الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قُلْتُ: وَكَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَقْوَالِ لِعَدَمِ ارْتِبَاطِهِ بِالْآيَةِ مَا عَدَا الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، وَأَنَّ هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِنُورِهِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُضْرَبَ لِنُورِهِ الْمُعَظَّمِ مَثَلًا تَنْبِيهًا لِخَلْقِهِ إِلَّا بِبَعْضِ خَلْقِهِ، لِأَنَّ الْخَلْقَ لِقُصُورِهِمْ لَا يَفْهَمُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا عَرَفَ اللَّهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا مَثَلُ نُورِ اللَّهِ وَهُدَاهُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ كَمَا يكاد الزيت الصافي يضئ قَبْلَ أَنْ تَمَسَّهُ النَّارُ، فَإِنْ مَسَّتْهُ النَّارُ، زَادَ ضَوْءُهُ، كَذَلِكَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ يَكَادُ يَعْمَلُ بِالْهُدَى قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ الْعِلْمُ، فَإِذَا جَاءَهُ الْعِلْمُ زَادَهُ هُدًى عَلَى هُدًى وَنُورًا عَلَى نُورٍ، كَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَجِيئَهُ الْمَعْرِفَةُ:" هَذَا رَبِّي «1» "، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُخْبِرَهُ أَحَدٌ أَنَّ لَهُ رَبًّا، فَلَمَّا أَخْبَرَهُ اللَّهُ أنه ربه زاد هدى، ف"- قالَ لَهُ رَبُّهُ: أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ»
" [البقرة: 131]. وَمَنْ قَالَ إِنَّ هَذَا مَثَلٌ لِلْقُرْآنِ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ قَالَ: كَمَا أَنَّ هَذَا الْمِصْبَاحَ يُسْتَضَاءُ بِهِ وَلَا يَنْقُصُ فَكَذَلِكَ الْقُرْآنُ يُهْتَدَى بِهِ وَلَا يَنْقُصُ، فَالْمِصْبَاحُ الْقُرْآنُ، وَالزُّجَاجَةُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ، وَالْمِشْكَاةُ لِسَانُهُ وَفَهْمُهُ، وَالشَّجَرَةُ الْمُبَارَكَةُ شَجَرَةُ الوحى. (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) تَكَادُ حُجَجُ الْقُرْآنِ تَتَّضِحُ وَلَوْ لَمْ يُقْرَأْ. (نُورٌ عَلى نُورٍ) يَعْنِي أَنَّ الْقُرْآنَ نُورٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِخَلْقِهِ، مَعَ مَا أَقَامَ لَهُمْ مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْإِعْلَامِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ، فَازْدَادُوا بِذَلِكَ نُورًا على نور. ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ هَذَا النُّورَ الْمَذْكُورَ عَزِيزٌ، وَأَنَّهُ لَا يَنَالُهُ إِلَّا مَنْ أَرَادَ اللَّهُ هُدَاهُ فَقَالَ:(يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ) أَيْ يُبَيِّنُ الْأَشْبَاهَ تَقْرِيبًا إِلَى الْأَفْهَامِ. (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أَيْ بِالْمَهْدِيِّ وَالضَّالِّ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، كَيْفَ يَخْلُصُ نُورُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ دُونِ السَّمَاءِ، فَضَرَبَ الله تعالى ذلك مثلا لنوره.
[سورة النور (24): الآيات 36 الى 38]
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) رِجالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38)
(1). راجع ج 7 ص 25.
(2)
. راجع ج 2 ص 134. [ ..... ]
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ. رِجالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ) فِيهِ تِسْعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ) الْبَاءُ فِي" بُيُوتٍ" تُضَمُّ وَتُكْسَرُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ «1». وَاخْتُلِفَ فِي الْفَاءِ مِنْ قَوْلِهِ:" فِي" فَقِيلَ: هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِ" مِصْباحٌ". وَقِيلَ: بِ" يُسَبِّحُ لَهُ"، فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يُوقَفُ عَلَى" عَلِيمٌ". قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: سَمِعْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ يَقُولُ هُوَ حَالٌ لِلْمِصْبَاحِ وَالزُّجَاجَةِ وَالْكَوْكَبِ، كَأَنَّهُ قَالَ وَهِيَ فِي بُيُوتٍ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ:" فِي بُيُوتٍ" مُنْفَصِلٌ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: اللَّهُ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ، وَبِذَلِكَ جَاءَتِ الْأَخْبَارُ أَنَّهُ (مَنْ جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ فَإِنَّهُ يُجَالِسُ رَبَّهُ). وَكَذَا مَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ فِيمَا يُحْكَى عَنِ التَّوْرَاةِ (أَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا مَشَى إِلَى الْمَسْجِدِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ اسْمُهُ عَبْدِي زَارَنِي وَعَلَيَّ قِرَاهُ وَلَنْ أَرْضَى لَهُ قِرًى دُونَ الْجَنَّةِ). قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: إِنْ جُعِلَتْ" فِي" مُتَعَلِّقَةً بِ"- يُسَبِّحُ" أَوْ رَافِعَةً لِلرِّجَالِ حَسُنَ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ" وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ"[البقرة: 282]. وَقَالَ الرُّمَّانِيُّ: هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِ" يُوقَدُ" وَعَلَيْهِ فَلَا يُوقَفُ عَلَى" عَلِيمٌ". فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْوَجْهُ إِذَا كَانَ الْبُيُوتُ مُتَعَلِّقَةً بِ" يُوقَدُ" فِي تَوْحِيدِ الْمِصْبَاحِ وَالْمِشْكَاةِ وَجَمْعِ الْبُيُوتِ؟ وَلَا يَكُونُ مِشْكَاةً وَاحِدَةً إِلَّا فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ. قِيلَ: هَذَا مِنَ الْخِطَابِ الْمُتَلَوِّنِ الَّذِي يُفْتَحُ: بِالتَّوْحِيدِ وَيُخْتَمُ بِالْجَمْعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ"«2» [الطلاق: 1] وَنَحْوِهِ. وَقِيلَ: رَجَعَ إِلَى كُلٍّ وَاحِدٍ مِنَ الْبُيُوتِ. وَقِيلَ: هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً"«3» [نوح: 16] وَإِنَّمَا هُوَ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهَا. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْبُيُوتِ هُنَا عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ- أَنَّهَا الْمَسَاجِدُ الْمَخْصُوصَةُ لِلَّهِ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ، وَأَنَّهَا تُضِيءُ لِأَهْلِ السَّمَاءِ كَمَا تُضِيءُ النُّجُومُ لِأَهْلِ الْأَرْضِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ. الثَّانِي- هِيَ بُيُوتُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، عَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا. الثَّالِثُ- بُيُوتُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا. الرَّابِعُ- هِيَ الْبُيُوتُ كُلُّهَا، قَالَهُ عِكْرِمَةُ. وَقَوْلُهُ:" يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ" يُقَوِّي أَنَّهَا الْمَسَاجِدُ. وَقَوْلٌ خَامِسٌ- أَنَّهَا المساجد الاربعة التي
(1). راجع ج 2 ص 346.
(2)
. راجع ج 18 ص 147 فما بعد.
(3)
. راجع ج 18 ص 304.
