٍ ذَاقَ فِي الْحَدِّ خِزْيَةً

كَمَا خَاضَ فِي إِفْكٍ مِنَ الْقَوْلِ يُفْصِحُ

تَعَاطَوْا بِرَجْمِ الْغَيْبِ زَوْجَ نَبِيِّهِمْ

وَسَخْطَةَ ذِي الْعَرْشِ الْكَرِيمِ فَأَبْرَحُوا «2»

وَآذَوْا رَسُولَ الله فيها فجلدوا

مَخَازِيَ تَبْقَى عُمِّمُوهَا وَفُضِّحُوا

فَصُبَّ عَلَيْهِمْ مُحْصَدَاتٌ كَأَنَّهَا

شَآبِيبُ قَطْرٍ مِنْ ذُرَى الْمُزْنِ تَسْفَحُ

. قُلْتُ: الْمَشْهُورُ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الَّذِي حُدَّ حَسَّانُ وَمِسْطَحٌ وَحَمْنَةُ، وَلَمْ يُسْمَعْ بِحَدٍّ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ. رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَ عُذْرِي قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ، وَتَلَا الْقُرْآنَ، فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين

(1). في ك وط: السابعة قال المارودي

إلخ.

(2)

. أي جاء بأمر مفرط في الإثم.

ص: 201

وَالْمَرْأَةِ فَضُرِبُوا حَدَّهُمْ، وَسَمَّاهُمْ: حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَمِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ وَحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ. وَفِي كِتَابِ الطَّحَاوِيِّ:" ثَمَانِينَ ثَمَانِينَ". قَالَ عُلَمَاؤُنَا. وَإِنَّمَا لَمْ يُحَدَّ «1» عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعَدَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ عَذَابًا عَظِيمًا، فَلَوْ حُدَّ فِي الدُّنْيَا لَكَانَ ذَلِكَ نَقْصًا مِنْ عَذَابِهِ فِي الْآخِرَةِ وَتَخْفِيفًا عَنْهُ مَعَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ شَهِدَ بِبَرَاءَةِ عَائِشَةَ رضي الله عنها وَبِكَذِبِ كُلِّ مَنْ رَمَاهَا، فَقَدْ حَصَلَتْ فَائِدَةُ الْحَدِّ، إِذْ مَقْصُودُهُ إِظْهَارُ كَذِبِ الْقَاذِفِ وَبَرَاءَةِ الْمَقْذُوفِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ". وَإِنَّمَا حُدَّ هَؤُلَاءِ الْمُسْلِمُونَ لَيُكَفَّرَ عَنْهُمْ إِثْمُ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنَ الْقَذْفِ حَتَّى لَا يَبْقَى عَلَيْهِمْ تَبِعَةٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي الْحُدُودِ (إِنَّهَا كَفَّارَةٌ لِمَنْ أُقِيمَتْ عَلَيْهِ)، كَمَا فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا تُرِكَ حَدُّ ابْنِ أُبَيٍّ اسْتِئْلَافًا لِقَوْمِهِ وَاحْتِرَامًا لِابْنِهِ، وَإِطْفَاءً لِثَائِرَةِ الْفِتْنَةِ الْمُتَوَقَّعَةِ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ ظَهَرَ مَبَادِئُهَا مِنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ وَمِنْ قَوْمِهِ، كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ. والله أعلم. السابعة- قوله تعالى:(لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) هَذَا عِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سبحانه وتعالى لِلْمُؤْمِنِينَ فِي ظَنِّهِمْ حِينَ قَالَ أَصْحَابُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَفْجُرُ بِأُمِّهِ، قَالَهُ الْمَهْدَوِيُّ. وَ" لَوْلا" بِمَعْنَى هَلَّا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقِيسَ فُضَلَاءُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ الْأَمْرَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَبْعُدُ فِيهِمْ فَذَلِكَ فِي عَائِشَةَ وَصَفْوَانَ أَبْعَدُ. وَرُوِيَ أَنَّ هَذَا النَّظَرَ السَّدِيدَ وَقَعَ مِنْ أَبِي أَيُّوبٍ الْأَنْصَارِيِّ وَامْرَأَتِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهَا فَقَالَتْ لَهُ: يَا أَبَا أَيُّوبَ، أَسَمِعْتَ مَا قِيلَ! فَقَالَ نَعَمْ! وَذَلِكَ الْكَذِبُ! أَكُنْتِ أَنْتِ يَا أُمَّ أَيُّوبَ تَفْعَلِينَ ذَلِكَ! قَالَتْ: لَا وَاللَّهِ! قَالَ: فَعَائِشَةُ وَاللَّهِ أَفْضَلُ مِنْكِ، قَالَتْ أُمُّ أَيُّوبَ نَعَمْ. فَهَذَا الْفِعْلُ وَنَحْوُهُ هُوَ الَّذِي عَاتَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ «2» الْمُؤْمِنِينَ إِذْ لَمْ يَفْعَلْهُ جَمِيعُهُمْ. الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:(بِأَنْفُسِهِمْ) قَالَ النَّحَّاسُ: مَعْنَى" بِأَنْفُسِهِمْ" بِإِخْوَانِهِمْ. فَأَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِذَا سَمِعُوا رَجُلًا يَقْذِفُ أَحَدًا وَيَذْكُرُهُ «3» بِقَبِيحٍ لَا يَعْرِفُونَهُ بِهِ أَنْ يُنْكِرُوا عَلَيْهِ وَيُكَذِّبُوهُ. وتواعد من ترك ذلك ومن نقله.