لَمْ يَبْنِهَا إِلَّا نَبِيٌّ: الْكَعْبَةُ وَبَيْتُ أَرِيحَا وَمَسْجِدُ الْمَدِينَةِ وَمَسْجِدُ قُبَاءَ، قَالَهُ ابْنُ بُرَيْدَةَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي" بَرَاءَةٌ"«1» . قُلْتُ- الْأَظْهَرُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، لِمَا رَوَاهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ عز وجل فَلْيُحِبَّنِي وَمَنْ أَحَبَّنِي فَلْيُحِبَّ أَصْحَابِي وَمَنْ أَحَبَّ أَصْحَابِي فَلْيُحِبَّ الْقُرْآنَ وَمَنْ أَحَبَّ الْقُرْآنَ فَلْيُحِبَّ الْمَسَاجِدَ فَإِنَّهَا أَفْنِيَةُ اللَّهِ أَبْنِيَتُهُ أَذِنَ اللَّهُ فِي رَفْعِهَا وَبَارَكَ فِيهَا مَيْمُونَةٌ مَيْمُونٌ أَهْلُهَا مَحْفُوظَةٌ مَحْفُوظٌ أَهْلُهَا هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ وَاللَّهُ عز وجل فِي حَوَائِجِهِمْ هُمْ فِي مَسَاجِدِهِمْ وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ (. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى (أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ)" أَذِنَ" مَعْنَاهُ أَمَرَ وَقَضَى. وَحَقِيقَةُ الْإِذْنِ الْعِلْمُ وَالتَّمْكِينُ دُونَ حَظْرٍ، فَإِنِ اقْتَرَنَ بذلك أمر وإنقاذ كَانَ أَقْوَى. وَ" تُرْفَعَ" قِيلَ: مَعْنَاهُ تُبْنَى وَتُعْلَى، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ"«2» [البقرة: 127] وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ بَنَى مَسْجِدًا مِنْ مَالِهِ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ). وَفِي هَذَا الْمَعْنَى أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ تَحُضُّ عَلَى بُنْيَانِ الْمَسَاجِدِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُ: مَعْنَى" تُرْفَعَ" تُعَظَّمَ، وَيُرْفَعَ شَأْنُهَا، وَتُطَهَّرَ مِنَ الْأَنْجَاسِ وَالْأَقْذَارِ، فَفِي الْحَدِيثِ (أَنَّ الْمَسْجِدَ لَيَنْزَوِي مِنَ النَّجَاسَةِ كَمَا يَنْزَوِي الْجِلْدُ مِنَ النَّارِ). وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ:(مَنْ أَخْرَجَ أَذًى مِنَ الْمَسْجِدِ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ). وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَتَّخِذَ الْمَسَاجِدَ فِي الدُّورِ وَأَنْ تُطَهَّرَ وَتُطَيَّبَ. الثَّالِثَةُ- إِذَا قُلْنَا: إِنَّ الْمُرَادَ بُنْيَانُهَا فَهَلْ تُزَيَّنُ وَتُنْقَشُ؟ اخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ، فَكَرِهَهُ قَوْمٌ وَأَبَاحَهُ آخَرُونَ. فَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ، وَقَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(لَا تَقُومُ الساعة حتى يتباهى النَّاسُ فِي الْمَسَاجِدِ). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ. وَفِي الْبُخَارِيِّ- وَقَالَ أَنَسٌ: (يَتَبَاهَوْنَ بِهَا ثُمَّ لَا يعمرونها إلا قليلا). وقال
(1). راجع ج 8 ص 260.
(2)
. راجع ج 2 ص 120.
ابْنُ عَبَّاسٍ: لَتُزَخْرِفُنَّهَا كَمَا زَخْرَفَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِذَا زَخْرَفْتُمْ مَسَاجِدَكُمْ وَحَلَّيْتُمْ مَصَاحِفَكُمْ فَالدَّبَارُ عَلَيْكُمْ). احْتَجَّ مَنْ أَبَاحَ ذَلِكَ بِأَنَّ فِيهِ تَعْظِيمَ الْمَسَاجِدِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِتَعْظِيمِهَا فِي قَوْلِهِ:" فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ" يَعْنِي تُعَظَّمَ. وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ بَنَى مَسْجِدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالسَّاجِ «1» وَحَسَّنَهُ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا بَأْسَ بِنَقْشِ الْمَسَاجِدِ بِمَاءِ الذَّهَبِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ نَقَشَ مَسْجِدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَالَغَ فِي عِمَارَتِهِ وَتَزْيِينِهِ، وَذَلِكَ فِي زَمَنِ وِلَايَتِهِ قَبْلَ خِلَافَتِهِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ ذَلِكَ. وَذُكِرَ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ أَنْفَقَ فِي عِمَارَةِ مَسْجِدِ دِمَشْقَ وَفِي تَزْيِينِهِ مِثْلَ خَرَاجِ الشَّأْمِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. وروي أن سليمان بن داود عليهما [الصلاة و «2»] السَّلَامُ بَنَى مَسْجِدَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَبَالَغَ فِي تَزْيِينِهِ. الرَّابِعَةُ- وَمِمَّا تُصَانُ عَنْهُ الْمَسَاجِدُ وَتُنَزَّهُ عَنْهُ الرَّوَائِحُ الْكَرِيهَةُ وَالْأَقْوَالُ السَّيِّئَةُ وَغَيْرُ ذَلِكَ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ، وَذَلِكَ مِنْ تَعْظِيمِهَا. وَقَدْ صَحَّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ:(مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ- يَعْنِي الثُّومَ- فَلَا يَأْتِيَنَّ الْمَسَاجِدَ). وَفِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ سلم قَالَ: (مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الْبَقْلَةِ الثُّومِ) وَقَالَ مَرَّةً: (مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ وَالثُّومَ وَالْكُرَّاثَ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ). وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فِي خُطْبَتِهِ: (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ تَأْكُلُونَ شَجَرَتَيْنِ وَلَا أَرَاهُمَا إِلَّا خَبِيثَتَيْنِ، هَذَا الْبَصَلُ وَالثُّومُ، لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذا وَجَدَ رِيحَهُمَا مِنْ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ أَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ إِلَى الْبَقِيعِ، فَمَنْ أَكَلَهُمَا فَلْيُمِتْهُمَا طَبْخًا. خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَإِذَا كَانَتِ الْعِلَّةُ فِي إِخْرَاجِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ أَنَّهُ يُتَأَذَّى بِهِ فَفِي الْقِيَاسِ أَنَّ كُلَّ مَنْ تَأَذَّى بِهِ جِيرَانُهُ فِي الْمَسْجِدِ بِأَنْ يَكُونَ ذَرِبَ اللِّسَانِ سَفِيهًا عَلَيْهِمْ، أَوْ كَانَ ذَا رَائِحَةٍ قَبِيحَةٍ لَا تَرِيمُهُ «3» لِسُوءِ صِنَاعَتِهِ، أو عاهة مؤذية كالجذاء
(1). الساج: شجر يعظم جدا، لا ينبت ببلاد الهند، وخشبة رزين، لا تكاد الأرض تبليه.
(2)
. من ك.
(3)
. أي لا تفارقه.