(1). في ك: عدو الله.

(2)

. في الأصول وتفسير ابن عطية:" عاتب الله تعالى على المؤمنين".

(3)

. كذا في ك.

ص: 202

قُلْتُ: وَلِأَجْلِ هَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ الْآيَةَ أَصْلٌ فِي أَنَّ دَرَجَةَ الْإِيمَانِ الَّتِي حَازَهَا الْإِنْسَانُ، وَمَنْزِلَةَ الصَّلَاحِ الَّتِي حَلَّهَا الْمُؤْمِنُ «1» ، وَلُبْسَةَ الْعَفَافِ الَّتِي يَسْتَتِرُ بِهَا الْمُسْلِمُ لَا يُزِيلُهَا عَنْهُ خَبَرٌ مُحْتَمَلٌ وَإِنْ شَاعَ، إِذَا كَانَ أَصْلُهُ فَاسِدًا أَوْ مَجْهُولًا.

التَّاسِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) هَذَا تَوْبِيخٌ لِأَهْلِ الْإِفْكِ. و" لَوْلا" بِمَعْنَى هَلَّا، أَيْ هَلَّا جَاءُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ عَلَى مَا زَعَمُوا مِنَ الِافْتِرَاءِ. وَهَذَا رَدٌّ عَلَى الْحُكْمِ الْأَوَّلِ، وَإِحَالَةٌ عَلَى الْآيَةِ السَّابِقَةِ فِي آيَةِ الْقَذْفِ. الْعَاشِرَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:(فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) أَيْ هُمْ فِي حُكْمِ اللَّهِ كَاذِبُونَ. وَقَدْ يَعْجَزُ الرَّجُلُ عَنْ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَهُوَ صَادِقٌ فِي قَذْفِهِ، وَلَكِنَّهُ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ وَظَاهِرِ الْأَمْرِ كَاذِبٌ لَا فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ سُبْحَانُهُ إِنَّمَا رَتَّبَ الْحُدُودَ عَلَى حُكْمِهِ الَّذِي شَرَعَهُ فِي الدُّنْيَا لَا عَلَى مُقْتَضَى عِلْمِهِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِالْإِنْسَانِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، فَإِنَّمَا يُبْنَى عَلَى ذَلِكَ حُكْمُ الْآخِرَةِ. قُلْتُ: وَمِمَّا يُقَوِّي هَذَا الْمَعْنَى وَيُعَضِّدُهُ مَا خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ وَإِنَّمَا نَأْخُذُكُمُ الْآنَ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا خَيْرًا أَمَّنَّاهُ وَقَرَّبْنَاهُ، وَلَيْسَ لَنَا مِنْ سريرته شي اللَّهُ يُحَاسِبُهُ فِي سَرِيرَتِهِ، وَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا سُوءًا لَمْ نُؤَمِّنْهُ وَلَمْ نُصَدِّقْهُ، وَإِنْ قَالَ إِنَّ سَرِيرَتَهُ حَسَنَةٌ. وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ أَحْكَامَ الدُّنْيَا عَلَى الظَّاهِرِ، وَأَنَّ السَّرَائِرَ إِلَى اللَّهِ عز وجل. الحادية عشرة- قوله تعالى:(وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ)«2» " فَضْلُ" رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ لَا تُظْهِرُهُ الْعَرَبُ. وحذف جواب" لَوْلا" لِأَنَّهُ قَدْ ذُكِرَ مِثْلُهُ بَعْدُ، قَالَ اللَّهُ عز وجل" وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ"" لَمَسَّكُمْ" أَيْ بِسَبَبِ مَا قُلْتُمْ فِي عَائِشَةَ عَذَابٌ عَظِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَهَذَا عِتَابٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بَلِيغٌ، وَلَكِنَّهُ بِرَحْمَتِهِ سَتَرَ عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا وَيَرْحَمُ فِي الْآخِرَةِ مَنْ أَتَاهُ تَائِبًا وَالْإِفَاضَةُ: الْأَخْذُ فِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْعِتَابُ، يُقَالُ: أَفَاضَ الْقَوْمُ فِي الْحَدِيثِ أَيْ أخذوا فيه.