وَشِبْهِهِ. وَكُلُّ مَا يَتَأَذَّى بِهِ النَّاسُ كَانَ لهم إخراجه ما كانت العلة موجودة فيه حَتَّى تَزُولَ. وَكَذَلِكَ يَجْتَنِبُ مُجْتَمَعَ النَّاسِ حَيْثُ كَانَ لِصَلَاةٍ أَوْ غَيْرِهَا كَمَجَالِسِ الْعِلْمِ وَالْوَلَائِمِ وَمَا أَشْبَهَهَا، مِنْ أَكْلِ الثُّومِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ، مِمَّا لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ تُؤْذِي النَّاسَ. وَلِذَلِكَ جَمَعَ بَيْنَ الْبَصَلِ وَالثُّومِ وَالْكُرَّاثِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُتَأَذَّى بِهِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَقَدْ شَاهَدْتُ شَيْخَنَا أَبَا عُمَرَ أَحْمَدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ هِشَامٍ رحمه الله أَفْتَى فِي رَجُلٍ شَكَاهُ جِيرَانُهُ وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ أَنَّهُ يُؤْذِيهِمْ فِي الْمَسْجِدِ بِلِسَانِهِ وَيَدِهِ فَشُووِرَ فِيهِ، فَأَفْتَى بِإِخْرَاجِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ وَإِبْعَادِهِ عَنْهُ، وَأَلَّا يُشَاهِدَ «1» مَعَهُمُ الصَّلَاةَ، إِذْ لَا سَبِيلَ مَعَ جُنُونِهِ وَاسْتِطَالَتِهِ إِلَى السَّلَامَةِ مِنْهُ، فَذَاكَرْتُهُ يَوْمًا أَمْرَهُ وَطَالَبْتُهُ بِالدَّلِيلِ فِيمَا أَفْتَى بِهِ مِنْ ذَلِكَ وَرَاجَعْتُهُ فِيهِ الْقَوْلَ، فَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ الثُّومِ، وَقَالَ: هُوَ عِنْدِي أَكْثَرُ أَذًى مِنْ أَكْلِ الثُّومِ، وَصَاحِبُهُ يُمْنَعُ مِنْ شُهُودِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ. قُلْتُ: وَفِي الْآثَارِ الْمُرْسَلَةِ" إِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ الْكَذْبَةَ فَيَتَبَاعَدُ الْمَلَكُ مِنْ نَتْنِ رِيحِهِ". فَعَلَى هَذَا يُخْرَجُ مَنْ عُرِفَ مِنْهُ الْكَذِبُ وَالتَّقَوُّلُ «2» بِالْبَاطِلِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤْذِي. الْخَامِسَةُ- أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْمَسَاجِدَ كُلَّهَا سَوَاءٌ، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا خَرَجَ النَّهْيُ عَلَى مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَجْلِ جِبْرِيلَ عليه السلام وَنُزُولِهِ فِيهِ، وَلِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ:(فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا). وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ الصِّفَةَ فِي الْحُكْمِ وَهِيَ الْمَسْجِدِيَّةُ، وَذِكْرُ الصِّفَةِ فِي الْحُكْمِ تَعْلِيلٌ. وَقَدْ رَوَى الثَّعْلَبِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (يَأْتِي اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَسَاجِدِ الدُّنْيَا كأنها نجائب بِيضٌ قَوَائِمُهَا مِنَ الْعَنْبَرِ وَأَعْنَاقُهَا مِنَ الزَّعْفَرَانِ وَرُءُوسُهَا مِنَ الْمِسْكِ وَأَزِمَّتُهَا مِنَ الزَّبَرْجَدِ الْأَخْضَرِ وقوامها المؤذنون فِيهَا يَقُودُونَهَا وَأَئِمَّتُهَا يَسُوقُونَهَا وَعُمَّارُهَا مُتَعَلِّقُونَ بِهَا فَتَجُوزُ عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ كَالْبَرْقِ الْخَاطِفِ فَيَقُولُ أَهْلُ الْمَوْقِفِ هَؤُلَاءِ مَلَائِكَةٌ مُقَرَّبُونَ وَأَنْبِيَاءُ مُرْسَلُونَ فَيُنَادَى مَا هَؤُلَاءِ بِمَلَائِكَةٍ وَلَا أَنْبِيَاءَ وَلَكِنَّهُمْ أَهْلُ الْمَسَاجِدِ وَالْمُحَافِظُونَ عَلَى الصَّلَوَاتِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم (. وَفِي التَّنْزِيلِ:" إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ"«3» [التوبة: 18]. وهذا عام
(1). في ك: يشهد.
(2)
. في ك: والقول الباطل.
(3)
. راجع ج 8 ص 90.
فِي كُلِّ مَسْجِدٍ. وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ) إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ:" إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ"[التوبة: 18]. وَقَدْ تَقَدَّمَ. السَّادِسَةُ: وَتُصَانُ «1» الْمَسَاجِدُ أَيْضًا عَنِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَجَمِيعِ الِاشْتِغَالِ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِلرَّجُلِ الَّذِي دَعَا إِلَى الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ «2»:(لَا وَجَدْتَ إِنَّمَا بُنِيَتِ الْمَسَاجِدُ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا صَلَّى قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: مَنْ دَعَا إِلَى الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (لَا وَجَدْتَ إِنَّمَا بُنِيَتِ الْمَسَاجِدُ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ). وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ أَلَّا يُعْمَلَ فِي الْمَسْجِدِ غَيْرُ الصَّلَوَاتِ وَالْأَذْكَارِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ. وَكَذَا جَاءَ مُفَسَّرًا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَهْ مَهْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:(لَا تُزْرِمُوهُ دَعُوهُ)«3» . فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ:(إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنَ هَذَا الْبَوْلِ وَلَا الْقَذَرِ إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ). أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: فَأَمَرَ رَجُلًا مِنَ الْقَوْمِ فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ «4» عَلَيْهِ. خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. وَمِمَّا يدل على هذا من الكتاب قول الْحَقُّ:" وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ". وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ: (إِنَّ هذه المساجد «5» لا يصلح فيها شي مِنْ كَلَامِ النَّاسِ إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وقراءة القرآن). أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. الْحَدِيثَ بِطُولِهِ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَحَسْبُكَ وَسَمِعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه صَوْتَ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: مَا هَذَا الصَّوْتُ؟ أَتَدْرِي أَيْنَ أَنْتَ! وَكَانَ خَلَفُ بْنُ أَيُّوبَ جَالِسًا فِي مسجده فأتاه غلامه يسأله عن شي فَقَامَ وَخَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ وَأَجَابَهُ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: مَا تَكَلَّمْتُ فِي الْمَسْجِدِ بِكَلَامِ الدُّنْيَا مُنْذُ كَذَا وَكَذَا، فَكَرِهْتُ أَنْ أتكلم اليوم.
(1). في ك: ويصان المسجد
(2)
. أى من وجد ضالتي، وهو الجمل الأحمر فدعاني إليه
(3)
. أى لا تقطعوا عليه بوله، يقال: ز رم البول (بالكسر) انقطع، وأوزمه غيره [ ..... ]
(4)
. الشن: الصب المنقطع، أى رشه عليه رشا متفرقا
(5)
. الذي في صحيح مسلم: إن هذه الصلاة
…
السَّابِعَةُ: رَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى عَنْ تَنَاشُدِ الْأَشْعَارِ فِي الْمَسْجِدِ، وَعَنِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِيهِ، وَأَنْ يَتَحَلَّقَ النَّاسُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ. قَالَ: وَفِي الْبَابِ عَنْ بُرَيْدَةَ وجابر وأنس حديث عبد الله بن عمر وحديث حَسَنٌ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ: رَأَيْتُ مُحَمَّدًا «1» وَإِسْحَاقَ وَذَكَرَ غَيْرَهُمَا يَحْتَجُّونَ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ. وَقَدْ كَرِهَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ فِي الْمَسْجِدِ، وَبِهِ يَقُولُ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَرُوِيَ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عليهما السلام أَتَى عَلَى قَوْمٍ يَتَبَايَعُونَ فِي الْمَسْجِدِ فَجَعَلَ رِدَاءَهُ مِخْرَاقًا «2» ، ثُمَّ جَعَلَ يَسْعَى عَلَيْهِمْ ضَرْبًا وَيَقُولُ: يَا أَبْنَاءَ الْأَفَاعِي، اتَّخَذْتُمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَسْوَاقًا هَذَا سُوقُ الْآخِرَةِ. قُلْتُ: وَقَدْ كَرِهَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا تَعْلِيمَ الصِّبْيَانِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَأَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْبَيْعِ. وَهَذَا إِذَا كَانَ بِأُجْرَةٍ، فَلَوْ كَانَ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ لَمُنِعَ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الصِّبْيَانَ لَا يَتَحَرَّزُونَ عَنِ الْأَقْذَارِ وَالْوَسَخِ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى عَدَمِ تَنْظِيفِ الْمَسَاجِدِ، وَقَدْ أَمَرَ صلى الله عليه وسلم بِتَنْظِيفِهَا وَتَطْيِيبِهَا فَقَالَ:(جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ وَإِقَامَةَ حُدُودِكُمْ وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ وَخُصُومَاتِكُمْ وَأَجْمِرُوهَا فِي الْجُمَعِ وَاجْعَلُوا عَلَى أَبْوَابِهَا الْمَطَاهِرَ (. فِي إِسْنَادِهِ الْعَلَاءُ بْنُ كَثِيرٍ الدِّمَشْقِيُّ مَوْلَى بَنِي أُمَيَّةَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَهُمْ، ذَكَرَهُ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ الْجُرْجَانِيُّ الْحَافِظُ. وَذَكَرَ أَبُو أَحْمَدَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قال: صليت صَلَّيْتُ الْعَصْرَ مَعَ عُثْمَانَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَرَأَى خَيَّاطًا فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ فَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهِ، فَقِيلَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهُ يَكْنُسُ الْمَسْجِدَ وَيُغْلِقُ الْأَبْوَابَ وَيَرُشُّ أَحْيَانًا. فَقَالَ عُثْمَانُ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (جَنِّبُوا صُنَّاعَكُمْ مِنْ مَسَاجِدِكُمْ). هَذَا حَدِيثٌ غَيْرُ مَحْفُوظٍ، فِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُجِيبٍ الثَّقَفِيُّ، وَهُوَ ذَاهِبُ الْحَدِيثِ. قُلْتُ: مَا وَرَدَ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ طَرِيقُهُ لَيِّنًا فَهُوَ صَحِيحٌ مَعْنًى، يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بعض أهل العالم من التابعين رخصة في البيع
(1). الذي في الترمذي:" أحمد".