(1). في ك: المر .. [ ..... ]

(2)

. يريد آية 10 وهى قوله تعالى:" وهي قوله تعالى: (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ".

ص: 203

الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) قِرَاءَةُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّمَيْقَعِ بِضَمِّ التَّاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَضَمِّ الْقَافِ، مِنَ الْإِلْقَاءِ، وَهَذِهِ قِرَاءَةٌ بَيِّنَةٌ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ:" إِذْ تَتَلَقَّوْنَهُ" مِنَ التَّلَقِّي، بِتَاءَيْنِ. وَقَرَأَ جُمْهُورُ السَّبْعَةِ: بِحَرْفِ التَّاءِ الْوَاحِدَةِ وَإِظْهَارِ الذَّالِ دُونَ إِدْغَامٍ، وَهَذَا أَيْضًا مِنَ التَّلَقِّي. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: بِإِدْغَامِ الذَّالِ فِي التَّاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: بِإِظْهَارِ الذَّالِ وَإِدْغَامِ التَّاءِ فِي التَّاءِ، وَهَذِهِ قِرَاءَةٌ قَلِقَةٌ، لِأَنَّهَا تَقْتَضِي اجْتِمَاعَ سَاكِنَيْنِ، وَلَيْسَتْ كَالْإِدْغَامِ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ:" فَلَا تَنَاجَوْا. وَلَا تَنَابَزُوا" لِأَنَّ دُونَهُ الْأَلِفَ السَّاكِنَةَ، وَكَوْنُهَا حَرْفَ لِينٍ حَسُنَتْ هُنَالِكَ مَا لَا تَحْسُنُ مَعَ سُكُونِ الذَّالِ. وَقَرَأَ ابْنُ يَعْمُرَ وَعَائِشَةُ رضي الله عنهما وَهُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِهَذَا الْأَمْرِ-" إِذْ تَلَقَّوْنَهُ" بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَضَمِّ الْقَافِ، وَمَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: وَلَقَ الرَّجُلُ يَلِقُ وَلْقًا إِذَا كَذَبَ وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ، فَجَاءُوا بِالْمُتَعَدِّي شَاهِدًا عَلَى غَيْرِ الْمُتَعَدِّي. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَعِنْدِي أَنَّهُ أَرَادَ إِذْ تَلِقُونَ فِيهِ، فَحُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ فَاتَّصَلَ الضَّمِيرُ. وَقَالَ الْخَلِيلُ وَأَبُو عَمْرٍو: أَصْلُ الْوَلْقِ الْإِسْرَاعُ، يُقَالُ: جَاءَتِ الْإِبِلُ تَلِقُ، أَيْ تُسْرِعُ. قَالَ:

لَمَّا رَأَوْا جَيْشًا عَلَيْهِمْ قَدْ طَرَقْ

جَاءُوا بِأَسْرَابٍ مِنَ الشَّأْمِ وَلِقْ

إِنَّ الْحُصَيْنَ زَلِقٌ وَزُمَّلِقْ

جَاءَتْ بِهِ عَنْسٌ «1» مِنَ الشَّأْمِ تَلِقْ

يُقَالُ: رَجُلٌ زَلِقٌ وَزُمَّلِقٌ، مِثَالُ هُدَبِدٌ، وَزُمَالِقٌ وَزُمَّلِقٌ (بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ) وَهُوَ الَّذِي يُنْزِلُ قَبْلَ أَنْ يُجَامِعَ، قَالَ الرَّاجِزُ:

إِنَّ الْحُصَيْنَ زَلِقٌ وَزُمَّلِقٌ

وَالْوَلْقُ أَيْضًا أَخَفُّ الطَّعْنِ. وَقَدْ وَلَقَهُ يَلِقُهُ وَلْقًا. يُقَالُ: وَلَقَهُ بِالسَّيْفِ وَلَقَاتٍ، أَيْ ضَرَبَاتٍ، فَهُوَ مُشْتَرَكٌ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:(وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ) مُبَالَغَةٌ وَإِلْزَامٌ وَتَأْكِيدٌ. الضمير فِي (تَحْسَبُونَهُ) عَائِدٌ عَلَى الْحَدِيثِ وَالْخَوْضِ فِيهِ والإذاعة له. و (هَيِّناً) أي سيئا يَسِيرًا لَا يَلْحَقُكُمْ فِيهِ إِثْمٌ. (وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ) فِي الْوِزْرِ (عَظِيمٌ). وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ عليه السلام فِي حَدِيثِ الْقَبْرَيْنِ: (إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ) أَيْ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْكُمْ.

(1). العنس: الناقة القوية.

ص: 204

الرابعة عشرة- قوله تعالى: (وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هَذَا بُهْتانٌ عَظِيمٌ. يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) عِتَابٌ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ كَانَ يَنْبَغِي عَلَيْكُمْ أَنْ تُنْكِرُوهُ وَلَا يَتَعَاطَاهُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ عَلَى جِهَةِ الْحِكَايَةِ وَالنَّقْلِ، وَأَنْ تُنَزِّهُوا اللَّهَ تَعَالَى عَنْ أَنْ يَقَعَ هَذَا مِنْ زَوْجِ نَبِيِّهِ عليه الصلاة والسلام. وَأَنْ تَحْكُمُوا عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ بِأَنَّهَا بُهْتَانٌ، وَحَقِيقَةُ الْبُهْتَانِ أَنْ يُقَالَ فِي الْإِنْسَانِ مَا لَيْسَ فِيهِ، وَالْغِيبَةُ أَنْ يُقَالَ فِي الْإِنْسَانِ مَا فِيهِ. وَهَذَا الْمَعْنَى قَدْ جَاءَ فِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. ثُمَّ وَعَظَهُمْ تَعَالَى فِي الْعَوْدَةِ إِلَى مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ. وَ" أَنْ" مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، بِتَقْدِيرِ: كَرَاهِيَةَ أَنْ، وَنَحْوَهُ. الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:(إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) تَوْقِيفٌ وَتَوْكِيدٌ، كَمَا تَقُولُ: يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا وَكَذَا إِنْ كُنْتَ رَجُلًا. السَّادِسَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً" يَعْنِي فِي عَائِشَةَ، لِأَنَّ مِثْلَهُ لَا يَكُونُ إِلَّا نَظِيرَ الْقَوْلِ فِي الْمَقُولِ عَنْهُ بِعَيْنِهِ، أَوْ فِيمَنْ كَانَ فِي مَرْتَبَتِهِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ أذائه رسول الله صلى الله عليه وسلم في عِرْضِهِ وَأَهْلِهِ، وَذَلِكَ كُفْرٌ مِنْ فَاعِلِهِ. السَّابِعَةَ عَشْرَةَ- قَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: مَنْ سَبَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ أُدِّبَ، وَمَنْ سَبَّ عَائِشَةَ قُتِلَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ:" يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ"، فَمَنْ سَبَّ عَائِشَةَ فَقَدْ خَالَفَ الْقُرْآنَ، وَمَنْ خَالَفَ الْقُرْآنَ قُتِلَ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:" قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ مَنْ سَبَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها أُدِّبَ كَمَا فِي سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَيْسَ قَوْلُهُ:" إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" فِي عَائِشَةَ [لِأَنَّ ذَلِكَ «1»] كُفْرٌ، وَإِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ عليه السلام:(لَا يُؤْمِنُ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ). وَلَوْ كَانَ سَلْبُ الْإِيمَانِ فِي سَبِّ مَنْ سَبَّ عَائِشَةَ حَقِيقَةٌ لكان سلبه في قوله: (لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ) حقيقة. قلنا: ليس «2» كما زعمتم، فإن «3»