(2)
. المخراق: ثوب يلف ويضرب به الصبيان بعضهم بعضا.
وَالشِّرَاءِ فِي الْمَسْجِدِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي غَيْرِ حَدِيثٍ رُخْصَةٌ فِي إِنْشَادِ الشِّعْرِ فِي الْمَسْجِدِ. قُلْتُ: أَمَّا تَنَاشُدُ الْأَشْعَارِ فَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ، فَمِنْ مَانِعٍ مُطْلَقًا، وَمِنْ مُجِيزٍ مُطْلَقًا، وَالْأَوْلَى التَّفْصِيلُ، وَهُوَ أَنْ يُنْظَرَ إِلَى الشِّعْرِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَقْتَضِي الثَّنَاءَ عَلَى اللَّهِ عز وجل أَوْ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم أَوِ الذَّبَّ عَنْهُمَا كَمَا كَانَ شِعْرُ حَسَّانَ، أَوْ يَتَضَمَّنُ الْحَضَّ عَلَى الْخَيْرِ وَالْوَعْظَ وَالزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا وَالتَّقَلُّلَ مِنْهَا، فَهُوَ حَسَنٌ فِي الْمَسَاجِدِ وَغَيْرِهَا، كَقَوْلِ الْقَائِلِ:
طَوِّفِي يَا نَفْسُ كَيْ أَقْصِدَ فَرْدًا صَمَدًا
…
وَذَرِينِي لَسْتُ أَبْغِي غَيْرَ رَبِّي أَحَدَا
فَهُوَ أُنْسِي وَجَلِيسِي وَدَعِي النَّاسَ
…
فَمَا إِنْ تَجِدِي مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدَا «1»
وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ الشِّعْرَ فِي الْغَالِبِ لَا يَخْلُو عَنِ الْفَوَاحِشِ وَالْكَذِبِ وَالتَّزَيُّنِ بِالْبَاطِلِ، وَلَوْ سَلِمَ مِنْ ذَلِكَ فَأَقَلُّ مَا فِيهِ اللَّغْوُ وَالْهَذَرُ، وَالْمَسَاجِدُ مُنَزَّهَةٌ عَنْ ذَلِكَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ". وَقَدْ يَجُوزُ إِنْشَادُهُ فِي المسجد، كقول القائل:
كفحل العداب «2» القرد يضربه النَّدَى
…
تَعَلَّى النَّدَى فِي مَتْنِهِ وَتَحَدَّرَا
وَقَوْلِ الْآخَرِ:
إِذَا سَقَطَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ
…
رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابَا
فَهَذَا النَّوْعُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَمْدٌ وَلَا ثَنَاءٌ يَجُوزُ، لِأَنَّهُ خَالٍ عَنِ الْفَوَاحِشِ وَالْكَذِبِ. وَسَيَأْتِي ذِكْرُ الْأَشْعَارِ الْجَائِزَةِ وَغَيْرِهَا بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ فِي" الشُّعَرَاءِ" إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: ذُكِرَ الشُّعَرَاءُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (هُوَ كَلَامٌ حَسَنُهُ حَسَنٌ وَقَبِيحُهُ قَبِيحٌ). وَفِي الْبَابِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. ذَكَرَهُ فِي السُّنَنِ. قُلْتُ: وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ يَأْثُرُونَ هَذَا الْكَلَامَ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَأَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ غَيْرُهُ، وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَقِفُوا عَلَى الْأَحَادِيثِ فِي ذلك. والله أعلم.
(1). من مجزوه الرمل وإنشاده:"
طوفي يا نفس كي أف
…
- صد فردا صمدا.
(2)
. العداب (بالفتح والدال المهملة): ما استرق من الرمل. وقيل: جانبه الذي يرق ويلي الجدد من الأرض. الواحد والجمع سواه؟.
الثَّامِنَةُ- وَأَمَّا رَفْعُ الصَّوْتِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَقْتَضِي مَصْلَحَةً لِلرَّافِعِ صَوْتِهِ دُعِيَ عَلَيْهِ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، لِحَدِيثِ بَرِيرَةَ الْمُتَقَدِّمِ، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ سَمِعَ رَجُلًا يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَلْيَقُلْ لَا رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْكَ فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا). وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ، حَتَّى كَرِهُوا رَفْعَ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ فِي الْعِلْمِ وَغَيْرِهِ. وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ مِنْ أَصْحَابِنَا رَفْعَ الصَّوْتِ فِي الْخُصُومَةِ وَالْعِلْمِ، قَالُوا: لِأَنَّهُمْ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ. وَهَذَا مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَقَوْلُهُمْ:" لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ" مَمْنُوعٌ، بَلْ لَهُمْ بُدٌّ مِنْ ذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِمُلَازَمَةِ الْوَقَارِ وَالْحُرْمَةِ، وَبِإِحْضَارِ ذَلِكَ بِالْبَالِ وَالتَّحَرُّزِ مِنْ نَقِيضِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ فَلْيَتَّخِذْ لِذَلِكَ مَوْضِعًا يَخُصُّهُ، كَمَا فَعَلَ عُمَرُ حَيْثُ بَنَى رَحْبَةً تُسَمَّى الْبُطَيْحَاءَ، وَقَالَ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَلْغَطَ أَوْ يُنْشِدَ شِعْرًا- يَعْنِي فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلْيَخْرُجْ إِلَى هَذِهِ الرَّحْبَةِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَكْرَهُ إِنْشَادَ الشِّعْرِ فِي الْمَسْجِدِ، وَلِذَلِكَ بَنَى الْبُطَيْحَاءَ خَارِجَهُ. التَّاسِعَةُ- وَأَمَّا النَّوْمُ فِي الْمَسْجِدِ لِمَنِ احْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ مِنَ الْغُرَبَاءِ وَمَنْ لَا بَيْتَ لَهُ فَجَائِزٌ، لِأَنَّ فِي الْبُخَارِيِّ- وَقَالَ أَبُو قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ: قَدِمَ رَهْطٌ مِنْ عُكْلٍ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكَانُوا فِي الصُّفَّةِ «1» ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ: كَانَ أَصْحَابُ الصُّفَّةِ فُقَرَاءَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَنَامُ وَهُوَ شَابٌّ أَعْزَبُ لَا أَهْلَ لَهُ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. لَفْظُ الْبُخَارِيِّ: وَتَرْجَمَ (بَابَ نَوْمِ الْمَرْأَةِ فِي الْمَسْجِدِ) وَأَدْخَلَ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ السَّوْدَاءِ «2» ، الَّتِي اتَّهَمَهَا أَهْلُهَا بِالْوِشَاحِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَكَانَ لَهَا خِبَاءٌ فِي المسجد أو حفش «3»
…
الْحَدِيثَ. وَيُقَالُ: كَانَ مَبِيتُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رباح في المسجد أربعين سنة.
(1). موضع مظلل في أخريات المسجد النبوي تأوى إليه المساكين.
(2)
. السوداء:
…
؟ سوداء كانت لحى من العرب، فاتهموها بسرقة وشاح وطفقوا يفتشون حتى فتشوا قبلها. قالت: والله إنى لقائمة معهم إذ مرت الحدياة فألقته بينهم
…
فجاءت إلى رسول الله عليه وسلم فأسلمت، فكان لها خباء في المسجد ...... راجع صحيح البخاري (باب المساجد).
(3)
. الخباء: الخيمة من صوف أو وبر. والحفش (بكسر الحاء وسكون الفاء): بيت صغير.
العاشرة- روى مسلم عن أبى حميد أَوْ عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيَقُلِ اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ وَإِذَا خَرَجَ فَلْيَقُلِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ). خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ زَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ: (إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ: فَلْيُسَلِّمْ وَلْيُصَلِّ «1» عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ لِيَقُلِ اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي
…
) الْحَدِيثَ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ فَاطِمَةُ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَالَ: (بِاسْمِ اللَّهِ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ وَإِذَا خَرَجَ قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ وَالصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ وَفَضْلِكَ". وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلْيَقُلِ اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ وَإِذَا خَرَجَ فَلْيُسَلِّمْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلْيَقُلِ اللَّهُمَّ اعْصِمْنِي مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (. وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ قَالَ: لَقِيتُ عُقْبَةَ بْنَ مُسْلِمٍ فَقُلْتُ لَهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ حَدَّثْتَ عَنْ عبد الله بن عمرو بن العاصي عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَالَ: (أَعُوذُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) قَالَ نَعَمْ. قَالَ: فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ قَالَ الشَّيْطَانُ: حُفِظَ مِنِّي سَائِرَ الْيَوْمِ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ) وَعَنْهُ قَالَ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيِ النَّاسِ، قَالَ فَجَلَسْتُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:(مَا مَنَعَكَ أَنْ تَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ تَجْلِسَ)؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْتُكَ جَالِسًا وَالنَّاسُ جُلُوسٌ. قَالَ:(فَإِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ). قَالَ الْعُلَمَاءُ: فَجَعَلَ صلى الله عليه وسلم لِلْمَسْجِدِ مَزِيَّةً يَتَمَيَّزُ بِهَا عَنْ سَائِرِ الْبُيُوتِ، وَهُوَ أَلَّا يَجْلِسَ حَتَّى يَرْكَعَ. وَعَامَّةُ الْعُلَمَاءِ «2» عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالرُّكُوعِ عَلَى النَّدْبِ والترغيب.
(1). الذي في سنن أبى داود (فَلْيُسَلِّمْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
(2)
. فِي ك: الفقهاء.
وَقَدْ ذَهَبَ دَاوُدُ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ عَلَى الْوُجُوبِ، وَهَذَا بَاطِلٌ، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالُوهُ لَحَرُمَ دُخُولُ الْمَسْجِدِ عَلَى الْمُحْدِثِ الْحَدَثَ الْأَصْغَرَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ، وَلَا قَائِلَ بِهِ فِيمَا أَعْلَمُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ وَإِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ بَيْتَهُ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ مِنْ رَكْعَتَيْهِ فِي بَيْتِهِ خَيْرًا (، وَهَذَا يقتضى التسوية بين المسجد والبيت. قيل [له «1»]: هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي الرُّكُوعِ عِنْدَ دُخُولِ الْبَيْتِ لَا أَصْلَ لَهَا، قَالَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ. وَإِنَّمَا يَصِحُّ فِي هَذَا حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ الَّذِي تَقَدَّمَ لِمُسْلِمٍ، وَإِبْرَاهِيمُ هَذَا لَا أَعْلَمُ رَوَى عنه إلا سعد ابن عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَلَا أَعْلَمُ لَهُ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثَ الْوَاحِدَ، قَالَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْحَقِّ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- رَوَى سَعِيدُ بْنُ زَبَّانَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِي هِنْدٍ رضي الله عنه قَالَ: حَمَلَ تَمِيمٌ- يَعْنِي الدَّارِيَّ- مِنَ الشَّأْمِ إِلَى الْمَدِينَةِ قَنَادِيلَ وَزَيْتًا وَمُقُطًا، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْمَدِينَةِ وَافَقَ ذَلِكَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ فَأَمَرَ غُلَامًا يُقَالُ لَهُ أَبُو الْبَزَادِ فَقَامَ فَنَشَطَ «2» الْمُقُطَ وَعَلَّقَ الْقَنَادِيلَ وَصَبَّ فِيهَا الْمَاءَ وَالزَّيْتَ وَجَعَلَ فِيهَا الْفَتِيلَ، فَلَمَّا غَرَبَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ أَبَا الْبَزَادِ فَأَسْرَجَهَا، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى ال مسجد فَإِذَا هُوَ بِهَا تُزْهِرُ، فَقَالَ: (مَنْ فَعَلَ هَذَا)؟ قَالُوا: تَمِيمٌ الدَّارِيُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ:(نَوَّرْتَ الْإِسْلَامَ نَوَّرَ اللَّهُ عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَمَا إِنَّهُ لَوْ كَانَتْ لِي ابْنَةٌ لَزَوَّجْتُكَهَا). قَالَ نَوْفَلُ بْنُ الْحَارِثِ: لِي ابْنَةٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ تُسَمَّى الْمُغِيرَةَ بِنْتَ نَوْفَلٍ فَافْعَلْ بِهَا مَا أَرَدْتَ، فَأَنْكَحَهُ إِيَّاهَا. زَبَّانُ (بِفَتْحِ الزَّايِ وَالْبَاءِ وَتَشْدِيدِهَا بِنُقْطَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ تَحْتِهَا) يَنْفَرِدُ بِالتَّسَمِّي بِهِ سَعِيدٌ وَحْدَهُ، فهو أبو عثمان سعيد بن زبان ابن قَائِدِ بْنِ زَبَّانَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، وَأَبُو هند هذا مولى بنى «3» بَيَاضَةَ حَجَّامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَالْمُقُطُ: جَمْعُ الْمِقَاطِ، وَهُوَ الْحَبْلُ، فَكَأَنَّهُ مَقْلُوبُ الْقِمَاطِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَسْرَجَ فِي الْمَسَاجِدِ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ. وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أن النبي
(1). من ب وك.
(2)
. نشط الحبل: ربطه.