(1). زيادة عن ابن العربي.

(2)

. في الأصول" لئن كان كما زعمتم أن أهل" والتصويب عن ابن العربي.

(3)

. في الأصول وابن العربي:" أن" بدون فاء.

ص: 205

أَهْلَ الْإِفْكِ رَمَوْا عَائِشَةَ الْمُطَهَّرَةَ بِالْفَاحِشَةِ فَبَرَّأَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَكُلُّ مَنْ سَبَّهَا بِمَا بَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْهُ مُكَذِّبٌ لِلَّهِ، وَمَنْ كَذَّبَ اللَّهَ فَهُوَ كَافِرٌ، فَهَذَا طَرِيقُ قَوْلِ مَالِكٍ، وَهِيَ سَبِيلٌ لَائِحَةٌ «1» لِأَهْلِ الْبَصَائِرِ. وَلَوْ «2» أَنَّ رَجُلًا سَبَّ عَائِشَةَ بِغَيْرِ مَا بَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْهُ لكان جزاؤه الأدب. الثامنة عشر- قَوْلُهُ تَعَالَى:(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ) أَيْ تَفْشُو، يُقَالُ: شَاعَ الشَّيْءُ شُيُوعًا وشيعا وشيعانا وشيوعه، أَيْ ظَهَرَ وَتَفَرَّقَ. (فِي الَّذِينَ آمَنُوا) أَيْ فِي الْمُحْصَنِينَ وَالْمُحْصَنَاتِ. وَالْمُرَادُ بِهَذَا اللَّفْظِ الْعَامِّ عَائِشَةُ وَصَفْوَانُ رضي الله عنهما. وَالْفَاحِشَةُ: الْفِعْلُ الْقَبِيحُ الْمُفْرِطُ الْقُبْحِ. وَقِيلَ: الْفَاحِشَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْقَوْلُ السَّيِّئُ. (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا) أَيِ الْحَدُّ. وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ، أَيْ لِلْمُنَافِقِينَ، فَهُوَ مَخْصُوصٌ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْحَدَّ لِلْمُؤْمِنِينَ كَفَّارَةٌ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: مَعْنَاهُ إِنْ مَاتَ مُصِرًّا غَيْرَ تَائِبٍ. التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ) أَيْ يَعْلَمُ مِقْدَارَ عِظَمِ هذا الذنب والمجازاة عليه، ويعلم كل شي. (وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(أَيُّمَا رَجُلٍ شَدَّ عَضُدَ امْرِئٍ مِنَ النَّاسِ فِي خُصُومَةٍ لَا عِلْمَ لَهُ بِهَا فَهُوَ فِي سَخَطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ عَنْهَا. وَأَيُّمَا رَجُلٍ قَالَ بِشَفَاعَتِهِ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ أَنْ يُقَامَ فَقَدْ عَانَدَ اللَّهَ حَقًّا وَأَقْدَمَ عَلَى سَخَطِهِ وَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ تَتَابَعُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَأَيُّمَا رَجُلٍ أَشَاعَ عَلَى رَجُلٍ مُسْلِمٍ كَلِمَةً وَهُوَ مِنْهَا برئ يَرَى أَنْ يَشِينَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَرْمِيَهُ بِهَا فِي النَّارِ- ثُمَّ تَلَا مِصْدَاقَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى:-" إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا" الْآيَةَ. الْمُوَفِّيَةُ عِشْرِينَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) يَعْنِي مَسَالِكَهُ وَمَذَاهِبَهُ، الْمَعْنَى: لَا تَسْلُكُوا الطَّرِيقَ الَّذِي يَدْعُوكُمْ إِلَيْهَا الشَّيْطَانُ. وَوَاحِدُ الْخُطُوَاتِ خُطْوَةٌ، هُوَ مَا بَيْنَ الْقَدَمَيْنِ. وَالْخَطْوَةُ (بِالْفَتْحِ) الْمَصْدَرُ، يُقَالُ: خَطَوْتُ خَطْوَةً، وَجَمْعُهَا خَطَوَاتٌ. وَتَخَطَّى إِلَيْنَا فُلَانٌ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ.