(3)
. كذا في ب وك. وهو الصواب. [ ..... ]
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ أَسْرَجَ فِي مَسْجِدٍ سِرَاجًا لَمْ تَزَلِ الْمَلَائِكَةُ وَحَمَلَةُ الْعَرْشِ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُ مَا دَامَ ذَلِكَ الضَّوْءُ فِيهِ وَإِنْ كَنَسَ غُبَارَ الْمَسْجِدِ نَقَدَ الْحُورَ الْعِينَ (. قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُنَوَّرَ الْبَيْتُ الَّذِي يُقْرَأُ فِيهِ الْقُرْآنُ بِتَعْلِيقِ الْقَنَادِيلِ وَنَصْبِ الشُّمُوعِ فِيهِ، وَيُزَادَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي أَنْوَارِ الْمَسَاجِدِ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ. رِجالٌ) اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وَصْفِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُسَبِّحِينَ، فَقِيلَ: هُمُ الْمُرَاقِبُونَ أَمْرَ اللَّهِ، الطَّالِبُونَ رِضَاءَهُ، الَّذِينَ لَا يَشْغَلُهُمْ عَنِ الصَّلَاةِ وَذِكْرِ اللَّهِ شَيْءٌ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا. وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ الْأَسْوَاقِ الَّذِينَ إِذَا سَمِعُوا النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ تَرَكُوا كُلَّ شغل وبادروا. وراي سالم ابن عَبْدِ اللَّهِ أَهْلَ الْأَسْوَاقِ وَهُمْ مُقْبِلُونَ إِلَى الصَّلَاةِ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْلِهِ:" لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ". وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ عَنْهُ وَالْحَسَنُ" يُسَبَّحُ لَهُ فِيهَا" بِفَتْحِ الْبَاءِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَكَانَ نَافِعٌ وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ يَقْرَءُونَ" يُسَبِّحُ" بِكَسْرِ الْبَاءِ، وَكَذَلِكَ رَوَى أَبُو عَمْرٍو عَنْ عَاصِمٍ. فَمَنْ قَرَأَ" يُسَبَّحُ" بِفَتْحِ الْبَاءِ كَانَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَرْتَفِعَ" رِجالٌ" بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ دَلَّ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ، بِمَعْنَى يُسَبِّحُهُ رِجَالٌ، فَيُوقَفُ عَلَى هَذَا عَلَى" الْآصالِ". وَقَدْ ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ مِثْلَ هَذَا. وَأَنْشَدَ:
لِيُبْكَ يَزِيدُ ضَارِعٌ لِخُصُومَةٍ
…
وَمُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَّوَائِحُ «1»
الْمَعْنَى: يُبْكِيهِ ضَارِعٌ. وَعَلَى هَذَا تَقُولُ: ضُرِبَ زَيْدٌ عَمْرٌو، عَلَى مَعْنَى ضَرَبَهُ عَمْرٌو. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ- أَنْ يَرْتَفِعَ" رِجالٌ" بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ" فِي بُيُوتٍ"، أَيْ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ. رِجَالٌ. وَ" يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا" حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي" تُرْفَعَ"، كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْ ترفع،
(1). اختلف في قائله، ونسبه صاحب الخزانة لنهشل بن حرى. وهذا البيت من أبيات في مرثية أخيه يزيد، ومطلعها:
لعمري لئن أمسى يزيد بن نهشل
…
حشا جدت تسفى عليه الروائح
وقوله:" ضارع" من الضراعة، وهو الخضوع والتذلل. و" المختبط" الذي يسألك من غير معرفة كانت بينكما، وأراد به هنا المحتاج. و" تطيح" تذهب وتهلك. و" الطوائح" جمع مطيحة، وهى القواذف. و" الحشا. ما في البطن. و" حديث" بفتح الجيم والثاء: القبر. و" الروامح": الأيام الروائح.
مُسَبَّحًا لَهُ فِيهَا، وَلَا يُوقَفُ عَلَى" الْآصالِ" عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ. وَمَنْ قَرَأَ" يُسَبِّحُ" بِكَسْرِ الْبَاءِ لَمْ يَقِفْ عَلَى" الْآصالِ"، لِأَنَّ" يُسَبِّحُ" فِعْلٌ لِلرِّجَالِ، وَالْفِعْلُ مُضْطَرٌّ إِلَى فَاعِلِهِ وَلَا إضمار فيه. وقد تقدم القول في" بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ" فِي آخِرِ" الْأَعْرَافِ" «1» وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ. الرابعة عشرة- قوله تعالى:(يُسَبِّحُ لَهُ فِيها) قِيلَ: مَعْنَاهُ يُصَلِّي. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلُّ تَسْبِيحٍ فِي الْقُرْآنِ صَلَاةٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:" بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ"، أَيْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: أَرَادَ الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، فَالْغُدُوُّ صَلَاةُ الصُّبْحِ، وَالْآصَالُ صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ والعشاءين، لِأَنَّ اسْمَ الْآصَالِ يَجْمَعُهَا. الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ- رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:(مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ مُتَطَهِّرًا إِلَى صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ فَأَجْرُهُ كَأَجْرِ الْحَاجِّ الْمُحْرِمِ وَمَنْ خَرَجَ إِلَى تَسْبِيحِ الضحا لا ينصبه إلا إياه فأجره الْمُعْتَمِرِ وَصَلَاةٌ عَلَى إِثْرِ صَلَاةٍ [لَا لَغْوَ بَيْنَهُمَا «2»] كِتَابٌ فِي عِلِّيِّينَ (. وَخَرَّجَ عَنْ بُرَيْدَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:) بشر المشاءين فِي الظُّلَمِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:) مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ أَوْ رَاحَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ نُزُلًا فِي الْجَنَّةِ كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ (. فِي غَيْرِ الصَّحِيحِ مِنَ الزِّيَادَةِ (كَمَا أَنَّ أَحَدَكُمْ لَوْ زَارَ مَنْ يُحِبُّ زِيَارَتَهُ لَاجْتَهَدَ فِي كَرَامَتِهِ)، ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ. وَخَرَّجَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:(مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ مَشَى إِلَى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ لِيَقْضِيَ فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ كَانَتْ خُطْوَتَاهُ إِحْدَاهُمَا تَحُطُّ خَطِيئَةً وَالْأُخْرَى تَرْفَعُ دَرَجَةً). وَعَنْهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَمَاعَةٍ تَزِيدُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَصَلَاتِهِ فِي سُوقِهِ بِضْعًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً وَذَلِكَ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ لَا يَنْهَزُهُ»
إِلَّا الصَّلَاةُ لَا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاةَ فَلَمْ يَخْطُ خُطْوَةً إِلَّا رُفِعَ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ حَتَّى يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ فَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ كَانَ فِي الصَّلَاةِ مَا كَانَتِ الصَّلَاةُ هي تحبسه والملائكة يصلون على
(1). راجع ج ص 355 فما بعد.
(2)
. زيادة عن سنن أبى داود.
(3)
. النهز: الدفع.
أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ يَقُولُونَ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُؤْذِ فِيهِ مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ (. فِي رِوَايَةٍ: مَا يُحْدِثُ؟ قَالَ:) يَفْسُو أَوْ يَضْرِطُ (. وَقَالَ حَكِيمُ بْنُ زُرَيْقٍ: قِيلَ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَحُضُورُ الْجِنَازَةِ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَمِ الْجُلُوسُ فِي الْمَسْجِدِ؟ فَقَالَ: مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ شَهِدَ دَفْنَهَا فَلَهُ قِيرَاطَانِ، وَالْجُلُوسُ فِي الْمَسْجِدِ أَحَبُّ إِلَيَّ، لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُمَيْرٍ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (كُونُوا فِي الدُّنْيَا أَضْيَافًا وَاتَّخِذُوا الْمَسَاجِدَ بُيُوتًا وَعَوِّدُوا قُلُوبَكُمُ الرِّقَّةَ وَأَكْثِرُوا التَّفَكُّرَ وَالْبُكَاءَ وَلَا تَخْتَلِفْ بِكُمُ الْأَهْوَاءُ. تَبْنُونَ مَا لَا تَسْكُنُونَ وَتَجْمَعُونَ مَا لَا تَأْكُلُونَ وَتُؤَمِّلُونَ مَا لَا تُدْرِكُونَ (. وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لِابْنِهِ: لِيَكُنِ الْمَسْجِدُ بَيْتَكَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (إِنَّ الْمَسَاجِدَ بُيُوتُ الْمُتَّقِينَ وَمَنْ كَانَتِ الْمَسَاجِدُ بَيْتَهُ ضَمِنَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ الرَّوْحَ وَالرَّاحَةَ وَالْجَوَازَ عَلَى الصِّرَاطِ). وَكَتَبَ أَبُو صَادِقٍ الْأَزْدِيُّ إِلَى شُعَيْبِ بْنِ الْحَبْحَابِ: أَنْ عَلَيْكَ بِالْمَسَاجِدِ فَالْزَمْهَا، فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّهَا كَانَتْ مَجَالِسَ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ: الْمَسَاجِدُ مَجَالِسُ الْكِرَامِ مِنَ النَّاسِ. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: بَلَغَنِي أَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى يَقُولُ: (إِنِّي أَهُمُّ بِعَذَابِ عِبَادِي فَأَنْظُرُ إِلَى عُمَّارِ الْمَسَاجِدِ وَجُلَسَاءِ الْقُرْآنِ وَوِلْدَانِ الْإِسْلَامِ فَيَسْكُنُ غَضَبِي). وَرُوِيَ عَنْهُ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ: (سَيَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ رِجَالٌ يَأْتُونَ الْمَسَاجِدَ فَيَقْعُدُونَ فِيهَا حِلَقًا حِلَقًا ذِكْرُهُمُ الدُّنْيَا وَحُبُّهَا فَلَا تُجَالِسُوهُمْ فَلَيْسَ لِلَّهِ بِهِمْ حَاجَةٌ). وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: مَنْ جَلَسَ فِي مَسْجِدٍ فَإِنَّمَا يُجَالِسُ رَبَّهُ، فَمَا حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ إِلَّا خَيْرًا. وَقَدْ مَضَى مِنْ تَعْظِيمِ الْمَسَاجِدِ وَحُرْمَتِهَا مَا فِيهِ «1» كِفَايَةٌ. وَقَدْ جَمَعَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً، فَقَالَ: مِنْ حُرْمَةِ الْمَسْجِدِ أَنْ يُسَلِّمَ وَقْتَ الدُّخُولِ إِنْ كَانَ الْقَوْمُ جُلُوسًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْجِدِ أَحَدٌ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، وَأَنْ يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ، وَأَلَّا يَشْتَرِيَ فِيهِ وَلَا يَبِيعَ، وَلَا يَسُلَّ فِيهِ سَهْمًا وَلَا سَيْفًا، وَلَا يَطْلُبَ فِيهِ ضالة، ولا يرفع فيه صوتا
(1). راجع ج 8 ص 90.
بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَتَكَلَّمَ فِيهِ بِأَحَادِيثِ الدُّنْيَا، وَلَا يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ، وَلَا يُنَازِعَ فِي الْمَكَانِ، وَلَا يُضَيِّقَ عَلَى أَحَدٍ فِي الصَّفِّ، وَلَا يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْ مُصَلٍّ، وَلَا يَبْصُقَ، وَلَا يَتَنَخَّمَ، وَلَا يَتَمَخَّطَ فِيهِ، وَلَا يُفَرْقِعَ أَصَابِعَهُ، وَلَا يَعْبَثَ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ، وَأَنْ يُنَزَّهَ عَنِ النَّجَاسَاتِ وَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ، وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ، وَأَنْ يُكْثِرَ ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَغْفُلَ عَنْهُ. فَإِذَا فَعَلَ هَذِهِ الْخِصَالَ فَقَدْ أَدَّى حَقَّ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ الْمَسْجِدُ حِرْزًا لَهُ وَحِصْنًا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. وَفِي الْخَبَرِ (أَنَّ مَسْجِدًا ارْتَفَعَ بِأَهْلِهِ إِلَى السَّمَاءِ يَشْكُوهُمْ إِلَى اللَّهِ لِمَا يَتَحَدَّثُونَ فِيهِ مِنْ أَحَادِيثِ الدُّنْيَا). وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:(مِنِ اقْتِرَابِ السَّاعَةِ أَنْ يُرَى الْهِلَالُ قَبَلًا «1» فَيُقَالُ لِلَيْلَتَيْنِ وَأَنْ تُتَّخَذَ الْمَسَاجِدُ طُرُقًا وَأَنْ يَظْهَرَ مَوْتُ الْفَجْأَةِ). هَذَا يَرْوِيهِ عَبْدُ الْكَبِيرِ بْنُ الْمُعَافَى عَنْ شَرِيكٍ عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ ذَرِيحٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ أَنَسٍ. وَغَيْرُهُ يَرْوِيهِ عَنِ الشَّعْبِيِّ مُرْسَلًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: عَبْدُ الْكَبِيرِ بْنُ مُعَافَى ثِقَةٌ كَانَ يُعَدُّ مِنَ الْأَبْدَالِ «2» . وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (من مر في شي مِنْ مَسَاجِدِنَا أَوْ أَسْوَاقِنَا بِنَبْلٍ فَلْيَأْخُذْ عَلَى نِصَالِهَا لَا يَعْقِرُ بِكَفِّهِ مُسْلِمًا). وَخَرَّجَ مُسْلِمٌ عن أنس قال قال وسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (الْبُزَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا). وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (عُرِضَتْ عَلَيَّ أَعْمَالُ أُمَّتِي حَسَنُهَا وَسَيِّئُهَا فَوَجَدْتُ فِي مَحَاسِنِ أَعْمَالِهَا الْأَذَى يُمَاطُ عَنِ الطَّرِيقِ وَوَجَدْتُ فِي مَسَاوِي أَعْمَالِهَا النُّخَاعَةَ «3» تَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ لَا تُدْفَنُ (. وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ عَنِ الْفَرَجِ بْنِ فَضَالَةَ عَنْ أَبِي سَعْدٍ «4» الْحِمْيَرِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ وَاثِلَةَ بْنَ الْأَسْقَعِ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ بَصَقَ عَلَى الْحَصِيرِ ثُمَّ مَسَحَهُ بِرِجْلِهِ، فَقِيلَ لَهُ: لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ قَالَ: لِأَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ. فَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ ضَعِيفٌ، وَأَيْضًا فَلَمْ يَكُنْ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حُصْرٌ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
(1). قال ابن الأثير:" أي يرى ساعة ما يطلع لعظمه ووضوحه من أن يتطلب. وهو بفتح القاف والباء".
(2)
. الابدال: قوم من الصالحين، بهم يقيم الله الأرض: أربعون في الشام وثلاثون في سائر البلاد، لا يموت منهم أحد إلا قام مكانه آخر، فلذلك سموا أبدالا. وواحد الابدال العباد بدل وبدل. وقال ابن دريد: الواحد بديل.
(3)
. النخاعة: النخامة
(4)
. في الأصول:" عن أبى سعيد الخدري" وهو تحريف، لان فرج ابن فضالة لم يرو عن أبى سعيد الخدري، وإنما روى عن أبى سعد الحميري، وأبو سعد هذا صاحب واثلة بن الأسقع.