(1). في الأصول:" الآية".

(2)

. في الأصل:" ولو أن رجلا سب عائشة بعين- في ك: ببعض ما برأها الله منه لكان جزاؤه الكفر". والتصويب عن ابن العربي.

ص: 206

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ" خُطُواتِ" بِضَمِّ الطَّاءِ. وَسَكَّنَهَا عَاصِمٌ وَالْأَعْمَشُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:" مَا زَكى " بِتَخْفِيفِ الْكَافِ، أَيْ مَا اهْتَدَى وَلَا أَسْلَمَ وَلَا عَرَفَ رُشْدًا. وَقِيلَ:" مَا زَكى " أَيْ مَا صَلَحَ، يُقَالُ: زَكَا يَزْكُو زَكَاءً، أَيْ صَلَحَ. وَشَدَّدَهَا الْحَسَنُ وَأَبُو حَيْوَةَ، أَيْ أَنَّ تَزْكِيَتَهُ لَكُمْ وَتَطْهِيرَهُ وَهِدَايَتَهُ إِنَّمَا هِيَ بِفَضْلِهِ لَا بِأَعْمَالِكُمْ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ" مُعْتَرِضٌ، وَقَوْلُهُ:" مَا زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً" جَوَابٌ لِقَوْلِهِ أَوَّلًا وثانيا:" وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ". الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ) الْآيَةَ. الْمَشْهُورُ مِنَ الرِّوَايَاتِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ رضي الله عنه وَمِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ. وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ ابْنَ بِنْتِ خَالَتِهِ وَكَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْبَدْرِيِّينَ الْمَسَاكِينِ. وهو مسطح بن أثاثة ابن عَبَّادِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ. وَقِيلَ: اسْمُهُ عَوْفٌ، وَمِسْطَحٌ لَقَبٌ. وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه يُنْفِقُ عَلَيْهِ لِمَسْكَنَتِهِ وَقَرَابَتِهِ، فَلَمَّا وَقَعَ أَمْرُ الْإِفْكِ وَقَالَ فِيهِ مِسْطَحٌ مَا قَالَ، حَلَفَ أَبُو بَكْرٍ أَلَّا يُنْفِقَ عَلَيْهِ وَلَا يَنْفَعَهُ بِنَافِعَةٍ أَبَدًا، فَجَاءَ مِسْطَحٌ فَاعْتَذَرَ وَقَالَ: إِنَّمَا كُنْتُ أَغْشَى مَجَالِسَ حَسَّانَ فَأَسْمَعُ وَلَا أَقُولُ. فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: لَقَدْ ضَحِكْتَ وَشَارَكْتَ فِيمَا قِيلَ، وَمَرَّ عَلَى يَمِينِهِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَطَعُوا مَنَافِعَهُمْ عَنْ كُلِّ مَنْ قَالَ فِي الْإِفْكِ وَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا نَصِلُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي شَأْنِ عَائِشَةَ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِي جَمِيعِهِمْ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، غَيْرَ أَنَّ الْآيَةَ تَتَنَاوَلُ الْأُمَّةَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِأَلَّا يَغْتَاظَ ذُو فَضْلٍ وَسَعَةٍ فَيَحْلِفَ أَلَّا ينفع من هذه صفته غابر الدهر. وروى الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى لَمَّا أَنْزَلَ:" إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ" الْعَشْرَ آيَاتٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ لِقَرَابَتِهِ وَفَقْرِهِ: وَاللَّهِ لَا أُنْفِقُ عَلَيْهِ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ" إِلَى قَوْلِهِ-" أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ". قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: هَذِهِ أَرْجَى آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رضى الله عنه: وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي، فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَقَالَ: لَا أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَدًا.