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا بَصَقَ عَلَى الْأَرْضِ وَدَلَكَهُ بِنَعْلِهِ الْيُسْرَى، وَلَعَلَّ وَاثِلَةَ إِنَّمَا أَرَادَ هَذَا فَحَمَلَ الْحَصِيرَ عَلَيْهِ. السَّادِسَةَ عَشْرَةَ- لَمَّا قَالَ تَعَالَى:" رِجالٌ" وَخَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ دَلَّ عَلَى أَنَّ النِّسَاءَ لَا حَظَّ لَهُنَّ فِي الْمَسَاجِدِ، إِذْ لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِنَّ وَلَا جَمَاعَةَ، وَأَنَّ صَلَاتَهُنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ أَفْضَلُ. رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(صَلَاةُ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي حُجْرَتِهَا وَصَلَاتُهَا فِي مَخْدَعِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا في بيتها). السابعة عشرة- قوله تعالى:" لَا تُلْهِيهِمْ" أَيْ لَا تَشْغَلُهُمْ. (تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) خَصَّ التِّجَارَةَ بِالذِّكْرِ لأنها أعظم ما يشتغل به الْإِنْسَانُ عَنِ الصَّلَاةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ كُرِّرَ ذِكْرُ الْبَيْعِ وَالتِّجَارَةُ تَشْمَلُهُ؟ قِيلَ لَهُ: أَرَادَ بالتجارة الشراء لقوله:" ولا بيع". نظيره قول تَعَالَى:" وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها"«1» [الجمعة: 11] قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: التُّجَّارُ هُمُ الْجُلَّابُ الْمُسَافِرُونَ، وَالْبَاعَةُ هُمُ الْمُقِيمُونَ. (عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) اخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِهِ، فَقَالَ عَطَاءٌ: يَعْنِي حُضُورَ الصلاة، وقال ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَالَ: الْمَكْتُوبَةُ. وَقِيلَ: عَنِ الْأَذَانِ، ذَكَرَهُ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ. وَقِيلَ: عَنْ ذِكْرِهِ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، أَيْ يُوَحِّدُونَهُ وَيُمَجِّدُونَهُ. وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْأَسْوَاقِ، قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ. قَالَ سَالِمٌ: جَازَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بِالسُّوقِ وَقَدْ أَغْلَقُوا حَوَانِيتَهُمْ وَقَامُوا لِيُصَلُّوا فِي جَمَاعَةٍ فَقَالَ: فِيهِمْ نَزَلَتْ:" رِجالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ" الْآيَةَ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: (هُمُ الَّذِينَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ). وَقِيلَ: إِنَّ رَجُلَيْنِ كَانَا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَحَدُهُمَا بَيَّاعًا فَإِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ فَإِنْ كَانَ الْمِيزَانُ بِيَدِهِ طَرَحَهُ وَلَا يَضَعُهُ وَضْعًا، وَإِنْ كَانَ بِالْأَرْضِ لَمْ يَرْفَعْهُ. وَكَانَ الْآخَرُ قَيْنًا يَعْمَلُ السُّيُوفَ لِلتِّجَارَةِ، فَكَانَ إِذَا كَانَتْ مِطْرَقَتُهُ عَلَى السِّنْدَانِ أَبْقَاهَا مَوْضُوعَةً، وَإِنْ كَانَ قَدْ رَفَعَهَا أَلْقَاهَا مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ إِذَا سَمِعَ الْأَذَانَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا ثَنَاءً عَلَيْهِمَا وَعَلَى كُلِّ من افتدى بهما.
(1). راجع ج 18 ص 97.
الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِقامِ الصَّلاةِ) هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ:" عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ" غَيْرُ الصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ تَكْرَارًا. يُقَالُ: أَقَامَ الصَّلَاةَ إِقَامَةً، وَالْأَصْلُ إِقْوَامًا فَقُلِبَتْ حَرَكَةُ الْوَاوِ عَلَى الْقَافِ فَانْقَلَبَتِ الْوَاوُ أَلِفًا وَبَعْدَهَا أَلِفٌ سَاكِنَةٌ فَحُذِفَتْ إِحْدَاهُمَا، وَأُثْبِتَتِ الْهَاءُ لِئَلَّا تَحْذِفَهَا فَتُجْحِفَ، فَلَمَّا أُضِيفَتْ قَامَ الْمُضَافُ مَقَامَ الْهَاءِ فَجَازَ حَذْفُهَا، وَإِنْ لَمْ تُضَفْ لَمْ يَجُزْ حَذْفُهَا، أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: وَعَدَ عِدَةً، وَوَزَنَ زِنَةً، فَلَا يَجُوزُ حَذْفُ الْهَاءِ، لِأَنَّكَ قَدْ حَذَفْتَ وَاوًا، لِأَنَّ الْأَصْلَ وَعَدَ وِعْدَةً، وَوَزَنَ وِزْنَةً، فَإِنْ أَضَفْتَ حُذِفَتِ الْهَاءُ، وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ:
إِنَّ الْخَلِيطَ أَجَدُّوا الْبَيْنَ فَانْجَرَدُوا
…
وَأَخْلَفُوكَ عِدَ الْأَمْرِ الَّذِي وَعَدُوا
يُرِيدُ عِدَةَ، فَحَذَفَ الْهَاءَ لَمَّا أَضَافَ. وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:(يَأْتِي اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَسَاجِدِ الدُّنْيَا كَأَنَّهَا نُجُبٌ بِيضٌ قَوَائِمُهَا مِنَ الْعَنْبَرِ وَأَعْنَاقُهَا مِنَ الزَّعْفَرَانِ وَرُءُوسُهَا مِنَ الْمِسْكِ وَأَزِمَّتُهَا مِنَ الزَّبَرْجَدِ الْأَخْضَرِ وَقُوَّامُهَا وَالْمُؤَذِّنُونَ فِيهَا يَقُودُونَهَا وَأَئِمَّتُهَا يَسُوقُونَهَا وَعُمَّارُهَا مُتَعَلِّقُونَ بِهَا فَتَجُوزُ عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ كَالْبَرْقِ الْخَاطِفِ فَيَقُولُ أَهْلُ الْمَوْقِفِ هَؤُلَاءِ مَلَائِكَةٌ مُقَرَّبُونَ أَوْ أَنْبِيَاءُ مُرْسَلُونَ فَيُنَادَى مَا هَؤُلَاءِ بِمَلَائِكَةٍ وَلَا أَنْبِيَاءَ وَلَكِنَّهُمْ أَهْلُ الْمَسَاجِدِ وَالْمُحَافِظُونَ عَلَى الصَّلَوَاتِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم (. وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَبْقَى مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا اسْمُهُ، وَلَا مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا رَسْمُهُ، يُعَمِّرُونَ مَسَاجِدَهُمْ وَهِيَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ خَرَابٌ، شَرُّ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَنِ عُلَمَاؤُهُمْ، مِنْهُمْ تَخْرُجُ الْفِتْنَةُ وَإِلَيْهِمْ تَعُودُ، يَعْنِي أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ وَلَا يَعْمَلُونَ بِوَاجِبَاتِ مَا عَلِمُوا. التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِيتاءِ الزَّكاةِ) قِيلَ: الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الزَّكَاةُ هُنَا طَاعَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَالْإِخْلَاصُ، إِذْ لَيْسَ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ مَالٌ. (يَخافُونَ يَوْماً) يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ. (تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) يَعْنِي مِنْ هَوْلِهِ وَحَذَرِ الْهَلَاكِ. وَالتَّقَلُّبُ التَّحَوُّلُ، وَالْمُرَادُ قُلُوبُ الْكُفَّارِ وَأَبْصَارُهُمْ. فَتَقَلُّبُ الْقُلُوبِ انْتِزَاعُهَا مِنْ أَمَاكِنِهَا إِلَى الْحَنَاجِرِ، فَلَا هِيَ تَرْجِعُ إلى أماكنها ولاهي تَخْرُجُ. وَأَمَّا تَقَلُّبُ الْأَبْصَارِ فَالزَّرَقُ بَعْدَ الْكَحَلِ وَالْعَمَى بَعْدَ الْبَصَرِ. وَقِيلَ: تَتَقَلَّبُ الْقُلُوبُ بَيْنَ الطَّمَعِ فِي النَّجَاةِ وَالْخَوْفِ مِنَ