ص: 207

الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَذْفَ وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا لَا يُحْبِطُ الْأَعْمَالَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ مِسْطَحًا بَعْدَ قَوْلِهِ بِالْهِجْرَةِ وَالْإِيمَانِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْكَبَائِرِ، وَلَا يُحْبِطُ الْأَعْمَالَ غَيْرُ الشِّرْكِ بِاللَّهِ، قَالَ اللَّهُ تعالى:" لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ «1» "[الزمر: 65]. الثالثة والعشرون- من حلف على شي لَا يَفْعَلُهُ فَرَأَى فِعْلَهُ أَوْلَى مِنْهُ أَتَاهُ وَكَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ، أَوْ كَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ وَأَتَاهُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي" الْمَائِدَةِ"«2» . وَرَأَى الْفُقَهَاءُ أَنَّ مَنْ حَلَفَ أَلَّا يَفْعَلَ سُنَّةً مِنَ السُّنَنِ أَوْ مَنْدُوبًا وَأَبَّدَ ذَلِكَ أَنَّهَا جُرْحَةٌ فِي شَهَادَتِهِ، ذَكَرَهُ الْبَاجِيُّ فِي الْمُنْتَقَى. الرَّابِعَةُ والعشرون- قَوْلُهُ تَعَالَى:(وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ)" وَلا يَأْتَلِ" مَعْنَاهُ يَحْلِفُ، وَزْنُهَا يَفْتَعِلُ، مِنَ الْأَلِيَّةِ وَهِيَ الْيَمِينُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ" وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ"«3» . وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: مَعْنَاهُ يُقَصِّرُ، مِنْ قَوْلِكَ: أَلَوْتُ فِي كَذَا إِذَا قَصَّرْتُ فِيهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا «4» "[آل عمران: 118]. الخامسة والعشرون- قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) تَمْثِيلٌ وَحُجَّةٌ أَيْ كَمَا تُحِبُّونَ عَفْوَ اللَّهِ عَنْ ذُنُوبِكُمْ فَكَذَلِكَ اغْفِرُوا لِمَنْ دُونَكُمْ، وَيَنْظُرُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ عليه السلام:(مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ). السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هَذِهِ أَرْجَى آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، مِنْ حَيْثُ لُطْفُ اللَّهِ بِالْقَذَفَةِ الْعُصَاةِ بِهَذَا اللَّفْظِ. وَقِيلَ. أَرْجَى آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ عز وجل قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً»

" [الأحزاب: 47]. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى:" وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ «6» " [الشورى: 22]، فَشَرَحَ الْفَضْلَ الْكَبِيرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَبَشَّرَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي تِلْكَ. وَمِنْ آيَاتِ الرَّجَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى:" قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ «7» " [الزمر: 53]. وقوله تعالى:

(1). راجع ج 15 ص 276.

(2)

. راجع ج 6 ص 264 فما بعد.

(3)

. راجع ج 3 ص 103.

(4)

. راجع ج 4 ص 178.

(5)

. راجع ج 14 ص 201.

(6)

. راجع ج 16 ص 20.

(7)

. راجع ج 15 ص 267. [ ..... ]

ص: 208